تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 36

الموضوع: التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)

    فرق بين التمذهب للدراسة وبين التمذهب للتعبد والديانة، فلا يستقيم وصف أي من المذاهب الأربعة بأنه الأصح على وجه العموم، وإنما يمكن إطلاق ذلك في بعض الجزئيات والمسائل بحسب الدليل، فنقول ـ مثلًا: إن المسألة الفلانية الأصح فيها مذهب مالك أو الشافعي... وهكذا.
    يقول الطوفي في شرح مختصر الروضة: (مَنْ نَفَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصِحُّ تَرْجِيحَ مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، أَثْبَتَهُ بِاعْتِبَارِ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِجْزَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَنَحْوهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أَرْجَحُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَهَارَةِ الْأَعْيَانِ بِالِاسْتِحَالَ ةِ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْقَابِلَةِ لِلرُّجْحَانِ وَالْمَرْجُوحِي َّةِ). اهـ
    وجاء في المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: (فَلَا يُقَال مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب أبي حنيفَة أَو غَيرهمَا أَو بِالْعَكْسِ لَكِن هَذَا بِاعْتِبَار مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر وَأما من حَيْثُ الْأَدِلَّة على الْمسَائِل فالترجيح ثَابت). اهـ

    وكلام الأئمة في ذم التعصب المباعد عن الدليل لا يحصى ولا ينحصر، وقد ظهرت نبتة تدعوا للعودة للتدين بالمذهب دون الحيد عنه، بل وتذم من فعل غير ذلك حتى وصل الحال ببعضهم بوصفه آراء الشيخ الألباني: (شذوذات الألباني)، فما قولكم بارك الله فيكم؟
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    المذاهب الفقهية بين طرفين ووسط:

    قال سليمان الخراشي حفظه الله
    بسم الله الرحمن الرحيم

    انقسم الناس في نظرتهم إلى المذاهب الفقهية الأربعة إلى طرفين ووسط :

    فالطرف الأول : أوجبوا على جميع الأمة تقليد واحد منهم ؛ وقالوا قولتهم المشهورة " وواجبٌ تقليد حبرٍ منهمو " ، بل وصل الحال ببعضهم ؛ كالصاوي في حاشيته على الجلالين إلى القول : ( لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة ، والحديث الصحيح ، والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضالٌ مُضل ، وربما أداه ذلك للكفر ؛ لأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ) !!

    وقد رد العلماء عليه مجازفته هذه ؛ كالإمام الشنقيطي في " أضواء البيان " ، وانظر للتفصيل : رسالة " تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران " ؛ للشيخ أحمد بن حجر آل أبوطامي رحمه الله .

    ورحم الله شيخ الإسلام القائل : ( ولو فُتح هذا الباب - أي تقديم المذهب على الحديث الصحيح - لوجب أن يُعرض عن أمر الله ورسوله ، ويبقى كلُ إمامٍ في أتباعه بمنزلة النبي في أمته ) .

    ثم تطور الحال ببعضهم إلى تقليد بعض متأخري المذاهب ، ممن جوّزوا البدع والمحدثات التي لم يقل بها صاحب المذهب ، فضلاً عن مخالفتها الدليل الشرعي ؛ فأصبح التمذهب تُكأة تُستغل في تسويغ البدع ، كما تجده في مسائل التوسل والتبرك والاستغاثة والقبور ونحوها ، ونسبة ذلك كله إلى المذهب !!

    وجديرٌ بمن وصل به الحال إلى هذا أن يقرأ هذه الرسالة المهمة : " براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة " للدكتور عبدالعزيز بن أحمد الحميدي :

    https://saaid.net/book/open.php?cat=88&book=14022

    لكي لا ينسب للأئمة الأربعة رحمهم الله مالم يقولوه أويعتقدوه ، وما هم منه برآء ، وإنما هو من إحداث بعض المتأخرين من أتباع المذهب ، ممن وقع في البدعة .

    الطرف الثاني : قول بعض المنتمين لأهل الحديث ، ممن كان فعلهم ردة عكسية لأفعال الطرف الأول ، فنابذوا التمذهب بالمرة ، وتجرأ بعضهم على الأئمة - لاسيما أباحنيفة رحمه الله - ، وأصبحوا يأخذون فقههم من الكتاب والسنة مباشرة ، دون ضوابط ، أو تدرج في الطلب الفقهي ، فأتى بعضهم بالشذوذات .

    الطرف الوسط : يقول أصحابه : لاحرج في اتباع المذاهب الأربعة ؛ لمعرفة الفقه ، وضبط مسائله ؛ بشرط أن يتبع الدليل الصحيح إذا ماخالف مذهبه ، وكان من طلبة العلم . وخيرُ من وجدته يمثل هذا الرأي: الشيخان : ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله ، وإليك أقوالهما :

    ابن باز - رحمه الله - :

    س / هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة أم لا ؟

    ليس ملزماً ، بل إذا أراد أن يتبع مذهب من المذاهب ، إذا كان لا يعرف الدليل ليس بطالب علم يعرف الأدلة، وسار على مذهب من المذاهب الأربعة لا حرج عليه، ولكن ينبغي له بل يجب عليه أن يتحرى في ذلك سؤال أهل العلم من المتبصرين الذين هم في نظره وفي رأيه أقرب من غيره من الورع والعلم والفضل، حتى يتحرى لدينه ، ولا بأس لو كان شافعياً أو مالكياً أو حنبلياً أو حنفياً ، لا حرج في ذلك، أما العالم الذي يعرف الأدلة الشرعية، فالواجب عليه أن يتحرى الأدلة الشرعية ويأخذ بالدليل ولا يقلد غيره ، هذا هو الواجب عليه إلا عند الحاجة والعجز، فيقلد من هو في رأيه واجتهاده أعلم من غيره وأقرب إلى الحق من غيره.

    س: حبذا لو قلتم كلمة لطلبة العلم، كيف يكون الاستنباط ومتى يكون الاستدلال بأقوال الناس والأئمة والعلماء ؟

    ج: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله، وهكذا تلميذه الحافظ ابن كثير رحمه الله، وابن مفلح وغيرهم، نجلّهم ونعرف لهم قدرهم وفضلهم وعلمهم، ونستعين بكتبهم في مسائل العلم، وننظر إليها ونعتني بها ، ونعرف لهم فضلهم الجميل، ولكن لا يجوز أن تقلدهم في كل شيء، بل يجب على طالب العلم، أن يكون له حرية النظر والاستدلال ، وألا يقبل من زيد أو عمرو شيئًا بدون حجة، بل يكون عنده العناية وعنده النظر، فإذا قال العالم الكبير شيئًا لا وجه له، أو لا سند عليه، فليقف ولينظر فيما هو أولى منه، ولا يمنع كون ذلك العالم جليلا عند طالب العلم، ومعروفًا عنده بالفضل العظيم، لا يمنع أن يختار غير قوله، وأن يرجح غير قوله، إذا قام عليه الدليل، وهو الذي أدركنا عليه مشايخنا -رحمة الله عليهم- يأخذون من أقوال العلماء ما وافق الدليل، ومن جملتهم أبو العباس ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، ويتركون ما خالف الدليل ، حتى لو كان معه من هو أكبر منه، كابن عباس وكالصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، إذا قام الدليل على خلاف قول أحدهم، وجب الأخذ بالدليل وترك ما خالف الدليل، وإن كان قاله بعض الصحابة، أو بعض الأئمة الكبار .
    وهذا هو عمل الأئمة: أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة ، والثوري والأوزاعي وغيرهم، هكذا يعملون ، يختارون من الأقوال التي فيها خلاف، يختارون ما يرجحه الدليل، وهكذا أوصوا من بعدهم من تلاميذهم وأتباعهم، أوصوهم بهذا المنهج قالوا: لا تقلدونا ولا تقلدوا فلانًا أو فلانًا، وخذوا من حيث أخذنا ، هذا هو الواجب على أهل العلم، مع التريث والتثبت، ومع طيب الكلام في حق الأئمة والترضي عنهم ، وعدم الاعتراض عليهم بما يوهم أو يشير إلى ازدراء أو تنقص ، فهم خير منا وأفضل بأضعاف مضاعفة، ودرجات كثيرة، ولكن لا يمنع ذلك أن ننظر في الأقوال وأن نختار منها الأرجح بالدليل ، سواء كانت تلك الأقوال لمتأخرين أو متقدمين. رحمة الله على الجميع.

    * * * * * * * * * *

    س : هل المذاهب الأربعة المعروفة تأخذ بالسنة النبوية، وهل جميع ما جاء فيها مطابق للسنة النبوية الشريفة، وجهونا في ضوء هذا السؤال سماحة الشيخ؟

    ج : الأئمة الأربعة من خيرة العلماء رحمة الله عليهم، وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، وأحمد بن محمد بن حنبل ، هؤلاء الأربعة هم الأئمة الأربعة، وهناك أئمة آخرون في زمانهم وقبلهم وبعدهم كـالأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك .. وغيرهم من أئمة الإسلام؛ يحيى بن سعيد القطان ، عبد الرحمن بن مهدي ، وإسحاق بن راهويه .. وغيرهم، هم أئمة يتلمسون الحق ويتلمسون السنة يعتنون بذلك، وفتاواهم مدارها على الكتاب والسنة؛ قال الله وقال رسوله، ويتحرون الأصول التي دل عليها الكتاب والسنة، وعلى ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم من الفتاوى، فمدار فتاواهم على القرآن العظيم والسنة المطهرة، والأصول المستنبطة من الكتاب والسنة، وعلى فتاوى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكل واحد يخطئ ويصيب، ليس أحد منهم معصوماً ، كل واحد يخطئ ويصيب، كل واحد له أخطاء له أغلاط لم تطابق السنة، وهكذا غيرهم من الأئمة له أخطاء وله صواب.فالواجب عرض أقوالهم إذا اختلفوا على الكتاب والسنة، أما إذا أجمع العلماء فالإجماع حجة، والإجماع لا يكون إلا عن نص، فإذا اختلفوا فالواجب على طالب العلم وعلى الفقيه أن يعرض المسألة المختلف فيها على الأدلة الشرعية، وأن يجتهد ويتحرى ما يقوم عليه الدليل فيأخذ به، عليه أن يتحرى ما يرجحه الدليل من القرآن العظيم والسنة المطهرة أو من فتاوى الصحابة حتى يطمئن إلى أرجح القولين أو أرجح الأقوال ثم يأخذ به.

    * * * * * * * * * *

    س : البعض حفظكم الله يزعم أن اتباع المذاهب الأربعة من أهل البدع فما رأي سماحتكم في ذلك؟

    ج : هذا باطل ، هذا الكلام على إجماله باطل ، ما يجوز هذا الكلام. الأصل في المذاهب الأربعة الخير والهدى والصلاح لأنهم دعاة. علماء أربعة أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد دعاة خير، علماء معروفون لكن الذنب يكون لمن تعصب لهم وقلدهم التقليد الأعمى ، فهم يخطئون ويصيبون ، كل واحد يخطئ ويصيب ، كل واحد له مسائل أخطأ فيها ، فالواجب على أتباعهم أن يتقوا الله وأن لا يتعصبوا ، وأن يأخذوا الحق بدليله ، فإذا أخطأ العالم الفلاني أو العالم الفلاني فلا يؤخذ بخطئه لأنه إمامهم الذي ينتسبون إليه. لا، الحق فوق ذلك فوق الجميع ، فالواجب على أتباع أبي حنيفة وأتباع مالك وأتباع الشافعي واتباع أحمد وعلى غيرهم من أهل العلم أن يأخذوا الحق بدليله وأن لا يتعصبوا لزيد ولا عمرو ، ويجب عدم التعصب ويحرم التعصب ، فليس للحنفي أن يتعصب للحنفية ، وليس للشافعي أن يتعصب للشافعية ، وهكذا المالكي ، وهكذا الحنبلي ، الحق فوق الجميع ، الواجب على أتباع هذه المذاهب أن يتقوا الله وأن يأخذوا الحق بدليله وأن يجتهدوا في ذلك حتى تكون الحجة هي المقدم ، والدليل هو المقدم ، فإذا وافق الدليل ما قاله الأحناف أخذ بقول الأحناف ، وإذا كان الدليل مع الحنبلية أخذ بقولهم في أي مسألة ، وهكذا مع المالكية والشافعية .
    مثال لذلك : الجد مع الاخوة. المعروف عند الشافعية والمالكية والحنبلية توريث الاخوة والجد ، والمعروف عند الحنفية إسقاط الاخوة بالجد ، فنحن نقول : قول الحنفية هذا أصلح ، وأن الجد أب يُسقط الاخوة ، من أجل الدليل لا من أجل أنه قول الحنفية بل من أجل الدليل ، وهكذا القول بأن مس المرأة ينقض الوضوء ، والمعروف عند الشافعي أنه ينقض الموضوع مطلقاً ، وقال آخرون كالحنابلة أنه ينقض المس بالشهوة ، والصواب أنه لا ينقض مس المرأة ، لا ينقض مس المرأة بشهوة ولا بغير شهوة ، وإنما ينقض الوضوء الحدث المعروف فساء أو ضراط أو بول أو غائط أو مس الفرج باليد أو النوم... النواقض المعروفة ، أما قوله تعالى : ( أو لا مستم النساء ) فالمراد به الجماع ، لامستم أي جامعتم ، هذا هو الحق من معنى الآية ، هذه أمثلة لبيان الصواب، فلا يجوز التعصب بغير دليل لأي مذهب من المذاهب الأربعة ولا غيرها كالظاهرية ، ولا غيرها. الواجب الأخذ بالدليل وتحكيم الدليل ، فإذا كان الحق مع الحنفية أو مع الظاهرية أخذ به ، و إذا كان مع الشافعية أخذ به ، إذا كان مع المالكية أخذ. المحكم هو الدليل ، فعلى المنتسبين لهذه المذاهب أن يتقوا الله وأن يعتنوا بالدليل وأن يحكموه حتى تكون الحجة هي المقدمة، والدليل هو المقدم ، وحتى يُبتعد عن التعصب والتقليد الأعمى.

    * * * * * * * * * *

    س : سماحة الشيخ يعتقد البعض أنكم تقفون عند مذهب معين، هل تتفضلون بقول كلمة في هذا المقام؟
    ج : الفتاوى الصادرة مني لا أقف فيها ولا أعتمد فيها على مذهب أحد ، لا أحمد ولا غيره، إنما عمدتنا في ذلك تحري ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، سواء كان في مذهب أحمد أو مذهب الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو الظاهرية أو بعض السلف المتقدمين، المقصود: تحري ما يدل عليه الكتاب والسنة، هذا هو الذي نعتمد عليه، لا نعتمد على مذهب أحمد ولا على غيره، إنما نعتمد على ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما دل عليه الكتاب والسنة، في الأحكام؛ لأن هذا هو الواجب على كل طالب علم.

    * * * * * * * * * *

    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
    ( يقول رحمه الله : ومن أصحابنا : يعني : الحنابلة ، وفي هذا دليل على أنه لا بأس أن ينتسب الإنسان إلى مذهب لإمام معين ، ولو كان الله تعالى أعطاه علما وفهما واتباعا فلا حرج أن ينتسب إلى إمام معين يتفقه على قواعده وأصوله ، لكن إذا بان له الدليل اتبعه ، وهو إذا اتبع الدليل في مسألة أو مسألتين أو عشر مسائل أو آلاف ، لا يعد غير منتسب إلى المذهب الذي كان ينتسبه ، ولهذا نجد الأئمة الكبار الفقهاء العظام ، نجد أنهم ينتسبون إلى المذاهب ، شيخ الاسلام وابن القيم والنووي وابن حجر وغيرهم ، أئمة علماء عظماء ينتسبون إلى المذاهب أو أحد المذاهب الأربعة ، ولا يعد هذا عيبا ولا خروجا عن طريق السلف خلافا لمن ظن من الناس الآن أن التفقه على مذهب معين معناه التعصب لهذا المذهب ، وهذا خطأ ، والصحيح أن التعصب للمذهب وتحريف النصوص لأجل موافقة المذهب خطأ عظيم ، لكن كوني أتفقه على مذهب معين أبني فقهي على قواعده واصوله ، لكن إذا بان لي الدليل أخذت بالدليل ، فهذا لا بأس به إطلاقا ، المحظور هو التعصب ) .

    تعليقه على كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم"( ص 149 ) .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي

    السؤال:هل يجوز التعصب المذهبي الذي يقتدي به الإنسان في أي حكم من أحكام الشريعة حتى لو كان في هذا مخالفة للصواب؟ أم يجوز تركه والاقتداء بالمذهب الصحيح في بعض الحالات؟ وما حكم لزوم مذهب واحد فقط؟

    الإجابة: الذي عنده القدرة على الاجتهاد المطلق لا يجوز له التقليد، والذي لا يقدر يقلد من هو أعلم منه، والتمذهب بمذهب واحد من المذاهب الأربعة المعروفة التي بقيت وحفظت وحررت بين المسلمين والانتساب إلى مذهب منها لا مانع منه فيقال: فلان شافعي، وفلان حنبلي، وفلان حنفي، وفلان مالكي، ولا زال هذا اللقب موجودًا من قديم بين العلماء حتى كبار العلماء يقال مثلاً: ابن تيمية الحنبلي وابن القيم الحنبلي وما أشبه ذلك ولا حرج في ذلك، ومجرد الانتماء إلى المذهب لا مانع منه لكن بشرط أن لا يتقيد بهذا المذهب فيأخذ كل ما به سواء كان صوابًا أو خطأ، بل يأخذ منه ما كان صوابًا، وما علم أنه خطأ لا يجوز له العمل به، وإذا ظهر له القول الراجح فإنه يجب عليه أن يأخذ به سواء كان في مذهبه الذي ينتسب إليه أو في مذهب آخر؛ لأن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. فالقدوة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نأخذ بالمذهب ما لم يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفه يجب علينا أن نتركه وأن نأخذ بالسنة، ونأخذ بالقول الراجح المطابق للسنة من أي مذهب كان من مذاهب المجتهدين، أما الذي يأخذ بقول الإمام مطلقًا سواء كان خطأ أو صوابًا يعتبر تقليدًا أعمى، وإذا كان يرى أنه يجب تقليد إنسان معين غير الرسول صلى
    الله عليه وسلم فهذا ردةٌ عن الإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من قال: إنه يجب تقليد شخص بعينه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل"؛ لأنه لا أحد يجب اتباعه إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، أما ما عداه من الأئمة المجتهدين رحمهم الله فنحن نأخذ بأقوالهم الموافقة للسنة، أما إذا أخطأ المجتهد في اجتهاده فإنه يحرم علينا أن نأخذ بالخطأ.

    الشيخ صالح الفوزان- طريق الإسلام
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي

    "وكيف يكون من ورثة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَن يجهد ويكدح في ردِّ ما جاء به إلى قول مقلِّده ومَتْبوعه، ويضيع ساعات عمره في التعصُّب والهوى، ولا يشعر بتضييعه؟!"

    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/33877/#ixzz4E9dRUwqm
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    قال ابن عبد البر: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله؛ ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، فلا يصح أن يتولاه المقلد؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء ..

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    قال الشيخ يوسف الغفيص -حفظه الله-: التمذهب (وفيه سبع مسائلُ) :




    (المسألة الأولى) للتمذهب مقامان:


    المقام الأول: التمذهب الجائز المحمود:
    وهو اعتبار التمذهب من التراتيب العلمية، في أحيان كثيرة يكون التمذهب بديلاً عن الفوضى، وفي كثير من الأحوال تركه يؤدي إلى الفوضى، أما أنه يلزم من تركه الفوضى فهذا ليس شرطاً لازماً على الإطلاق.


    وأما معيار اختيار المذهب: فنقول: الأصل شرعاً وعقلاً أن يُختار الأفضل والأقرب للسنة والأقرب للصواب.. ولكن هذا متعذر، ولما كان متعذراً كان التعليق به وجهاً من التعصب.
    ومعنى ذلك: أن من يقول: إن مذهب الإمام أحمد أو مذهب الحنابلة هو أصح المذاهب بإطلاق، فإن هذا فيه تعصب، ومثله من يقول: مذهب الحنفية أو مذهب الشافعية أو المالكية أصح المذاهب، إذاًَ التفضيل المطلق لمذهب واحد من المذاهب الأربعة على غيره عند التحقيق أمر غير ممكن، ومن قال بذلك فهو اجتهاد عنده، وكما أن بعض الحنابلة يقدم مذهب الإمام أحمد، فإن الشافعية يوجد فيهم من يرجح بالجملة مذهب الشافعي، وهكذا في سائر المذاهب؛ بل إن الأصل في المتمذهبين أنهم ما تمذهبوا إلا لكونهم يرجحون المذهب على غيره.
    إذاً: ليس هناك تفضيل مطلق منضبط علمياً عند سائر الفقهاء، أو كقواعد علمية صريحة منضبطة، إنما المحققون يعرفون التفضيل في أبواب معينة، فمثلاً: الإمام ابن تيمية من المحققين، مع أنه حنبلي إلا أنه يقول: وأصول مالك في البيوع والمعاملات أجود من غيره؛ لأنه أخذ فقه ذلك عن أعلم الناس بهذه المسائل في زمنه وهو سعيد بن المسيب. وإذا رجعنا إلى من قبل الأئمة الأربعة فسنجد أنهم يفضلون عطاء في المناسك، فإن فقه عطاء في المناسك من أجود الفقه.
    إذاً: التفضيل الممكن يكون في أبواب معينة، كأن يقال مثلاً: في باب المياه مذهب فلان أجود من مذهب فلان، وهذا يصل إليه المحققون، كـابن تيمية - رحمه الله - فإنه يستعمل هذا كثيراً، ومن قبله الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام يشير في بعض كلامه -كما في كتاب الأموال- إلى شيء من هذا. ولما تعذر التفضيل المطلق فإن معيار الاختيار من أخصه قصد ما عليه أهل البلد، فمن نشأ في بيئةٍ حنبلية فالأولى له أن يتمذهب بمذهب الحنابلة، وفي البيئة الشافعية أو المالكية أو الحنفية كذلك؛ وذلك لمصالح شرعية بينة، من أخصها: أنه أضبط لعلمه؛ لأن ذلك المذهب كتبه منتشرة في ذلك المصر، والشيوخ الذين يدرسونه موجودون، وطرق التدريس له فيما بعد لحفظ العلم متاحة، وإذا أفتى به فإنه لا يفرق العامة ولا يلبس عليهم، وهكذا درج المتقدمون قبل هذه التمذهبات، فقد كان الإمام مالك - رحمه الله - في المدينة يحرص على فقه المدنيين، حتى إنه قدم عمل أهل المدينة وجعله حجة في بعض المسائل، فهذا من الفقه الفاضل، وهو نوع من الاقتداء الحسن، وما زال المسلمون سائرين عليه.


    وأما حكم التمذهب كترتيبٍ علمي: فالترتيب العملي له وجهان:


    الوجه الأول: إذا جاء من عارف فقيه فإن الترتيب بمعنى أنه يفقه أصول المذهب، فيفقه الحنفي درجة القياس في مذهب أبي حنيفة وأين يستعمل، كما أن الحنبلي يفقه درجة قول الصحابي وأين يستعمل، ويفقه المنطوق والمفهوم، وهل يعمل المذهب بالمفهوم أم لا؟ والمقصود: أنه يدرس أصول فقه المذهب، وذلك مثل تمذهب ابن عبد البر على مذهب الإمام مالك.


    الوجه الثاني - وهو الشائع الآن عند كثير من المُجَالِسين لفقهاء المذاهب في أمصار المسلمين-: أن بعض طلاب العلم لا يصل إلى أنه يعرف أصول المذهب بقدر ما هو يحفظ فروع المذهب على طريقةٍ معينة.


    فإذا أخذ التمذهب كترتيب علمي يبني عليه ولا يترك بيّن الدليل من أجله، إنما كترتيب علمي ليعرف نظم المسائل ولينضبط قوله، فهذا كترتيب علمي لا يجوز إنكاره.


    ولقائل أن يقول: ما هو الدليل على ذلك؟ -وهنا نرجع إلى قضية الدليل النصي والدليل الاستقرائي-، ومن الدليل الاستقرائي: أن هذه المذاهب استقرت في القرن الرابع الهجري، وهذا لا يجادل فيه أحد، فمتى نقل أن أعياناً من العلماء المعتبرين قد صرحوا بتحريم التمذهب كترتيب علمي؟ أما كتقليد وتعصب وترك لظاهر الأدلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، ولا يحتاج أن ينقل عن فلان أو فلان من الناس، ولذلك فإن بعض من يحرمون التمذهب يقولون: قال ابن القيم كذا، مع أن ابن القيم حنبلي فما الذي كان ينكره وهو حنبلي؟ أو يقولون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن رجب كذا، مع أنهما حنبليان، فالتمذهب بمعنى التقليد والتدين والالتزام والاختصاصات والتعصبات، هذا المفهوم هو المخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته.
    أما التمذهب كترتيب علمي مع عدم الإلزام به إلا من باب ترك الفوضى العلمية وما إلى ذلك، فهذا إلى القرن العاشر - فيما أعلم - لم يحفظ عن إمام معتبر أنه منع منه، إنما الذي صرح المتقدمون كالأئمة الأربعة أنفسهم والفقهاء من أصحابهم المحققين، كبعض الذين ذكروا في المصنفات التي ذمت التقليد والمقلدين وما إلى ذلك -الذي صرحوا بمنعه والتحذير منه هو التمذهب بمعنى التقليد والتعصب وتقديم المذهب على الدليل.. ونحو ذلك. أما التمذهب كترتيب علمي فلم ينكر على هذا الوجه، بل إن جماهير علماء المسلمين في سائر بيئاتهم كانوا يتمذهبون على هذه المذاهب، مع أنهم درجات، فمنهم المحققون الذين انتظموا على فقه المذاهب بشكل صحيح، ومنهم دون ذلك.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    المقام الثاني: التمذهب المذموم:
    وهو التمذهب على معنى التدين، أي: أنه يلتزم التمذهب على وجه الاختصاص بقول أحد، فيجعل هذا أخص تديناً من غيره، ويتعصب له حتى إنه يترك ظاهر الدليل من أجل قوله ونحو ذلك، فهذا الاستمساك المحض، والمغالبة المحضة بالمذهب، أو ذم المذاهب الأخرى، أو تشتيت المسلمين بالتمذهب.. ونحو ذلك من العوارض البينة، هذا لا شك أنه مذموم شرعاً وعقلاً، وليس هو من باب التوسعة على المسلمين كالمقام الأول، بل إنه يدخل في باب التضييق عليهم.
    ولذلك إذا ورد سؤال: هل التمذهب توسعة على المسلمين أم أنه تضييق عليهم؟!
    فيقال: فيه تفصيل: فإن اعتبر بالمفهوم الأول الشرعي المتعقل فهو توسعة على المسلمين، وإن اعتبر بالمفهوم الثاني التعصبي المضيق الذي يتجاهل القول الآخر مطلقاً، ويتجاهل ظاهر الدليل أحياناً إلى غيره، ويتكلف في إبعاد القول الثاني، وغير ذلك من أوجه الغلو التي حدثت في التاريخ.




    (المسألة الثانية) خروج الإنسان عن مذهبه -سواء كان فقيهاً في أصول المذهب، أو كان عارفاً بفروع المذهب فقط- هذه المسألة لها أربع صور:


    الصورة الأولى: الخروج إلى قول واحد من الأئمة الأربعة: فهذا الخروج يعتبر خروجاً لا بأس به، لكنه ليس مشتهراً عند الفقهاء المتمذهبين، والغالب عليهم أنهم يخرجون إلى أقوالٍ في مذاهبهم، ولذلك يقول ابن تيمية - وهو من محققي الحنابلة-: إني تأملت المسائل التي ظاهر المذهب فيها عند الأصحاب يخالف الدليل فإذا عامتها يكون فيه عن أحمد رواية توافق ما عليه ظاهر الدليل.


    الصورة الثانية: الخروج إلى قول من هو في درجة الأئمة الأربعة العلمية من الأئمة المتقدمين ممن حُفظ قولهم: فهل الخروج عن المذاهب الأربعة إلى هذا القول جائز بشرطه أم أنه ممنوع من أصله؟
    الجواب: هو جائز بشرطه؛ لأنه إذا قيل: إنه ممنوع، فيرد سؤال وهو: إذا اتفق الأئمة الأربعة على قول فهل يكون إجماعاً؟! إذا قيل: إنه إجماع، فسيكون لزوم قولهم من جهة كونه إجماعاً لا من جهة كونه قول الأئمة الأربعة، فتخصيصه بالأئمة الأربعة حقيقته وهم في الذهن؛ لأنه لا يقال في كل أقوال الأئمة الأربعة أنها مسائل إجماع، بل بعضها مسائل فيها إجماع وبعضها ليس فيه إجماع؛ فلا يسوغ أن تخص مسائل الإجماع باسم الأئمة الأربعة؛ لأنه لو ساغ ذلك لخُصّت بالأربعة الراشدين من الصحابة - رضي الله عنهم -.
    أما إذا قيل: إنه لا يلزم أن يكون إجماعاً، فإذا لم يكن إجماعاً، والقول الآخر قولٌ بين معروف لأئمة معتبرين من التابعين والأئمة الذين هم في درجة هؤلاء، فما الذي يمنع شرعاً وعقلاً أن يكون الصحيح -إمكاناً وليس جزماً- في هذا القول؟ ليس هناك شيءٌ يمنع من ذلك، لا من جهة الشرع ولا من جهة العقل.
    ومن المعلوم أن المتقدمين لم يكونوا يثربون على من خرج عن أقوال الأئمة الأربعة، أعني الخروج الذي هو بشرطه، وكذلك لم يكونوا ينتقدون الأقوال البينة غير الشاذة، فكذلك من خرج إلى تقليد ما لم ينتقد فلا ينتقد؛ لأنه لو كان منتقداً لكان الأولى بالانتقاد ذلك الذي قلده. وقد حاول بعض الفقهاء كـابن رجب - رحمه الله - أن يجمع جملة الأقوال إلى أقوال الأئمة الأربعة، ولو وجد ما يخالف قول الأئمة الأربعة من الأقوال فهو من جنس جمع الصحابة للقرآن على مصحف واحد وترك ما عداه.
    والخلاصة: أن الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة لقول معتبر -وليس لقول شاذ- عليه بعض فقهاء التابعين، أو بعض الأئمة المتبوعين كـالأوزاعي و الليث و الثوري ونحوهم؛ فهذا جائز شرعاً وعقلاً، ولا يمنعه إلا من فرض أحد أمرين: الأول: أن الحق محصور في غير الإجماع، والثاني: أن الحق الذي في غير قول الأئمة الأربعة لا يجوز اتباعه.


    تنبيه: نحن هنا لا نتكلم عمن يفتي بالمذاهب الأربعة، ويقول: أنا لا أفتي إلا بالمذاهب الأربعة، فإن هذا لا يمنع، ولا ينكر عليه، وقد درج كثير من الفقهاء على هذا المنهج، كـابن رجب وغيره، فقد كانوا لا يفتون بما خرج عن المذاهب الأربعة، لكن هناك فرق بين كونه لا يفتي بما خرج عن المذاهب الأربعة، وبين كونه يجعل هذا ديناً لازماً على المسلمين، فمن خرج عن قول الأئمة الأربعة أنكر عليه إنكاراً شديداً، فهذا يلزم عليه إما أن الحق محصور في معين من الأقوال، وهذا غير صحيح، وإما أن أقوالهم فقط هي الإجماع، وهذا أيضاً غير صحيح.


    إذاً: الصواب أن الخروج عن المذاهب الأربعة إلى قول إمام متقدم يسوغ بشرطه، وقولنا: (يسوغ) أي: أنه جائز وليس بلازم، ولذلك فقد ذكرت أنه من التزم أنه لا يفتي بخلاف المذاهب الأربعة فهذا التزام لا بأس به، وإذا كنا نسوغ أن يفتي البعض بالمذهب الحنفي أو الحنبلي وحده، فمن باب أولى أن من التزم أن لا يخرج عن المذاهب الأربعة أنه لا بأس به، وأرى أنه منهج يصلح لكثيرين وأولى لكثيرين، لكن من وصل إلى درجة كبيرة من التحقيق والعلم، وفقه الأقوال المتقدمة، والتفريق بين الشاذ وخلافه، والخلاف المحفوظ وعدمه، وما هو على وفق الأدلة وما هو على خلاف الأدلة، فخرج في بعض المسائل عن قول الأئمة الأربعة إلى قول أئمة متبوعين كـالليث و الأوزاعي أو من قبلهم من التابعين؛ فهذا مما يسوغ شرعاً وعقلاً، وقد درج عليه الكبار من المتقدمين فما أنكر عليهم، ولو أنكر عليهم لنقل. وإذا كان لم ينكر على الفاعلين، فمن باب أولى أن لا ينكر على المقلدين.


    وقد يقول قائل: إن السبب في المنع: أن أقوال الأئمة الأربعة تحررت فضبطت أصولهم الفقهية ونظم مذهبهم من أول الفقه إلى آخره. فيقال: هل من شرط الأخذ بقول فقيه أن يعرف قوله في سائر المسائل؟ الجواب: لا، ولو شرط هذا الشرط لتعذر العمل بفقه الصحابة، ثم إننا نجد أن الأصول غير متفق عليها كأصول منضبطة عند الأئمة، فإذا نظرنا في أصول فقه الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وجدنا خلافاً في كثير من المسائل، وإذا جئنا إلى الفروع وقرأنا الإنصاف أو الفروع أو كتب المذاهب الأخرى؛ وجدنا أنهم يختلفون كثيراً في تحرير المذهب والجزم حينما تتعدد الروايات، وليس معنى هذا أننا نشكك في استقرار المذاهب أو وجودها، لكن المقصود أنه لا يلزم أننا لا نعمل إلا بقول إمام له مذهب متكامل من أوله إلى آخره أصولاً وفروعاً، فإن هذا الشرط لا أصل له عند السلف، ولا أصل له عند الخلف كلزوم أو وجوب.


    هذا الخروج، فيه ثلاثة مذاهب للمتأخرين:
    المذهب الأول: لزوم الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة إذا عرض ظاهر دليل يقتضي المخالفة، وهذا الذي عرض به ظاهر الدليل قول محفوظ أو قول ثابت عن إمام متقدم، ومن أخص من انتصر لهذا المذهب الإمام أبو محمد ابن حزم، بل إنه ربما خرج إلى ما هو أوسع من ذلك أحياناً، فإن ابن حزم يرى لزوم الخروج عن المذاهب. وهو –أيضا- قد يخالف الأئمة الأربعة ثم يقول: وهذا الذي ذكرناه هو قول أبي بكر و عمر مثلاً، أو قول ابن مسعود، أو غيرهم، فإنه كثير العناية بآثار الصحابة كما هو معروفٌ في منهجهِ، وهذا في الجملة مما يحمد لـابن حزم -أعني العناية بآثار الصحابة- وإن كان فقهه لآثار الصحابة قد يتأخر في كثير من الموارد، فإنه ربما رأى آراءً ليست من مقتضى قولهم المعين.


    المذهب الثاني: المنع، فأصحاب هذا المذهب يمنعون الخروج عن المذاهب الأربعة مطلقاً، بل يكون مدار الأقوال على هذه المذاهب، ومن أخص من تكلم عن هذا وضبطه ومال إليه الحافظ ابن رجب في رسالة له، مع أن الحافظ ابن رجب هو من أوسع المتأخرين علماً وأكثرهم عناية بآثار السلف، وهذا بين في الجزء الموجود من شرحه لصحيح البخاري، ففيه تظهر عناية الحافظ ابن رجب بآثار السلف، ومقالات أئمة الحديث بخاصة، فهو كثير العناية؛ كثير الفطنة؛ كثير الضبط لمثل ذلك.


    فهذان الإمامان -أعني الإمام أبا محمد ابن حزم صاحب طريقة الإلزام، والحافظ ابن رجب صاحب طريقة المنع- كلاهما من المحققين المتأخرين، وإن كان ابن رجب أجود منهجاً؛ لأنه اعتبر منهج الإمام أحمد على طريقة المحققين من أصحابه، فضلاً عن عنايته بالآثار، أما أبو محمد ابن حزم فهو وإن كان كثير العلم حسن الفقه، إلا أنه انتحل مذهب الظاهرية، ومذهب الظاهرية يتأخر في الرتبة عن مذاهب أئمة الفقهاء كالإمام أحمد و الشافعي وأمثالهما. ولكن مع ذلك فإن هذين الإمامين -أعني أبا محمد ابن حزم و ابن رجب - هما من أكثر المتأخرين علماً وتحقيقاً، وإن كان هذا له طريقة وهذا له طريقة، ونجد أن أبا محمد ابن حزم واسع العلم بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وبآثار الصحابة، وبمقالات الفقهاء، كثير العناية والأخذ بالسنة والهدي، وكذلك الحافظ ابن رجب واسع العلم بالآثار، فهما من الأئمة الكبار المتأخرين، ولـشيخ الإسلام ابن تيمية ثناء كبير على أبي محمد ابن حزم؛ حتى إنه قال: إنه إذا كان في المسألة نزاع والراجح فيها مرتبط بصحة الحديث، أو بورود الحديث، فإن القول الذي يذهب إليه ابن حزم في الجملة أو في كثير من الموارد يكون هو الصواب. وعليه نقول: إنه مع أن هذين الإمامين لكل منهما قول في هذه المسألة يخالف الآخر، فإن هذا لا يعني تأخراً في فقههما؛ بل يقال: إن طالب العلم لا ينبغي له أن يستغني عن كتب ابن حزم وكتب ابن رجب، فهي من أجود كتب المتأخرين، وإن كانت كتب ابن حزم ينبغي أن لا يبتدئ فيها، وإنما يستعمل النظر فيها بعد أن تتبين له أصول العلوم وأصول القواعد العلمية، أما كتب ابن رجب فإنها أقرب إلى التأصيل. ومذهب ابن حزم هذا يتابعه عليه جماعة، ولا سيما بعض من جاء في القرون المتأخرة من أصحاب الحديث، فإن بعضهم يستعملون هذه الطريقة، وهذا بين في طريقة بعض شيوخ الحديث المتأخرين.
    وأنبه إلى أن القول بالإلزام أو بالمنع هو في الحقيقة يدور على أشخاص وليس رأياً عاماً، وإلا فإن من يريد أن يؤصل الأمور ببعض أوجه التأصيل الممكنة، ربما تطرق إلى ذهنه نتيجة أن الإلزام بالخروج هو مذهب العامة من أهل العلم؛ لأنه خروج إلى الدليل، وكذلك من يمنع ربما تحصل له بطريقة في نظره أن المنع هو مذهب الجمهور من الفقهاء، وقد يذكر أن العلماء أنكروا على فلان من أهل العلم لأنه خرج عن المذاهب في مسألة معينة. فأقول: هذا لا ينبغي التسرع فيه، فالإلزام ليس منضبطاً كمذْهَبٍ للجمهور من أهل العلم، كما أن المنع ليس منضبطاً، ولا يقال: هذا هو الذي درج عليه الفقهاء، وهذا هو المعروف عندهم، حتى إنهم شذذوا من خالفه؛ فإن هذا أيضاً فيه زيادة، نعم.. ربما يشذذون في مسائل معينة لأن هذه المسائل لها أحوال معينة عندهم.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    المذهب الثالث: أن الخروج عن المذاهب الأربعة سائغ، فليس لازماً وليس ممنوعاً؛ ولكن بضوابط:


    الضابط الأول: أن يكون الخروج إلى قول محفوظ بين وليس شاذاً، كأن يكون قول جماعة من التابعين أو قول بعض أئمة الشام، أو قول بعض كبار المحدثين، ونحو ذلك، وهذا من طرق العلم به النظر في المصنفات، أو بعض كتب الخلاف المتقدمة؛ كاختلاف الفقهاء لـمحمد بن نصر المروزي، ونحو ذلك، وقد يقول الإمام الترمذي أحياناً: هذا المذهب عليه أكثر أهل العلم.. وذهب طائفةٌ من أهل الحديث إلى كذا.. ثم تجد أن القول الذي وصفه بأن عليه أكثر أهل العلم هو مذهب الأئمة الأربعة فيما بعد، فمعناه أن الترمذي حفظ القول الآخر.
    الضابط الثاني: أن يكون الخروج إلى قول إمام متقدم.
    الضابط الثالث: أن يكون الذي يرى الخروج عن المذاهب عنده ظاهر الدليل.
    الضابط الرابع: أن يكون الخروج عن المذاهب من فقيه عارف.


    وهنا قد يقول قائل: لماذا لا يكون الخروج لازماً لظاهر الدليل؟ أليس الأصل أننا متعبدون بالكتاب والسنة، وما ظهر من الدليل فإن الأخذ به واجب كما يؤصله الكثير من الكبار؟! فنقول: إن الأخذ بظاهر الدليل كأصل أمر لازم عند عامة الأئمة، وليس هناك خلاف معتبر في هذا الأصل كأصل مختص وحده، وهو أن الأخذ بظاهر الدليل لازم على جميع المكلفين، فإن هذا لا جدال فيه بين المتقدمين، إنما يقال: لما انتظمت المذاهب الأربعة بقول، مع ثبوت هذه المذاهب واستقرار طريقتها في الأمة قروناً متوالية، فإن الذي أسقط الإلزام هو اعتبار ممكن وليس اعتباراً لازماً؛ لأنه لو كان هذا الاعتبار لازماً لقلنا بالمنع، وهذا الاعتبار هو: أن تعيين ظاهر الدليل لا يخفى على الجمهور، وهذا كلام ممكن، ومن هنا قيل: إن الخروج ليس بلازم، وقيل: إنه ليس ممتنعاً؛ فإنه يمتنع شرعاً وعقلاً أن يتوارد أئمة الأمصار على ترك ظاهر الدليل، فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره، فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه غير مراد لحجةٍ عندهم.
    وقد يقول البعض ولا سيما من يرون الإلزام كـابن حزم، أو أصحاب الحديث المعاصرين، أو ممن قبلهم الذين يميلون إلى طريقة أهل الحديث -قد يقولون: إن القول بأن الظاهر لا يخفى على الجمهور هو إمكانٌ وليس إلزاماً، ومجرد الإمكان لا يسلم، قالوا: لأن عندنا أمثلة ظاهر الدليل فيها يدل على حكم، ومذهب الأئمة الأربعة على حكم آخر، فيقال: فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه- أي: هذا الظاهر المعين- غير مراد لحجةٍ عندهم. وقد يقول قائل: هل معنى هذا أننا نترك بعض الظاهر لمحض قول الجمهور؟ والجواب: أن هذا ليس هو المقصود، فنحن هنا نتكلم عن مسألة الإمكان، والذي يحقق ذلك هو الإجابة عن سؤال، وهو: هل الظاهر الذي يوجب الحكم هو النظر في معين أم النظر في المجموع؟ بمعنى: هل تعيين الظاهر يكون بالنظر في دليل واحد أم بالنظر في مجموع أدلة؟! نقول: يتعين بالنظر في مجموع أدلة، فإذا نظرت في دليل معين قلت: إن الظاهر خلاف قول الجمهور، ولكن إذا جمعت مجموع الأدلة تبين أن الجزم بأن قول الجمهور يخالف الظاهر فيه تأخر في الجملة، وذلك لأن الظاهر هو مجموع النظر في الدليل، وليس النظر المعين، وإلا فثمة اتفاق على الأخذ بالظاهر وترك أقوال الرجال، وهذا نؤصل به لعدم القول بالإلزام التي هي طريقة ابن حزم، بمعنى: هل يسوغ لبعض أهل العلم أن يلتزم المذاهب ويقول: أنا لا أخرج في الفتوى والقول عن المذاهب الأربعة؟ نقول: إن ذلك يسوغ، فإذا اعترض عليه وقيل: كيف يسوغ وقد يترك لذلك ظاهراً؟ قيل: هو بنى على هذه الحجة وهي أن الجمهور لا يخفى عليهم الظاهر في الجملة، فإن عرض ما ظاهره الخفاء فإن مرده عنده يمكن أن يفسر بأن هذا الظاهر ليس مراداً؛ لأن الظاهر هو مجموع النظر وليس النظر المعين، وهذا المنهج لا أقول: إنه منهج لازم، ولكن أقول: إنه منهج ممكن.
    ومن الأمثلة على ذلك: قول ابن عباس - رضي الله عنهما - كما في الصحيحين: (جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر)، فربما قال قائل: إن ظاهر الحديث يدل على جواز الجمع بدون عذر، وهذا حديث متفق على صحته، ولكن نقول: إن هذا التفسير للحديث ليس مراداً.
    وأحياناً قد يكون هناك ظاهرٌ لم يترك العمل به لكنه فسر بفقه معين، فقد يرى البعض أن الظاهر يقتضي فقهاً آخر، مثل حديث الخوارج المتفق عليه، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - في الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فلم يفقه الصحابة من هذا الحديث أن المقصود به أنهم كفار، مع أنه قد قال بعض العلماء: إن هذا دليل على أن الخوارج كفار، بل الإشكال أن بعضهم يقول: الخوارج كفار بصريح السنة، ولكن يقال لهم: كيف تقولون ذلك مع أن الصحابة لم يفهموا هذا الفهم؟! ولا يقال: إن ذلك من باب درء الفتنة، فإنهم قد قاتلوهم وحصل القتال، فالحديث إذاً لا يدل على أنهم كفار. ولذلك يقول ابن تيمية: إن هذا الحرف لا يفقه منه ذلك، ولو كان يفقه منه ذلك لفقهه الصحابة، فإن ظاهر مذهب الصحابة أنهم ليسوا كفاراً.


    إذاً: هذا مما يبين أن الظاهر هو مجموع النظر، فإن الصحابة لم يكفروهم بهذا الحرف؛ ولأنهم نظروا إلى ظاهر السنة في هذه المناطات.


    ولعله من نافلة القول أن نقول: إن المجوزين هم الأكثر من أهل العلم، ومن أخص المجوزين تقريراً وفعلاً شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا القول هو الأصل، وهو المقتضي إذا حقق بضوابطه.


    بل إنه من الممكن، وقد وجد بالفعل: أن هناك أقوالاً معروفة في المصنفات - كما أشرت إليه - وفي بعض كتب الخلاف المتقدم وبعض كتب المحدثين: أقوالٌ لأئمةٍ معتبرين، وليست معروفة عند المذاهب الأربعة، لا يلزم أنها راجحة، ولكن تبقى أقوالاً محفوظة لا ينكر على من أخذ بها تحت الضوابط المتقدمة.


    بعضهم يعلل بتعليلات ليست لازمة في الحقائق العلمية الكاملة كأن يقال: إن هذا يقود إلى الفوضى وما إلى ذلك، هذا نوع - إن صح التعبير- من الضبط الأخلاقي للعلم، ولذلك قلنا: إن الخروج لا بد له من ضوابط، فإذا قيل: إذا فتحنا هذا الباب خرج الناس إلى الشاذ وتخبطوا وما إلى ذلك، فيقال: هذا له ضوابط، ولا يجوز أن تصادر الحقائق العلمية لتخبط مجموعة من الناس ضدها. فنظرية الإغلاق لوجود متخبطين هذه لا تتناها، وحتى لو أغلقت سيتخبط أناس.. وهكذا، فتحقيق الحقائق العلمية يكون من هذا الوجه.


    وأما فرض أنه لو كان هذا القول صحيحاً لعرفه الجمهور، فنقول: هذا فرض ممكن لكنه ليس بلازم؛ لأنه لو كان لازماً لوجد من طريقة المتقدمين أنهم يقصدون إلى أقوال الجماهير ولا يجتهدون بخلافها، ولوجد أن من طريقة المتقدمين: التحذير مما خالف قول الجمهور، وهذا لا يحذرون منه على الإطلاق، وأما من يقول: إنهم قد حذروا من مخالفة قول الجمهور، ويذكر لذلك أمثلة، فالأمثلة حقيقتها ليست من هذا، فالإمام مالك أحياناً يحذر من قول الجمهور لأنه لم يبلغه إلا هذا القول مثلاً، ومن الأمثلة على ذلك: صيام الست من شوال، فإنه لم يحذر منه حقيقة، لكنه شبه أنكره، مع أن الجمهور على أن صيام الست من شوال مستحب.


    الصورة الثالثة: الخروج إلى قول غير الأئمة الأربعة، ولكنه قول متأخر، ذكره بعض المتأخرين: فإذا كان القول متأخراً -أي: جاء في القرون المتأخرة- ولم يعرف هذا القول عند أحدٍ من المتقدمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، فهذا الأصل منعه.


    الصورة الرابعة: الخروج إلى قول تفقه به الناظر، وهذا يعرض لمن يشتغل بالحديث أحياناً، فربما رأى رأياً من ظاهر دليل عنده من السنة، وهذا الرأي لا يوجد قائل به من المتقدمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، فإن قيل له: من قال به من المتقدمين؟ قال: لا أعلم، ولكن هذا ما ظهر لي، فإذا نظرت في كتب المتقدمين وجدت أنهم لا يذكرون هذا القول أصلاً، وكأن الإجماع على خلافه، فهذا القولُ الذي تفقَّه به الناظرُ قولٌ غيرُ صحيحٍ، وهذا قد يعرض أحياناً لبعض طلبة العلم المشتغلين بالحديث، أنه إذا رأى أراءً لم يقل بها أحد من المتقدمين، فإن قيل له في ذلك قال: هذا ظاهر السنة، وهذا فيه تمانع في الشرع والعقل، فإنه يتعذر أن يدل ظاهر السنة على مسألة لم يذكرها المتقدمون، وإذا كان هناك مسألة نطق بها المتقدمون (فليست بنازلةٍ) واشتهر الخلاف بينهم، وذكروا فيها أربعة أقوال لا يذكرون بينها ما وصلت إليه أنه هو ظاهر السنة؛ فإن هذا يدل على أن ما وصلت إليه ليس صحيحاً معتداً به. إذاً: الخروج إلى قول المتفقه المتأخر بنظره الخاص ولم يسبقه إلى ذلك إمام، هذا أيضاً يمنع.




    (المسألة الثالثة) المذهب نوعان شخصي أو اصطلاحي:
    المذهب الشخصي: هو منصوص الإمام أو ما يقرب منه.
    أما المذهب الاصطلاحي فالمقصود به: ما درسه فقهاء المذاهب الأربعة لتحرير مذهبهم، وهذا يختلفون فيه كثيراً.
    وبطبيعة الحال فإن المذهب الشخصي قد يكون من جهة أوسع، كاختلاف الرواية عن الإمام أحمد بثلاث روايات كلها محفوظة، مع أن المذهب الاصطلاحي معتبر برواية واحدة، فمن هذا الوجه كان المذهب الشخصي أوسع، وباعتبار آخر نجد أن المذهب الشخصي يكون أضيق من المذهب الاصطلاحي، كتكميل المسألة وتكميل دليلها، وذكر الضوابط عليها، وما إلى ذلك.




    (المسألة الرابعة) علاقة التمذهب بالآراء العقدية: هذا مما ينبه إليه طلبة العلم، كباب أحكام المرتدين، وبعض ما يذكرونه في مسائل التطبيقات على مسائل الردة، أو بعض المسائل المتعلقة بالأصول أو بالعقائد من بعض الجهات؛ فربما دخل على بعض الفقهاء - ولا سيما المتأخرين - بعض هذه الكلمات، حتى ربما جانبوا المذهب الذي عليه الجماهير والعامة من السلف. فهذه المسائل لا يكفي فيها النظر في آحاد كلام الفقهاء المتأخرين.




    (المسألة الخامسة) التمذهب على الفقيه وصاحب الحديث: ربما كان التمذهب - وهو الأصل - على طريقة الفقهاء؛ كالأئمة الأربعة ومن جاء بعدهم من أصحابهم، وربما تمذهب البعض بمذهب بعض أصحاب الحديث، وهذا يقع، ولا يجوز أن يمنع منعاً مطلقاً، ولكنه يدار فيه القول على الضبط والتحقيق، وشرطه: أن لا يخرج عن أصول الفقهاء، كالتكلف بالآراء الشاذة تحت اسم الاستدلال بالدليل أو بالحديث، فهذا نوع من التكلف، فإذا ما ضبط على أصول الفقهاء فهذا وجه مقارب للقبول، ولا يجوز تضييقه، فإذا كان المعتبر فيه يعرف مسائل الإجماع، فلا يخرج عن الإجماع، ولا يأخذ بالشاذ، وإنما يسير إلى قول إمام متقدم= فهذا لا يمنع.




    (المسألة السادسة) خلاف الظاهرية:
    الأصل أن قول داود بن علي قول معتبر، وأما آحاد مقالات الظاهرية فهل هي خلاف معتبر أو ليس معتبراً؟ يقال: كل مسألة من حيث الآحاد ينظر في مورد الإجماع المتقدم، وعلاقة هذه المسألة بالإجماع المتقدم، فإذا انفرد ابن حزم ببعض الرأي الذي ليس له فيه سلف، فيمكن أن يقال هنا: إنه لا يعتبر قوله، وأما إذا كان قول الظاهرية على أصل أو قول معروف عند المتقدمين، فهذا لا يسوغ إنكاره، والأئمة المتقدمون لم ينكروا جميعاً فقه داود بن علي، إنما أخذوا عليه، وإن كانوا أخذوا عليه، فقد أخذوا على غيره، فقد أخذوا على أهل الرأي كثيراً؛ بل إن الإمام أحمد ترك بعض كلام إسحاق بن إبراهيم، مع أن الإمام أحمد من أقرب الناس إلى طريقة إسحاق، ومع ذلك قال: إنا نترك بعض الرأي من كلام إسحاق. بل إن أبا عبيد ربما أثنى على بعض هذه الأقوال بشيء أكثر من ذلك، أي: الأقوال التي ذمها من ذمها. فالمقصود: أنه لا يوجد عند المتقدمين إجماع على ترك فقه داود بن علي، فما تفرع عن الأصول المعتبرة التي لا تخالف الإجماع ولا الأصول فهو مقبول، وما كان شاذاً أو خالف الإجماع فيترك ويرد.




    (المسألة السابعة ) هل الأمة بحاجة إلى التمذهب أم لا ؟!
    إذا كان التمذهب من باب التراتيب العلمية، فهذا يحفظ المسلمين، ويحفظ أنصار المسلمين وعوام المسلمين من الاضطراب؛ فإن الناس إذا انتظم لهم مذهب وصار فقهاؤهم وشيوخهم يفتون به، انفك العوام عن الاضطراب، وتركوا التحليل والتحريم والخوض في دين الله بغير علم، فهو من هذا الوجه فيه مصلحة. وإما إذا فسر التمذهب بالتدين والتعصب، وترك العناية والأخذ بالسنن والآثار وما إلى ذلك، فهذا لا شك أن المسلمين لا يحتاجونه؛ لأن المسلمين يحتاجون إلى سنة نبيهم وليس إلى رأي فقيه بعينه.


    انتهى من تعليقه على (رفع الملام) لأبي العباس ابن تيميّة الحفيد بشيءٍ من الاختصار .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    تأمل قوله: (فهم على مذهب أهل الحديث وليسوا بمقلدين ...).
    سُئل شيخ الإسلام: هَلْ الْبُخَارِيُّ ؛ وَمُسْلِمٌ ؛ وَأَبُو دَاوُد ؛ وَالتِّرْمِذِي ؛ وَالنَّسَائِي ؛ وَابْنُ مَاجَه ؛ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى ؛ وَالدَّارِمِي وَالْبَزَّارُ ؛ وَالدَّارَقُطْن ِي ؛ وَالْبَيْهَقِي ؛ وَابْنُ خُزَيْمَة ؛ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُجْتَهِدِينَ لَمْ يُقَلِّدُوا أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ أَمْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ ؟ وَهَلْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ؟ .......
    فَأَجَابَ :
    الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْبُخَارِيُّ ؛ وَأَبُو دَاوُد فَإِمَامَانِ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا مُسْلِمٌ ؛ وَالتِّرْمِذِي ؛ وَالنَّسَائِي ؛ وَابْنُ مَاجَه ؛ وَابْنُ خُزَيْمَة ؛ وَأَبُو يَعْلَى ؛ وَالْبَزَّارُ ؛ وَنَحْوُهُمْ ؛ فَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا هُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِين َ عَلَى الْإِطْلَاقِ [ بَلْ هُمْ يَمِيلُونَ إلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ] كَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد ؛ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ ؛ وَأَمْثَالِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَاخْتِصَاصِ أَبِي دَاوُد وَنَحْوِهِ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحِجَازِ - كَمَالِكِ وَأَمْثَالِهِ - أَمْيَلُ مِنْهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ - . وَأَمَّا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى فَأَقْدَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ طَبَقَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ؛ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الواسطي ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد . وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ ؛ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ ؛ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ؛ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يُعَظِّمُونَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّين َ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَوَكِيعِ ؛ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ : مَالِكٌ وَنَحْوُهُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ . وَأَمَّا البيهقي فَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ مُنْتَصِرًا لَهُ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِهِ . وَالدَّارَقُطْن ِي هُوَ أَيْضًا يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ السَّنَدِ وَالْحَدِيثِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ كالبيهقي مَعَ أَنَّ البيهقي لَهُ اجْتِهَادٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاجْتِهَادُ الدارقطني أَقْوَى مِنْهُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْهُ.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    قال الشوكاني في مقدم سيله الجرار: (فمن كان أهلا للترجيح ومتأهلا للتسقيم والتصحيح فهو إن شاء الله سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعا ولما ينوبه _ أي يصيبه وينزل به_ ذخرا وأما من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له: (ماذا بعشك يا حمامة فادرجي) _مثل يصرب لمن يرفع نفسه فوق قدره_
    لا تعذر المشتاق في أشواقــــــه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
    لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
    دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا هويت فعند ذلك عنف
    فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا).
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    جاء في المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: (فَلَا يُقَال مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب أبي حنيفَة أَو غَيرهمَا أَو بِالْعَكْسِ لَكِن هَذَا بِاعْتِبَار مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر وَأما من حَيْثُ الْأَدِلَّة على الْمسَائِل فالترجيح ثَابت). اهـ
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    بارك الله فيكم.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيكم.
    وفيكم بارك الله
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    الكلام على جواز التقليد.
    قال الشوكاني في مقدمة سيله الجرار: (اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلي أنه غير جائز.
    قال القرافي: (مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد، وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد، ورواه مالك وأبو حنيفة والشافعي، وروى المروزي عن الشافعي في أول مختصرة: أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره).
    وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد لهم في الرسالة التي سميتها: (القول المفيد في حكم التقليد).
    والحاصل أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعًا فهو مذهب الجمهور، ومن اقتصر في حكاية المنع من التقليد على المعتزلة فهو لم يبحث عن اقوال أهل العلم في هذه المسألة كما ينبغي.
    وقد حكي عن بعض الحشوية
    -فرقة كالخوارج والمرجئة- أنهم يوجبون التقليد مطلقًا ويحرمون النظر، وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على غيرهم؛ فإن التقليد جهل وليس بعلم.
    وذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا يجب على العامي ويحرم على المجتهد، وبهذا قال كثير من أتباع الأربعة؛ ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول من أتباع الأئمة يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون، والمعتبر في الخلاف إنما هو قول المجتهدين لا قول المقلدين.
    والعجب من بعض المصنفين في الأصول فإنه نسب هذا القول المشتمل على التفصيل إلي الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين.
    فإن أراد إجماع الصحابة فهم لم يسمعوا بالتقليد فضلًا عن أن يقولوا بجوازه، وكذلك التابعون لم يسمعوا بالتقليد ولا ظهر فيهم بل كان المقصر في زمان الصحابة والتابعين يسأل العالم منهم عن المسألة التي تعرض له فيروى له النص فيها من الكتاب أو السنة وهذا ليس من التقليد في شيء؛ بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية.
    وقد عرفت مما قدمنا أن المقلد إنما يعمل بالرأي لا بالرواية من غير مطالبة بحجة وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم مصرحون بالمنع من التقليد لهم ولغيرهم ولم يزل من كان في عصرهم منكرا لذلك أشد إنكار، وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة فقد عرفت أنه لا يعتبر خلاف المقلد فكيف ينعقد بقولهم الإجماع وإن أراد غيرهم فمن هم فإنه لم يزل أهل العلم في كل عصر منكرين للتقليد وهذا معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم.
    والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد فصلًا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط وقد أوضحنا هذا في رسالتنا المسماة: (بالقول المفيد في حكم التقليد)، وفي كتابنا الموسوم: (بأدب الطلب ونهاية الأَرب).
    وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغًا للتقليد فليس الأمر كما ظنوه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
    ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء الذين هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة على ما بعدها فلا وسع الله عليه.
    وما أحسن ما قاله الزركشي في البحر عن المزني فإنه قال يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال: نعم، أبطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد.
    وإن قال بغير علم، قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة!!!
    فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ لأن معلمي من كبار العلماء، قيل له: تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.
    فإن قال: نعم ترك تقليد معلمه إلي تقليد معلم معلمه، وكذلك حتى ينتهي إلي العالم من الصحابة.
    فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟.
    وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال: (لا يقلدنَّ أحدكم دينه رجلاً إن آمن أمن، وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) انتهى
    وأقول: متممًا لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلي العالم من الصحابة يقال له هذا الصحابي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلي عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله فتقليده أولى من تقليد الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
    واعلم أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له بلا خلاف في هذا ولا يجوز لغيره العمل به بحال من الأحوال فمن ادعى جواز ذلك فليأتنا بالدليل وهو لا محالة يعجز عنه وعند عجزه عن البرهان يبطل التقليد؛ لأنه كما عرفت العمل برأي الغير من غير حجة).

    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    قال ابن قاسم في مقدمة حاشيته للروض المربع: (ولا يجب التزام مذهب معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التزم مذهبًا معينًا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له فعله، فإنما يكون متبعًا لهواه فإنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو محرما، ثم يعتقد الواجب حرامًا والمحرم واجبًا، بمجرد هواه، كمسألة الجد وشرب النبيذ وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول بدليل، أو رجحان مفت فيجوز بل يجب، والعاجز إذا اتبع من هو من أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره أرجح، فهو محمود مثاب، والله الموفق للصواب).
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    قال ابن عثيمين في الشرح الممتع: (1/ 38): (أن المقلِّدَ ليس فقيهًا؛ لأنه لا يعرف الأحكام بأدلَّتها، غايةُ ما هنالك أن يكرِّرَها كما في الكتاب فقط. وقد نقل ابنُ عبد البَرِّ الإجماعَ على ذلك.وبهذا نعرف أهميَّة معرفة الدَّليل، وأن طالب العلم يجب عليه أن يتلقَّى المسائل بدلائلها، وهذا هو الذي يُنجيه عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سيقول له يوم القيامة: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، ولن يقول: ماذا أجبتم المؤلِّفَ الفلاني، فإذًا لا بُدَّ أن نعرفَ ماذا قالت الرُّسل لنعمل به.
    ولكن التَّقليد عند الضَّرورة جائزٌ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فإِذا كُنَّا لا نستطيع أن نعرف الحقَّ بدليله فلا بُدَّ أن نسأل؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن التَّقليد بمنزلة أكل الميتة، فإذا استطاع أن يستخرج الدَّليلَ بنفسه فلا يحلُّ له التقليد).
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    قال الشنقيطي في: (أضواء البيان): (7 /319 ): (هذا النوع من التقليد، لم يرد به نصّ من كتاب ولا سنة , ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، وهو مخالف لأقوال الأئمّة الأربعة رحمهم الله، فلم يقل أحد منهم بالجمود على رجل واحد معيّن دون غيره من جميع المسلمين).
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •