تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 15 الأولىالأولى ... 23456789101112131415 الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 290

الموضوع: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب النكاح]
    صـــــ 262 الى صــــــــ
    274
    الحلقة (201)


    الشافعية - قالوا: ينقسم الطلاق من هذه الحيثية إلى ثلاثة أقسام: الأول: السني. الثاني: البدعي. الثالث: ما ليس بسني ولا بدعي، فالسني يتحقق بقيود أربعة:
    الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، فإن لم تكن مدخولاً بها فإن طلاقها لا يوصف بكونه سنياً أو بدعياً.
    الثاني: أن تكون ممن يعتد بالإقراء - جمع قرء - وهو الطهر من الحيض، لأن العدة عند الشافعية تعتبر بالطهر لا بالحيض، فلو طلقها قبل أن ينتهي طهرها بزمن يسير ثم حاضت، فإن الزمن اليسير من الطهر يحسب لها طهراً كاملاً كما سيأتي في العدة، فإذا كانت يائسة من الحيض، أو كانت صغيرة لا تحيض، أو كانت حاملاً بوطء العقد الصحيح، أو طلب أن يخالعها، وهي حائض، فإن طلاقها لا يوصف بكونه سنياً، ولا بدعياً، وكذلك لأن عدتها معروفة ولا اشتباه فيها، فإن الصغيرة واليائسة من الحيض تعتد بثلاثة أشهر، والحامل تعتد بوضع الحمل، فلا يتصور تطويل العدة عليهن، فإذا كانت الحامل ممن يحضن حال الحمل، فإنه يصح طلاقها وهي حائض إذا كان حملها ظاهراً، فإن لم يظهر
    حملها وطلقها وهي حائض فطلاقها بدعي لأنه قد يؤدي إلى الندم بعد ظهور الحمل، فإن الرجل قد يندم على طلاقها ثلاثاً مع وجود ولده معها، أما الحامل من زنا، أو الحامل من الوطء بشبهة، فإن طلاقها وهي حامل بدعي، فإذا تزوج شخص امرأة غير حصينة فأباحت نفسها لغيره وهو غائب عنها فحملت من الزاني ثم حضر الزوج وأنكر حملها فإنه لا يجوز له أن يطلقها في هذه الحالة، بل يمسكها حتى تضع حملها وتطهر من النفاس وذلك تطويل عليها، وإذا كانت تحيض وهي حامل فإن له أن يطلقها بعد أن تطهر من حيضها حتى ولو جامعها في هذا الطهر، لأنها حبلى فلا يتصور حبلها مرة أخرى.
    هذا هو ظاهر كلام الشافعية، وهو كما يظهر تطبيق للقاعدة المقررة لهذا، وهي أنه يحرم تطويل العدة على المرأة، بل يجب أن يطلقها الرجل فتشرع في العدة بدون إبطاء عملاً بقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} أي لوقت الشروع في عدتهن، كما ستعرفه قريباً، ولكن قد يقال: إن الزانية لا تستوجب هذه الرأفة، لأن الزانية التي ثبت كونها زانية تستحق الرجم، وهو أكبر عقوبة دنيوية، فكيف يعقل أن يرأف الشارع بها فيأمر بعدم تطويل عدتها؟ على أن للرجل المعذرة في عدم الصبر على البقاء معها لما يلحقه من المذمة والعار، والفرار من هذا مطلوب شرعاً، ولذا قال بعض المحققين من الشافعية: أن هذا الحكم إنما هو بالنسبة لمن زنت وهي بعيدة عنه ثم تزوجها وهي حامل من الزنا، فإنه في هذه الحالة يكون راضياً بها، فلا يصح له أن يطلقها إلا في حال طهرها أن حاضت وهي حامل، وإلا فإنه يجب عليه إمساكها حتى تضع حملها وتطهر ثم يطلقها بعد ذلك، وهو وجيه، وإن كان الظاهر من كلامهم الإطلاق كما ذكرنا، أما الموطوءة بشبهة، وهي التي ظنها شخص امرأته فوطئها وهي نائمة لا تدري أو نحو ذلك مما تقدم، ثم حملت من هذا الوطء فإنه لا يصح طلاقها وهي حامل مطلقاً، سواء كانت تحيض وهي حبلى، أو لا، فإن حاضت ثم طهرت من الحيض وهي حامل فإنه لا يصح له طلاقها بل يجب إمساكها حتى تضع الحمل ثم تطهر من النفاس ثم يطلقها بعد ذلك.
    القيد الثالث: أن يكون طلاقها في الطهر، سواء كان في ابتداء الطهر، أو في وسطه، أو في آخره، بشرط أن ينطق بالطلاق قبل أن ينزل بها الحيض، فلو نطق ببعض لفظ الطلاق وهي طاهرة واللفظ الثاني وهي حائض، بأن قال لها: أنت، وهي طاهرة، ثم نزل بها الدم، فقال لها: طالق فالطلاق يكون بدعياً، ولكن لا إثم فيه، ولا يحسب لها هذا الطهر الذي وقع فيه لفظ أنت بدون طالق، خلافاً لمن قال: إنه طلاق سني، وإن اللحظة التي وقع فيها لفظ أنت تعتبر طهراً كاملاً، ومثل ذلك ما إذا طلقها مع آخر وقت حيضها فإن طلاقها وإن كان حال الحيض ولكن لم يطول عليها العدة لأنها ستشرع في العدة عقب الطلاق مباشرة، وكذا إذا علق طلاقها بمضي بعض الطهر، كأن قال لها: أنت طالق إذا مضى نصف طهرك أو ثلثه أو بعضه، ومثله إذا علق على آخر حيضها، كأن قال لها: أنت طالق عند آخر حيضك، لأنه في كل هذه الأحوال يتحقق الغرض من الطلاق السني وهو عدم تطويل عدة المطلقة.

    القيد الرابع: أن يكون الطلاق في طهر لا وطء فيه، ولا وطء في الحيض الذي قبله لجواز أن تحمل ولم يظهر حملها فيقع في الندم.
    فهذا هو الطلاق السني عند الشافعية، ومحصله أن يطلق الرجل زوجته المدخول بها التي تحيض في طهر لم يطأها فيه، ولا في الحيض الذي قبله إذا كانت غير حامل، أو كانت حاملاً من الزنا لا تحيض فيه، ويقابله الطلاق البدعي، وهو ما وجد فيه عكس القيود التي ذكرت في السني، وهي أولاً: أن يطلق امرأته المدخول بها وهي في أول حيضها، أو نفاسها، أو في وسطه، أما إذا طلقها في آخر وقته فإنه لا يكون بدعياً، ثانياً: أن لا يطلقها وهي حامل من زنا إذا كانت لا تحيض وهي حامل، وإلا فإنه يصح في هذه الحالة أن يطلقها بعد الطهر من الحيض، ولو وطئها، لأنه لا يتصور حملها ثانياً، كما تقدم، فإن كانت لا تحيض فإن عليه إمساكها حتى تلد ثم يطلقها.
    هذا إذا تزوجها وهي حامل من الزنا، أما إذا زنت وهي زوجة له فإنه يطلقها بدون انتظار، أما إذا كانت حاملاً من وطء بشبهة فإنه لا يطلقها إلا إذا وضعت الحمل ثم طهرت من النفاس، سواء كانت تحيض وهي حامل، أو لا، أما الحامل من الوطء بالعقد الصحيح فإنه لا يطلقها متى ظهر حملها بدون انتظار، لأنه عرف أن الولد له، وأنه لا يندم على فراقها، ثالثاً: أن لا يتعلق طلاقها على بعض حيضها، أو على آخر لحظة من طهرها، رابعاً: أن لا يطلقها في آخر وقت الطهر بحيث ينزل لها الحيض قبل أن يكمل طلاقها. خامساً: أن لا يطلقها في طهر جامعها فيه. أو في حيض قبله.
    أما القسم الثالث وهو ما لا يوصف بكونه سنياً، ولا بدعياً. فهو طلاق غير المدخول بها. والصغيرة التي لا تحيض، والآيسة من الحيض، والحامل من وطء العقد الصحيح، فإن هذا الطلاق جائز متى تحقق فيه شرط الجائز، وهو أن يكون الرجل غير محب لزوجته، فلا يطيب له الاستمتاع بها ولا ترضى نفسه بالانفاق عليها بدون استمتاع، فإنه يباح له في هذه الحالة طلاقها فإذا كانت صغيرة أو آيسة من الحيض فله أن يطلقها متى انصرفت نفسه عنها بكره في أي وقت وبأي طلاق، ومثل ذلك ما إذا كانت، غير مدخول بها ورآها فكرهها ولم تتجه نفسه إلى الاستمتاع بها، فإنه يباح له طلاقها كذلك، ولكن هذا الطلاق لا يوصف بسني. ولا بدعي بالمعنى المتقدم، لأنك قد عرفت أن السني هو ما اجتمعت فيه قيود أربعة: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وأن لا تكون في أول حيضها أو نفاسها أو وسطهما، وأن تكون في طهر لم يجامعها فيه، وأن لا تكون حبلى من زنا أو من وطء بشبهة على التفصيل المتقدم، والبدعي بخلاف السني، وهذه القيود غير موجودة في هذا القسم، كما هو ظاهر.
    ولا يخفى أن الأقسام الثلاثة تعتبر بها الأحكام الخمسة التي تقدم ذكرها، فالطلاق السني تارة يكون واجباً، وتارة يكون حراماً، وتارة يكون مكرهاً، وتارة يكون مندوباً، وتارة يكون جائزاً، كالطلاق البدعي. فمثال الطلاق الواجب أن يعجز الزوج عن النفقة والوطء ولم ترض به الزوجة، فإنه في هذه الحالة يجب الطلاق في الوقت الذي حدده الشارع حتى ولو رضيت المرأة بالطلاق في وقت
    غيره لأن ذلك ليس حقاً خاصاً بها وحدها، وقد ترضى ثم تندم، فالأصح التحريم ولو رضيت، ويستثنى من ذلك ثلاثة أمور:
    أحدها: الخلع: فإذا سألته أن يخالعها في نظير مال وهي حائض، أو نفساء، أو حامل من زنا أو نحو ذلك فإنه يصح خلعه، ولا يقال له: بدعي.
    ثانيها: الطلاق بسبب الإيلاء، فإذا حلف أن لا يأتي زوجته فإنه ينتظر أربعة أشهر فإن لم يرجع لها وجب تخييره بين الطلاق والرجوع، وإن امتنع وجب تطليقها ولو حائضاً، أو نفساء الخ.
    ثالثها: طلاق الحكمين في حال الشقاق، فإذا حكما بالطلاق لمصلحة وجب أن ينفذ بدون انتظار ومثل ذلك طلاق القاضي عليه.
    وبذلك تعلم أن الطلاق يكون واجباً فيما إذا عجز الزوج عن القيام بواجب الزوجية، أو كان مولياً أو قضى بالطلاق الحكمان، وفي الحالة الأولى ينبغي مراعاة وقت الطلاق السني وفي غيرها لا.
    ومثال الطلاق الحرام أن يكون تحت الرجل أكثر من زوجة فيبيت عند كل واحدة نوبتها حتى إذا جاءت نوبة من يكرهها طلقها بدون أن يبيت عندها، فهذا الطلاق قبل إعطائها حقها حرام ثم هذا الحرام قد يكون سنياً إذا وقع في طهر لم يجامعها فيه، أو في آخر حيض، وقد يكون بدعياً إذا وقع قبل آخر الحيض والنفاس، أو وقع في طهر جامعها فيه، أو في حيض قبله ومثال المندوب أن تكون الزوجة غير عفيفة فإن طلاقها يندب، وقد يكون هذا الطلاق سنياً، وقد يكون بدعياً على الوجه المتقدم، على أنه ينبغي مراعاة التفصيل في مسألة الزانية، فإنه إذا ثبت له أن امرأته قد زنت وهي في عصمته فلا يكلف بالانتظار في تطليقها، أما إذا تزوجها وهو يعلم أنها زانية فإنه يجب عليه أن يراعي الوقت السني، لأنه قد رضي بها من أول الأمر، فلا معنى لتألمه منها بعد، ومثال المكروه أن تكون الزوجة مستقيمة وهو يرغب فيها، ولكن زينت له شهوته سواها فطلاقها في هذه الحالة مكروه، ومع هذا فقد يكون حراماً إذا كان بدعياً، وقد يكون غير حرام إذا كان سنياً، ومثال المباح أن تكون مستقيمة ولكنه لا يحبها ولا يطيب له الاستمتاع بها ولا تسمح نفسه بالإنفاق عليها بدون استمتاع، فإنه في هذه الحالة يباح له طلاقها بدون كراهة، وقد يكون هذا المباح حرماً إن طلقها بدعياً، وإلا فلا إن طلقها طلاقاً سنياً.
    وكما أن الأحكام المذكورة تعتري السني، والبدعي. فكذلك تعتري القسم الثالث وهو ما ليس بسني، ولا بدعي. فإن طلاق الصغيرة، والآيسة، والحامل قد يكون واجباً وذلك في حالة ما إذا عجز عن الإنفاق والوطء، أو حكم بالطلاق الحكمان في الشقاق أو كان الزوج مولياً، أو قضى القاضي عليه بطلاقها، وقد يكون محرماً، وذلك فيما إذا طلقها قبل أن يقسم لها، وقد يكون مكرهاً وقد يكون مندوباً الخ ما تقدم.
    هذا، وقد اقتصر بعضهم على القسمين الأولين، وهما السني، والبدعي، وأدخل القسم الثالث
    في السني، وذلك لأنه أراد من السني الجائز، والجائز تحته فردان، أحدهما: الطلاق في الوقت الذي عينه الشارع لطلاق ذوات الحيض الخاليات من الحمل بالعقد الصحيح. وثانيهما: الطلاق للصغيرة والآيسة، والحامل في أي وقت إذ الشارع لم يحدد لهن وقتاً، وقد عرفت أن كل قسم من القسمين تعتريه الأحكام الخمسة التي ذكرناها.
    وبعضهم فسر الجائز بما ليس بحرام، فشمل الأقسام الأربعة: الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، ويقابلة البدعي، وهو الحرام، والذي فسر بهذا صرف النظر عن ضابط السني الذي تقدم وأراد به الأحكام الأربعة التي يوصف بها الطلاق بالمعنى المتقدم، فيقال: الطلاق واجب، أو مكروه، أو مندوب أو مباح، وأراد من البدعي الحرام، سواء وجد فيه الضابط المذكور في البدعي، أو لا، كما إذا طلقها قبل أن يقسم لها، وعلى كل حال فهذا مجرد اصطلاح.
    هذا، ويتضح مما تقدم أن الشافعية لا يعتبرون عدد الطلقات في السني، والبدعي، فله أن يطلقها واحدة، واثنتين، وثلاثاً. ولهذا لا يتصور في القسم الثالث كونه بدعياً، أو سنياً، خلافاً للحنفية والمالكية، الذين اعتبروا العدد، فلهذا قالوا: إن طلاق الصغيرة، والآيسة. ونحوهما يكون سنياً وبدعياً، باعتبار عدد الطلقات، كما بيناه عندهم نعم قال الشافعية:
    إن الأولى له أن يطلقها ثلاث طلقات متفرقة على الطهر إن كانت من ذوات الحيض، وعلى الأشهر إن لم تكن.
    الحنابلة - قالوا: ينقسم الطلاق إلى ثلاثة أقسام: الأول، الطلاق السني، وهو أن يطلق زوجته المدخول بها إذا كانت غير حامل، وكانت من ذوات الحيض طلقة واحدة رجعية في طهر لم يجامعها فيه إذا لم يكن قد طلقها في حيض قبل هذا الطهر ثم راجعها، فقوله: المدخول بها خرج به غير المدخول بها، وقوله: غير حامل خرج به الحامل، وقوله: من ذوات الحيض خرج به اليائسة، والصغيرة. فإن كلهن لا يوصف طلاقهن بسني ولا بدعي لا في عدد الطلاق ولا في الزمن، فللزوج أن يطلق إحداهن في أي وقت وبأي عدد، وقوله: طلقة واحدة رجعية بأن يطلقها ثم يتركها حتى ينقضي عدتها، وبذلك يحصل له غرضه، فإن طلقها ثانية قبل انقضاء عدتها كره، وإن طلقها ثلاثاً حرم، سواء طلقها الثلاث بكلمة واحدة، أو طلقها في أطهار متعددة قبل أن يراجعها. وقوله: في طهر لم يجامعها فيه خرج به ما إذا جامعها في الطهر ثم طلقها، فإنه بدعي محرم، حتى ولو طلقها في آخر الطهر ما دام حملها غير ظاهر. وقوله: إذ لم يكن طلقها في حيض قبله الخ معناه أنه إذا طلقها وهي حائض ثم راجعها فإنه لا يحل له أن يطلقها في الطهر الذي يلي هذا الحيض، بل يلزمه أن يطأها بعد أن تطهر من الحيض الذي طلقها فيه وراجعها ثم يمسكها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها بعد ذلك من قبل أن يقربها.
    القسم الثاني: الطلاق البدعي الحرام، وهو بخلاف السني، فإذا طلق امرأته وهي حائض، أو طلقها في طهر جامعها فيه. أو طلق المدخول بها أكثر من واحدة، أو طلقها واحدة وأردفها في العدة
    بغيرها، فإن أردفها بواحدة فقط كان مكروهاً، وإن أردفها باثنتين كان حراماً، أو طلق المدخول بها في طهر عقب حيض طلقها فيه وراجعها، فإن طلاقه يكون بدعياً محرماً.
    القسم الثالث: مالا يوصف بسني، ولا بدعي، وهو طلاق الصغيرة، والآيسة، من الحيض، والحبلى التي ظهر حملها) .
    (8) (المالكية - قالوا: يفترض عليه أن يرتجعها لأنه قد فعل معصية فيجب عليه الإقلاع عنها، فإن امتنع هدده الحاكم بالسجن إن لم يفعل، فإن أصر بعد ذلك سجنه، فإن أصر بعد السجن هدده بالضرب، فإن امتنع بعد التهديد ضربه بالسوط بحسب ما يراه مفيداً، وقيل: يضربه بدون تهديد إذا ظن أن التهديد لا ينفع، وكل ذلك يفعله معه في مجلس واحد، بمعنى أن يستحضره ثم يأمره بالرجعة إلى زوجته فإن امتنع قال له: إن لم تفعل أسجنك، فإن أبى أمر بإدخاله السجن. فإن لم يفعل يستحضره، ويقول له: إن لم ترجع أضربك فإن أبى ضربه بالسوط بحسب ما يراه، فإن امتنع بعد ذلك كله ارتجعها الحاكم، بأن يقول: ارتجعت له زوجته، أو ألزمته بها، أو حكمت عليه بها، وبذلك تصبح زوجة له ترثه إذا مات ويرثها إذا ماتت وإذا عاشا يحل له وطؤها، ويكون لها عليه حقوق الزوجية.
    ثم إذا ارتجعها باختياره، أو ارتجعها له الحاكم حال الحيض الذي طلقها فيه، فإنه يمسكها حتى تطهر، ويندب له بعد ذلك أن يمسكها في الطهر من الحيضة التي طلقها فيها، ويجب عليه أن يطأها لأن تركها في هذه الحالة ظلم لها يأثم به، فإذا حاضت مرة ثانية ابتعد عنها حتى تطهر، فإذا طهرت طلقها قبل أن يمسها، وكل ذلك مندوب، فإذا طلقها ثانياً في الطهر الأول، فإنه لا يجبر على رجعتها ثانياً، لأنه يكون بذلك قد خالف المندوب فقط.
    هذا، وتفترض عليه الرجعة ما دامت في العدة على المشهور، فإذا غفل عن هذا الحكم حتى طهرت ثم حاضت ثم طهرت وبعد ذلك تنبه له وهي في الحيضة الأخيرة التي يليها الطهر الذي تنقضي به عدتها فإنه يفترض عليه أن يرتجعها، وهذا هو المشهور، وبعضهم يرى أنها تستمر إلى نهاية الحيضة الثانية، فإن طهرت منها فإنه لا يفترض عليه ارتجاعها.
    الحنفية - قالوا: في حكم الرجعة من الطلاق البدعي رأيان:
    أحدهما:
    أنه مستحب وهو ضعيف.
    ثانيهما: أنه فرض، كما يقول المالكية، وقد استدل قائل الأول بأن الرجل إذا طلق طلاقاً بدعياً فقد وقع في المعصية بالفعل، ومتى يتعذر ارتفاعها، فلا يقال: إن الرجعة واجبة لرفع المعصية، والجواب: أن الرجعة واجبة لإزالة أثر المعصية وهو تطويل العدة على المرأة، وقد يقال: إذا رضيت المرأة بتطويل العدة فلا يكون للرجعة في هذه الحالة معنى إلا الإضرار بالمرأة، خصوصاً إذا كانت بينهما نفرة، فإنها تعتبر الرجعة شراً، وأيضاً إذا كان لا بد من طلاقها فإن في إمساكها تعذيباً لها قد تفضل معه تطليقها في هذا الوقت ألف مرة، على أنه لا معنى لإباحة الخلع في الحيض لأنه برضاها وفي نظير عوض ومنع غيره، وهذا وجيه فالذي أعتقده في الجواب أن العلة في وجوب الرجعة ليست تطويل العدة فقط، بل العلة هي لفت نظر المسلمين إلى التؤدة في أمر الطلاق فلا يجعلونه وسيلة لإطفاء غضبهم. أو سلاحاً يؤذون به المرأة متى أرادوا، لأنهم قد يندمون في كثير من الأحيان حيث لا ينفعهم الندم، فإن سورة الغضب قد تستولي على الرجل فيطلق المرأة ثم يندم، فإذا طلقها طلاقاً بدعياً فرضت عليه الرجعة رغم أنفه وأنفها ليكون لهما من الوقت متسع حتى إذا ذهب غيظهما أمكنهما أن يتفاهما ويصطلحا بل ربما أثرت فيهما المعاشرة تأثيراً يقضي إلى عدم العودة إلى مثل هذا، فإذا ضم إليه تطويل العدة في بعض الصور يكون ذلك في غاية الحسن.
    أما إباحة الخلع فإن المرأة التي ترضى بأن تفارق زوجها على مال. والرجل الذي يرضى بأخذ هذا المال ليفارقها فإن الزوجية بينهما لا معنى لها، فقد باعته وباعها علانية، فلم يكن هناك أمل في تحسن الحالة.
    هذا، والحنفية لا يقولون بصحة رجعة الحاكم، كما يقول المالكية، وإنما يقولون: إن كل معصية لا حد فيها ولا كفارة يجب فيها التعزير بما يراه الحاكم زاجراً عن العودة، وحيث إن الشارع اعتبر الرجعة في رفع أثر المعصية كانت الرجعة بمنزلة التوبة فإذا رجع فقد ارتفع عنه التعزير، وإلا فالحاكم يعزره بما يراه زاجراً له عن العودة إلى المعصية.
    ثم إذا ارتجعها في الحيض الذي طلقها فيه فإنه يجب عليه أن يمسكها إذا طهرت من ذلك الحيض حتى تحيض ثانياً وتطهر من ذلك الحيض، فإذا كان مصراً على طلاقها فلا يقربها في حيضها الثاني ولا بعد أن تطهر منه ثم يطلقها إذا شاء، وهذا هو الصحيح من المذهب، وبعضهم يقول: إن له أن يطلقها بعد أن تطهر من الحيض الذي طلقها، وارتجعها فيه، كما تقدم، وهل تجب الرجعة ما دامت في العدة، كما يقول المالكية أو لا؟ والجواب: أن الرجعة لا تجب إلا في الحيض الذي طلقها فيه، فلو لم يفعل حتى طهرت تقررت المعصية ولا تنفع الرجعة، وهذا هو الصحيح وبعضهم يرى أن الرجعة تستمر إلى أن يأتي الطهر الثاني. بذلك تعلم أن الشافعية والحنابلة اتفقوا على أن الرجعة سنة، والمالكية والحنفية اتفقوا على أن الرجعة فرض، ولكن المالكية والحنفية اختلفوا في تفاصيل المسألة على الوجه الذي ذكرناه) .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب النكاح]
    صـــــ 276 الى صــــــــ
    286
    الحلقة (202)



    دليل تحريم طلاق البدعة من الكتاب والسنة
    -عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله وعليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم عن ذلك، فقال: رسول الله صلى الله وعليه وسلم: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" رواه البخاري.
    سنورد لك في شرح هذا الحديث خلاصة لما تقدم، لأنه يشتمل على أمور:
    - 1 - بيان معناه
    - 2 - هل طلاق الحائض ومن في حكمها حرام. أو مكروه؟
    - 3 - هل للزوج أن يطلق زوجته في غير زمن الحيض والنفاس بدون سبب أو لا؟ وما رأي الأئمة في ذلك؟
    - 4 - هل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها" أمر لابنه عبد الله، أو لا؟

    - 1 - معنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الطلاق في حالتين: احداهما أن تكون المرأة حائضاً. ثانيهما: أن تكون طاهرة من الحيض ولكن زوجها أتاها في هذا الطهر لأنه عليه الصلاة والسلام خيره بين إمساكها وبين طلاقها في الطهر قبل أن يمسها، وقد جاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قد غضب من تطليق عبد الله زوجته حال حيضها، وسبب غضبه فيما يظهر أن الطلاق حال الحيض قد نهى الله عنه بقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} ، وما كان لعمر وابنه أن يخفى عليهما ذلك الحكم مع ما لهما من المنزلة العلمية الرفيعة في الدين، أما كون عبد الله قد فعل ذلك عمداً لعدم استطاعته ضبط نفسه وهو عالم بالحكم فهو بعيد، لأن عبد الله بن عمر كان شديد التمسك بأحكام الدين معروفاً بالورع والتقوى والقدرة على ضبط نفسه.
    ومعنى قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} لوقت عدتهن: أي طلقوهن عند حلول وقت العدة لا قبلها بحيث تشرع المرأة في العدة عقب الطلاق بدون فاصل.
    وظاهر أن الطلاق في الحيض يعوق المرأة عن الشروع في العدة، فإن الحيض الذي طلقت فيه لا يحسب لها من العدة باتفاق بين من يقول: إنها تعتد بثلاث حيض. وبين من يقول: إنها تعتد بثلاثة أطهار، أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأن الحيضة التي وقع الطلاق في خلالها لا تحسب إذ الشرط عندهم أن تكون الحيضة كاملة بعد وقوع الطلاق، فلا يعتد بالناقصة ولو لحظة. وظاهر هذا التعليل يؤيد الشافعية والمالكية الذين يقولون: إن المرأة تعتد بالطهر لا بالحيض فإذا طلق الرجل امرأته في الطهر الذي لم يقربها فيه فإنها بذلك تشرع في العدة عقب الطلاق مباشرة بدون أن يفوتها من الزمن شيء ما، وذلك لأن الطهر الذي طلقت فيه يحسب لها من الأطهار الثلاثة التي تنقضي بها عدتها حتى ولو بقيت منه لحظة واحدة مثلاً إذا طلقها قبل طلوع الشمس بخمس دقائق وهي طاهرة ثم نزل بها دم الحيض بعد طلوع الشمس حسبت لها الخمس دقائق طهراً كاملاً، فإذا كانت ممن يحيض كل خمسة عشر يوماً مرة، فحاضت مرة ثانية وطهرت احتسب لها الطهر ثانياً، فإذا حاضت بعد خمسة عشر يوماً مرة ثالثة وطهرت احتسب لها طهراً ثالثاً، وتنقضي عدتها بمجرد أن ينزل عليها دم الحيضة الرابعة وعلى هذا القياس.
    أما الحنفية والحنابلة الذين يقولون: إن المرأة تعتد بالحيض، ويقولون: إذا طلقت وهي حائض فإن هذه الحيضة لا تحسب من حيض عدتها الثلاث، فإنهم يقولون: إن الغرض من الآية الكريمة إنما هو الأمر بطلاق المرأة في وقت الذي تستقبل فيه عدتها بلا فاصل، فإذا طلقها في الطهر الذي لم يجامعها فيه، فإنها بذلك تستقبل أول حيضة تحسب لها من العدة وليس الغرض أن تشرع في العدة عقب طلاقها فوراً، لأن ذلك مما لا لزوم له، ولكل من الفريقين أدلة يؤيد بها رأيه محلها مباحث العدة.
    وسواء أكان هذا أم ذاك فإن الكل متفقون على أنه لا يجوز للرجل أن يطلق زوجته وهي حائض، أو نفساء. كما لا يجوز له أن يطلقها وهي طاهرة من الحيض والنفاس إذا جامعها في هذا الطهر، وهذا صريح حديث ابن عمر الذي بين به النبي صلى الله عليه وسلم آية {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} وكذلك قد اصطلحوا على تسمية الطلاق في هذه الحالة بدعياً، وتسمية ما يقابله، وهو ما إذا طلقها في طهر لا وطء فيه، ولا في حيض قبله سنياً.
    ومما لا خفاء فيه أن المراد الزوجة المدخول بها وهي التي تجب عليها العدة، فإن أراد أن يطلق زوجته قبل الدخول وهي حائض فإن له ذلك، وكذا إذا أراد أن يطلق زوجته الصغيرة التي لا تحيض، أو اليائسة من الحيض، فإن له أن يطلقها بدون تحديد وقت، لأن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر لا بالحيض، وأيضاً زوجته الحامل فإن له أن يطلقها بدون تحديد لأن عدتها تنقضي بالحمل، وقد أصبح معلوماً لهما، فلا يندم على طلاقها.
    - 2 - أما الجواب عن السؤال الثاني، فقد أجمع الأئمة الأربعة على أن طلاق المرأة وهي حائض أو نفساء معصية محرمة، ويقال له: بدعي، منسوب للبدعة المحرمة، بخلاف طلاقها في الطهر الذي جامعها فيه، فإن المالكية قالوا: إنه مكروه لا حرام، ولكن الحديث الذي معنا لم يظهر منه فرق بين الحالتين، فمن أين نأخذ أنه في الأول حرام، وفي الثاني مكروه؟ ولعلهم يفرقون بين الحالتين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب لما قال له عمر: إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض وغضب النبي صلى الله عليه وسلم على أنه معصية، أما في الحالة الثانية فإنه بين الطريق التي تتبع فخيره بين أن يمسكها وبين أن يطلقها من قبل أن يمسها، ولا دليل في هذا على التحريم إذا طلقها بعد أن يمسها، غايته أنه يكره.
    - 3 - أما الجواب عن السؤال الثالث، فبالسلب، فلا يجوز للرجل أن يطلق امرأته بدون سبب ولو كان طلاقاً سنياً. وقد أجمع الأئمة الأربعة على أن الأصل في الطلاق المنع ما عدا المالكية فإنهم قالوا: خلاف الأولى، ثم إن الشافعية والحنابلة قالوا: مكروه، وظاهر عبارات الحنفية تفيد كراهة التحريم، وعلى هذا فلا يحل للزوج أن يطلق زوجته إلا لحاجة تقتضي الطلاق، وذلك لأن الطلاق يقطع عقد الزواج وقد شرعه الله لضرورة التناسل الذي لا بد منه لبقاء العمران إلى الأجل الذي أراده الله وقضاه، فخلق من أجل ذلك الزوجين وجعل بينهما مودة ورحمة، فطلاق الزوجة من غير سبب سفه وكفران لنعمة الله، فضلاً عما فيه من أذى يلحق الزوجة وأولادها إن كان لها أولاد. فما يفعله بعض الشهويين الذين لا خلاق لهم من تطليق زوجاتهم بدون سبب لا يقره الدين الإسلامي ولا يرضاه، ولا بد أن ينتقم الله من هؤلاء في الدنيا وفي الآخرة، ولا يبرر جنايتهم على زوجاتهم الغافلات المخلصات وأبنائهم الضعاف ما يزينه لهم بعض السخفاء من جواز الحصول على أكبر قسط ممكن من اللذات المباحة، لأن العدوان على الزوجة المخلصة بدون سبب يجعله حراماً لا مباحاً، فلا يصح للإنسان أن يؤذي الناس من أجل أن يتلذذ، وإلا كان هو والحيوان المفترس سواء، على أن الذين يعتقدون أن علاقة الزوجية منحصرة في الاستمتاع والتلذذ بالمرأة بدون أن تتجاوزه إلى معنى آخر فيندفعون وراء شهواتهم كالبهم بدون حساب، مخطئون كل الخطأ، فإن علاقة الزوجية لها من التقديس والاحترام فوق هذا الذي يظنون، كيف لا وهي أساس بناء العمران وسبب وجود الإنسان، إذ لولا ما أوجده الله من الرحمة والمودة بين الزوجين وأودعه في قلبيهما من العطف الذي يدفع كل واحد إلى التعلق بالآخر لما وجد النوع الإنساني، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى زوجته نظراً مهيناً فيظن أنها ليست سوى محل لقضاء اللذة بدون تدبر للسبب الحقيقي الذي جمعهما الله من أجله.
    أما الأسباب التي تعرض للطلاق، فإن بعضها يرجع إلى الزوج، وبعضها يرجع إلى الزوجة.
    فالأسباب التي ترجع إلى الزوج تنقسم إلى قسمين: قسم يجعل الطلاق واجباً، وقسم يجعله محرماً.

    فأما القسم الأول فإنه يجب الطلاق في حالتين: الحالة الأولى أن يعجز عن اعفاف المرأة بأن كان عنيناً بحسب خلقته. أو عرض له ما أقعده عن اتيانها بسبب مرض، أو كبر، وكانت المرأة تتوق للرجال فلا تستطيع عنهم صبراً، فإنه يجب عليه في هذه الحالة طلاقها فراراً بعرضه وكرامته، لأن إمساكها على هذه الحالة يترتب عليه فساد أخلاق، وانتهاك حرمات، وضياع أعراض، وكل ذلك شر وبيل يجب القضاء عليه واجتنابه بكل الوسائل، على أن العنة وعدم القدرة على اعفاف المرأة قد يكون سبباً لإجبار الزوج على الطلاق في بعض الأحوال، كما تقدم في بابه.
    والحنابلة يقولون: إنه إذا عجز عن اتيانها كل أربعة أشهر فإن لها أن تطلب طلاقها ويطلق القاضي عليه. الأمر الثاني: أن يعجز عن الانفاق عليها، وهذه الحالة أسوأ من الأولى، لأن الذي يترك زوجته بدون انفاق فقد عرضها بذلك للفساد الدائم إذ لا مناص لها من الحصول على قوتها وملبسها وما يلزم من ضروريات العيش فتضطر لسلوك أخس السبل للحصول على ضرورياتها. خصوصاً إذا كانت ممن يرغب فيها، وقد يطيب لبعض فاسدي الأخلاق الاتجار بعرض زوجته وذلك واقع كثيراً، ولذا أجمع ثلاثة من الأئمة على إجبار الرجل على تطليق زوجته إذا لم ينفق عليها، أما الحنفية الذين يقولون: إن الطلاق في يد الرجل وحده فإنهم لا يتركون المرأة بدون نفقة، بل يقولون: إن من لم ينفق ولم يسرح زوجته بالمعروف يعزره القاضي بالحبس ونحوه حتى يرغمه على الطلاق أو الإنفاق، فهذان السببان هما اللذان يوجبان الطلاق على الزوج. ومتى كان الرجل قادراً على اعفاف المرأة وصيانة عرضها. وقادراً على الإنفاق عليها ولم يقصر معها في حقوقها فإنه لا يتصور وجوب الطلاق عليه عند ذلك.
    ويجب أيضاً إذا حكم به الحكمان في صورة الشقاق المذكورة في قوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} ، فإذا قضي الحكمان بالطلاق فإنه يجب تنفيذ طلاقهما بعوض أو غير عوض خلافاً للحنفية ولكن الواقع أن الشقاق مهما اشتد أمره فإنه قابل للزوال، فلا يصح للحكمين تطليقها بسبب الشقاق إلا إذا أفضت معاشرتهما إلى فساد، كأن ترتب على شقاقهما كره طبيعي يسوق المرأة إلى البحث عن غيره وخيانته في عرضه، أو غير ذلك من المفاسد الخلقية والاجتماعية التي تقضي على الأسرة وتخل بنظامها، فإنني أرى في هذه الحالة وجوب الفراق.
    وأما القسم الثاني: فإن الطلاق يكون محرماً في حالتين أيضاً:
    احداهما: أن يطلقها فراراً من إعطائها حقها، كما إذا كان تحته أكثر من زوجتين فأعطى بعضهن حقوقهن في القسم حتى إذا جاءت نوبة واحدة طلقها قبل أن يقسم لها، لأن ذلك ظلم لها فلا يحل له أن يطلقها قبل أن يعطيها حقها. الحالة الثانية: أن تكون عفيفة مستقيمة وله فيها رغبة ويخشى على نفسه الزنا إذا طلقها لعدم قدرته على غيرها فإن في هذه الحالة يحرم عليه تطليقها، وقد مثل بالأول الشافعية وبالثاني المالكية، وكلاهما حسن لأن الغرض درء المفاسد بقدر المستطاع، فهذه هي الأسباب التي ترجع إلى الزوج وبها يجب عليه الطلاق، أو يحرم. أما الأسباب التي ترجع إلى الزوجة، فإنها تارة تكون متعلقة بعرضها ودينها وتارة تكون متعلقة بعدم صلاحيتها للاستمتاع، فإن كان الرجل يرتاب في سلوك المرأة، أو اعتقد أنها زانية بالفعل أو كانت فاسقة بترك الصلاة ونحوها من الفرائض فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للرجل أن يمسكها متى عجز عن تقويمها وتربيتها، إلا أنهم اختلفوا في عدم الجواز، فقال بعضهم: إنه يحرم عليه إمساكها ويجب عليه طلاقها، وبعضهم قال: إنه يكره له إمساكها، ويسن له طلاقها والأول مذهب الحنابلة، ويظهر أن الذين قالوا بالكراهة فقط نظروا إلى ما عساه أن يترتب على تطليقها من شر وفساد يلحق الرجل، فربما كان متعلقاً بها لا يستطيع أن يسلوها فيضطر إلى معاشرتها بالحرام، أو يكون غير قادر على ضبط نفسه وليس لديه من المال ما يتزوج به غيرها فيقع بسبب طلاقها في الزنا، ومثل هذه الأمور تحتاط لها الشريعة الإسلامية كل الاحتياط.
    فليس من محاسن التشريع الإسلامي المشهور بدقته أن يكون فراقها حتماً لازماً، لأن النفوس تتفاوت. وحاجات الناس تختلف. فمن كان قوي الإرادة ذا غيرة وحماس فإن الشريعة تشجعه على طلاق فاسدة الأخلاق وتقول له: إن لك عليه أجراً، ومن كان ضعيف الإرادة يؤذيه طلاق امرأته فإنها لم تحتم عليه طلاقها وذلك هو أعدل الموازين، أما أنا فأميل إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد من أن المرأة فاسدة الأخلاق إذا عجز زوجها عن تقويمها ويئس من اصلاحها، وعلم أنها غير مصونة العرض، فإن طلاقها يكون واجباً وإمساكها يكون محرماً. فإن الرضا بها معناه الرضا بتكوين أسرة فاسدة تضر المجتمع الإنساني، إذ المرأة الفاسدة لا يقتصر ضررها عليها وحدها، ولكنه يتناول أولادها ومن يتصل بها، ومثل هذه يجب على الناس كلهم أن ينبذوها ولا يتخذوها أماً لأولادهم ولا مربية لأبنائهم وبناتهم، وهذا هو الذي تؤيده قواعد الدين الحنيف، دين الأدب والأخلاق، فقد حثت السنة على الغيرة على الأعراض، وأوجبت الدفاع عنها في كثير من المواضع، وزجرت الذي يرضى بالفساد زجراً شديداً، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر. فقالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديوث؟ قال الذي لا يبالي من دخل على أهله. قيل: فما الرجلة من النساء؟ قال: "التي تشبه بالرجال" رواه الطبراني، وروى مثله النسائي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وقد روى البخاري أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من غيره سعد؟! لأنا أغير منه والله أغير مني".
    فإذا كانت قواعد الإسلام مبنية على الغيرة على الأعراض واحتقار الديوث وحرمانه من رضوان الله، فكيف يكون طلاق فاسدة الأخلاق مندوباً فقط؟! لا شك أنه واجب وإمساكها محرم، وليس من الشهامة أن يصبر الإنسان على عضو فاسد حتى يفسد جميع بدنه خوفاً من التألم الذي يلحقه عند بتره، أما إذا كان السبب عدم صلاحية المرأة للاستمتاع، بسبب عيوب قائمة بها أو كبر أو نحو ذلك. فإنه يباح للرجل في هذه الحالة أن يطلقها على أن الشريعة في هذه الحالة تنظر إلى الآثار المترتبة على إمساكها، أو تطليقها. فإن كان الرجل في غنى عن النساء وليس له أمل في ذرية فإنه يترجح إمساكها، خصوصاً إذا كان طلاقها يؤذيها ويعرضها للبؤس والشقاء فإن الرحمة والشفقة من الضروريات في نظر الشريعة، وإن كان إمساكها يترتب عليه فساد الرجل كما هو مشاهد في بعض الشبان الذين يتزوجون العجائز طمعاً في مالهن لينفقوه على شهواتهم المحرمة، فإن إمساكها يكون حراماً.
    - 4 - أما الجواب عن السؤال الرابع، فإن أمر عمر في هذه الحالة بأن يأمر ابنه معناه أن يبلغه أمر الوصول. وبذلك يكون الأمر موجهاً إلى عبد الله مباشرة، وهذا مما لا يصح أن يرتاب فيه، لأن المسألة مختصة بعبد الله، وليس لأبيه عمر أي دخل فيها، فلا يصح أن يقال: إن المسألة الأصولية إذا أمر شخص غيره بأمر يأمر به غيره لا يكون المأمور الثاني مكلفاً بذلك الأمر، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" فالأولاد ليسوا مأمورين بهذا الأمر، لأن هذا محله إذا كان المأمور الثاني غير مكلف كالأولاد، ولم تقم قرينة على أن الأمر متعلق بالمأمور الثاني كما هنا، لأن الأمر إن لم يكن مختصاً بعبد الله كان لغواً لا معنى له إذ لا علاقة له بعمر، فهذا المبحث لا يظهر تطبيقه على هذا الحديث.
    الطلاق الصريح
    -قد عرفت أن الطلاق ينقسم باعتبار صيغته إلى صريح، وكناية، والصريح ينقسم إلى رجعي. وبائن، وفي كل ذلك تفصيل المذاهب (1) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: الصريح نوعان: صريح رجعي، وصريح بائن. فأما الصريح الرجعي فهو ما اجتمعت فيه خمسة قيود:
    القيد الأول: أن تكون صيغته مشتملة على حروف الطلاق. كأن يقول لها: طلقتك. وأنت طالق. ومطلقة - بالتشديد - أما مطلقة - بالتخفيف - فإنها تحتمل الإطلاق من قيد الحبس في المنزل والإذن لها بالخروج، فيكون كناية، وسيأتي حكمها. ومن الصريح قوله لزوجته: كوني طالقة، أو تكوني طالقة، فإن لفظ - تكوني - وإن كانت للاستقبال ولكن جرى العرف باستعمالها في الحال، حتى لو قال لها: أطلقك وكان استعماله غالباً في الحال فإنها تطلق منه، ومن الصريح أيضاً كوني طالقة، واطلقي، ومنه أن يقول لها: خذي طلاقك، فتقول: أخذته، فإنه يكون صريحاً، وقيل: لا بد فيه من نية، ومن الصريح أيضاً كلمة نعم أو بلى، في جواب هل طلقت امرأتك؟ فقال: نعم، أو بلى، فإنها تطلق وذلك بدون نية، وكذا لو قال له شخص: ألست طلقت امرأتك؟ فقال: نعم. أو بلى فإنه قد طلق، وذلك لأن العرف لا يفرق بين الجواب بكلمة نعم، أو بكلمة بلى، بخلاف اللغة، فإن كلمة نعم لا تصلح جواباً للنفي بخلاف كلمة بلى فإنها جواب للنفي، وهذا خلافاً للحنابلة، كما يأتي:
    ويلحق بذلك الألفاظ المصحفة، وهي خمسة ألفاظ:

    1 - إبدال القاف غيناً، بأن يقول: طلغتك.
    2 - إبدال الطاء تاء، والقاف غيناً، بأن يقول: تلغتك.
    3 - إبدال القاف كافاً، بأن يقول: طلكتك، وهي كثيرة.
    4 - إبدال الطاء تاء، والقاف كافاً، بأن يقول: تلكتك.
    5 - إبدال الطاء تاء، بأن يقول: تلقتك، وزاد بعضهم سادساً، وهو إبدال القاف لاماً، بأن يقول: أنت طالل.

    فهذه الألفاظ صريحة في الطلاق عند الحنفية، فإذا جرت على لسان شخص بدون قصد. كأن قال لامرأته: يا طالل، وهو يريد أن يناديها يا هانم فإنه يقع قضاء لا ديانة، أما إن قصد لفظ طالق ولم يقصد إيقاعه، بأن كان هازلاً، فإنه يقع قضاء وديانة.
    وبهذا تعلم أن الطلاق بالحروف المصحفة يقع، ولو لم يكن المطلق أعوج اللسان، وأما ذكر الطلاق بحروف الهجاء مقطعة، كأن يقول لها: ط ال ق، أو يقول لها: طاء ألف لام قاف، فالتحقيق أنها كناية لا يقع بها الطلاق إلا بالنية.
    القيد الثاني: أن يكون بعد الدخول حقيقة، فإذا طلقها قبل الدخول طلاقاً صريحاً يكون بائناً لا رجعياً، والمراد بالدخول الحقيقي الوطء بالكيفية المتقدمة في مباحث المهر، أما الخلوة بها وهي دخول حكماً، فلا تعتبر هنا، فإذا خلا بها ثم طلقها قبل الوطء طلاقاً صريحاً كان بائناً.
    القيد الثالث: أن لا يكون لفظ الطلاق مقروناً بعوض، كأن يقول لها: طلقتك على مؤخر الصداق ونحوه، فإنه يكون طلاقاً بائناً لا رجعياً.
    القيد الرابع: أن لا يكون مقترناً بعدد الثلاث لا نصاً ولا إشارة ولا موصوفاً بصفة تشعر بالبينونة، أو تدل على البينونة من غير حرف العطف، مثال الأول ظاهر، وهو أن يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، ومثال الثاني أن يقول لها: أنت طالق، ويشير لها بثلاثة أصابع، فإنه يقع ثلاثاً في الحالتين، ومثال الثالث أن يقول لها: أنت طالق طلاقاً شديداً. أو طلاقاً أشد من الجبل، فإن وصفه بالوصف الشديد يجعله بائنا، فيقع بذلك طلقة واحدة بائنة، كما سيأتي ومثل ما يدل على البينونة صريحاً أن يقول لها: أنت طالق بائن، فوصفه بالبينونة يجعله طلاقاً واحداً بائناً، وقولنا: من غير حرف العطف خرج به ما إذا قال لها: أنت طالق وبائن، فإن الأول يكون رجعياً، والثاني يلحق به ويكون بائناً.
    القيد الخامس: أن لا يكون مشبهاً بعدد أو صفة تدل على البينونة، كقوله: طلقتك طلقة كثلاث، فإنه ان نوى بها واحدة وقعت واحدة بائنة وإلا وقعت ثلاثاً، ومثلها ما إذا قال لها: أنت طالق طلقة كالشمس، أو كالقمر. فإنه يقع بها واحدة بائنة. فالطلاق الصريح الرجعي هو أن يطلق امرأته بعد الدخول بها بلفظ مشتمل على حروف الطلاق من غير أن يقترن طلاقه بعوض ولا بعدد الثلاث لا نصاً ولا إشارة، ولا يكون موصوفاً بصفة تنبئ عن البينونة، أو تدل على البينونة من غير حرف العطف، ولا مشبه بعدد أو صفة تدل على البينونة، والطلاق البائن بخلاف ذلك. وهو أن يطلقها قبل الدخول ولو بلفظ الطلاق، أو يطلقها بعد الدخول طلاقاً مقروناً بعد الثلاث. أو بلفظ ليس فيه حروف الطلاق. أو بلفظ فيه حروف الطلاق ولكنه مقترن بوصف ينبئ عن الإبانة أو يدل عليها. أو مشبهاً بعدد أو صفة تدل على الإبانة.
    وبهذا تعلم حد الطلاق الصريح الرجعي والبائن، ثم إن البائن إن كان ثلاثاً فإنه يعتبر ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن كان واحداً أو اثنين، فإن كان رجعياً فإنه لا يحتاج لعقد، وإن كان بائناً فإنه يحتاج لعقد جديد. هذا، وحكم الطلاق الصريح الرجعي أن تقع به طلقة رجعية وإن نوى أكثر من واحدة أو نوى الإبانة، فلو قال لها: أنت طالق ونوى بها الثلاث لا تقع إلا واحدة، ولو نوي بها غير الفراق كأن نوى بها الطلاق عن وثاق لم يصدق قضاء، ولكن لا يلزمه الطلاق ديانة، فيحل له أن يأتي زوجته ولكن لا يحل للمرأة أن تمكنه من نفسها إن سمعت منه ذلك، أو شهد به شاهد عدل عندها فلو صرح بالقيد بأن قال لها: أنت طالق عن وثاق لم يقع قضاء كما لم يقع ديانة.
    ولو قال لها: عليك الطلاق، فإنه يقع إذا نوى به الطلاق، ولو قال لها: طلاقي عليك واجب وقع بدون نية، ومثل ذلك ما إذا قال لها: الطلاق عليك واجب، أو لازم، أو فرض. أو ثابت فبه خلاف، فبعضهم يقول: إنه يقع به واحدة رجعية نوى أو لم ينو، وبعضهم يقول: لا يقع به شيء، ومنهم من يقول: يقع في قوله: واجب بدون نية، وفي قوله: لازم لا يقع، وصحح بعضهم الوقوع في الكل.
    المالكية - قالوا: الطلاق الصريح تنحصر ألفاظه في أربعة، أحدها: طلقت. ثانيها: أنا طالق منك. ثالثها: أنت طالق، أو مطلقة مني - بتشديد اللام - رابعها: الطلاق لي لازم. أو علي لازم. أو مني. أو لك. أو عليك لازم، أو نحو ذلك، فهذه الأربعة هي الصريح، ويلزم بكل لفظة من هذه الألفاظ الأربعة طلقة واحدة إن لم ينو شيئاً، وأما إذا نوى بها اثنتين أو ثلاثاً فإنه يلزمه ما نواه، خلافاً للحنفية الذين يقولون إن الصريح لا نية فيه، فلو نوى به أكثر من واحدة فلا يلزمه إلا واحدة. ثم إن الصريح الذي وقعت به واحدة إن كان قبل الدخول أو كان في نظير عوض - وهو الخلع - فإنه يكون بائناً، وإلا فإنه يكون رجعياً، فالبائن عند المالكية الخلع، والطلاق قبل الدخول، والطلاق البات، سواء كان ثلاثاً، كما إذا كان بلفظ ثلاث. أو كان بالكنايات الظاهرة التي سيأتي بيانها أو حكم به حاكم، كما سيأتي في شروط الرجعة، والرجعي بخلافه.
    هذا وإذا قال لها: أنت منطلقة أو مطلقة - بفتح اللام مخففة - فإن نوى بها الطلاق وقع، كما في الكنايات الخفية الآتي ذكرها، وإن لم ينو فلا يقع بها شيء، لأن العرف لم يعتبرها طلاقاً.
    الشافعية - قالوا: ينقسم الطلاق إلى قسمين: صريح بنفسه وصريح بغيره، فأما الأول - وهو الصريح بنفسه - فما كان مأخوذاً من مادة الطلاق أو مأخوذاً من مادة السراح، كقوله: سرحتك. أو مأخوذاً من مادة الفراق، كقوله: فارقتك. فما كان مأخوذاً من مادة الطلاق فهو كقوله: أنت طالق، وطلقتك ومطلقة - بتشديد اللام - فإن خفف اللام كان كناية، وهذا بخلاف لفظ الطلاق نفسه، فإنه تارة يقع مبتدأ، كأن يقول لها عليّ الطلاق لأفعلن، فالطلاق مبتدأ، وعليّ خبره وهو صريح، وقال جماعة: إنه كناية لا يقع به طلاق إلا بالنية، والأول أرجح ومثله ما إذا قال لها: طلاقك واجب علي. أو لازم لا أفعل كذا، فإنه يكون صريحاً، أما إذا قال لها: طلاقك فرض علي فإنه يكون كناية على الأرجح، وذلك لأن الفرض قد اشتهر استعماله في العبادة، فيحتمل أنه أراد ذلك خطأ لأن الطلاق ليس عبادة، بخلاف الواجب فإنه يستعمل بمعنى الثابت اللازم، وتارة يقع مفعولاً، كأن يقول لها: أوقعت عليك الطلاق، أو يقع فاعلاً كقوله: يلزمني الطلاق، وهو صريح في الحالتين، وما عدا ذلك يكون كناية، كما لو أقسم به كأن يقول: والطلاق لا أفعل، فإنه يكون كناية باتفاق، وإذا ذكر الطلاق بحروف مصحفة، كأن قال لها: أنت تالق فلا يخلو إما أن يكون النطق بمثل هذا لغة له أو لا، فإن كان لغته فإنه يكون صريحاً، وإن لم يكن لغته، بأن كان ينطق بطالق وجرت على لسانه تالق، أو تعمد النطق بها، فإنه يكون كناية، وهذا هو المعتمد عندهم.
    والحاصل أن الصريح بنفسه عندهم ما اجتمع فيه أمران:
    الأول أن يرد ذكره في القرآن مكرراً،
    وذلك ظاهر في لفظ الطلاق وما اشتق منه، وأما السراح فقد قال تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وقال: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (سورة البقرة) وأما الفراق فقد قال تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (سورة الطلاق) ، والفراق لم يتكرر لفظه في القرآن ولكن تكرر معناه، فألحق بالمتكرر.
    ثانيهما: أن يشتهر استعماله في الطلاق، وظاهر أن السراح والفراق اشتهر استعمالهما في الطلاق فهما من الصريح.
    هذا هو الصريح بنفسه، أما الصريح بغيره فهو ما اشتق من لفظ الخلع أو لفظ المفاداة بشرط أن يضاف إلى المال لفظاً. أو نية، كأن يقول لها: خالعتك، أو فاديتك، أو افتديت منك على كذا، فاللفظ المشتق من الخلع، أو المفاداة ليس صريحاً في نفسه، بل بإضافته إلى المال، فإذا لم يضف كان كناية كما سيأتي في بابه. ثم إن الصريح بغيره يشترط فيه أحد الشرطين السابقين في الصريح بنفسه، فهو إما أن يرد ذكره في القرآن وإن لم يتكرر، ومثله ما إذا ورد معناه. أو يشتهر استعماله في الطلاق، فالمفاداة ورد ذكرها في القرآن، قال تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، وهو معنى الخلع، وقد اشتهر استعمال الخلع والمفاداة في الطلاق.
    بقي من الصريح شيء آخر وهو كلمة - نعم - إذا وقعت في جواب سؤال عن طلاق صريح فلو قال شخص لآخر: هل طلقت امرأتك؟ فقال: نعم كانت صريحاً، فينحصر الطلاق الصريح في خمسة عبارات:

    1 - الطلاق وما اشتق منه على الوجه المتقدم.
    2 - ما اشتق من السراح.
    3 - ما اشتق من الفراق.
    4 - الخلع والمفاداة، إذا أضيف كل منهما إلى المال لفظاً أو نية.
    5 - كلمة نعم في جواب السؤال عن طلاق صريح.

    وحكم الطلاق الصريح بنفسه أن يقع به طلقة واحدة رجعية إذا لم يكن قد طلقها قبلها اثنتين أو لم يكن قد دخل بها، وحكم الطلاق الصريح بغيره أنه يقع به طلقة بائنة، سواء نوى فيهما الطلاق أو لم ينو، حتى ولو نوى عدم الطلاق، أما إذا نوى به أكثر من واحدة فإنه يقع ما نواه، وذلك لأن الشارع جعل عدد الطلقات ثلاثاً، فكأن المنوي دخل في لفظ الطلاق لاحتماله شرعاً، فلو قال لها: أنت طالق واحدة - بنصب واحدة - على أنها صفة لصدر محذوف أي أنت طالق طلقة واحدة، ونوى أكثر، ففيه خلاف، فبعضهم قال: إنه يقع به واحدة ولا عبرة بنية الأكثر، وذلك لأن الوصف بواحدة جعل اللفظ غير محتمل للاثنتين، والنية لا تعتبر إذا كان اللفظ لا يحتمل المنوي، وقال بعضهم: بل يقع المنوي لأن النية جعلت معنى الواحدة الانفراد عن الزواج لا صفة الطلاق. فكأنه قال لها: أنت طالق حال كونك واحدة.

    الحنابلة - قالوا: حد الطلاق الصريح هو ما لا يحتمل غيره بحسب الوضع في العرف فلفظ الطلاق صريح في حل عقدة الزواج لا يحتمل غيره في العرف وإن قبل التأويل بحسب ذلك المعنى الأصلي كالطلاق من القيد، وينصر ذلك في لفظ الطلاق وما تصرف منه عرفاً، كالطالق، ومطلقة، وطلقتك، بخلاف نحو طلقى، وأطلقك، ومطلقة - بكسر اللام - اسم فاعل، فإن هذه الألفاظ لم تستعمل عرفاً في حل العصمة، وبهذا تعلم أن ألفاظ السراح. والفراق. والخلع. والمفاداة ليست من الطلاق الصريح، وفاقاً للحنفية. والمالكية، وخلافاً للشافعية، وذلك لأن هذه الألفاظ تستعمل في غير الطلاق كثيراً، فلا يمكن عدها من الصريح، ومن الصريح لفظ - نعم جواباً عن السؤال عن طلاق صريح، فلو قال له شخص: هل طلقت زوجته؟ فقال له: نعم طلقت، ولو كان كاذباً، ومثل ذلك ما إذا قال له شخص: ألم تطلق امرأتك؟ فقال: بلى، فإنها تطلق، وذلك لأن كلمة بلى جواب عن النفي، فإذا قال شخص لآخر: ألم تضرب زيداً؟ فقال له: بلى كان معناه ضربته، وإن قال: ألم تطلق امرأتك فقال: نعم فإنها لا تطلق إذا كان قائلها يعرف العربية لأن كلمة - نعم - ليست جواباً للنفي، فإذا قال شخص لآخر: ألم تأكل معنا، فقال: نعم كان معناه لم آكل إما إذ كان لا يفرق في الجواب فإنها تقع. وحكم الطلاق الصريح أنه يقع به طلقة واحدة، سواء نوى أو لم ينو عدم الطلاق) .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب النكاح]
    صـــــ 286 الى صــــــــ
    296
    الحلقة (203)



    مبحث كنايات الطلاق
    -الكنايات ما قبل الطلاق الصريح، وفي تعريفه تفصيل المذاهب (1) .
    مبحث أقسام كنايات الطلاق
    -تنقسم كنايات الطلاق إلى أقسام مفصلة في المذاهب (2) .

    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: معنى الكناية في ذاتها ما استتر المراد منه نفسه، وهذا المعنى غير مختص بالفقهاء، بل يشمل اصطلاح الأصوليين أيضاً، فإنهم يعرفون الكناية بما استتر المراد منه في نفسه، ولو كان من الألفاظ الصريحة عند الفقهاء، كطالل مثلاً، فإنه صريح من كون المراد منه خفياً لغرابة اللفظ، أما الكناية في اصطلاح الفقهاء خاص فهي اللفظ الذي لم يوضع لخصوص الطلاق، بل وضع لمعنى يتعلق بالطلاق. ولمعنى آخر: فهو محتمل للأمرين. مثلاً لفظ بائن فإنها موضوعة في اللغة لتدل على الفراق، والفراق أعم من أن يكون فراقاً من الزوجية. وأن يكون فراق مكان، والفراق من الزوجية ليس هو معنى الطلاق، وإنما هو أثره المترتب عليه، فهو حكمه المتعلق به، فإذا قال لزوجته: أنت بائن يحتمل أنه يريد أنت مفارقة لأهلك بعيدة عنهم، ويحتمل انشاء مفارقتها إياه من الزوجية، فإذا نوى الأول لا شيء عليه وإذا نوى الثاني بانت منه لأن قصد حكم الطلاق المترتب عليه مثل قصد معنى الطلاق، وهو حل عقدة النكاح بلا فرق، وهكذا في كل ألفاظ الكنايات، فإنه لا يقصد منها معنى الطلاق وإنما يقصد منها البينونة من الزواج وهي حكم الطلاق المترتب عليه، فقول الفقهاء: الكناية هي اللفظ الذي يحتمل الطلاق وغيره معناه يحتمل حكم الطلاق، وهو البينونة المترتبة عليه لا نفس الطلاق كما عرفت.
    ولا بد في إيقاع الطلاق بالكناية من أحد أمرين: إما النية كما ذكرنا، وإما دلالة الحالة الظاهرة التي تفيد المقصود من الكنايات كما إذا سألته الطلاق، فقال لها: أنت بائن فإنه يقع بدون نية كما سيأتي في تقسيم الكنايات.
    الشافعية - قالوا: كناية الطلاق هي اللفظ الذي يحتمل الطلاق وغيره، بنية مقارنة لأي جزء من أجراء اللفظ، كقوله لامرأته: أطلقتك، فإن لفظ أطلقتك يحتمل اطلاقها من حبسها بالمنزل ونحوه، ويحتمل اطلاقها من عقدة الزواج، ولا يقع طلاق إلا إذا نوى الطلاق بنية مقارنة للفظ، وهكذا.
    الحنابلة - قالوا: كناية الطلاق تارة تكون ظاهرة، وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة الآتي بيانها، وتارة تكون خفية، وهي الألفاظ الموضوعة للطلقة الواحدة الآتي بيانها، ولا بد في الكناية بقسميها من نية مقارنة للفظ.
    المالكية - قسموا الكناية إلى أقسام كثير، وسيأتي تعريف كل قسم على حدة في مبحث أقسام الكناية) .
    (2) (الحنفية - قالوا: تنقسم الكنايات إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول ما يكون معناه جواب طلب التطليق، فلا يصح سباً للمرأة ولا رداً لها عن طلب التطليق، وهذا يشتمل على ألفاظ: منها اعتدى، وهو تخيير بين الأمر بالعدة، أو الأمر بعد أيادي الزوج ونعمه عليها، ومنها استبرئي رحمك، واستبراء الرحم معناه تعرف طهارته من ماء الرجل، وهو كناية عن العدة، لأن تعرف براءة الرحم تكون بالعدة، ومنها أنت واحدة، وهذا اللفظ يحتمل أنت طالق تطليقة واحدة، ويحتمل أنت واحدة، بمعنى منفردة في القبح. أو في الحسن، وعلى هذا يكون لفظ واحدة منصوباً لأنه وصف للمصدر، فهل إذا قال: أنت واحدة بالرفع ونوى الطلاق يقع أو لا؟ والجواب: أنه يقع الطلاق ولو لحناً، لأن الإعراب لا يعتبر في هذه الباب، خصوصاً إذا صدر من العامي، على أن الرفع قد يحمل على وجه صحيح من الإعراب، فيقال: معناه أنت تطليقة واحدة، فجعل المرأة نفس التطليقة مبالغة، ومنها أنت حرة، فإنها تحتمل الاخبار بحريتها في تصرفها وتحتمل إنشاء تحريرها من قيد النكاح، ومنها سرحتك من السراح - بفتح السين - وهو الإسال، فكأنه قال لها: أرسلتك. والإرسال إما لأنه طلقها، أو لتمكث يوماً في دار أبيها، أو نحو ذلك.
    وقد عرفت أن سرحتك عند الشافعية من الصريح، ومنها فارقتك، وهي مثل سرحتك، لأن فراقها إما أن يكون لتطليقها. وإما أن يكون فراقاً مؤقتاً بالانصراف من المنزل مثلاً.
    هذا، وقد ذكر بعض الشراح. والفتاوى الكبيرة لفظين في هذا القسم: أحدهما اختاري. ثانيهما: أمرك بيدك، وهما كنايتان عن تفويض الطلاق للمرأة، لأن كلاً منهما يحتمل معنيين، فاختاري
    نفسك يصح أن يراد به اختاري نفسك بالطلاق. أو اختاري نفسك في عمل من الأعمال وكذلك أمرك بيدك، فإنه يصح أن يراد به أمرك بيدك في الطلاق. أو في تصرفاتك المختصة بك ولكن الصواب عدم ذكرهما هنا، وذلك لأنه لا يقع بهما طلاق إلا إذا طلقت المرأة نفسها، وإنما يصح تفويض الطلاق بهذين اللفظين بشرط أن ينوي الزوج الطلاق لها، أو يدل الحال على أنه فوض، كما إذا طلبت منه أن يطلقها في حالة الغضب، فإذا فوض لها في هذه الحالة وطلقت نفسها بانت منه، أما إذا لم تطلق فإنها لا تبين، فمن عد هذين اللفظين في كنايات الطلاق فقد أوهم أن الطلاق يقع بهما بمجرد نية الزوج، وهو خطأ واضح.
    ويتعلق بهذا القسم حكمان: أحدهما أن الألفاظ الثلاثة الأولى، وهي: اعتدي. واستبرئي رحمك وأنت واحدة، يقع بها طلقة واحدة رجعية، وإن نوى أكثر منها. أو نوى البائن.
    ثانيهما: أن الذي ينطق بكلمة من هذه الكلمات لا يخلو حاله عن ثلاثة أمور: الأمر الأول أن يكون في حالة غضب. الأمر الثاني: أن يكون في حالة رضا. الأمر الثالث: أن يكون في حالة مذاكرة الطلاق، بمعنى أن المرأة سألته الطلاق. أو سأله شخص طلاقها، فإذا كان في حالة غضب، وقال لزوجته، اعتدي، أو استبرئي رحمك. أو أنت واحدة الخ وقع عليه الطلاق قضاء، سواء نوى، أو لم ينو، فإذا قال: لم أنو الطلاق لم يصدق، ولكن لا يقع عليه ديانة بينه وبين الله، ومثل ذلك ما إذا كان في حالة مذاكرة الطلاق، فإذا سألته الطلاق فقال لها: اعتدي، أو استبرئي رحمك الخ وقع عليه الطلاق قضاء، سواء نوى، أو لم ينو، وسواء كان في حالة غضب، أو في حالة رضا. أما إذا كان في حالة رضا بدون مذاكرة طلاق، وقال كلمة من هذه الكلمات فإنه لا يقع بها طلاق إلا بالنية، وإذا قال: لم أنو بها الطلاق، فإنه يصدق بيمينه.
    القسم الثاني: ما يصح جواباً للسؤال عن التطليق. وما يصح رداً، أي دفعاً لهذا السؤال، وهذا لقسم يشتمل على ألفاظ، منها اخرجي، فإذا قالت له: طلقني، فقال لها: اخرجي، فإنه يحتمل أن يكون جوباً لها عن سؤال الطلاق، ويحتمل أن يكون مراده اخرجي الآن من المنزل حتى يهدأ الغضب وتنصرفي عن طلب الطلاق ومنها اذهبي، فهو مثل اخرجي، ومنها قومي. أو انتقلي، أو انطلقي، ومثل اخرجي، ومنها تقنعي أو تبرقعي، أي ضعي القناع - وهو البرقع - على وجهك، ومنها تخمري، أي البسي الخمار، وهو الملاءة - أو استتري - فأمرها بلبس البرقع أو الخمار. أو الستر يحتمل أمرين: أن يكون ذلك من أجل تطليقها إذ لا يحل له النظر إليها بعد. أو لئلا ينظرها أحد وهي غضبانة، فيكون على الأول جواباً لسؤال الطلاق، ويكون على الثاني رداً لطلب الطلاق، ومنها اغربي - بالغين والراء - ومعناه ابتعدي، وهو مثل اخرجي، يحتمل أن يكون جواباً عن طلب التطليق، ويحتمل أن يكون الغرض منه البعد المؤقت الذي ينكسر به الشر. ومنها اعزبي - بالعين والزاي - من العزوبة بمعنى البعد، وهي مثل اغربي.
    وحكم هذا القسم أن الطلاق لا يقع به إلا بالنية، سواء كان في حالة غضب. أو في حالة رضا،
    أو في حالة مذاكرة الطلاق. فإذا قال: لم أنو الطلاق، فإنه يصدق بيمينه قضاء، وهو وشأنه فيما بينه وبين الله، وذلك لأنها تحتمل ردها عن طلب الطلاق، وتحتمل إجابتها إلى طلبها، فإذا نوى الرد فقد نوى ما يحتمله اللفظ، فيقبل قوله قضاء في حالة مذاكرة الطلاق، وفي حالة الغضب، بخلاف القسم الأول، فإنه لا يحتمل سوى إجابتها عن سؤال الطلاق، فيقع حال المذاكرة. وحال الغضب مطلقاً، ولا يسمع منه أنه لم ينو الطلاق، أما في حال الرضا. وعدم المذاكرة فإنه يحتمل إرادة غير الطلاق.
    القسم الثالث: ما يصلح جواباً للمرأة عن سؤال الطلاق، وما يصلح شتماً لها، ويشتمل هذا القسم على ألفاظ: منها خلية بمعنى خالية عن النكاح. أو خالية عن الأدب والخير، فالمعنى الأول يصلح جواباً لسؤال الطلاق، والمعنى الثاني يصلح شتماً للمرأة، كما هو ظاهر. ومنها: برية. أو بريئة، بمعنى منفصلة عن النكاح. أو منفصلة عن الأدب وحسن الخلق، فهي كالأول تصلح جواباً وسبباً، ومنها كلمة بائن، من بان الشيء انفصل، فقوله لها: أنت بائن يحتمل أنها منفصلة من النكاح، أو منفصلة عن الخير والأدب، كما في الأول، ومنها كلمة بتة، بمعنى منقطعة، فإذا قال لها: أنت بتة كان معناه أنت منقطعة إما عن النكاح، أو الأدب، ومنها كلمة بتلة، وهي مثل بتة بمعنى منقطعة، ومنه فاطمة البتول، أي منقطعة النظير عن نساء العالمين نسباً وديناً رضي الله عنها.
    وحكم هذا القسم أنه لا يقطع به الطلاق إلا بالنية في حالة الغضب، وفي حالة الرضا. أما في حالة مذاكرة الطلاق فإنه يقع قضاء بدون نظر إلى نية
    فتحصل من هذا أنه في حال مذاكرة الطلاق يقع الطلاق قضاء بدون نظر إلى نية إلا في القسم الثاني، وهو ما يصلح جواباً ورداً فإنه لا يقع في الأقسام الثلاثة إلا بالنية، أما في حالة الرضا فإن الطلاق لا يقع في الأقسام الثلاث إلا بالنية، وأما في حالة الغضب فإنه لا يقع الطلاق إلا بالنية في القسمين الأخرين، أما القسم الأول، وهو ما يصلح جواباً، ولا يصلح شتماً، فإنه يقع به الطلاق حال الغضب قضاء بدون نظر إلى نية.
    ثم اعلم أن جميع الألفاظ التي ذكرت في الأقسام الثلاثة يقع بها الطلاق بائناً ما عدا الألفاظ الثلاثة المذكورة في القسم الأول، وهي: اعتدي، استبرئي رحمك، أنت واحدة، فإنه يقع بكل لفظ منها طلاق رجعي، فإذا نوى بالبائن ثنتين فإنه لا يقع به إلا واحدة. أما إذا نوى به الثلاث فإنه يصح ويقع به الثلاث، وذلك لأن المراد بلفظ البائن بينونة المرأة من الزواج، والبينونة لا تحتمل التثنية لأنها مصدر لا يراعى فيه العدد، فإما أن يراعى فيه الوحدة فيكون مقيداً بها، أو يراعى فيه الجنس المستغرق لأفراده فيشتمل الثلاث، ويستثنى لفظ اختاري فإنه لا يصح فيها تفويض الثلاث لها.
    هذا، وبقيت ألفاظ أخرى من الكنايات يقع بها الطلاق رجعياً، منها أن يقول لها: أنت مطلقة - بتخفيف اللام - فإن هذا اللفظ يحتمل إطلاقها من القيد، ويحتمل إطلاقها من عقد النكاح، فيقع به الطلاق بالنية، ولكن لما كان مشتملاً على مادة الصريح فإنه لا يقع به إلا واحدة رجعية، ومنها أن يقول لها: أنت أطلق من امرأة محمد إذا كانت امرأة محمد مطلقة، فقوله: أنت أطلق منها أفعل تفضيل،
    يحتمل أنها أكثر إطلاقاً منها في شؤونها، ويحتمل أنها أشد منها تطليقاً من عقد الزواج، فإذا نوى الثاني طلقت واحدة رجعية، كما علمت، وإنما تلزم النية إذا لم تقل له امرأته: إن محمداً طلق زوجته، فإذا قالت له ذلك وأجابها هو بقوله: أنت أطلق منها وقع الطلاق بدون نية قضاء ديانة، لأن دلالة الحال تجعله من باب الصريح، لا من باب الكناية، فيقع بدون نية، أما إذا لم تقم قرينة فإنه يكون كناية لا يقع إلا بالنية، كما علمت، ومنها أن ينطق بالطلاق بحروف الهجاء، كأن يقول: أنت ط ال ق وذلك لأن الحروف المقطعة لا تستعمل فيه اللفظ الصريح، فلا بد لوقوع الطلاق بها من النية، وإذا نوى يقع واحدة رجعية، ومنها أن يقول لها: الطلاق عليك، أو الطلاق لك، أو أنت طال - بضم اللام وفتحها - أما بكسرها فإنه يكون صريحاً لا يحتاج إلى نية على المعتمد، وذلك لأن حذف آخر الكلمة مشهور في العرف، فإذا حذف الآخر مع بقاء شكل الحرف الذي قبله على حاله فإن معنى الكلمة لا يتغير، أما إذا غير شكله بالرفع، أو النصب فإنه يحتمل أن يكون المراد به أمراً آخر فإذا قال لها: أنت طال يحتمل أن يكون طال فعل، أي طال عمرك مثلاً، وبالرفع يحتمل أن يكون المراد تشبيها باسم، ومنها أن يقول لها: وهبتك طلاقك، أو أعرتك طلاقك، وفي هذه الحالة يكون أمر طلاقها بيدها إذا نوى به الطلاق وكذا أقرضتك طلاقك أو قد
    شاء الله طلاقك أو شئت طلاقك، أو قضي الله طلاقك أو طلقك الله، ففي كل هذه الألفاظ يقع بالنية طلقة واحدة رجعية، وأما إذا قال لها: خذي طلاقك فإنه صريح على المعتمد، ومنها لست لي بامرأة وما أنا لك بزوج، وإذا قال لها: أنا بريء من طلاقك ونوى به الطلاق هل يقع أو لا؟
    قال بعضهم: إنه لا يقع به شيء ولو نوى، وذلك لأن البراءة من الطلاق ترك له، ولا معنى لأن يراد من الشيء ضده.
    وقال بعضهم: يقع به واحدة رجعية وعلل ذلك بأن قوله: أنا بريء من طلاقك معناه ترك الطلاق عجزاً عنه لعدم فائدته، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت المرأة غير محل للطلاق، بأن كانت بائنة بينونة صغرى أو كبرى، فيحتمل أنه أراد من البراءة من الطلاق بينونتها، ولكن هذه العلة تنتج وقوع الطلاق البائن لا الرجعي، لأن الذي يفيد العجز عن الطلاق هو البراءة منه لا لفظ الطلاق، إلا أن يقال: إضافة البراءة إلى لفظ الطلاق الصريح جعل اللفظ في حكم الصريح الذي تقع به واحدة رجعية، ومثل أنا بريء من طلاقك، قوله لها: تركت طلاقك. ومن الكنايات التي يقع بها الطلاق بالنية لفظ العتق، فإذا قال لها: أعتقتك ونوى به الطلاق بانت منه، وكذا إذا سألته الطلاق فأجابها بقوله: أعتقتك وإن لم ينو، لأن دلالة الحال تقوم مقام النية، أما إذا قال لجاريته: طلقتك ونوى بذلك عتقها فإنها لا تعتق، لأن لفظ الطلاق ليس موضوعاً لإزالة الملك، خلافاً للشافعية.
    المالكية - قالوا: تنقسم الكناية إلى قسمين: كناية خفية، وكناية ظاهرة.
    فالكناية الخفية ما كانت دلالتها على الطلاق غير ظاهرة، وهي ثلاثة أقسام: قسم يوجد فيه حروف الطلاق ولكن العرف لم
    يستعمله في إنشاء الطلاق، وهو ثرثرة ألفاظ: منطلقة، مطلوقة، مطلقة بفتح اللام مخففة - وقسم يحتمل الدلالة على الطلاق مع بعد نحو اذهبي، انصرفي، لم أتزوجك، أنت حرة، الحقي بأهلك، ومثل ذلك ما إذا سأله شخص، هل لك امرأة، فقال: لا، أو قال لها: لست لي بامرأة من غير تعليق على شيء، أما إذا قال لها: إن دخلت الدار فلست لي بامرأة، فإن لم ينو به شيئاً. أو نوى الطلاق بدون عدد، فإنه يلزمه ثلاث، وإن نوى غير الطلاق فإنه يصدق بيمينه قضاء، ويصدق بدون يمين في الإفتاء. والقسم الثالث: أن يكون بين اللفظ وبين الطلاق علاقة ما، نحو كلي واشربي، وادخلي، واسقني الماء، وغير ذلك من الألفاظ التي يقصد بها تطليق زوجته. وليست من الطلاق الصريح. ولا الكناية الظاهرة الآتي بيانها.
    وقد اعترض بعض المحققين على هذا بأن الكناية استعمال اللفظ في لازم ما وضع له، والطلاق ليس لازماً لمثل هذه الألفاظ، فكيف تسمى مستعملة في الطلاق؟! والجواب: أن الكلام هنا في اصطلاح الفقهاء، وما ذكره اصطلاح البيانيين، ولا مشاحة في الاصطلاح، وحكم الكناية الخفية يتبع النية، فإن لم تكن له نية أصلاً. أو نوى عدم الطلاق فإنه لا يلزمه بها شيء وإن نوى الطلاق لزمه، ثم إذا نوى واحدة لزمه واحدة، وإن نوى أكثر لزمه الأكثر، فلو قال لامرأته: ادخلي الدار ونوى به ثلاث طلقت منه ثلاثاً، فالمدار فيها على النية، واختلف فيما إذا نوى بها الطلاق ولكنه لم ينو عدداً، فقال بعضهم: إنه يلزمه الثلاث، ولكنهم اعترضوا على هذا بأن الطلاق الصريح إذا لم ينو به عدداً لا يلزمه إلى واحدة، فكيف تلزمه الثلاث بالكناية الخفية؟! وأجيب بالفرق بين الحالتين، وذلك لأن عدوله عن الصريح أوجب ريبة عنده في ذلك فعومل بالثلاث احتياطاً، ولا فرق في ذلك بين المدخول بها، وغيرها. وبعضهم قال: إنه لا يجب به إلا طلقة واحدة بائنة في غير المدخول بها، ورجعية في المدخول بها، أما الكناية الظاهرة فإنها تنقسم إلى خمسة أقسام:
    القسم الأول: ما يلزم فيه الطلاق الثلاث، سواء كانت الزوجة مدخولاً بها أو لا بدون نظر إلى نية، وهو لفظان: أحدهما أن يقول لها: أنت بتة، فإذا قال لها هذه الكلمة طلقت منه ثلاثاً سواء قال: إنه نوى الطلاق أو لا، وسواء قال إنه نوى واحدة أو أكثر، وذلك لأن البت معناه القطع، فكأنه قطع عقدة النكاح التي بينهما بتاتاً. ثانيهما: أن يقول لها: حبلك على غاربك فهذا كناية عن أنه ألقى عصمتها من يده على كتفها، فلا شأن له بها فيقع عليه الطلاق الثلاث.
    وسيأتي أن هذين إنما يقع بهما الثلاث إذ كان العرف جارياً على أن يطلق الرجل بهما، وإلا كانت من الكنايات الخفية التي تقدم حكمها.
    القسم الثاني: ما يلزم فيه الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، أما إن كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه فيه طلقة واحدة إن لم ينو أكثر، وهو ثلاثة أمور: الأول أن يقول لها: أنت طالق واحدة بائنة، فإذا قال لها ذلك، وكانت مدخولاً بها، وقع عليه الطلاق الثلاث وذلك لأن البينونة بغير عوض وبغير لفظ الخلع بعد الدخول تنحصر في البينونة الكبرى، وهي الطلاق الثلاث أما إذا كانت قبل
    الدخول، أو كانت مقارنة لعوض الخلع فإنها تكون واحدة، فإن قلت: إن قوله: أنت طالق واحدة بائنة قد نص فيها على الواحدة، فلماذا لا يعامل بها؟ والجواب: أن لفظ الواحدة تهمل للاحتياط. الثاني: أن يذكر لفظ الطلاق صريحاً وينوي به الواحدة البائنة، كأن يقول لها: أنت طالق، وهو ينوي به واحدة بائنة فإن كانت الزوجة مدخولاً بها طلقت منه ثلاثاً لأن نية الواحدة البائنة كالنطق بها، فإن لم تكن مدخولاً بها طلقت واحدة إن لم تكن له نية، فإن نوى أكثر عومل بما نواه. الثالث: أن يذكر لفظ كناية خفية، ويريد به تطليقها واحدة بائنة، كما إذا قال لها: ادخلي الدار ونوى به تطليقها واحدة بائنة، فكأنه قال لها: أنت طالق واحدة بائنة فإنه يلزم بذلك الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولاً بها فإن لم تكن مدخولاً بها، لزمته طلقة واحدة إلا أن ينوي أكثر.
    والحاصل أنه إذا صرح بقوله: أنت طالق واحدة بائنة لزمه الثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها ما لم ينو أكثر، وإذا عبر عن معنى هذه الجملة بطلاق صريح، كما إذا قال لها: أنت طالق ونوى تطليقها واحدة بائنة فكذلك، وكذا إذا عبر عنها بكناية خفية كما إذا قال لها: ادخلي الدار وأراد تطليقها واحدة بائنة أما التعبير عنها بالكناية الظاهرة، كما إذا قال لها: خليت سبيلك، فإنه، لا فائدة فيه، وذلك لأن الكناية الظاهرة يلزمه فيها الطلاق الثلاث في المدخول بها وإن لم ينو الواحدة البائنة، فإذا قال لامرأته المدخول بها: خليت سبيلك طلقت منه ثلاثاً وإن لم ينو الواحدة البائنة، وقد يقال: إنه إذا قال لها: خليت سبيلك لا يقع بها الثلاث إلا إذا نوى عدد الثلاث، بخلاف ما إذا نوى الواحدة البائنة، فإنه يقع بها الثلاث بدون نية عدد، وعلى هذا يصح أن يقال: إذا صرح بقوله: أنت طالق واحدة بائنة. أو عبر عنه بطلاق صريح، أو بكناية خفية. أو بكناية ظاهرة لزمه الطلاق الثلاث إذا كانت زوجته مدخولاً بها، ولزمته إذا كانت غير مدخول بها ما لم ينو أكثر.
    القسم الثالث: من الكنايات الظاهرة ما يلزم به الطلاق الثلاث في المدخول بها وغيرها، ولكن في المدخول بها تلزمه الثلاث وإن لك ينو. أو نوى واحدة، أو ثنتين، أما غير المدخول بها فإنه يلزمه الثلاث إن نوى، أو لم ينو شيئاً. لأنه من الكنايات الظاهرة التي لا تتوقف على نية.
    وذلك في ألفاظ، منها أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير، ومنها وهبتك لأهلك، أو وهبتك لنفسك. ومنها أن يقول لها: ما أرجع إليه من أهل الحرام، ويريد من الأهل الزوجة أما إذا أراد أقاربه غيرها فإنه يقبل منه، ومنها أن يقول لها: أنت خلية. أو برية، أو أنا منك خلي أو بري. ومنها أنت بائنة. أو أنا منك بائن، فكل هذه الألفاظ يقع بها الطلاق الثلاث في المدخول بها ولو نوى أقل، أو لم ينو، وفي غير المدخول بها يقبل منه إذا نوى أقل من الثلاث نعم إذا دلت قرينة على أنه لا يريد الطلاق، وقال: إنه لم ينو الطلاق فإنه يقبل منه قضاء وإفتاء بيمينه، وذلك كما إذا كان يتكلم معها في نظافتها ورائحتها، فقال لها: أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير وأراد بذلك قذارتها ونتنها، أو كان يتكلم معها في حسن الأدب والمعاشرة فقال لها: أنت خلية، أو برية، أي خالية من الأدب، أو بريئة منه، أو كانت تتكلم معه في احتياج أبويها إلى خدمتها، أو في احتياجها إلى الراحة، فقال لها: وهبتك لأهلك، أو وهبتك لنفسك. أو طلب منها
    أن تقرب منه وكان بينهما فرجة، وقال لها: أنت بائنة مني، أي منفصلة عن ملاصقتي، أو نحو ذلك وهذا ما يسميه المالكية بساط اليمين، فإذا دل البساط على أنه لا يريد الطلاق فإنه يقبل منه في المدخول بها وغيرها.
    هذا ويشترط في وقوع الطلاق بهذه الألفاظ كلها أن يكون العرف جارياً على أن يطلق الناس بها، أما إذا كانوا لا يطلقون بهذه العبارات، فإنها لا تكون كناية ظاهرة، بل تكون من الكنايات الخفية التي لا يقع بها شيء إلا بالنية، ومثل هذه الألفاظ حبلك على غاربك التي يقع بها الثلاث في المدخول بها وغيرها فإنه إذا لم يكن عرف الناس جارياً على التطليق بها، كما في زماننا، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، فإذا نوى واحدة لزمته، وهكذا كما تقدم. وقد قال المحققون من المالكية: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق وغيره من الأحكام المبنية على العوائد والعرف، كالمنافع في الإجارة، والوصايا والنذر، والأيمان، إلا بعد أن يعلم عرف أهل البلد أو القبيلة في ذلك الأمر.
    وبهذا تعلم أن معظم الكنايات الظاهرة التي قال المالكية إنه يقع الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نية هي من الكنايات الخفية في زماننا لأنه لم يطلق بها أحد.
    القسم الرابع: ما يلزم به الطلاق الثلاث إلا إذا نوى أقل منها في المدخول بها وغيرها وهي أن يقول لها: خليت سبيلك فإذا قال لامرأته ذلك فإنه يلزمه الثلاث إن نوى الثلاث، أو لم ينو شيئاً، أما إذا نوى واحدة، أو اثنتين فإنه يلزمه ما نواه، سواء دخل بها، أو لم يدخل فإذا نوى بقوله: خليت سبيلك طلقة واحدة بائنة في المدخول بها لزمه الثلاث، وإن لم ينو الثلاث، لما عرفت من أن الواحدة البائنة يلزم بها الثلاث، فكذا ما يعبر به عنها، أما في غير المدخول بها فإنه يلزمه واحدة، كما تقدم.
    القسم الخامس: ما يلزم فيه واحدة في المدخول بها وغيرها إلا إذا نوى أكثر، وهو اعتدي، وفارقتك.
    هذا، ومن الكنايات الظاهرة التي يلزم فيها الثلاث أنت خالصة، أو لست لي على ذمة. وأما عليه السخام فيلزم فيه واحدة إلا أن ينوي أكثر، أما نحو عليه الطلاق من فرسه، ومن ذراعه فإنه لا يلزم فيه شيء، وبعضهم يقول: إن قوله أنت خالصة أو لست لي على ذمة، يقع به واحدة بائنة.
    الشافعية - قالوا: ألفاظ الكنايات كلها يقع بها الطلاق الذي ينويه الزوج، فإذا لم ينو طلاقاً لا يلزمه شيء، وإذا نوى بها أكثر من واحدة وقع ما نواه، ولو قيدها بواحدة كأن قال لها: أنت واحدة، ونوى بذلك تطليقها ثنتين، أو ثلاث، كما تقدم في الصريح، فإن الرجل يعامل في الطلاق بنيته، لأن الشارع جعل عدد الطلاق منحصراً في ثلاث، فما نواه منها يكون في حكم الملفوظ، فهو داخل في اللفظ حكماً، والتقيد بواحدة لا يمنع من دخول المنوي في اللفظ بحيث لا يجعل واحدة صفة لمصدر محذوف تقديره أنت طالق طلقة واحدة. فلا يحتمل الاثنتين، أو الثلاث وإنما يجعل حالاً من المرأة فكأنه قال لها: أنت طالق حال كونك واحدة، أو منفردة عن الزوج، وتجعل نيته أكثر من واحدة قرينة على ذلك.
    ويشترط في الكناية التي يقع بها الطلاق أن تكون محتملة للطلاق بحيث يكون اللفظ دالاً على الفرقة بدون تعسف، فليس من الكنايات نحو أغناك الله، لأنه يحتمل أغناك الله عني لأني طلقتك، ولكن هذا تعسف، ومثله اقعدي وقومي، وزوديني، وأحسن الله عزاءك، وكذا عليّ السخام لا أفعل كذا، لأن السخام لا يحتمل الطلاق، أما كلي، واشربي فقيل: ليست من الكناية، ولكن المعتمد أنها من الكناية، لأنها تحتمل كلي واشربي مرارة الفراق، وقد يقال إن هذا تعسف ظاهر.
    أما ألفاظ الكنايات التي تنبئ عن الفراق. فمنها ما يشتمل على حروف الصريح، وهي: أطلقتك، أنت طالق، أنت مطلقة، ومنها ما ليس كذلك، كأنت خلية، أنت برية، بتة، أي مقطوعة الوصلة، بتلة، متروكة النكاح، بائن، اعتدي، استبرئي رحمك فإنه يحتمل افعلي ذلك لأني طلقتك، وكذا الحقي بأهلك، حبلك على غاربك. لا أنده سربك - بفتح السين - وهو الإبل، وهو كناية عن أنه لا يهتم بشأنها لأنه طلقها، وكذا اعزبي واغربي، وقد تقدم تفسيرهما في المذاهب وكذا دعيني - أي لأني طلقتك - ومنها أن يقول لها: أشركتك مع فلانة المطلقة ومنها تجردي، أي من الزوج وكذا تزودي، أي اخرجي، سافري أي لأني طلقتك، ومنها أن يقول لها: أنا طالق منك، أو بائن. وذلك لأن الزوج وإن لم يصلح لإضافة الطلاق إليه ولكن لما كان محجوراً عليه زواج أختها، أو التزوج بأكثر من أربعة صح أن يطلق نفسه من هذا القيد، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أو نوى تطليقها فإنه يعمل بنيته، فإن لم ينو طلاقها فلا يقع به شيء، سواء نوى الطلاق في ذاته، أو نوى طلاق نفسه، أو لم ينو شيئاً، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: استبرئ رحمي منك، أو أنا معتد منك، فإنه محال في حقه فلا يقع به طلاقها، ومنها أن يقول لها: أعتقتك، أو لا ملك لي عليك، ونوى طلاقها فإنه يلزمه. ومنها أن يقول لها: الزمي الطريق، لك الطلاق، عليك الطلاق، وهكذا كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره فإنه يكون كناية يقع بها ما نواه.
    ومن كنايات الطلاق لفظ العتق، فإذا قال لزوجته: أعتقتك، ونوى به الطلاق لزمه ما نواه، وكذلك لفظ الطلاق يستعمل كناية عن العتق، فإذا قال لعبده: أنت طالق وأراد به العتق فإنه يصح.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب النكاح]
    صـــــ 296 الى صــــــــ
    302
    الحلقة (204)



    مبحث في إضافة الطلاق إلى المرأة أو إلى جزئها
    -إذا قال: طالق فقط ناوياً به طلاق امرأته، ولم يقل: أنت طالق، أو زينب طالق، أو قال: علي الطلاق ولم يقل: من امرأتي، أو من فلانة، أو قال: يد امرأتي، أو رجلها، أو شعرها، طالق، فهل يقع الطلاق عليه بذلك، أو لا؟ في الجواب تفصيل المذاهب (1) .
    مبحث إذا قال: أنت حرام أو محرمة أو قال: علي الحرام أو نحو ذلك
    -إذا قال لزوجته: أنت علي حرام، أو أنت محرمة، أو قال: حرمت ما أحله لي الله أو نحو هذا، ففي وقوع الطلاق به تفصيل المذاهب (2) .

    __________
    الحنابلة - قالوا: تنقسم الكنايات إلى قسمين: القسم الأول الكنايات الظاهرة، وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة، كما تقدم، وهي ست عشرة كناية:
    - 1 - أنت خلية.
    - 2 - أنت برية، أو بريئة.
    - 3 - أنت بائن.
    - 4 - أنت بتة.
    - 5 - أنت بتلة.
    - 6 - أنت حرة.
    - 7 - أنت الحرج، يعني الحرام، والإثم.
    - 8 - حبلك على غاربك.
    - 9 - تزوجي من شئت.
    - 10 - حللت للأزواج.
    - 11 - لا سبيل لي عليك.
    - 12 - لا سلطان لي عليك.
    - 13 - أعتقتك.
    - 14 - غطي شعرك.
    - 15 - تقنعي.
    - 16 - أمرك بيدك.
    واختلف فيما يقع بالكناية الظاهرة، فقيل: يقع بها الطلاق الثلاث إذا نوى الطلاق سواء نوى واحدة، أو أكثر أما إذا لم ينو بها الطلاق فلا يقع شيء، وهذا هو المشهور في المتون، وقد روي عن علي وابن عمر،
    وزيد بن ثابت، وابن عباس، وأبي هريرة في عدة وقائع، وذلك لأن اللفظ يقتضي البينونة بالطلاق فيقع ثلاثاً بلا فرق بين المدخول بها وغيرها، وقيل يقع به ما نواه، كما يقول الشافعية، واختار هذا جماعة، لما روي من أن ركانة طلق امرأته بقوله: ألبتة، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستحلفه على أنه ما أراد إلا واحدة فحلف فردها له، رواه أبو داود وصححه، وابن ماجة، والترمذي، ولكن البخاري قال: إن في هذا الحديث اضطراباً، وعلى هذه الرواية إذا نوى الطلاق ولم ينو عدداً لا واحدة ولا لأكثر لزمته طلقة واحدة كما إذا نوى واحدة، فإذا نوى أكثر لزمه ما نواه، وعلى كل حال فيشترط لوقوع الطلاق بالكناية سواء كانت ظاهرة، أو خفية - وهي الآتي بيانها في
    القسم الثاني - شرطان:
    الشرط الأول: أن ينوي بها الطلاق، لأن اللفظ يحتمل غير الطلاق، فلا يتعين الطلاق إلا بالنية، ويقوم مقام النية دلالة الحال كما إذا كانت بينهما خصومة، أو كان في حالة غضب، أو كان جواب سؤالها الطلاق، ففي هذه الحالة يقع الطلاق بالكناية ولو بلا نية لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال، فإذا ادعى في حال الغضب أو في حال سؤالها الطلاق. أو في حال الخصومة انه لم يرد به الطلاق فإنه لا يسمع منه قضاء، ولكن بينه وبين الله لا يقع عليه شيء إن كان صادقاً، أما في غير هذه الأحوال، كما إذا كان في حالة رضا ولم تسأله طلاقها، وقال لها: أنت بائن، وادعى أنه لم ينو طلاقاً فإنه يسمع منه قضاء أيضاً، لأن النية خفية، وقد نوى ما يحتمله اللفظ.
    والحاصل أنه لا يقع طلاق بلفظ الكناية إلا بالنية، سواء كانت ظاهرة أو خفية ثم إن أمر النية موكول للمطلق قضاء وديانة إلا أنه إذا نوى الطلاق ولم ينو عدداً فإنه في الكنايات الظاهرة يقع به الثلاث على المشهور، وكذا إذا نوى واحدة، أما على القول الثاني وهو أنه لا يقع بالكنايات إلا ما نوى، فإنه إذا نوى طلاقاً ولم ينو عدداً وقعت عليه طلقة واحدة كما إذا نوى واحدة، فإذا نوى أكثر وقع ما نواه.
    هذا في النية، أما في دلالة الحال فإنه لا يقبل دعوة عدم نية الطلاق قضاء، ولكن بينه وبين الله يعامل بما نواه.
    الشرط الثاني: أن تكون النية مقارنة للفظ الكناية، فإذا قال لها: أنت بتة ولم يرد بها طلاقاً ثم نوى الطلاق بها بعد انقضاء النطق فإنه لا يقع بها شيء، وكذا إذا ترك النية في أول جزء من لفظ الكناية ونوى في الجزء الثاني فإنه لا يقع بها شيء، أما إذا نوى في أول جزء وترك النية في الجزء الثاني فإنه يقع.
    القسم الثاني: الكناية الخفية، لأنها أخفى في دلالتها على الطلاق من الأولى، وهي ألفاظ: منها أخرجي، اذهبي، ذوقي، تجرعي، خليتك، أنت مخلاة، أنت واحدة، لست لي امرأة، اعتدي، استبرئي رحمك، اعزبي، الحقي بأهلك، لا حاجة لي فيك، ما بقي شيء، أعفاك الله أراحك الله مني، اختاري، جرى القلم. ومنه لفظ الفراق، والسراح، وما تصرف منهما، وكذا طلقك الله بيني وبينك في الدنيا والآخرة، وأبرك الله لك.
    وحكم هذه أنه إن لم ينو بها الطلاق فلا يلزمه شيء، وإن نوى الطلاق ولم ينو عدداً لزمه طلاق واحدة، وإن نوى واحدة أو أكثر لزمه ما نواه، ويشترط في وقوع الطلاق بها الشرطان المتقدمان في الكناية الصريحة) .
    (1) (الحنفية - قالوا: اختلفت أنظار الباحثين في إضافة الطلاق إلى المرأة، فقال بعضهم: لا يقع الطلاق إلا إذا أسنده إلى شيء يعبر به عن المرأة بأن يذكرها باسمها، فيقول: زوجتي زينب طالق، ويسمى هذا إضافة لفظية، أو يذكرها بالضمير، كأنت طالق. أو طالقتك أو باسم الإشارة كهذه طالق، أو باسم الجنس، كأمرأتي طالق، ويسمى هذا إضافة معنوية، فإذا لم يضف الطلاق إلى المرأة بأن يذكر اسمها صريحاً لفظاً، أو يذكر لفظاً يدل عليها فإنه لا يقع عليه الطلاق ولو نوى به الطلاق، فإذا قال لها: لا تخرجي من غير إذني لأنني حلفت بالطلاق ونوى بذلك طلاقها فخرجت فإنه لا يقع عليه شيء، وذلك لأنه لم يضف الطلاق إلى المرأة، أما لو قال لها، حلفت بطلاقك فإنه يقع، وكذا لو قال شخص لآخر: اذهب معي لزيارة فلان فقال: إني حلفت بالطلاق أن لا أزوره، وهو كاذب في ادعاء الحلف، ثم ذهب لم يقع عليه الطلاق لعدم إضافته إلى المرأة، وإذا قال علي الطلاق لا أفعل كذا، ولم يقل من امرأتي، أو من هذه، أو من زينب مثلاً، أو منك، وفعل فإنه لا يلزمه طلاق، ولو نوى الطلاق.
    وقال بعضهم: إذا نوى طلاقها لزمه الطلاق، وذلك لأن نية الطلاق تجعل الإضافة إلى المرأة موجودة، فكأنه قال: حلفت بالطلاق منك أو بطلاقك، ولكن بعض المحققين من شيوخنا رجح الرأي الأول، وجعله مدار الفتوى، مستدلاً بأن المذهب اشترط إضافة الطلاق إلى المرأة بذكر اسمها أو ما يدل عليها من ضمير أو اسم إشارة، أو لفظ عام، أما نية الإضافة فإنها لا تكفي وعلى هذا لا تعتبر صيغة الطلاق إلا إذا ذكر فيها ما يدل على المطلقة، ولا يرد أن العرف قد استعمل كلمة عليّ الطلاق، وعليّ الحرام في تطليق الزوجة، والعرف يعمل به عند الحنفية، فينبغي أن يقع به الطلاق بدون إضافة، والجواب أن العرف لا يعول عليه إذا ناقض نصاً صريحاً أو خالف شرطاً من الشروط. وقد عرفت أنهم قد اشترطوا أن يضاف الطلاق إلى المرأة لفظاً لا نية، بأن يذكر ما يدل عليها من اسم صريح، أو ضمير، أو نحو ذلك، ومتى ثبت ذلك فلا معنى للعمل بالعرف الذي يناقض هذا الشرط، وهذا الرأي حسن، وينبغي أن يعمل به في زماننا خصوصاً بعد أن أصبح معمول به في القضاء والافتاء أن تعليق الطلاق يبطله، فلو فرضنا ونظرنا إلى العرف فإنه الآن قد أصبح متعارفاً بين الناس أن - عليّ الطلاق - لا يقع به الطلاق حتى لو أضافه إلى المرأة، كما أنه أصبح متعارفاً بين الناس أن الطلاق الثلاث لا يقع به إلا واحدة، فالنظر إلى العرف يقضي أن تكون الفتوى الآن على أن الطلاق المعلق المضاف لا يقع به شيء عند الحنفية، وأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة لا يقع به إلا واحدة عندهم.
    ويتفرع على اشتراط إضافة الطلاق إلى المرأة أن الرجل إذا أضاف الطلاق إليه دونها فإنه يلغو ولا يعمل به، مثلاً إذا قال لها: أنا منك طالق، أو أنا منك بريء لا يقع به شيء ولو نوى به طلاقها لأنه أضاف الطلاق إلى نفسه والرجل ليس محلاً للطلاق، بخلاف ما إذا قال لها: أنا منك بائن، أو منك حرام أو أنا عليك حرام وذلك لأن معنى الإبانة الانفصال وإزالة ما بينهما من وصلة ومعنى التحريم إزالة حل الاستمتاع الحاصل بينهما، ولا يخفى أن المعنيين مشتركان بين الرجل والمرأة، فيصح نسبتهما إلى كل واحد منهما، فلو قال أنا بائن ولم يقل منك، أو قال أنا حرام ولم يقل عليك فإنه لا يقع به شيء ولو نوى الطلاق، لأنه لم يضفه إلى المرأة بل أضافه إلى نفسه فقط. والشرط أن يضيفه إليها، فإذا قال لها: أنت بائن ولم يقل مني، أو قال: أنت حرام ولم يقل علي، فإنه يلزمه بالنية، لأنك قد عرفت أن هذه الألفاظ من باب الكنايات، على أنه إذا جعل الزوج أمر طلاق المرأة بيدها وقالت له: أنت بائن مني ولم تقل وأنا منك بائنة، فإنها لا تطلق وذلك لأنها وإن حلت محل الزوج في إيقاع الطلاق، ولكنها لم تضف الطلاق إلى نفسها فلا يقع.
    وبهذا تعلم أن الطلاق الصريح إذا أضافه إليه لا يقع حتى ولو أضافه إليها أيضاً، وأن الكناية التي
    يكون معناها مشتركاً بينهما إذا أضافها إليه وإليها ونوى بها الطلاق وقع، كأنا منك بائن، وإذا أضافها إليها وحدها دونه فإنه يصح ويقع، كما إذا قال لها: أنت بائن أنت حرام وإذا أضافها إليه وحده كأنا بائن فإنه لا يقع بها شيء، وإذا جعل أمرها بيدها فإنه لا يقع إلا إذا أضافته إلى نفسها وأضافته إليه، فيقول: أنا منك بائنة، أنت مني بائن، أنا حرام عليك، أنت حرام علي.
    والحاصل أن الحنفية قالوا: يشترط لإيقاع الطلاق أن يضاف إلى المرأة بأن يأتي باسمها، أو يأتي بالضمير الدال عليها، سواء كان ضمر خطاب كأنت طالق، أو ضمير غيبة، كهي إذا أعاد الضمير عل امرأته، أو اسم إشارة عائد إليها، كهذه طالق، فهذه الألفاظ تدل على المرأة وضعاً، ويقوم مقام ذلك ذكرها بجزئها، بشرط أن يكون ذلك الجزء شائعاً في بدنها، كالنصف، والثلث، والربع، أو يعبر به عن المرأة، بمعنى أنه يشتهر التعبير بذلك الجزء عن جميع الذات، وذلك، كالرقبة والعنق، والبدن، والجسد، والفرج، والوجه، والرأس، فإن هذه الألفاظ قد اشتهر استعمالها في ذات الإنسان، فأما الفرج فقد ورد "لعن الله الفروج على السروج" وأما غيره من الألفاظ فاستعمالها في الذات ظاهر، فلا يقع بالإضافة إلى المرأة إلا إذا وجد أحد الأمرين: الإضافة إلى الجزء الشائع من نصف وثلث الخ، لأن الطلاق لا يتجزأ، أو الإضافة إلى جزء اشتهر استعماله في الكل حتى أصبح حقيقة عرفية. أما إذا لم يكن جزءاً شائعاً، أو لم يكن جزءاً يستعمل في الكل عرفاً فإنه لا يقع به الطلاق إلا إذا نوى به المجاز، بأن ينطق بالجزء وينوي به الكل لعلاقة الجزئية، فإذا قال: يدك طالق ولم تكن اليد مشتهرة في التعبير بها عن الكل عند الناس لا تطلق إلا إذا أراد باليد جميع المرأة ومثل اليد الرجل، والفخذ، والشعر، والأنف، والسن، والريق، والعرق، والثدي، والدبر. أما الاست فقد قالوا: إنه يقع به لأنه وإن كان مرادفاً للدبر، ولكن اشتهر استعماله في جميع المرأة، ومثله البضع، فإنه وإن كان مرادفاً للفرج ولكن لا يقع به لأنه لم يشتهر استعماله في الجميع. وكذلك الظهر، والبطن، فإنهما لم يشتهر استعمالهما في الكل فلا يقع بهما، فإذا اشتهر استعمالهما في الكل عند قوم وقع بهما بدون نية المجاز.
    فالمدار على شهرة استعمالها في الكل بحيث لو اشتهر استعمال اليد في الكل وقع بها بدون نية المجاز وهكذا.
    وبالجملة فأجزاء الجسم منها ما يقع به الطلاق بدون نية المجاز، وهي الأجزاء الشائعة والأجزاء التي اشتهر استعمالها في الكل بدون قرينة، كالرقبة الخ، ومنها ما يقع به الطلاق إذا نوى به استعماله في جميع البدن كاليد ونحوها. ومنها ما لا يقع به شيء حتى ولو نوى به جميع البدن، كالريق، والسن، والشعر، والظفر، والعرق لأن هذه لم يعهد التعبير بها عن الإنسان. ومثلها الأجزاء الباطنية التي لا يستمتع بها، كالقلب، والكبد، والطحال، فإنه إذا أضاف الطلاق إليها لا يقع ولو نوى بها جميع بدنها.
    هذا، وإذا قال لها: روحك طالق أو نفسك طالق، فإنها تطلق لأنهما يعبر بهما عن الكل، كما لا يخفى.
    الشافعية - قالوا: إذا قال لزوجته: طالق، ولم يقل أنت، فإنه لا يقع به الطلاق، ولو نوى تقدير أنت إلا إذا قال: - طالق - في جواب سؤال المرأة طلاقها، فإذا قالت له: هل تطلقني؟ فقال لها: طالق لزمه الطلاق حينئذ، ومثل ذلك ما إذا قال لها: حرام علي ولم يقل: أنت، فإنه لا يقع به الطلاق، ولو نوى تقدير أنت، وهذا بخلاف عليّ الطلاق، أو الطلاق يلزمني، أو عليّ الحرام أو الحرام يلازمني لا أفعل كذا، فإنه يقع به الطلاق، وإن لم يضفه إلى المرأة، فلا يشترط في إيقاعه عندهم أن: علي الطلاق من فلانة، أو منك، أو من امرأتي، بل لو قال: علي الطلاق وسكت فإنه يكون بمنزلة أنت طالق على الصحيح، وبعضهم يقول: إنه لا يقع به الطلاق إلا بالنية فهو من باب الكناية لا من باب الصريح، فلو قال لزوجته: أنا منك طالق وأضاف الطلاق إلى نفسه لا إليها ونوى به الطلاق فإنه يقع، وقد عرفت أن الرجل وإن كان ليس محلاً للطلاق ولكن لما كان مقيداً بالنسبة لزوجته من بعض الوجوه بحيث لا يجوز له أن يتزوج أختها أو يتزوج خامسة عليها إن كان متزوجاً لأربع، فإنه يصح أن ينسب إليه الطلاق، فيقال: إنه طالق من هذا القيد، فإذا نوى به الطلاق لزمه، وكذا إذا قال لها: أنا منك بائن، ونوى به الطلاق فإنه يلزمه الطلاق.
    وكما يقع الطلاق بإضافته إلى المرأة يقع بإضافته إلى جزئها المتصل بها، كيد، وشعر، وظفر، ودم، وسن، فخرج بقوله: جزئها إضافة الطلاق وإلى فضلتها كريقها، ومنيها، ولبنها، وعرقها، فإنه لا يقع به شيء، وبقوله: المتصل بهذا الجزء المنفصل، كما إذا قال لمقطوعة اليمين: يمينك طالق فإنه لا يقع به شيء.
    المالكية - قالوا: كل لفظ ينوي به الطلاق يقع به الطلاق، فلو قال: طالق بدون إضافة إلى المرأة أو إلى جزئها ونوى طلاقها واحدة أو أكثر لزمه ما نواه حتى لو قال لها: اسقيني ونوى طلاقها ثلاثاً لزمه الثلاث، على أنهم قالوا: إن الصريح يقع به الطلاق وإن لم ينو. وقد عرفت أن ألفاظ الصريح منحصرة في أربعة: منها أن يقول لها أنا طالق منك، فهو صريح يقع به الطلاق وإن لم ينو مع كونه أضاف الطلاق إلى نفسه لا إلى المرأة، خلافاً للحنفية والحنابلة فإنهم يقولون: إنه لا يقع به الطلاق ولو نواه، وخلافاً للشافعية الذين يقولون: إنه يقع به الطلاق إذا نواه.
    فإذا صرح بإضافة الطلاق إلى جزء المرأة، فإن كان الجزء متصلاً وكان من المحاسن التي يتلذذ بها الرجل، كالشعر، والريق - فإن الريق يتلذذ به - والعقل، والكلام، لأنهما من الأمور التي توجب إعجاب الرجل والتذاذه قطعاً، خصوصاً الكلام إذا كان رقيقاً فإن اللذة به محسة، فإنه يقع به الطلاق أما إذا كان الجزء منفصلاً ونوى الإضافة إليه، كما إذا قال لها: شعرك طالق، وأراد شعرها الذي حلقته فإنها لا تطلق، وإذا لم ينو المتصل ولا المنفصل تطلق، ولو أضاف الطلاق إلى جزء لا يتلذذ به: كالسعال، والمخاط ودمع العين فإنها لا تطلق.
    هذا، وقد صرح المالكية بأن الرجل الذي يقول هذا يكون آثماً فيحرم عليه أن يطلق بعض تطليقة، أو يطلق المرأة، وإذا فعل يؤدب عليه.
    الحنابلة - قالوا: الإضافة إلى المرأة لا تشترط في الطلاق الصريح، إنما يشترط أن لا يضيف الرجل الطلاق إليه، فلو قال: علي الطلاق، أو الطلاق يلزمني، أو يلزمني الطلاق، أو علي يمين بالطلاق ولم يذكر المرأة، أو لم ينم به الطلاق يلزمه، وإذا نوى به أكثر من واحدة لزمه ما نواه، فلو نوى بقوله: علي الطلاق أو أنت طالق طلاق امرأته ثلاثاً لزمه الثلاث، أما إذا قال: أنا طالق منك ونوى به الطلاق فإنه لا يقع به شيء، لأن الرجل قد أضاف الطلاق إلى نفسه، وهو غير محل للطلاق.
    وكما يقع الطلاق بإضافته إلى المرأة يقع بإضافته إلى جزء متصل بها، فلو قال لها، نصفك طالق أو جزء منك طالق طلقت، وكذا إذا قال لها: يدك طالق وكانت لها يد، أو قال لها: أصبعك طالق فإنها تطلق، أما إضافة الطلاق إلى الأجزاء البعيدة، كالشعر، والظفر، والسن فإنها لا تطلق بها، ومثلها الإضافة إلى الفضلات، كالريق، والمني، والبصاق، ونحو ذلك. وكذا الإضافة إلى الصفة كالبياض، والسواد، وإذا قال لها: روحك طالق لا تطلق لأن الروح لا يستمتع بها وليست جزءاً بل هي أمر معنوي، أما إذا قال: حياتك طالقة، فإنها تطلق لأنها لا بقاء لها إلا بالحياة) .
    (2) (الحنفية - قالوا: إذا قال لزوجته: أنت علي حرام أو محرمة، أو حرمتك علي أو حرمت نفسي عليك، فإنه ينظر فيه إلى العرف، فإن كان المتعارف بين الناس استعمال هذه الألفاظ في الطلاق البائن وقع بائناً أو في الطلاق الرجعي وقع رجعياً. ولا يلزم في وقوعه النية لأنه في هذه الحالة يكون من باب الصريح لا من باب الكناية، لأنه متى تعورف استعمال أنت محرمة في الطلاق كان مثل قوله: أنت طالق بلا فرق، أما إذا كان العرف لا يستعملها في الطلاق إلا بالنية كانت من باب الكناية لا يقع بها شيء إلا بالنية، ولكن العامي لا يفرق في استعمالها بين الطلاق البائن والطلاق الرجعي، وإنما يستعملها في تحريم وطء المرأة والاستمتاع بها، وهذا لا يكون إلا بالطلاق البائن، لأن الطلاق الرجعي لا يحرم الاستمتاع بالمرأة عند الحنفية فيتعين حمل طلاق العامي بهذه العبارات على البائن، أما الذي يعرف الفرق فيعمل بنيته، وهذا لا ينافي كونه ملحقاً بالصريح، لأنك قد عرفت أن الصريح نفسه ينقسم إلى رجعي، وبائن، فإذا نوى به عدداً فإنه يلزمه، فلو قال: أنت حرام ونوى به الثلاث لزمه الثلاث، بخلاف ما إذا نوى به طلقتين، فإنه لا يلزمه إلا واحدة كما تقدم في الكناية.
    وإذا عرفت أن المدار في إيقاع الطلاق بهذه العبارات على العرف تعلم أنه إذا كان العرف لا يستعمل هذه الألفاظ في الطلاق أصلاً، لا صريحاً، ولا كناية فإنه لا يقع بها شيء أصلاً، فالتقوى بإيقاع الطلاق بهذه الألفاظ تتبع العرف.
    هذا إذا أضافها إلى المرأة كما هو واضح في الأمثلة المذكورة، أما إذا لم يضفها إلى المرأة كأن قال: علي الحرام ولم يقل: منك، أو قال: الحرام يلزمني، أو كل حل عليّ حرام، أو قال: علي الطلاق. أو الطلاق يلزمني، فقد عرفت انه لا يقع به شيء، لأنهم قد اشترطوا إضافة الطلاق إلى المرأة بذكر ما يدل عليها من اسم، أو ضمير، أو إشارة، والعرف لا يغير الشرط. فلو قال: علي الحرام من امرأتي، أو من زينب، أو منك أو من هذه، فإن كان العرف يستعمله في الطلاق الصريح وقع بدون نية، وإن كان يستعمله في الطلاق كناية وقع الطلاق بالنية، وإذا لم يستعمله في الطلاق أصلاً لم يقع به شيء.
    هذا، وإذا قال: علي الطلاق منك لا أفعل كذا ونوى به الثلاث فإنها تلزمه، لأن الطلاق المذكور بلفظ الجنس الذي يصدق بالواحد والكثير، فإذا نوى به اثنتين فإنه لا يصح. المالكية - قالوا: لو قال لها: أنت علي حرام، أو أنت حرام، وإن لم يقل: علي. أو أنا منك حرام كان ذلك من الكنايات الظاهرة التي يلزم بها الطلاق بدون نية، ثم إن كانت الزوجة مدخولاً بها لزمه الطلاق الثلاث بصرف النظر عن كونه نوى واحدة، أو أكثر، وإن كانت غير مدخول بها ولم ينو عدداً لزمه الثلاث أيضاً، وإن نوى عدداً لزمه ما نواه، سواء كان واحدة، أو أكثر، أما إذا قال: الحلال علي حرام، أو حرام علي ما أحل لي، أو ما أرجع إليه حرام، فإنه إذا نوى إخراج زوجته واستثناءها من المحرم عليه، فإنه يصح، ولا تحرم، وإلا حرمت، لأن قوله: الحلال علي حرام يشمل جميع ما أحله الله له وهو لا يملك إلا تحريم زوجته، فإذا نواه حرمت وإلا فلا، وإذا قال لها: الحرام حلال، ولم يقل علي، أو قال: حرام علي، أو علي حرام، ولم يقل: أنت، أو قال: يا حرام، فإنه إذا نوى إخراج امرأته من الحرام فلا يلزمه شيء، وإن نوى إدخالها كان كناية صريحة يلزم به الثلاث في المدخول بها وغيرها إن ينو في غير المدخول بها عدداً، وإذا حرم جزءاً منها كأن قال: وجهك علي حرام فإنه يلزمه الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نيته، ويلزمه الثلاث في غير المدخول بها إن لم ينو عدداً، فإن نوى عدداً لزمه ما نواه، فإذا قال لها: وجهك على وجهي حرام - بتخفيف اللام - ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزم به شيء إلا بالنية.
    وثانيهما: أنه مثل قوله: وجهك علي حرام، وهو الراجح، أما إذا قال لها: ما أعيش فيه حرام، فإن فيه خلافاً، فبعضهم قال: إنه مثل وجهك علي حرام، وبعضهم قال: إنه لا يلزمه به شيء إلا بالنية، وهو الظاهر، لأن الزوجة ليست من العيش فلم تدخل إلا بالنية.
    هذا، وقد عرفت أن المالكية يعولون على العرف في الكناية الظاهرة، فيقولون: إن كل لفظ لا يصطلح الناس على استعماله في الطلاق ولا يتعارفون بينهم عليه لا يقع به شيء إلا بالنية. لأنه يكون كناية خفيفة لا ظاهرة.
    الحنابلة - قالوا: إذا قال: علي الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فقال بعضهم: إنه كناية فيكون طلاقاً بالنية، وقال بعضهم: إذا نوى تحريم المرأة يكون ظهاراً، والصحيح أن العرف معتبر في ذلك، فإن كان يستعمله في الطلاق كان كناية، وإن كان يستعمله في الظهار كان ظهاراً، وإذا قال لها: أنت علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام، أو الحل علي حرام، أو حرمتك، فإن ذلك يكون ظهاراً حتى ولو نوى به الطلاق لا يلزمه، ومثل ذلك ما إذا قال: فراشي علي حرام، ونوى به امرأته فإنه يكون ظهاراً، وإذا قال لها أنا منك حرام، فإنه لا يقع به شيء.
    الشافعية - قالوا: إذا قال لها: أنت علي حرام، أو أنت على الحرام، أو حرمتك، فإن هذه الألفاظ تصلح لأن تكون كناية عن الطلاق وعن الظهار، فإذا نوى بها الطلاق وقع، سواء نوى واحدة، أو أكثر، وكذا إذا نوى بها الظهار، فإنه يصح ويلزمه كفارة الظهار الآتي بيانها، وإذا نوى بها الطلاق، والظهار جميعاً، فإن كان المنوي أولاً الظهار عومل بهما جميعاً فيكون عليه كفارة ظهار ويلزمه الطلاق الذي نواه، أما إذا كان المنوي أولً الطلاق فإن كان بائناً، ثم نوى الظهار فهو ملغى لا كفارة له، لأنها بانت منه أولاً، فأصبحت غير محل للظهار، وإن كان رجعياً، ثم نوى الظهار وقف العمل بالظهار فإذا راجعها عاد الظهار ولزمته كفارته، وإلا فلا، وهذا هو المعتمد.
    أما إذا نوى بها تحريم عين المرأة أو تحريم فرجها، أو بدنها، أو جزء من أجزائها، فإنه لا يلزم بذلك طلاق، لأن هذه الأشياء أعيان، والأعيان لا توصف بالتحريم، وكذا إذا لم ينو بها شيئاً من طلاق أو ظهار، فإنه لا يلزمه شيء، فإذا قال لامرأته: حرمتك، وهو ينوي تحريم جسمها، أو فرجها، ثم وطئها كان عليه كفارة يمين، وإنما تلزم كفارة اليمين إذا لم يقم بالزوجة مانع وقت قوله لها: حرمتك، كأن كانت في حالة إحرام بالنسك، وقد اختلف في الحائض والنفساء، فقيل: إذا كانت حائضاً، أو نفساء، وقال لها: حرمتك فلا كفارة عليه، وقيل بل عليه كفارة. فإذا حرم عيناً غير زوجته، كأن قال: شرابي علي حرام أو لباسي، كان لغواً من القول لا شيء فيه لأنه غير قادر على تحريم ما أحل الله له.
    وإذا قال: علي الحرام، أو حلال الله علي حرام، أو الحرام يلزمني، أو علي الحلال، فإنها كناية يلزم بها ما نواه، وإن اشتهر استعمالها في الطلاق، وذلك لأنها لم توضع للطلاق بخصوصه، ومثلها الألفاظ المتقدمة وهي أنت حرام وما بعدها، فإنها وإن اشتهر استعمالها في الطلاق إلا أنها لم توضع له بخصوصه، فلذا لم تكن طلاقاً صريحاً على المعتمد، ونظر فيها إلى النية) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب النكاح]
    صـــــ 302 الى صــــــــ
    315
    الحلقة (205)



    مبحث تعدد الطلاق
    -يملك الرجل الحر ثلاث طلقات ولو كان زوجاً لأمة (1) ، ويملك العبد طلقتين ولو كان زوجاً لحرة، فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة، وهو رأي الجمهور.
    وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين، كطاوس، وعكرمة وابن اسحاق، وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنهم، فقالوا: إنه يقع به واحدة لا ثلاث، ودليل ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكري، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وهذا الحديث صريح في أن المسألة ليست اجماعية، وهو كذلك فإنه رأي ابن عباس وطاوس وعكرمة، وبعض المجتهدين. ومن القواعد الأصولية المقررة أن تقليد المجتهد ليس واجباً، فلا يجب الأخذ برأي مجتهد بعينه، وحينئذ يجوز تقليد أي مجتهد من مجتهدي الأمة الإسلامية في قول ثبتت نسبته إليه، ومتى ثبت أن ابن عباس قال ذلك فإنه يصح تقليده في هذا الرأي كتقليد غيره من الأئمة المجتهدين على أننا إذا قطعنا النظر عن التقليد ونظرنا إلى الدليل في ذاته فإننا نجده قوياً، لأن الأئمة سلموا جميعاً بأن الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك، ولم يطعن أحد منهم في حديث مسلم، وكل ما احتجوا به أن عمل عمر وموافقة الأكثرين له مبني على ما علموه من أن الحكم كان مؤقتاً إلى هذا الوقت فنسخه عمر بحديث لم يذكره لنا، والدليل على ذلك الإجماع، لأن إجماع الصحابة يومئذ على الرضا بما عمله دليل على أنه أقنعهم بأن لديه مستنداً وليس من الضروري أن نعرف سند الإجماع، كما هو مقرر في الأصول، ولكن الواقع أنه لم يوجد إجماع، فقد خالفهم كثير من المسلمين، ومما لا شك فيه أن ابن عباس من المجتهدين الذين عليهم المعول في الدين، فتقليده جائز، كما ذكرنا، ولا يجب تقليد عمر فيما رآه، لأنه مجتهد وموافقة الأكثرين له لا تحتم تقليده، على أنه يجوز أن يكون قد فعل ذلك لتحذير الناس من ايقاع الطلاق على وجه مغاير للسنة فإن السنة أن تطلق المرأة في أوقات مختلفة على الوجه الذي تقدم بيانه، فمن تجرأ على تطليقها دفعة واحدة فقد خالف السنة، وجزاء هذا أن يعامل بقوله زجراً له.
    وبالجملة فإن الذين قالوا: إن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع به واحدة لا ثلاث لهم وجه سديد وهو أن ذلك واقع في عهد الرسول، وعهد خليفته الأعظم أبي بكر. وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنه واجتهاد عمر بعد ذلك خالفه فيه غيره، فيصح تقليد المخالف، كما يصح تقليد عمر، والله تعالى لم يكلفنا البحث عن اليقين في الأعمال الفرعية لأنه يكاد يكون مستحيلاً.
    أما إذا قيد الطلاق بعدد دون الثلاث. فلا يخلو إما أن يصرح بذلك العدد أو ينويه، وعلى كل إما أن يكون الطلاق صريحاً أو كناية، وفي ذلك كله تفصيل المذاهب (2) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: العبرة في عدد الطلاق للنساء فلو تزوج الحر أمة يملك عليها طلقتين فقط لأن الأمة تنقص عن الحرة بواحدة، ولو تزوج العبد حرة، فإنه يملك ثلاث طلقات لأن الحرة لها ثلاث طلقات، فالرجل وإن كان يملك ولكن عدده يختلف بالنسبة للحرة والأمة فللحرة ثلاث ولو كان زوجها رقيقاً، وللأمة ثنتان ولو كان زوجها حراً) .
    (2) (الحنفية - قالوا: إذا قيد الطلاق الصريح بعدد صريح فإنه يعامل بذلك العدد، فإذا قال لها: أنت طالق اثنتين لزمه طلقتان بذكر العدد، فلو قال: أنت طالق وسكت، ثم قال: ثلاثاً أو اثنتين، فإن كان سكوته لضيق النفس لزمه العدد، وإن سكت باختياره فإنه لا يلزمه إلا واحدة، ومثل ذلك ما إذا كرر اللفظ بدون ذكر العدد، كما إذا قال لها: أنت طالق طالق فإنه يلزمه بذلك طلاقان متى كانت المرأة مدخولاً بها، أما إذا كانت غير مدخول بها فإنها تقع بها واحدة، لأنها تبين بها، فإذا قال: إنه نوى بالثاني الإخبار عن الأول ولم ينو طلاقاً ثانياً فإنه يصدق ديانة، بمعنى أنه لا يقع طلاق بينه وبين الله، ولكن القاضي لا يصدقه بل يحكم عليه بالطلقتين. ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أو قال لها: قد طلقتك، قد طلقتك. أو قال لها: أنت طالق وقد طلقتك.
    ومن هذا يتضح أنه إذا قال لها: أنت طالق طالق طالق، أو قال لها: أنت طالق وطالق وطالق يلزمه ثلاث طلقات قضاء، سواء نوى بذلك طلقة واحدة، أو نوى ثلاثاً ولكن إذا نوى بالطلقة الأولى الطلاق وبالثانية والثالثة إفهامها أنه طلقها فإن بينه وبين الله لا تقع إلا واحدة. والحاصل أنه إذا كرر الطلاق، سواء كرره بالواو، أو بدون واو يتعدد الطلاق قضاء، ولا يسمع منه دعوى أنه نوى بالثاني الأول، ولكن إذا نوى بالثاني الأول فإنه يصح ديانة ولا تقع عليه إلا واحدة بينه وبين الله. فإذا قال لها: طلقتك فأنت طالق، وقال:
    إنه نوى بالثاني تفسير الأول يصدق قضاء وديانة، وذلك لأن الفاء موضوعة لذلك، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق واعتدي، فإنه إذا نوى بقوله: اعتدي أمرها بالعدة لزمته واحدة، وإن نوى بها طلقة ثانية لزمته طلقتان رجعيتان، لأن لفظ اعتدي من ألفاظ الكناية التي يقع بها طلاق رجعي، وإن نوى أكثر منها. أو نوى الطلاق البائن، فإن لم ينو شيئاً لزمه طلقتان، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق فاعتدي، فإن لم ينو شيئاً لزمته طلقة واحدة وحملت الثانية على أمرها بالعدة، وإذا جزأ عدد الطلقة بأن قال لها: أنت طالق نصف طلقة. أو ثلثها،أو ربعها أو ثمنها، أو جزءاً من ألف جزء، أو من مائة ألف جزء، وهكذا فإنه يقع به طلقة كاملة فإذا جزأ الطلقة كما إذا قال: أنت طالق نصف ربع سدس طلقة، فإن كان بدون حرف الواو لزمته به طلقة واحدة بشرط أن لا يزيد عدد الأجزاء على واحدة، فإن زاد ولو جزءاً يسيراً حسب الزائد طلقة ثانية.
    وإذا أضاف الطلاق إلى ضمير الطلقة وعدد الأجزاء كان الحكم كذلك، مثلاً إذا قال لها: أنت طالق نصف تطليقة وثلثها لزمه طلقة واحدة، لأن مجموع الأجزاء أقل من واحدة، أما إذا قال لها: أنت طالق نصف تطليقة وثلثها وربعها فإنه يلزمه طلقتان، وذلك لأن هذه الأجزاء تزيد نصف سدس عن الواحد، فتقع به طلقة: وقيل: لا يحسب.
    هذا إذا أضاف الطلاق إلى الضمير، كما عرفت، أما إذا أضافه إلى الطلقة بأن قال: أنت طالق نصف طلقة، وثلث طلقة، وربع طلقة، فإنه يقع بكل كلمة من هذه الكلمات طلقة، وعلى هذا تطلق منه ثلاثاً، بشرط أن يذكر واو العطف وأن تكون الزوجة مدخولاً بها، فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة بدون ذكر واو العطف وقعت به طلقة واحدة ما لم تزد الأجزاء على واحدة، فإنه يحسب كمل تقدم في صدر العبارة.
    والحاصل أن في هذه المسألة أربع صور: الصورة الأولى أن يكون المطلق فقهياً متفلسفاً أو يكون هازلاً، أو يكون حسابياً، فيقول لامرأته: أنت طالق نصف طلقة، أو يذكر لها جزءاً يسيراً كأن يقول لها: أنت طالق جزءاً من مائة ألف من الطلقة، وفي هذه الصورة تطلق منه واحدة.
    الصورة الثانية: أن يعدد لها الأجزاء بدون حرف العطف، كأن يقول لها: أنت طالق ثلث طلقة، ربع طلقة، خمس طلقة، وفي هذه الحالة تحسب الأجزاء التي ذكرها، فإن كانت تساوي طلقة أو أقل حسبت طلقة وإن زادت عن طلقة ولو جزءاً يسيراً حسب الزائد طلقة ثانية، وهكذا.
    الصورة الثالثة: أن يعدد الأجزاء مضافة إلى الضمير مع ذكر واو العطف أو عدمه، كأن يقول: أنت طالق تطليقة، وثلثها، وخمسها، وربعها، وفي هذه الصورة خلاف، فبعضهم يقول: إذا زادت الأجزاء حسب الزائد واحدة، وبعضهم يقول: لا يحسب، لأن اتحاد المرجع يجعله ناطقاً بالجزء الأول فقط، فلا يحسب عليه غيره.
    الصورة الرابعة: أن يعدد الأجزاء مضافة إلى الطلقة مع ذكر حرف العطف، بأن يقول لها أنت طالق نصف طلقة، وسدس طلقة، وربع طلقة، وفي هذه الحالة يقع عليه الثلاث، وذلك أن أضاف جزء العدد، وهو النصف، أو السدس، إلى طلاق منكر، فيكون غير الأول، لأن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، فكل جزء نطق به مضافاً إلى الطلاق يحسب عيه طلاقاً، وهذا بخلاف ما إذا أضافه إلى الضمير، لأن الضمير يكون عائداً إلى الجزء الأول بعينه، فلا يحسب إلا الأول، وهذا كله إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، فإن لم تكن مدخولاً بها فلا يقع عليه إلا واحدة، كما عرفت.
    وإذا فرض وغلبت فلسفة الحساب على شخص وقال لامرأته: أنت طالق ثلاث أنصاف طلقتين
    ففي ذلك خلاف، فبعضهم يقول: إنها تطلق ثلاثاً، وذلك لأن نصف التطليقتين واحدة، فثلاثة الأنصاف ثلاث تطليقات، لأن كل نصف على حدته طلقة، وبعضهم يقول أنها تطلق ثنتين فقط، وذلك لأننا إذا قسمنا التطليقتين إلى أنصاف كانت كل تطليقة نصفين، فتكون التطليقتان أربعة أنصاف، فثلاثة أنصافها طلقة ونصف فيقع عليه طلقتان، لأن النصف يحسب طلقة، ولكن الظاهر هو الأول، وذلك لأننا إذا قلنا: ثلاثة أنصاف طلقتين كان معناه ثلاثة أنصاف مجموع الطلقتين ونصف مجموع الطلقتين كاملة، فثلاثة أنصاف ثلاث طلقات، نعم إذا قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف كل تطليقتين، كان معناه أننا ننصف كل طلقة على حدة فتكون الطلقة نصفين وثلاثة الأنصاف طلقة ونصف، فيقع به طلقتان.
    وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة لزمه طلقتان، وذلك لأن الطلقة الواحدة تشتمل على نصفين فتحسب واحدة، والنصف الثالث يقع به واحدة كاملة، لما عرفت من أن جزء الطلقة طلقة كاملة ولو كان يسيراً وكذا إذا قال لها: أنت طالق أربعة أثلاث طلقة، أو خمسة أرباع طلقة فإنه يلزمه طلقتين، وذلك لأن الطلقة الكاملة ثلاثة أثلاث فزاد عليها ثلثاً وربعاً تلزمه به طلقة كاملة، ومثله خمسة أرباع كما هو ظاهر. وإذا قال لها: أنت طالق نصفي طلقتين فإنه يلزمه طلقتان، وذلك أن كل نصف يعتبر طلقة كاملة.
    وإذا فرض وقال شخص حسابي لزوجته: أنت طالق من واحدة إلى اثنتين، أو أنت طالق ما بين واحدة إلى ثنتين، أو قال: من واحدة إلى ثلاث، فإنه يقع به المثال الأول واحدة، وفي المثال الثاني ثنتان عند الأمام، ويقع في الأول ثنتان، وفي الثاني ثلاث عند الصاحبين، ولا يقع في الأول شيء، ويقع في الثاني واحدة عند زفر، وذلك لأن الإمام يقول: إن الطلاق من الأمور المحظورة لأنه لا يباح إلا عند الحاجة، والشيء المحظور إذا كان له مبدأ ونهاية وإن شئت قلت: وكان له غايتان دخلت الغاية الأولى دون الغاية الثانية، فإذا قال لها، أنت طالق من واحدة إلى ثنتين دخلت الغاية الأولى، وهي الواحدة، ولم تدخل الغاية الثانية التي بعد - إلى - وهي ثنتان، وإذا قال لها: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لم تدخل الغاية الثانية، وهي الثلاث، ودخل ما دونها وهي الواحدة والثانية فيلزمه طلقتان، أما إذا كان المعدود مباحاً، كما إذا قال له: خذ من مالي من جنيه إلى جنيهين، فإن اللفظ يتناول الغايتين، فله أن يأخذ الثلاثة المذكورة في الغاية الأولى والغاية الثانية.
    والحاصل أن الإمام يقول: إنه إذا قال لزوجته: أنت طالق من واحد إلى ثلاث دخلت الثنتان في كلامه بلا خلاف، لأنها وسط بين الواحدة والثلاث، فهي التي يدل عليها اللفظ والمقصودة منه، أما الواحدة والثلاث، وهما الغاية الأولى والغاية الثانية فإن اللفظ لا يتناولهما في المحظور، لأن الحظر كالقرينة على عدم إرادة ما هو خارج عن مدلول الكلام، وكان من مقتضى هذا أن لا تدخل الغاية الأولى، وهي الواحدة، كما لا تدخل الغاية الأخيرة، وهي الثلاث، ولكن لما كانت الطلقة الثانية المقصودة من الكلام لا يمكن تحقيقها إلا بالطلقة الأولى، إذ لا يمكن أن توصف الطلقة بالثانية إلا بعد
    وصفها بالأولى، دخلت الغاية الأولى للضرورة كي تترتب عليها الثانية، أما الثالثة فلا حاجة إليها، فإن الثانية تتحقق بدونها.
    هذا إذا كان بين الغايتين وسط، كما ذكرنا، أما إذا لم يكن بينهما وسط، كقوله: أنت طالق من واحدة إلى ثنتين، فإنه يقع واحدة بلفظ طالق، ويلغو من واحدة إلى ثنتين. إذا لا ضرورة لإدخال الغاية الأخيرة، أما الغاية الأولى فإنها تدخل لأنها لا تزيد على معنى طالق شيئاً أما زفر فإنه يقول: إذا قال شخص لآخر: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل الغايتان باتفاق، إذ الحد لا يدخل في المحدود، وعلى قياس هذا إذا قال لها: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث خرج الحد الأول، وهو الواحدة، والحد الثاني، وهو الثلاث، ووقع ما بينهما، وهو الثنتان وإذا قال لها: أنت طالق من واحدة إلى ثنتين لم يقع به شيء، إذ لا وسط بين الواحدة والثنتين، والغايتان خارجتان من الكلام، وهذا هو القياس، ولكن الإمام نظر إلى العرف فوجد أنه يستعمل ما له حدان ووسط في إرادة الأقل من الأكثر، والأكثر من الأقل. مثلاً إذا قال شخص: معري من أربعين إلى خمسين، كان غرضه أنه أكثر من أربعين وأقل من خمسين فإذا قال شخص لزوجته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث كان معنى قوله أنها طالق أكثر من واحدة وأقل من ثلاث، وهما الثنتان، فعمل بالعرف استحساناً.
    وإذا قال لها: أنت طالق واحدة في ثنتين، فإن ذلك اللفظ يحتمل ثلاثة معان:
    أحدها: معنى الواو، فكأنه قال لها: أنت طالق واحدة وثنتين، فإذا نوى هذا المعنى لزمه ثلاث طلقات إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، والمراد بالمدخول بها هنا الموطوءة أو المخلو بها، لأن الخلوة كافية في لحوق الطلاق الثاني، أما إذا كانت غير موطوءة وغير مخلو بها، فإنه يقع عليها واحدة فقط، وذلك لأنها تبين بقوله: واحدة، فقوله بعد ذلك: وثنتين لا تصادف محلاً، فلا يقع بها شيء.
    ثانيها: معنى - مع - فكأنه قال لها: أنت طالق واحدة مع ثنتين، فإذا نوى هذا المعنى لزمه ثلاث طلقات مطلقاً، سواء كانت مزوجة مدخولاً بها. أو لا، وذلك لأنه أوقع الثلاث دفعة واحدة، فحلت عصمة الزوجية في المدخول بها وغيرها بدون فرق، فلم تبن غير المدخول بها بواحدة وتصبح غير محل للحوق ما بعدها.
    ثالثها: معنى الضرب. وتحته صورتان: الصورة الأولى أن يتكلم بعرف أهل الحساب كما هو المفروض، وفي هذه الحالة يلزمه ثنتان، وذلك لأن عرف أهل الحساب تضعيف أحد العددين بعدد آخر، فقوله: واحدة في ثنيتن معناه تضعيف الواحدة بجعلها ثنتين، فيلزمه الثنتان، وهذا هو التحقيق، لأن هذا اللفظ في عرف علماء الحساب صريح في هذا المعنى، فمتى أراد بكلامه عرفهم لزمه معناه، فلا يقال: إن لفظ - في - معناه الظرفية الحقيقية، والثنتان لا تصلح ظرفاً، فالعبارة في ذاتها لا تصلح لإرادة التطليقتين منها حتى ولو نواهما، كما إذا قال: اسقني، ونوى به الطلاق، فإنه لا يلزمه به شيء، وذلك لأنك قد عرفت أن لفظ واحدة في ثنتين في عرف أهل الحساب مستعمل في تضعيف العدد صريحاً. الصورة الثانية: أن لا يتكلم بعرف أهل الحساب، بل ينوي تكثير أجزاء الطلقة الواحدة كما هو المتبادر من اللفظ، وحين إذ يلزمه طلقة واحدة، لأن تكثير أجزاء الطلقة الواحدة لا يخرجها عن كونها واحدة، ومثل ذلك ما إذا لم ينو شيئاً فإنه يلزمه طلقة واحدة بقوله، أنت طالق لأنه يقع به واحدة وإن لم ينو.
    أما إذا قال لها: أنت طالق ثنتين في ثنتين فإنه إذا نوى به معنى الواو، فكأنه قال: ثنتين وثنتين، وفي هذه الحالة يلزمه ثلاث في المدخول بها وثنتان في غيرها، وإذا نوى معنى - مع - لزمه الثلاث في المدخول بها وغيرها، وإذا نوى الضرب على عرف أهل الحساب لزمه الثلاث وإلا لزمه ثنتان.
    هذا كله إذا قيد الطلاق الصريح بعدد صريح، أما إذا قيده بإشارة تدل على العدد، فإن هذه المسألة على ثلاثة أوجه:
    الوجه الأول: أن يذكر ما يدل على الإشارة لفظاً ويشير إلى العدد بأصابعه، وتحت هذا صورتان الصورة الأولى أن ينطق بلفظ - هكذا - فيقول: أنت طالق هكذا ويشير بأصابعه الثلاث، وفي هذه الحالة يقع العدد الذي أشار إليه بقوله: هكذا من أصابعه، فإن أشار إلى أصبع واحد وقعت واحدة، وإن أشار إلى أصبعين وقع ثنتان وإن أشار إلى ثلاثة وقع ثلاث فإن فتح ثلاثة أصابع من أصابع يده وضم ثنتين، وقال: إنه أشار إشارة إلى المضمومتين، فإنه لا يصدق قضاء، بل يقع عليه الثلاث، لأن الظاهر يقتضي أنه أشار إلى أصابعه المنشورة لا المضمومة، ولكنه يصدق ديانة فيقع عليه ثنتان بينه وبين الله تعالى، ومثل ذلك ما إذا قال:
    إنه نوى الإشارة إلى كفه، فإنه لا يصدق قضاء وتقع عليه واحدة رجعية إن كان صادقاً بينه وبين الله تعالى، نعم إذا نشر أصابعه الخمسة كلها، وقال: أنه أراد الكف، فإنه يصدق قضاء لأن الطلاق ثلاث فقط، فنشر الخمسة قرينة على أنه لم يرد العدد، فيصدق قضاء بأنه أراد التشبيه بالكف فتلزمه واحدة رجعية، ومثل ذلك ما إذا ضم أصابعه فإنه يصدق قضاء في قوله: انه أراد التشبيه بالكف فقط.
    الصورة الثانية: أن ينطق - مثل - فيقول: أنت طالق مثل هذا، ويشير إلى أصابعه الثلاث المنشورة، وفي هذه الحالة ينظر إلى نيته، فإن نوى تشبيه الطلاق بعدد الأصابع الثلاث لزمه ثلاث أما إذا نوى المثلية في الشدة، أو لم ينو شيئاً فإنه يلزمه طلقة واحدة بائنة، لأنه وصفها بالشدة والفرق بين قوله: أنت طالق هكذا، وأنت طالق مثل هذا أن الكاف للتشبيه في الذات. ومثل للتشبيه بالوصف، فقوله: هكذا معناه مثل الأصابع الثلاث في العدد، أما قوله، مثل هذا فمعناه مثل هذا في شدته، فإذا نوى به الثلاث لزمته.
    الوجه الثاني: أن يقول، أنت طالق ويشير بأصابعه الثلاث، ولكن لم يقل، هكذا. أو مثل هذا، ويقع بهذا طلقة واحدة ولو نوى الثلاث، وذلك لأن الطلاق لا يتحقق بدون لفظ، فكذلك عدده لا يتحقق بدون لفظ يدل عليه.
    الوجه الثالث: أن يقول: أنت هكذا، مشيراً بأصابعه، ولكنه لم يقل: طالق، وقد اختلف في هذا، فبعضهم قال: إنه لغو لا يقع به شيء ولو نوى به الثلاث، وحجة هذا القائل أن الطلاق لا يتحقق عند الحنفية إلا باللفظ الذي يشعر به، ولو نوى به الطلاق، والإشارة بالأصابع الثلاث ليس فيها أي إشعار بالطلاق لا صريحاً ولا كناية، فلا يلزمه بذلك شيء ولو نواه، كما لا يلزمه بقوله: كلي، واشربي. ونحو ذلك إذا نوى به الطلاق.
    وعندي أن هذا التعليل وجيه، وقد عرفت في الوجه الثاني أن الطلاق لا يتحقق بدون لفظ يدل عليه أو يشعر به، فإن لم يوحد لفظ كذلك فإن النية لا يعول عليها.
    وبعضهم قال: إنه يقع به ما نواه، فإذا نوى الثلاث لزمته، وعلل ذلك بأن الإشارة بالأصابع الثلاث قائمة مقام عدد الطلاق المقدر، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً، ولا يخفى ما في هذا من تعسف وخروج عن القاعدة الأولى، وهو أن الطلاق لا يتحقق إلا باللفظ الذي يدل عليه، أما كونه يقدر لفظاً نواه، فإنه يصح أن يدعي ذلك في كل لفظ، فالقواعد تؤيد الرأي الأول.
    هذا، وقد عرفت أن النية لا تعمل في الصريح، فإذا قال لها: أنت طالق ونوى به ثنتين أو ثلاثاً فإنه لا يقع به إلا واحدة، وقد عرفت أيضاً أنه إذا نوى بالطلاق معنى الطلاق من القيد ونحوه، فإنه لا يعتبر قضاء وينفع ديانة.
    هذا إذا ذكر لفظ طالق، أما إذا ذكر المصدر كأن قال لها: أنت الطلاق، أو أنت طلاق فإنه يقع به واحدة رجعية كذلك إن لم ينو، أو نوى واحدة، وكذا إذا نوى اثنتين فإنه يقع واحدة بخلاف ما إذا نوى به الثلاث فإنه يقع عليه ما نواه، وذلك لأن قوله: أنت طلاق، أو أنت الطلاق مصدر موضوع للوحدة. أو للجنس الصادق بالكثير والقليل، فلا يصح تقييده بالاثنينية، لأن الاثنين عدد محض ينافي الوحدة، فصح إرادة الثلاث منه دون الاثنين. أما الكنايات فقد عرفت أقسامها وأحكامها فيما مضى، ومنها أن جميع ألفاظ الكنايات يقع بها الطلاق بائناً، ما عدا ألفاظ ذكرت هناك، فإن الطلاق يقع بها رجعياً، ثم إن بعضها لا يقع بها إلا بالنية، فإن ذكر لفظاً منها ولم ينويه طلاقاً وقرنه بعدد اثنين أو ثلاثة فإنه يكون مهدراً وإن نوى به طلاقاً ووصفه بعد صريح لفظاً فإنه يلزمه ما نواه وما نطق به كما إذا قال لها: أنت بائن ثنتين أو ثلاثاً ونوى ببائن الطلاق فإنه يلزمه ما نطق به، أما إذا نوى بلفظ بائن الطلاق ونوى به أكثر من واحدة، فإن نوى ثنتين فإنه لا يلزمه إلا واحدة، وإن نوى ثلاثاً تلزمه الثلاث. وقد تقدم تعليل ذلك في القسم الثالث من الكنايات فارجع إليه.

    يتبع.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب النكاح]
    صـــــ 302 الى صــــــــ
    315
    الحلقة (206)


    المالكية قالوا: إذا قيد الطلاق الصريح بعدد صريح كقوله: أنت طالق ثنتين أو ثلاثاً لزمه العدد الذي صرح به طبعاً، وكذا إذا نواه بأن قال: أنت طالق ونوى به ثلاثاً أو ثنتين فإنه يلزمه ما رواه، أما إذا لم ينو فإنه واحد، كما تقدم في الصريح، فإن كرر الطلاق لفظاً فإنه يحتمل حالتين: الحالة الأولى أن يكرره بدون عطف. الحالة الثانية: أن يكرره بحرف العطف فأما الحالة الأولى ففيها ثلاث صور:
    الصورة الأولى: أن يقول لها: أنت طالق، طالق، طالق، بدون عطف وبدون تعليق، وحكم هذه الصورة أنه يقع بها واحدة إذا نوى بالثانية والثالثة التأكيد، سواء كانت الزوجة مدخولاً بها أو لا. ويصدق في قوله بيمين في القضاء وبغير يمين في الفتوى، ثم إن كانت الزوجة مدخولاً بها فإنه يصدق، ولو فصل فاصل بين قوله: طالق الأولى، وطالق الثانية أو الثالثة، ولو طال الفصل، أما في غير المدخول بها فإنه يلزمه الثاني إلا إذا ذكر ألفاظ الطلاق متتابعة بدون فاصل، ولا يضر الفصل بنحو السعال، وهذا هو المذهب عند بعضهم، وبعضهم يشترط أن يذكر ألفاظ الطلاق منسقة، أي متتابعة بدون فصل في المدخول بها وغيرها، فإذا قال: أنت طالق ثم سكت مدة، وقال: أنت طالق، ثم قال: أنه نوى بالثانية التأكيد فإنه لا يصدق، وفي هذه الحالة إن كانت مدخولاً بها وقع عليه ثنتان أو ثلاث إن ذكر ثلاثة ألفاظ، وإن كانت غير مدخول بها لزمته واحدة بائنة لأن الثانية لا تلحق.
    الصورة الثانية: أن لا ينوي التأكيد، سواء نوى بكل واحدة طلقة على حدة. أو لم ينو شيئاً وفي هذه الحالة يلزمه الثلاث في المدخول بها، سواء ذكر الألفاظ الثلاثة متتابعة، أو فصل بينها بفاصل، أما إذا كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه الثلاث إن ذكرها متتابعة، وإذا فصل بينها فلا يلزمه إلا واحدة، لما عرفت من أنها تبين بها فلا يلحقها ما بعدها.
    الصورة الثالثة: أن يعلق الطلاق المكرر بدون عطف على شيء، وتحت هذه الصورة أمران:
    الأمر الأول: أن يعلقه على شيء متحد، كأن يقول: أنت طالق، طالق، طالق، إن كلمت زيداً بكلمة، وحكم هذا إن نوى التأكيد لزمته طلقة واحدة، وإن لم ينو التأكيد بأن نوى الثلاث أو لم ينو شيئاً لزمته الثلاث.
    الأمر الثاني: أن يعلقه على شيء متعدد، كأن يقول: أنت طالق إن كلمت زيداً. أنت طالق إن دخلت الدار. أنت طالق إن سافرت مع أبيك، وحكم هذا أنه يلزمه الثلاث ولا ينفعه نية التأكيد لتعدد المحلوف عليه.
    أما الحالة الثانية، وهي ما إذا كرره بحرف العطف، سواء كان بالواو، أو الفاء، أو ثم، كأن قال لها: أنت طالق، طالق، طالق، أو ثم طالق وطالق الخ، فإن كانت مدخولاً بها فإنه يلزمه الثلاث، ولا يصدق في قوله: أنه نوى التأكيد، سواء ذكر الألفاظ متتابعة منسقة أو لا وسواء لم يكرر لفظ أنت، كما مثلنا، أو كرره، بأن قال: أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق أما إذا كانت غير مدخول بها يلزمه الثلاث إن ذكر الألفاظ متتابعة بدون فاصل وإلا لزمته واحدة.
    هذا، وإذا جزأ عدد الطلاق، كما إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقة، أو جزء طلقة لزمه طلاق كامل، ولو قال لها: أنت طالق نصف طلقتين لزمته طلقة واحدة، لأن نصف الطلقتين طلقة كاملة، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق نصفي طلقة، فإنه يقع به واحدة، لأن للنصفين طلقة كاملة فإذا زادت الأجزاء عن طلقة لزمه طلقتان أو أكثر بحسب زيادة الأجزاء، فإذا قال لها: أنت طالق نصف وثلثا طلقة لزمه طلقتان لأن النصف والثلثين أكثر من الواحدة، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة لأن ثلاثة أنصاف طلقة تشتمل على طلقة، ونصف فيقع بها ثنتان لأن الجزء يقع به واحدة كاملة، وكذا إذا قال لها: أنت طالق أربعة أثلاث طلقة، لأن أربعة أثلاث تشتمل على واحدة وثلث، وهكذا.
    فإذا ذكر أجزاء أقل من واحدة بحرف العطف وأضافها إلى طلقة واحدة فإنه يلزم بها واحدة كما إذا قال لها: أنت طالق نصف وثلث طلقة، أما إذا أضاف كل جزء إلى لفظ طلقة، كما إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقة، وثلث طلقة فإنه يقع بكل لفظ منها طلقة، فيلزمه ثنتان، وهكذا، والفرق أنه في العبارة الأولى أضاف الكسرين إلى طلقة واحدة وهما أقل من واحدة فلزمه واحدة وفي العبارة الثانية أضاف كل كسر إلى طلقة. فكان اللفظ مستقلاً بالعبارة فيقع بكل لفظ طلقة. وإذا كان عالماً بالحساب، وقال لها:
    أنت طالق في واحدة لزمته طلقة واحدة، لأن نتيجة ضرب طالق واحدة وواحدة، وإذا قال لها: أنت طالق واحدة في ثنتين، وكان عالماً بالحساب لزمه ثنتان لأنهما نتيجة ضرب الواحدة في اثنتين، وإلا فإنه يلزمه ثلاثة فكأنه قال: واثنتين، وإذا قال لها: أنت طالق اثنتين في اثنتين لزمه ثلاث طلقات، عرف الحساب، أو لم يعرف.
    هذا، أما نية العدد مع الكناية فقد تقدمت مفصلة، فارجع اليها.
    الشافعية - قالوا: إذا قيد الطلاق الصريح بعدد لزمه، فإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً أو ثنتان لزمه ذلك العدد، وقد تقدم في الكناية أنه لو نوى بقوله: أنت طالق أكثر من واحدة لزمه ما نواه، حتى لو قال: أنت طالق واحدة، ونوى به ثنتين، أو ثلاثاً لزمه ما نواه، وكذا إذا قال لها: أنت طالق ثنتين فإنه إذا نوى به ثلاثاً وقع الثلاث وبعضهم يرى أنه إذا قيد اللفظ بواحدة أو ثنتين فإن نية الزائد تلغو ولا يعمل بها، حملاً للفظ على ظاهره وقد تقدم الكلام على الكنايات، فارجع إليه.
    أما إذا كرر الطلاق، كأن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو قال: أنت طالق طالق ولم يكرر لفظ - أنت - فإن له ثلاث حالات:
    الحالة الأولى: أن يذكر الكلمات المكررة بدون حرف العطف متتابعة بحيث لا يفصل بين كل كلمة وأخرى بفاصل، بل يكون الكلام متصلاً في العرف، فلا يعتبر الفصل سكتة التنفس وانقطاع الصوت، والعي، لأن الفصل بمثل هذا لا يخرج الكلام عن كونه متصلاً عرفاً، أما الذي يخرجه عن كونه متصلاً فهو أن يفصل باختياره بحيث ينسب إليه أنه قطع الكلام عرفاً، وتحت هذه الحالة أربع صور:
    الصورة الأولى: أن يقصد بالتكرار تأكيد قوله: أنت طالق الأولى بقوله أنت طالق الثاني وأنت طالق الثالث، بمعنى أنه ينوى تأكيد اللفظ الأول باللفظين الأخيرين معاً، وفي هذه الصورة تلزمه طلقة واحدة، لأنه نوى تأكيد الأول بالثاني والثالث فلم ينشئ طلاقاً جديداً والتأكيد مهم في جميع اللغات.
    الصورة الثانية: أن يؤكد الأول بالثاني فقط، ثم ينشئ طلاقاً بالثالث. أو لم ينو به شيئاً وفي هذه الصورة يلزمه طلقتان: طلاق بالعبارة الأولى. وطلاق بالعبارة الثالثة التي استأنف بها طلاقاً. أو طلق ولم ينو بها شيئاً، أما العبارة الثانية فإنها لا تحسب عليه لأنه نوى بها التأكيد.
    الصورة الثالثة: أن يؤكد الثاني بالثالث، وبأن ينوي الطلاق بالعبارة الأولى والعبارة الثانية أو يطلق ولم ينو شيئاً، ثم ينوي بالثالث تأكيد الثاني وفي هذه الحالة يلزمه طلقتان أيضاً بالعبارة الأولى والثانية، وتلغى الثالثة لأنه قصد التأكيد.
    الصورة الرابعة: أن يؤكد الأول بالثالث، بأن لا ينوي بالعبارة الثانية تأكيد الأولى بل ينوي بها الطلاق، أو لم ينو شيئاً، ثم يؤكد العبارة الأولى بالثالثة فقط، وفي هذه الصورة يلزمه الثلاث لأنه فصل بين المؤكد، وهو العبارة الثالثة، والمؤكدة، وهو العبارة الأولى بالعبارة الثانية.
    الحالة الثانية: أن يذكر الكلمات المكررة بدون حرف العطف غير متتابعة، بأن يفصل بين كل كلمة وأخرى بفاصل بحيث يقال: إن الكلام غير متصل في العرف، وهذا تحته صورتان.
    الصورة الأولى: أن يكرر لفظ - أنت - في كل عبارة، بأن يقول: أنت طالق. أنت طالق. أنت طالق مع الفصل بين كل عبارة بسكتة تجعلها منفصلة عما قبلها عرفاً، وحكم هذه الحالة يلزمه الثلاث، فإذا قال: إنه أراد التأكيد مع وجود الفصل فإنه لا يسمع منه قضاء وينفعه ذلك بينه وبين الله. الصورة الثانية: أن يقول: أنت طالق بدون تكرار لفظ - أنت - فإذا قال: أنت طالق ثم سكت سكتة طويلة بحيث يقال له: إنه فصل الكلام عرفاً، وقال: طالق بدون - أنت - تلزمه واحدة، وذلك لأن طالق بدون ذكر لفظ - أنت - لا يقع بها شيء عند الشافعية، كما يأتي في مبحث إضافة الطلاق إلى المرأة، وقد انقطعت العبارة الثانية والثالثة عما قبلها، فلا يمكن تسليط - أنت - الأولى عليها بخلاف ما إذا كان الكلام متصلاً فإنه في هذه الحالة يكون مخبراً عن أنت طالق الأولى بطالق الثانية والثالثة.
    الحالة الثالثة: أن يذكر الكلمات المكررة بحرف العطف وتحت هذا صورتان:
    إحداهما أن يقول: أنت طالق. وطالق. وطالق. فيعطف بالواو، وحكم هذه الصورة أنه إذا لم ينو شيئاً، أو نوى الثلاث، لزمه الثلاث، ومثل ذلك ما إذا نوى تأكيد الأول بالثاني والثالث أو بأحدهما فقط، فإنه يلزمه الثلاث، أما إذا نوى تأكيد الثاني بالثالث فإنه يصح، ويلزمه طلقتان، والفرق بين الحالتين أن الأول، وهو أنت طالق خال من حرف العطف، وكل من الثاني والثالث مقترن بحرف العطف، فالثاني والثالث متساويان في الاقتران بحرف العطف، فهما غير الأول، فلا يصح تأكيده بواحد منهما، أما الثاني فإنه يصح أن يجعل تأكيداً للأول، على معنى أن الواو المقترن بها تجعل جزءاً منه، فقوله: وطالق الثالثة كلها - أعني الواو ومدخولها - تأكيداً لقوله: وطالق الأولى كلها - والواو ومدخولها -.
    ثانيتهما: أن يعطف بغير الواو، كأن يقول لها: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو ثم طالق الخ.
    وفي هذه الحالة لا تصح نية التأكيد مطلقاً. فلا تسمع دعوى التأكيد قضاء باتفاق، أما ديانة بينه وبين الله. فقال بعضهم: إن نوى التأكيد يلزمه واحدة بينه وبين الله.
    هذا كله إذا كانت الزوجة موطوءة مدخولاً بها، فإن لم تكن مدخولاً بها فإنه لا يلزمه إلا طلاق واحد. وذلك لأنها تبين بالطلاق الذي يقع أو لا. فلا يلحقه شيء بعد ذلك.
    وإذا جزأ عدد الطلاق كأن قال: أنت طالق بعض طلقة أو جزء طلقة أو نصف طلقة لزمه به طلقة كاملة لأن الطلاق لا يتجزأ، وإذا قال لها: أنت طالق نصف طلقتين وقعت عليه واحدة، ومثله ما إذا قال لها: أنت طالق نصفي طلقة أو أنت طالق طلقة وثلثها، بإضافة الطلقة إلى الضمير ما لم ينو بكل جزء منهما طلقة، فإنه يعامل بما نوى، بخلاف ما إذا قال: أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة، فإنه يلزمه طلقتان لأن العطف يفيد المغايرة، وإضافة كل منهما إلى الطلقة تجعله طلقة مستقلة، وإذا قال لها:
    أنت طالق طلقة في طلقة لزمه طلقة واحدة، سواء نطق بعرف الحساب أو جعلها ظرفاً أو أطلق ولم يرد شيئاً، أما إذا أراد بلفظ "في" معنى "مع" فإنه يلزمه طلقتان، وتستعمل "في" بمعنى "مع" كقوله تعالى {ادخلوا في أمم} أي ادخلوا مع أمم وإذا قال: أنت طالق واحدة في ثنتين، فإن أراد المعية لزمه ثلاث، فكأنه قال:
    أنت طالق واحدة مع ثنتين، وإن أراد اصطلاح الحساب وكان عارفاً به لزمه ثنتان، لأن نتيجة ضرب الواحد في اثنين اثنان، فإن لم يكن عارفاً به، أو أراد ظرف الواحدة في الاثنين، أو لم يرد شيئاً لزمه طلاق واحد، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة لزمه طلقتان، لأن الثلاثة أنصاف طلقة كاملة ونصف، وقد عرفت أن النصف يقع به واحدة كاملة، لأن الطلاق لا يتجزأ. هذا، وإذا قال لزوجته: أنت طالق وأشار بأصبعين أو ثلاث، فلا يخلو إما أن ينطق بلفظ الإشارة، كأن يقول: أنت طالق هكذا، أو لا. فإن قال: أنت طالق هكذا. وأتى بما يدل على أنه يريد الإشارة إلى الطلاق، كأن يلتفت إلى أصابعه، فإنه يقع عليه بقدر العدد الذي أشار به واحداً كان أو أكثر.
    ولا نظر إلى نيته في هذه الحالة، لأن اسم الإشارة المفهمة صريح في العدد، فلا تعتبر فيه النية، أما إذا حرك أصابعه لأن عادته إذا تكلم يرفع أصابعه، فلا تكون إشارة مفهمة، فإن فتح ثلاثة أصابع وضم أصبعين وقال: إنه أراد الإشارة إلى المضمومتين يصدق قضاء بيمينه، وإذا لم ينشر أصابعه. أو أشار إلى كفه لزمه واحدة أما إذا فال: أنت طالق، ولم يقل: طالق، فإنه لا يقع به شيء ولو نوى الطلاق، لأنه لا دليل يدل على الطلاق في العبارة، بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً، فإنه إذا نوى به الطلاق الثلاث يلزمه، وذلك لأن لفظ " ثلاثاً" يشعر بالطلاق المحذوف، فكأنه قال: أنت طالق طلاقاً ثلاثاً، أما الإشارة بلفظ" هكذا" إلى أصابعه فليس فيها إشعار بمحذوف يمكن تقديره لفظاً.
    الحنابلة - قالوا: إذا وصف الطلاق بعدد صريح لزمه ذلك العدد، فلو قال لها: أنت طالق ثلاثاً وقعت الثلاث ومثل ذلك ما إذا نوى العدد ولم يصرح به، فلو قال: أنت طالق أو أنت الطلاق أو أنت طالق الطلاق، ونوى به ثنتين، أو ثلاثاً لزمه ما نواه، كما إذا نوى واحدة فإنها تلزمه أما إذا لم ينو شيئاً فإنه يلزمه واحدة، وقال بعضهم: إذا قال: أنت طالق ونوى به الثلاث لا يقع به إلا واحدة، وذلك لأن لفظ طالق لا يتضمن عدداً ولا بينونة، فلا يقع به إلا واحدة ولو نوى أكثر، ولكن الأول أصح، نعم إذا قال لها: أنت طالق واحدة ونوى بها أكثر فإنه لا يلزمه إلا واحدة، لأنه نوى ما لا يحتمله اللفظ فتلغو النية، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً ونوى واحدة فإنه يلزمه الثلاث، لأنه نوى خلاف ما يحتمله اللفظ.
    وإذا كرر الطلاق لفظاً، فإن كرره بدون حرف العطف، كما إذا قال لها:
    أنت طالق طالق طالق، فإذا نوى بالثانية تأكيد الأولى وبالثالثة تأكيد الثانية والأولى فإنه يقع به واحدة بشرط أن يكون الكلام متصلاً بأن يقول: طالق طالق طالق بدون أن يسكت بين كل كلمة وأخرى، فإن سكت زمناً يمكنه الكلام فيه ولم ينطق لا تنفعه نية التأكيد، فلو قال لزوجته المدخول بها: أنت طالق، وسكت زمناً يستطيع أن ينطق بطالق الثانية فيه ولم ينطق، ثم قال بعد ذلك: أنت طالق لزمه ثنتان، أما إذا كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه واحدة فقط، لأنها تبين بالأولى فتكون أجنبية فلا تطلق بالثانية، وإذا قال لها:
    أنت طالق أنت طالق أنت طالق ونوى تأكيد الثانية بالثالثة فقط فإنه يصح ويلزمه طلقتان بالأولى والثانية، أما إذا أكد الأولى بالثالثة فقط وأهمل الثانية فإنه لا يصح ويلزمه الثلاث للفصل بين المؤكد، وهو الثالثة، والمؤكد وهو الأولى بالثانية أما إذا أكد الأولى بالثانية، ثم أكد الأولى بالثالثة أيضاً فإن التأكيد يصح لعدم الفاصل بأجنبي، فإذا نوى التأكيد ولكنه لم ينو تأكيد الثانية بالأولى، ولا الثانية بالثالثة، بل اطلق فإنه يقبل ويلزمه واحدة. أما إذا لم ينو التأكيد من أصله، بأن نوى بالثانية والثالثة إيقاع الطلاق لزمه الثلاث، وكذا إذا لم ينو إيقاع الطلاق، بل كرر اللفظ بدون نية فإنه يلزمه ما نطق به.
    هذا إذا كرر اللفظ بدون حرف العطف، أما إذا كرره بحرف العطف، كأن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق، فإن نوى تأكيد الأولى بالثانية أو الثالثة فإنه لا يصح، أما إذا أكد الثانية بالثالثة فإنه يصح، وذلك لأن لفظ الأولى خالي من حرف العطف، بخلاف الثانية والثالثة فإن كلاً منهما مشتمل على حرف العطف، فاللفظان متساويان يصح تأكيد أحدهما الآخر، على أن يكون لفظ" وطالق" الثالثة تأكيد للفظ" وطالق" الثانية برمتهما، أعني الواو وما دخلت عليه، ومثل ذلك ما إذا عطف بالفاء أو بثم، فإذا قال: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو ثم طالق، ثم طالق، فإن نوى تأكيد اللفظ الأول بالثاني.
    أو الثالث فإنه لا يصح التأكيد ويلزمه الثلاث، وإن نوى تأكيد الثاني فإنه يصح ويلزمه ثنتان، وذلك لتساوي اللفظين، وهما الثاني والثالث في اشتمالهما على حرف العطف، بخلاف طالق الأول، فإنه خال من حرف العطف، فلا يصح تأكيده بما هو مشتمل على حرف العطف. فإذا غاير في العطف، بأن عطف الأول بالواو والثاني بالفاء، كأن قال: أنت طالق، وطالق، فإنه لا يصح تأكيد الثاني بالثالث لعدم تسويهما في العبارة، لأن الثاني مشتمل على واو العطف، والثالث مشتمل على ثم، والتأكيد إنما يكون بتكرير الأول بصورته.
    وإذا جزأ الطلاق، كأن قال لها، أنت طالق بعض طلقة أو جزءاً من مائة ألف جزء من طلقة، أو نصف طلقة كاملة. لأن الطلاق لا يتجزأ فذكر بعضه ذكر لجميعه.
    وهذه المسألة مجمع عليها في المذاهب الأربعة:
    فإذا قال لها: أنت طالق نصفي طلقة لزمه طلقة كاملة، كما إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقتين وإذا قال لها: أنت طالق نصفي ثنتان، لأن نصف كل طلقة طلقة، فكأنه بذلك قال لها: أنت طالق طلقتين، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقتين لزمه ثلاث طلقات، لأن نصف الطلقتين طلقة كاملة، وقد أوقعه ثلاثاً فكأنه قال: أنت طالق ثلاث طلقات. وإذا ذكر أجزاء الطلقة متفرقة، فإن ذكرها بحرف العطف وقع بكل جزء طلقة وإلا وقع بها واحدة، سواء أضاف إلى الضمير أو إلى الطلقة، فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة، ثلثها سدسها لزمه واحدة وكذا إذا قال: أنت طالق نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، فإنه يلزمه واحدة، وكذا إذا قال لها: أنت طالق طلقة نصف طلقة فإنه لا يلزمه إلا واحدة، وذلك لأن عدم العطف يجعل الثاني عين الأول، أو جزءاً من الأول، وإذا نوى به التعدد فإنه يلزمه ما نواه، أما إذا قال: أنت طالق نصف طلقة، وثلث طلقة وسدس طلقة فإنه يلزمه الثلاث لتكرره بالعطف الذي يقتضي المغايرة بين الأول والثاني الخ.
    وإذا قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لزمه ثنتان، لأن ما بعد الغاية لا تدخل فيما قبلها لغة إلا إذا كانت إلى - بمعنى - مع واحتمالها لمعنى مع يوجب الشك والطلاق لا يقع بالشك وإذا قال: أنت طالق ما بين واحدة وثلاث، وقعت واحدة لأنها التي بينهما، وإذا قال لها: أنت طالق طلقة في ثنتين، فإذا نوى بلفظ - في -، - مع - لزمه ثلاث، لأن في تأتي بمعنى مع، كقوله تعالى: {فادخلي في عبادي} أي مع عبادي، وغن نوى معنى اللفظ في عرف علماء الحساب لزمه ثنتان، لأنها نتيجة ضرب الواحد في ثنتين، سواء كان عالماً بالاصطلاح. أو جاهلاً به ولكنه نواه، وإذا قال: أردت واحدة مع كونه من علماء الحساب قبل منه، فإذا لم ينو شيئاً فإن كان من علماء الحساء لزمه ثنتان وإلا فواحدة.
    وإذا قال لامرأته: أنت طالق هكذا، ثم فتح ثلاثة أصابع من أصابع يده وضم أصبعين، فإنها تطلق ثلاثاً، فإذا قال: إنه أراد الإشارة بالأصبعين المضمومتين سمع له ولزمه ثنتان، وإذا أشار بكل أصابعه الخمسة فإنه يلزمه واحدة، وتحمل الإشارة على اليد لا على الأصابع، لأن نهاية عدد الطلاق ثلاث، وإذا لم يقل: هكذا بل أشار بأصابعه فقط لزمه واحدة. وهكذا كله إذا لم يكن له نية، وإلا فإنه يقع ما نواه) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب الطلاق]
    صـــــ 315 الى صــــــــ
    322
    الحلقة (207)





    مبحث إضافة الطلاق إلى الزمان أو إلى المكان
    -إذا أضاف الطلاق إلى الزمان، كما إذا قال: أنت طالق يوم كذا، أو في شهر كذا، أو أضافه إلى المكان، كما إذا قال لها أنت طالق في بلدتك. أو في مصر، فإن طلاقه يلزم على تفصيل المذاهب (1) .

    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: الزمن الذي يضاف إليه الطلاق، تارة يكون مستقبلاً، وتارة يكون حاضراً،وتارة يكون ماضياً، وقد تكون الإضافة إلى زمن واحد، وقد تكون إلى زمنين. فمثال الإضافة إلى الزمان المستقبل أن يقول لزوجته: أنت طالق غداً، وفي هذه الحالة تطلق منه عند حلول أول جزء من الغد، وهو طلوع الصبح، فإذا قال: إنه نوى آخر النهار لا يصدق قضاء ويصدق ديانة، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق في الغد، فإنه إذا ادعى انه نوى طلاقها في آخر النهار يصدق قضاء وديانة، وذلك لأن كلمة - في - تفيد طلاقها في جزء من الغد، وهذا يصدق بالجزء الأخير من النهار. ومثال الإضافة إلى زمنين حاضر ومستقبل، أن يقول لها: أنت طالق غداً اليوم بدون عطف، وفي هذه الحالة يعتبر اللفظ الأول ويلغى الثاني، فتطلق في الغد ولو قال لها: أنت طالق اليوم، غداً طلقت منه في نفس اليوم، وإذا قال لها: أنت طالق اليوم وغداً بحرف العطف فإنه يقع به واحدة فقط، وذلك لأن العطف وإن كان يقتضي المغايرة ولكن لما ابتدأ طلاقها باليوم كانت طالقاً منه في الغد، لأن التي تطلق اليوم تطلق غداً، فلا معنى لإيقاع طلاق آخر في الغد، أما إذا عكس فقال: أنت طالق غداً واليوم، فإنها تطلق طلقتين لأنه لا يلزم من تطليقها في الغد تطليقها في اليوم، وكذا إذا قال لها: أنت طالق بالليل والنهار فإنها تطلق واحدة، وذلك لن التي تطلق في الليل تطق في النهار الذي بعده، فإذا قال لها وهو بالليل: أنت طالق بالنهار والليل يلزمه ثنتان لأنه لا يلزم من تطليقها بالنهار تطليقها بالليل الذي قبله، وكذا إذا قال لها: أنت طالق اليوم ورأس الشهر، فإنها تطلق واحدة، لما عرفت من أن طلاقها اليوم منه طلاقها في الوقت الذي بعده.
    والحاصل أنه إذا أضاف الطلاق إلى وقتين حاضر، ومستقبل، وبدأ بالحاضر اتحد الطلاق فلا يتعدد، كاليوم والغد، والليل الذي طلق فيه والنهار الذي بعده، أما إذا بدأ بالمستقبل فإنه يلزمه طلاقان لأن طلاقها في المستقبل لا يستلزم طلاقها في الحاضر، على أنه إذا قال لها: أنت طالق اليوم وإذا جاء غد لزمه طلاقان: أحدهما في الحال والثاني عند مجيء الغد، وذلك لأنه لما قال: إذا جاء فقد علق طلاقها على شرط المجيء، وقد عطفه على أنت طالق اليوم، والمعطوف غير المعطوف عليه وبذلك يكون قد أتي بطلاقين: أحدهما منجز، والآخر معلق على مجيء الغد، فلا يمكن أن يكون طلاقاً واحداً، وهو طلاقها في اليوم، لأن الطلاق المنجز لا يصح تعليقه ولا يمكن أن يكون طلاقاً واحداً، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، فتعين كونه طلاقين: أحدهما منجز والآخر معلق على مجيء الغد. وإذا قال لها: أنت طالق، لا بل غداً يقع طلاقان أيضاً: أحدهما للحال. والثاني في الغد، لأن قوله: أنت لزمه به الطلاق، ولا يملك إبطاله بقوله: لا وقوله: بل غداً لزمه به الطلاق آخر.
    ومثال الإضافة إلى الزمن الماضي أن يقوا لها: أنت طالق أمس، أو أنت طالق قبل أن أتزوجك، وكان قد تزوجها اليوم، وحكم هذا أنه يلغو ولا يعتبر، لأنه أضاف الطلاق إلى زمن لا يملك فيه العصمة، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: طلقتك أمس، وكان قد تزوجها بالأمس، أو تزوجها فبل الأمس فإنه يقع طلاقه، لأنه في هذه يكون قد طلقها في وقت يملك فيه عصمتها والإنشاء في الماضي إنشاء في الحال، ولو قال لها: أنت طالق أمس واليوم تعدد الطلاق بناء على القاعدة المتقدمة وهي أنه إذا أضاف الطلاق إلى زمنين، وبدأ بغير الزمن الحاضر تعدد الطلاق وقد يقال: أنهم قد عللوا ذلك بأن إيقاع الطلاق في الزمن المستقبل لا يلزم منه إيقاعه في الزمن الحاضر، فلو قال: أنت طالق غداً واليوم لزمه ثنتان لأنه لا يلزم من تطليقها في الغد تطليقها في اليوم بخلاف عكسه، وهنا لا يتأتى هذا التعليل، فلو قال لها: أنت طالق أمس واليوم فيه أن الواقع أمس واقع اليوم فيكون عكس أنت طالق غداً واليوم فيقع به واحدة، أم عكسه، وهو أنت طالق اليوم وأمس فإنه يقع به ثنتان، لأن إيقاع الطلاق اليوم لا يستلزم إيقاعه بالأمس، على أن الأمس قبل اليوم، فهو بالنسبة له حاضر: والقاعدة الماضية تقتضي أن البدء بالحاضر يستلزم اتحاد الطلاق لا تعدده، فالمثل الذي معناه وهو أنت طالق أمس اليوم قد بدئ فيه بالزمن الحاضر فلا يتعدد الطلاق.
    فإن قلتم: إن الطلاق الواقع في اليوم لا يكون واقعاً في الأمس فيلزم طلاقان، طلاق في اليوم وطلاق في الأمس.
    قلنا: إنه على هذا التأويل لا يكون فرق بين أنت طالق أمس واليوم، وبين أنت طالق اليوم وأمس لأن كلاً منهما يقال فيه: إن الواقع اليوم غير الواقع بالأمس على أن الإشكال لا يزال باقياً بالنسبة للبدء بالأمس فإنه بدء بالحاضر ومقتضاه عدم تعدد الطلاق فالحق أنه إذا قال لها: أنت طالق أمس واليوم يقع به طلقة واحدة لأن التي تطلق بالأمس تطلق اليوم وإذا قال لها: أنت طالق اليوم والأمس تطلق ثنتان فكأنه قال: أنت طالق واحدة اليوم قبلها واحدة أمس أما القاعدة المذكورة فإنها بالنسبة للحاضر والمستقبل كاليوم والغد فإذا أضاف الطلاق إلى زمن مبهم في الماضي كما
    إذا قال لها: أنت طالق قبل أن أخلق أو قبل أن تخلقي، أو طلقتك وأنا صبي فإنه يلغو ولا يقع به شيء. كذا إذا قال لها: طلقتك وأنا نائم، أو طلقتك وأنا مجنون فإنه يلغو ولا يقع به شيء، لأن معناه إنكار طلاقها إذ لا طلاق لهؤلاء. وكذا إذا قال: أنت طالق مع موتي، أو مع موتك فإنه يلغو ولا يقع به شيء، لأنه نسب الطلاق إلى زمن لا تكون المرأة محلاً فيه للطلاق ولا يكون هو أهلاً.
    وإذا قال لها: أنت طالق قبل موتي بشهرين، أو أكثر، فإذا مات قبل مضي شهرين من وقت الحلف فإنها لا تطلق، لأنه قد اشترط لوقوع الطلاق مضي شهرين قبل موته، وهو قد مات قبل تحقق الشرط فلا يقع. أما إذا مات بعد مضي شهرين، ففي المسألة خلاف، فأبو حنيفة يقول: إنها تطلق منه، ولكن لا يقتصر الوقوع على الموت، فلا يثبت الطلاق عند الموت فقط، بل الوقوع مستند إلى المدة التي عينها قبل الموت، فالحكم بالطلاق وإن كان عند الموت ولكن مستند إلى أول المدة التي عينها من وقت الحلف فالاستناد في اصطلاح الأصوليين هو ثبوت الحكم في الحال مستنداً إلى ما قبله بشرط بقاء المحل كل المدة.
    ونظير ذلك الزكاة في النصاب فإن النصاب تجب فيه الزكاة عند الحول. ولكن الوجوب عند الحول مستند إلى وجوده من أول الحول فثبوت الحكم وهو وجوب الزكاة في النصاب مستند إلى مضي الزمن بحيث لو لم يمض عليه حول فإنه لا يجب فيه الزكاة، أما صاحباه فإنهما يقولان أنها تطلق طلاقاً مقتصراً على وقت الموت بدون استناد إلى الزمن الأول الذي عينه، ثم في وقت الموت لا يكون الرجل أهلاً للطلاق فيلغو، ولا يقع به شيء، والاقتصار مقابل للاستناد. فهو عبارة عن ثبوت الحكم في الحال بدون نظر إلى الزمن الذي قبله. هذا، ولم تظهر لهذا الخلاف ثمرة، نعم قال بعضهم: إن المرأة - على رأي الإمام - لا ترث لأنه قد اعتبر طلاقها من أول المدة، فعند موته يكون قد مضى على طلاقها شهران على الأقل فتكون عدتها قد انقضت، لأنها قد تحيض ثلاث حيض في شهرين، وبذلك يموت عنها بعد انقضاء عدتها، فلا يكون لها الحق في ميراثه، ولكن هذا القول غير سديد، لأن الذي يطلق امرأته بهذه الحالة يكون فاراً بطلاقها من الميراث، سواء طلقها وهو مريض، أو طلقها وهو صحيح، أما الأول فظاهر، لأنه يكون قد طلقها في المرض الذي مات فيه، فلا يسقط ميراثها، وأما الثاني فلأننا إذا فرضنا أن عدتها تبتدئ من أول الوقت الذي عينه بالحلف ثم مات بعد شهرين فإن عدتها لا تنقضي بموته، إذ المعلوم أن عدة امرأة الفار أبعد الأجلين فتعتد عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، فيبقى لها بعد موته في العدة شهران وعشرة أيام فترثه، على أن الإمام قال: إن عدتها تبتدئ من وقت الموت لا تبتدئ من أول المدة التي عينها بالحلف، لأن سبب العدة، وهو وقوع الطلاق مشكوك فيه، إذ قد يموت قبل انقضاء الشهرين، فلا يقع، والعدة لا تثبت مه الشك في سببها، وبهذا يتضح أنها ترث على كل حال.
    وإذا قال لها: أنت طالق كل يوم، فإنه يلزمه طلاق واحد إذا لم تكن له نية، أما إذا نوى تطليقها كل يوم طلقة، فإنها تطلق منه ثلاث طلقات في ثلاثة أيام، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق في كل يوم، فإنه يلزمه ثلاث طلقات في ثلاثة أيام، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق في كل يوم، فإنه يلزمه ثلاث طلقات في ثلاثة أيام نوى أو لم ينو، والفرق أن قوله: أنت طالق كل يوم بدون نية معناه أن كل يوم يتصف فيه طلاقها بالوقوع، فكأنه قال: طلاقك واقع في هذا اليوم وفي اليوم الذي بعده، وهكذا، ووصف الطلاق بالوقوع كل يوم لا يلزم منه تعدده كل يوم، فإذا نوى تعدده كل يوم صحت نيته، أما قوله: أنت طالق في كل يوم فمعناه أن كل يوم ظرف لوقوع الطلاق، فكأنه قال: في كل يوم وقوع الطلاق فيتعدد الوقوع كل يوم.
    وإذا قال لها: أنت طالق كل جمعة، ولم ينو شيئاً لزمه طلاق واحد، وكذا إذا نوى بالجمعة الأسبوع كله فإنها لا تلزمه إلا واحدة، أما إذا نوى يوم الجمعة بخصوصه فإنه يلزمه ثلاث طلقات بمضي ثلاث جمع لوجود الفاصل بين أيام الجمع التي أرادها فتطلق منه في أول جمعة ثم يقع الفصل بينها وبين الجمعة التي تليها بالسبت والأحد الخ، ومتى وجد الفاصل تعدد الطلاق، فإذا قال لها: أنت طالق في كل جمعة لزمه الثلاث في ثلاث جمع وإن لم ينو، كما تقدم في قوله: أنت طالق في كل يوم، وإذا قال لها: أنت طالق كل شهر طلقت واحدة وإن لم ينو طلاقها في كل شهر، فإن نوى لزمه ثلاث في ثلاثة أشهر، أما إذا قال لها: أنت طالق في كل شهر فإنه يلزمه الثلاث وإن لم ينو. وإذا قال لها: أنت طالق رأس كل شهر لزمه ثلاث عند أول كل شهر طلقة وإن لم ينو، وذلك لأن رأس الشهر أوله، وقد عينه باللفظ الدال عليه، وهو - رأس - فبين رأس الشهر الأول ورأس الشهر الثاني الفاصل بالأيام التي تليه، ومتى وجد الفاصل تعدد الطلاق، كما عرفت، وهذا بخلاف قوله: أنت طالق كل شهر، فإن الشهر متصل واحد، ومعناه أن الطلاق متصف بالوقوع كل شهر، وهو كذلك ما لم ينو، كما تقدم في اليوم.
    هذا إذا أضاف الطلاق إلى الزمان، أما إذا أضافه إلى المكان، كما إذا قال لها: أنت طالق في مصر أو في مكة، أو في بلدك، أو في الدار، أو في الظل، أو الشمس، فإنه تطلق في الحال فإذا قال: أردت التعليق، أعني إذا دخلت مصر، أو مكة، فإنه لا يصدق قضاء، ويصح ديانة بينه وبين الله.
    أما تعليق الطلاق على الزمان الماضي، أو المستقبل إن كان ممكناً، أو واجباً، أو مستحيلاً عقلاً، أو شرعاً، أو عادة، فاقرأ حكمه مفصلاً في الجزء الثاني.
    المالكية - قالوا: إذا أضاف الطلاق إلى الزمان فإن ذلك يكون على وجوه:
    أحدها: أن يضيفه إلى الزمان الماضي، كما إذا قال لها: أنت طالق أمس، ونوى بذلك إنشاء طلاقها، وفي هذه الحالة تطلق منه في الحال، وإذا ادعى أنه قال ذلك هازلاً، وهو يريد الإخبار بطلاقها كذباً لا يصدق قضاء، ولكن يصدق عند المفتي، فله أن يفتيه بعدم الوقوع بينه وبين الله. وإذا أضافه إلى وقت موته، أو موتها، كما إذا قال لها: أنت طالق يوم موتي، أو يوم موتك، فإنها تطلق منه في الحال، وذلك لأنه أضاف الطلاق إلى أمر محقق الوقوع، وهو حصول الموت له أو لها، فإن لم تطلق منه الآن كانت حلالاً له مدة معينة، ومدة حياتها، فيكون ذلك شبيهاً بنكاح المتعة المحدد له زمن معين، وهو باطل، ومن باب أولى أن يقول لها: أنت طالق قبل موتي سواء قدر زمناً أو لا، فإنها تطلق منه حالاً، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق بعد سنة، أو بعد شهر، أو بعد جمعة، فإنها تطلق منه حالاً للعلة المذكورة، أما إذا قال لها: أنت طالق بعد موتي، أو بعد موتها فإنها لا تطلق بذلك، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق إن مت، أو إذا مت، أو متى مت، أو إن مت أنت الخ، فإنه لا شيء عليه، وهذا بخلاف ما إذا قال: أنت طالق بعد موت زيد، أو إن مات زيد، أو يوم موته، أو بعد موته فإنها في هذه الحالة تطلق عليه حالاً، وإذا قال لها: طلقتك وأنا صبي، أو وأنا مجنون وكانت زوجة له وهو متصف بذلك، فإنه لا يقع عليه شيء، وإذا علق الطلاق على فعل ماضي يستحيل وجوده عقلاً، أو عادة، أو شرعاً، فإن طلاقه يقع على الفور، كما إذا قال: الطلاق يلزمني، لو جاء زيد أمس لجمعت بين وجوده وعدمه، فالجمع بين الوجود والعدم مستحيل عقلاً، وهو وإن كان قد امتنع لامتناع مجيء زيد، وامتناعه ليس مستحيلاً، بل واجباً، ولكن الطلاق بحسب الظاهر مرتبط بالجمع بين الوجود والعدم، فلذا وقع منجزاً، وكذا إذا علقه
    على فعل مستحيل عادة، كما إذا قال: يلزمني الطلاق لو جاء زيد أمس لوضعته في سماء الدنيا، فإن ذلك مستحيل عادة، فيقع طلاقه فوراً، وكذا إذا علقه على فعل واجب شرعاً، كقوله: لو جاء زيد أمس لقضيته دينه، فإنه في كل ذلك يقع فوراً، وإذا عليقه على فعل جائز شرعاً، كقوله يلزمني الطلاق لو جئتني أمس لتعشيت معك، أو لأطعمتك فاكهة، ففيه خلاف، بعضهم يرى وقوع الطلاق فوراً بهذا، وهو ضعيف. والمعتمد أنه لا يقع به شيء إن كان جازماً بالفعل، بحيث أنه حلف وهو جازم بأنه لو جاءه حقيقة لأطعمه، أما إن كان كاذباً فيما يقول: فإن طلاقه يقع.
    وإذا علقه على فعل ماض واجب فإنه لا يحنث، سواء كان واجباً عقلاً، أو شرعاً، أو عادة، فمثال الأول أن يقول: عليه الطلاق لو جاءه أمس لم يجمع بين وجوده وعدمه، ومثال الثاني أن يقول: لو كنت غير نائم أمس لصليت الظهر، ومثال الثالث أن يقول: لو رأيت أسداً أمس لفررت منه فإن الفرار من الأسد واجب عادة. وإذا علق على فعل مستقبل ممتنع عقلاً، أو عادة، أو شرعاً فإنه لا يحنث، مثال الأول أن يقول لها: أنت طالق إن جمعت بين الضدين، ومثال الثاني أن يقول لها أنت طالق إن لمست السماء ومثال الثالث أن يقول لها: إن زنيت فأنت طالق، لأنه علق الطلاق على الزنا في المستقبل، وهو ممتنع شرعاً، وهذا بخلاف ما إذا قال لها إن لم أجمع بين الضدين فأنت طالق، أو إن لم ألمس السماء فأنت طالق، أو إن لم تزن فأنت طالق، فإن الطلاق يقع منجزاً في الحال ويقع للصيغة الأولى: صيغة بر، وللثانية صيغة حنث.
    هذا وقد تقدم ما يوضح ذلك في كتاب الإيمان. أول الجزء الثاني.
    الشافعية - قالوا: إذا أضاف الطلاق إلى الزمان المستقبل فإنه يقع عند أول جزء من ذلك الزمان. فإذا كان في شهر شعبان مثلاً. وقال: أنت طالق في شهر رمضان طلقت منه في أول جزء من ليلة أول يوم في رمضان. فإذا كان أول رمضان يوم الخميس تطلق بغروب شمس يوم الأربعاء الذي قبله. ولو رأى الهلال قبل غروب الشمس، ومثل ما إذا قال لها: أنت طالق في غرته أو أوله، أو رأسه. أما إذا قال لها: أنت طالق في نهار شهر شعبان، أو في أول يوم منه فإنه تطلق في فجر أول يوم منه، وإذا قال لها: أنت طالق في آخره تطلق في آخر جزء من أيامه.
    هذا إذا كان في شهر شعبان، فإن قال لها: أنت طالق في رمضان بعد أن مضى خمسة أيام من رمضان مثلاً، فإنها تطلق في أول جزء من رمضان في السنة الآتية، وبعضهم يقول: بل تطلق منه في الحال، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق شهر رمضان، أو شعبان، فإنه يقع حالاً، سواء كان في الشهر الذي عينه أو لا، وإذا قال لها، وهو في الليل: أنت طالق إذا مضى يوم تطلق بغروب شمس الغد، وإذا قال لها ذلك، وهو في النهار تطلق بغروب شمس اليوم التالي، أما إذا قال لها: إذا مضى اليوم فأنت طالق، وكان في أول اليوم نهاراً، فإنها تطلق بغروب شمس ذلك اليوم، أما إذا قال لها: أنت طالق بمضي ذلك اليوم، وهو في الليل، فإنه يكون لغواً، ولا يقع به شيء، لأنه لم يكن في اليوم، بل كان في الليل، فلا معنى لقوله: أنت طالق اليوم، وهذا بخلاف ما لو قال لها: أنت طالق اليوم، فإنه يقع حالاً، سواء كان في الليل، أو في النهار. وذلك لأنه أوقع الطلاق في الوقت الذي هو فيه، وتسميته نهاراً وهو في الليل لا تؤثر في ذلك.
    وإذا قال لها: أنت طالق بمضي شهر، أو سنة تطلق إذا مضى شهر كامل وسنة كاملة غير الشهر الذي هو فيه، وغير السنة التي هو فيها، أما إذا قال لها: أنت طالق إذا مضى الشهر أو السنة فإنه يقع في أول الشهر الذي يليه وفي أول السنة التي تلي السنة التي هو فيها، فيقع في أول يوم من المحرم.
    أما إذا أضاف الطلاق إلى الزمن الماضي، كما إذا قال لها: أنت طالق أمس أو الشهر الماضي، فإنه يقع حالاً، سواء قصد إيقاعه حالاً، أو قصد إيقاعه أمس، أو لم يقصد شيئاً.
    هذا، وقد عرفت مما تقدم في مباحث الإيمان - في الجزء الثاني - أن المحلوف عليه إن كان واجباً عقلاً، أو عادة، كقوله: عليه الطلاق ليموتن، أو لا يصعد إلى السماء، فإنه لا ينعقد ويكون لغواً، وإن كان ممكناً عقلاً، وعادة فإنه ينعقد، كما إذا قال: عليه الطلاق ليدخلن هذه الدار، أو لا يدخلها، فإن دخولها وعدم دخولها ممكن عقلاً وعادة، وكذا ينعقد إذا كان مستحيلاً عادة، كقوله: عليه الطلاق ليصعدن إلى السماء، أو ليحملن الجبل ويقع الطلاق في الحال زجراً لصاحبه الخ ما هو مفصل هناك. فارجع إليه.
    الحنابلة - قالوا: إذا أضاف الطلاق إلى الزمن الماضي، فقال لها أنت طالق أمس، أو أنت طالق قبل أن أتزوجك، فإنه إذا نوى به الطلاق في الحال وقع الطلاق في الحال، فإن لم ينو وقوعه في الحال بأن أطلق ولم ينو شيئاً. أو نوى إيقاعه في الماضي لم يقع الطلاق وذلك لأن الطلاق رفع لحل الاستمتاع، وهو لا يملك رفع الحل في الزمن الماضي، لأنه وجد بالفعل وانقضى، فلا معنى لرفعه، وإن كانت متزوجة بزوج قبله وطلقها، فقال: إنه أراد الإخبار عن طلاق زوجها الأول فكأنه قال: أنت طالق من زوجك الأول، فإنه يقبل قوله، ومثل ذلك ما إذا كان قد تزوجها هو ثم طلقها ثم تزوجها ثانياً وقال: إنه أراد الإخبار عن الطلاق الأول، فإنه يقبل منه، إلا إذا وجدت قرينة تمنع إرادة ذلك، كما إذا كانا في حالة غضب أو سألته الطلاق فإنه في هذه الحالة لا يصدق في قوله.
    وإذا قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر فقدم زيد قبل انقضاء الشهر فإنها لا تطلق بل لا بد في طلاقها من انقضاء الشهر قبل قدومه، حتى لو قدم مع بقاء آخر جزء من الشهر لا تطلق، ومن حلف على زوجته بمثل هذا اليمين فإنه يجب عليه أن لا يقربها بعد ذلك، فإذا فعل حرم عليه إذا كان الطلاق بائناً، وللزوجة النفقة حتى يتبين وقوع الطلاق، فإن قدم بعد انقضاء شهر وجزء يسع وقوع الطلاق فإنه يقع الطلاق في ذلك الجزء، ويتبين أيضاً أن وطأه إياها في أثناء هذا الشهر حرام، ويلزمه به مهر مثلها بما نال من فرجها إن كان الطلاق بائناً، فإن كان رجعياً فلا يكون محرماً وتحصل به رجعتها.
    وإذا أضاف الطلاق إلى الزمن المستقبل وقال لها: أنت طالق غداً فإنها تطلق عند طلوع فجر الغد ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق يوم السبت، أو أنت طالق في رجب فإنها تطلق في أول جزء منه، وله في هذه الحالة أن يطأ زوجته قبل حلول وقت الطلاق، وإذا قال أردت آخر لغد أو آخر رجب، فإنه لا يسمع قوله لا ديانة ولا قضاء.
    وإذا قال لها: أنت طالق اليوم طلقت في الحال، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق في هذا الشهر الذي هو فيه فإنها تطلق حالاً، فإذا قال إنه أراد آخر الوقت، فإنه يصدق ديانة وحكماً.
    وإذا قال: أنت طالق في أول رمضان أو رأسه طلقت في أول جزء منه، ولا يصدق في قوله: إنه أراد وسطه، أو آخره. أما إذا قال: في غرة رمضان، إنه أراد اليوم الأول، أو الثاني، أو الثالث فإنه يصدق، لأن الثلاثة الأول من الشهر تسمى غرراً، وإن قال: بانقضاء رمضان، أو بآخره، أو في انسلاخه طلقت في آخر جزء منه، وإن قال: أنت طالق اليوم، أو غداً طلقت في الحال، وإن قال: أنت طالق غداً، أو بعد غد طلقت في الغد، لأنه هو السائل، وإذا قال لها: أنت طالق اليوم وغداً وبعد غد طلقت واحدة بأنت طالق اليوم، لأن التي تطلق اليوم تطلق غداً، وبعد غد، بخلاف ما إذا قال: أنت طالق في اليوم، وفي غد، وبعد غد، فإنها تطلق ثلاثاً، وذلك لأنه في الصورة الأولى لم يكرر لفظ - في -، أما في الصورة الثانية فقد كررها وتكرارها دليل على أنه يريد تكرار الطلاق وإذا قال لها: أنت طالق كل يوم لزمه طلاق واحد، بخلاف ما إذا قال: أنت طالق في كل يوم، فإنه يلزمه ثلاث طلقات في ثلاثة أيام لتكرار في. وإذا قال لها: أنت طالق قبل موتي أو موتك بشهر، فإنه إن مات أحدهما قبل مضي الشهر لم تطلق، وإذا مات بعد الحلف بشهر وساعة يمكن فيها إيقاع الطلاق وقع الطلاق، ولا ترث المرأة في هذه الحالة إن طلاقها بائناً، لأنه لا يتصور في هذا اليمين الفرار من الميراث، إلا أن يكون الطلاق رجعياً فإنه لا يمنع التوارث ما دامت في العدة.
    وإذا قال لها: أنت طالق قبل موتي، أو موتك، أو موت زيد، ولم يقيد بزمن فإنها تطلق في الحال، وإن قال: قبيل موتي يقع الطلاق في آخر وقت من حياته، أي في الزمن الذي وقع بعده موته مباشرة، وإذا قال: أنت طالق بعد موتي، أو مع موتي لم تطلق لأنها لا تكون محلاً للطلاق في هذه الحالة.
    وإذا علق طلاقها على فعل مستحيل عقلاً، أو عادة. كقوله: إن جمعت بين الضدين فأنت طالق أو إن طرت إلى السماء فأنت طالق أو إن شربت ماء فأنت طالق لا يقع بذلك شيء بخلاف ما إذا علق الطلاق على عدم الفعل المستحيل، كقوله: هي طالق إن لم أشرب ماء هذا الكوز ولا ماء فيه، فإنها تطلق في الحال، أو إن لم أصعد إلى السماء، أو إن لم أجمع بين الضدين، وقد تقدم مزيد لذلك في الأيمان في الجزء الثاني، فارجع إليه) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب الطلاق]
    صـــــ 322 الى صــــــــ
    341
    الحلقة (208)



    مبحث إذا وصف الطلاق أو شبهه بشيء
    -إذا قال لها: أنت طالق طلقة شديدة، أو عريضة، أو قال لها: أنت طالق كالجبل ونحو ذلك. فإن فيه تفصيل المذاهب (1) .
    مبحث هل للزوج أن ينيب زوجته أو غيرها في الطلاق
    -قد عرفت أن الرجل هو الذي يملك الطلاق دون المرأة. وذلك لأمرين:
    أحدهما: أن الشريعة قد كلفت الرجل بالإنفاق على المرأة وأولادها منه حال قيام الزوجية وبعدها إلى أمد معين، وكلفته أيضاً بأن يبذل لها صداقاً قد يكون بعضه مؤجلاً إلى الطلاق، وأن يدفع لها أجرة حضانة ورضاع إن كان له منها أولاد في سن الحضانة والرضاع وهذا كله يستلزم نفقات يجب أن يحسب حسابها بعد الفراق، فمن العدل أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، لأنه هو الذي يغرم المال، وربما كان عاجزاً عن القيام بالانفاق على مطلقته وعلى غيرها، فلا يندفع في الطلاق، ويترتب على ذلك عدم تفرق الأسرة وانحلالها، أما لو كان الطلاق بيد المرأة فإنها لا تبالي بإيقاعه عند سورة الغضب، إذ ليس أمامها من التكاليف ما يحول بينها وبين إيقاع الطلاق، بل ربما زينت لها سورة الغضب إيقاع الطلاق كي ترغم الرجل على دفع حقوقها لترهقه بذلك انتقاماً منه، وذلك حيف ظاهر تتنزه عنه الشريعة الإسلامية التي هي من عند الله العليم الخبير.
    ثانيهما: أن المرأة مهما أوتيت من حكمه فإنها سريعة التأثر بطبيعتها فليس لها من الجلد والصبر مثل ما للرجل، فلو كان الطلاق بيدها فإنها تستعمله أسوأ استعمال لأنها لا تستطيع ضبط نفسها كما يستطيع الرجل، فمن العدل والمحافظة على استمرار الزوجية وبقائها أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة.
    لعل بعضهم يقول: إن كثيراً من الرجال على هذا المنوال فهم لا يبالون أن يحلفوا بالطلاق لأقل الأمور شأناً وأحقرها منزلة. بل بعضهم يحلف بالطلاق لمناسبة ولغير مناسبة، وكأن الطلاق من كلمات التسلية واللعب، والجواب: أن الشريعة الإسلامية لم تشرع لهؤلاء الجهلة فاسدي الأخلاق الذين لا يعرفون من الإسلام إلا أنهم مسلمون فحسب، وإنما شرعت للمسلمين حقاً الذين يستمعون قول الله وقول رسوله فيعملون به، فلا ينطقون بالطلاق إلا لحاجة تقتضيه، أما هؤلاء المستهترون الذين لا يبالون بأمر الله ولا ينفذون قول رسول الله، فإن الله لا يعبأ بهم.
    وإذا كان الطلاق ملكاً للرجل وحده كان من حقه أن ينيب عنه غيره، سواء كان النائب زوجته أو غيرها، وفي ذلك تفصيل المذاهب (2) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: هذا المبحث يشتمل على أمور:أحدها: أن يصف الطلاق بصفة كما ذكر في الأمثلة المذكورة، وحكم هذا أنه يقع به طلقة بائنة، وذلك لأن الصفة تشعر بالزيادة على أصل المعنى وتجب البينونة، ويشترط أن يقول: أنت طالق طلقة شديدة أو تطليقة شديدة، فإن لم يذكر التطليقة، بأن قال: أنت طالق شديدة، أو قال: أنت طالق عريضة، أو قوية، أو طويلة، فإنه يلزمه بذلك طلقة رجعية لا بائنة، لأن الصفة في هذه الحالة ليست للطلاق بل للمرأة، ويقع واحدة بائنة أيضاً بقوله: أنت طالق طلقة طول الجبل، أو عرض الأرض ونحو ذلك.
    ثانيها: أن يصف الطلاق بأفعل التفضيل، كأن يقول: أنت طالق أفحش الطلاق، أو أشر الطلاق، أو أخبثه، أو أشده، أو أكبره، أو أعرضه، أو أطوله، أو أغلظه، أو أعظمه، وحكم هذا أنه يقع به طلقة بائنة، كالصورة الأولى، وذلك لأن أفعل يدل على التفاوت، فالطلاق الذي يوصف به يكون أقوى من غيره، وهذا معنى البائن.
    ثالثاً: أن يشبه الطلاق بشيء عظيم، كأن يقول لها: أنت طالق طلقة كالجبل، وحكم هذا أنه يقع به طلقة بائنة كالذي قبله، وذلك لأن التشبيه يقتضي الزيادة، وهي معنى البينونة، وبعضهم يقول: إنه لا يقع به بائن إلا إذا صرح بلفظ العظم، بأن يقول: أنت طالق طلقة كعظم الجبل، وهو أبو يوسف.
    رابعها: أن يشبه الطلاق بشيء حقير ولم يذكر العظم، كأن يقول لها: أنت طالق طلاقاً كرأس الإبرة، وفي هذا خلاف، والمعتمد أنه يقع به البائن، وهو رأي الإمام، فإذا ذكر لفظ العظم، بأن قال لها: أنت طالق طلاقاً كعظم رأس الإبرة، فقال بعضهم: إنه يكفي في البينونة وقال بعضهم: لا يكفي.
    والحاصل أنه إذا قال لها: أنت طالق طلاقاً كعظم الجبل وقع بائناً باتفاق، فإذا قال: كالجبل ولم يقل: كعظم الجبل يقع بائناً عند أبي حنيفة وزفر، ويقع رجعياً عند أبي يوسف، لأن الشرط عنده ذكر لفظ - العظم - وإذا قال: أنت طالق كرأس الإبرة وقع بائناً عند أبي حنيفة فقط، وإذا قال: كعظم رأس الإبرة وقع بائناً عند أبي يوسف، وأبي حنيفة، لأن أبا يوسف يكتفي بذكر العظم، ولو كان المشبه به حقيراً، أما زفر فإنه يشترط أن يكون المشبه به عظيماً في ذاته ولو لم يذكر لفظ العظم فلا يقع به البائن عنده.
    وإذا قال لها: أنت طالق كألف، فإن أراد التشبيه في العدد لزمه الثلاث، وإن أراد التشبيه في العظم لزمه طلاق واحد بائن.
    هذا، وإذا نوى بأي لفظ من الألفاظ المتقدمة الثلاث فإنه يلزمه ما نواه، لما علمت أن نية الثلاث تصح بخلاف نية الاثنتين.
    وإذا قال لها: أنت طالق طلاق البدعة ولا نية له، فإنه يقع به واحدة بائنة، وقيل لا تقع بائنة إلا إذا نوى واحدة بائنة، وإن نوى الثلاث فثلاث، أما إذا لم ينو فإنه يقع بها واحدة رجعية إن كانت المرأة حائضاً، أو نفساء أو في طهر جامعها فيه، فإن لم تكن كذلك فلا تطلق حتى تحيض، أو يجامعها في الطهر، لأن طلاق البدعة هو أن تكون حائضاً، أو نفساء، أو في طهر جامعها فيه كما تقدم.
    وإذا قال لها: أنت طالق طلاق الشيطان طلقت منه بائنة، وإذا قال لها: أنت طالق ملء البيت، فإن كان عرضه الكثرة في العدد طلقت ثلاثاً، وإن كان عرضه طلقة عظيمة كالشيء العظيم الذي يملأ البيت بعظمه لزمته واحدة بائنة، وإذا قال لها: أنت طالق بائن أو البتة يقع به واحدة بائنة أيضاً، وإذا نوى بقوله: طالق واحدة، وبقوله: بائن طلقة أخرى لزمه ثنتان، وذلك لأنه وإن وقع بلفظ طالق واحدة رجعية ولكن وصفها بالبائن بعد ذلك جعلها بائنة إذ لا يمكن رجعتها في هذه الحالة، وإذا عطف بالواو، أو ثم قال: أنت طالق وبائن، أو ثم بائن ولم ينو شيئاً لزمه واحدة رجعية، وإن نوى أكثر لزمه ما نوى، أما إذا عطف بالفاء، قال: أنت طالق فبائن فإنه يلزمه طلقتان وإن لم ينو، والفرق أن الفاء للتعقيب بلا مهلة، والبينونة التي تعقب الطلاق بلا مهلة تجعله بائناً، فكأنه قال لها: أنت طالق بائن، بخلاف العطف بثم فإنه للتراخي، والبينونة التي يوصف بها الطلاق متراخياً تلغى، أما العطف بالواو فإنه يحتمل الأمرين: التعقيب، والتراخي، فيحمل على التراخي، وإذا قال لها: أنت طالق طلقة تملك بها نفسك لزمه طلاق بائن لأنها لا تملك نفسها إلا بالبائن، وإذا قال لها: أنت طالق أكثر الطلاق وكثيره فإنه يلزمه الثلاث، ولو قال: إنه أراد اثنتين لا يسمع منه لا قضاء ولا ديانة، لأن أكثر الطلاق وكثيره ثلاث على الراجح، مثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق بالثمانين، أو ألف طلقة، أو ألوفاً، أو مراراً، فإنه يلزمه بذلك الثلاث، وإذا قال لها: أنت طالق لا قليل ولا كثير لزمه ثلاث، وذلك لأن قوله: لا قليل معناه الكثير، فتقع الثلاث، وقوله بعد ذلك ولا كثير لا قيمة له، وقيل يلزمه ثنتان، لأن كثير الطلاق ثنتان، والقولان مرجحان، فلو عكس وقال لها: أنت طالق لا كثير ولا قليل يلزمه واحدة، لأن
    نفي الكثير يصدق بالقليل، وهو الواحدة، فقوله بعد ذلك ولا قليل ملغى، لأنه لا يملك نفي الواقع، وقيل يقع ثنتان، لأنه نفى الكثير والقليل فلزمه ما بينهما، وهو الاثنتان، لأنهما وسط، فلا يقال لهما كثير ولا يقال لهما قليل.
    وإذا شبه بالعدد فيما لا عدد له تلزمه واحدة رجعية، فإذا قال لها: أنت طالق عدد التراب. أو عدد الشمس، أو عدد شعر بطن كفي، أو عدد ما في هذا الحوض من السمك، ولا سمك فيه، فإنه يلزمه واحدة رجعية بكل ذلك، أما إذا شبه بما له عدد، كشعر يده أو ساقه فإنه يلزمه الثلاث ما لم يكن المشبه به أقل، وإذا قال لها: أنت طالق عدد الرمل يلزمه ثلاث، والفرق بين الرمل والتراب أن التراب اسم جنس إفرادي يصدق على الكثير والقليل، كالماء والعسل أما الرمل فإنه اسم جنس جمعي لا يصدق على أقل من ثلاثة، ويفرق بينه وبين مفرده بالتاء كتمر وتمرة، ورمل ورملة، ومثل ذلك ما إذا أضافه إلى عدد مجهول، كقوله: أنت طالق كشعر إبليس فإنه يلزمه به واحدة.
    خاتمة: إذا قال لها: لست لك بزوج أو لست لي بامرأة، فقيل: إنه كناية يقع به الطلاق بالنية،وقيل: لا يقع به شيء لأنه ليس من ألفاظ الكنايات، على أن القائل بوقوع الطلاق بها يقول: إنه رجعي لا بائن.
    المالكية - قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة لا تشعر بالشدة، كما إذا قال لها: أنت طالق أجمل الطلاق، أو أحسنه، أو خيره. أو نحو ذلك لزمته واحدة، إلا أن ينو أكثر فإنه يلزمه ما نواه أما إذا وصفه بصفة أفعل كقوله: أنت طالق شر الطلاق، أو أسمجه، أو أشده، أو أقذره أو أنتنه، أو أكثره فإنه يلزمه ثلاث طلقات منجزة، سواء دخل بها أو لم يدخل وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة لزمه الثلاث في المدخول بها باتفاق، وفي غير المدخول بها قيل: تلزمه واحدة، وقيل: بل الثلاث، وهو الراجح.
    وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً للبدعة أو بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة لزمه الثلاث في المدخول بها وغيرها، أما إذا قال لها: أنت طالق واحدة للبدعة، أو واحدة للسنة أو قال: واحدة لا للبدعة ولا للسنة، فإنه يلزمه واحدة ومثل ذلك ما إذا قال: أنت طالق للسنة أو للبدعة ولم يقيد بواحدة فإنه يلزمه واحدة ما لم ينو أكثر في كل هذا فإنه يعمل بما نواه.
    وإذا شبه الطلاق بشيء كبير، أو عظيم، كما إذا قال: أنت طالق واحدة كالجبل، أو الجمل، أو القصر، ولم ينو بها أكثر، فإنه يلزمه واحدة. الشافعية - قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة، سواء كانت على وزان أفعل أو لا، إلا ما نتق به أو نواه. فلو قال: أنت طالق طلقة واحدة. أو طلقة كبيرة، أو عظيمة، أو أعظم الطلاق، أو أكبره، أو أطوله، أو أعرضه، أو أشده، أو ملء الجبل أو ملء السماء والأرض فإنه يقع به واحدة ما لم ينو أكثر، فيلزمه ما نواه.
    وإذا قال لها: أنت طالق أقل من طلقتين وأكثر من واحدة لزمه ثنتان. أما إذا قال لها: أنت طالق لا كثير ولا قليل لزمه واحدة، أما إذا قال لها: أنت طالق لا أقل الطلاق ولا أكثره فإنه يلزمه الثلاث، لأن قوله، لا أقل الطلاق معناه أكثره، وهو الثلاث فقوله بعد ذلك ولا أكثره لغو، لأنه لا يملك رفعه بعد وقوعه، وإذا نوى بقوله: لا أقل الطلاق ثنتان لزمه ثنتان وإذا قال لها: أنت طالق طلاق السنة أو طلقة حسنة، أو أحسن الطلاق أو أجمله، أو أنت طالق طلاق البدعة، أو طلقة قبيحة، أو أقبح الطلاق أو أفحشه، فإن أراد طلاق السنة بالأوصاف الحسنة، والطلاق البدعة بالوصاف القبيحة، ينظر إن كانت المرأة في طهر لا وطء فيه طلقت بالأوصاف الحسنة حالاً، لأنها متصفة بحالة السنة، وإن كانت حائضاً، أو في طهر جامعها فيه تطلق بالأوصاف القبيحة حالاً، وإلا طلقت عند تحقق الوصف، فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه، وقال لها: أنت طالق للبدعة لا تطلق حتى تحيض، وإلا طلقت حالاً، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق للسنة، وكانت حائضاً فإنها لا تطلق حتى تطهر ولم يجامعها في ذلك الطهر.
    أما إذا نوى وصف الطلاق بالحسن لأن امرأته قبيحة لا يصح معاشرتها، فطلاقها حسن جميل، ولكنها كانت حائضاً وقع الطلاق في الحال وكذا إذا نوى وصفه بالقبح لأن امرأته حسنة الخلق وطلاقها قبيح، فإنه يقع في الحال ولو كانت في طهر لم يجامعها فيه، فلا تنتظر الحيض حتى يكون طلاقها قبيحاً. هذا كله إذا كانت المرأة ممن يتف طلاقها بالسنة أو البدعة، فإن كانت غير مدخول بها لا يتصف طلاقها بسني ولا بدعي، كما تقدم فإن طلاقها الموصوف بهذه الصفات يقع في الحال.
    وإذا شبه الطلاق بعدد وقع بقدر هذا العدد، فلو قال لها أنت طالق كألف طلقة لزمه الثلاث وكذا إذا قال لها: أنت طالق عدد الرمل بخلاف أنت طالق عدد التراب فإنه يقع به واحدة كما يقول الحنفية، وإذا قال لها: أنت كمائة طالق، لزمه واحدة لأنه شبهها بمائة امرأة طالق، ولم يشبه طلاقها بمائة طلقة بخلاف ما إذا قال لها: أنت مائة طالق، فإنه يلزمه الثلاث كما يلزمه بقوله: أنت طالق مائة مرة، أو بالثمانين، وإذا قال لها: أنت طالق بعدد شعر إبليس لزمه طلاق واحد لأن شعر إبليس غير معلوم فيلغى العدد، وإذا قال لها: أنت طالق عدد ما لاح بارق أو عدد ما مشى الكلب حافياً، أو عدد ما حرك الكلب ذنبه لزمه الثلاث.
    خاتمة إذا قال لها: أنت طالق كما حللت حرمت لزمه طلقة واحدة، وإذا قال لها: علي الطلاق الثلاث إن رحت دار أبيك فأنت طالق فقيل: يقع واحدة، وقيل يقع به ثلاث، والأول أظهر، لأن أول الصيغة ليس بيمين، فلا يقع به شيء.
    الحنابلة - قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة حسنة، كقوله: أنت طالق طلقة فاضلة، أو عادلة أو كاملة، أو جميلة، أو قال لها: أنت طالق أحسن الطلاق، أو أجمله، أو أقربه، أو أعدله، أو أكمله، أو أفضله، أو أتمه، فإنه يحمل كل ذلك على الطلاق السني، بمعنى أنها إن كانت في طهر لم يجامعها فيه وقع عليه الطلاق في الحال، لأنه هو الطلاق الحسن الجميل وإلا بأن كانت حائضاً أو نفساء، أو في طهر جامعها فيه، فإنها لا تطلق إلا إذا حاضت وطهرت طهراً لم يجمعها فيه إلا إذا نوى أن يقول لها: إن أحسن أحوالك هي أن تكوني مطلقة فإنه يقع في الحال وإذا ادعى أنه أراد وصف طلاقها بالحسن لقبيح معاشرتها، بمعنى إن كانت قبيحة المعاشرة كان طلاقها حسناً جميلاً لم يقبل قوله إلا بقرينة لأنه خلاف الظاهر.
    وعلى عكس ذلك إذا وصف طلاقها بصفة قبيحة، كما إذا قال لها: أنت طالق أسمج الطلاق أو أردأه، أو أنتنه، ونحو ذلك طلقت للبدعة بمعنى أنها إن كانت حائضاً، أو نفساء أو كانت في طهر جامعها فيه فإنها تطلق حالاً، وإلا طلقت عند الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه، وأما إذا نوى أن يصف حالها بالقبح، بمعنى أن أقبح أحوالها هي الحالة التي تطلق فيها فإنها تطلق في الحال أما إذا نوى أن يصف طلاقها بالقبح لحسن معاشرتها، فكأنه يقول لها: إن طلاقك قبيح لحسن معاشرتك فإنه لا يصدق إلا بالقرينة، كما ذكر أولاً.
    هذا كله إذا كانت مدخولاً بها غير حامل، وإلا طلقت في الحال، وإذا قال لزوجته: أنت طالق واحدة بائنة، أو واحدة بتة وقعت واحدة رجعية لأنه وصف الواحدة بغير وصفها، فألغي الوصف.
    وإذا قال لها: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثر بالثاء أو أنت طالق جميعه، أو منتهاه، أو غايته لزمه الثلاث وإن نوى واحدة، وكذا إذا قال لها: أنت مائة طالق أو يا مائة طالق، فإنه يلزمه الثلاث، ومثل ذلك ما إذا شبه الطلاق بشيء يتعدد كعدد الحصى أو التراب أو الرمل أو القطر، أو الريح، أو الماء، أو النجوم، أو الجبال، أو السفن، أو البلاد فإنها تطلق في كل ذلك ثلاثاً، وكذا إذا قال لها: أنت طالق كألف، أو كمائة، فإن نوى التشبيه في الشدة لا في العدد يسمع منه قضاء.
    وإذا قال: أنت طالق أشد الطلاق أو أغلظه، أو أكبره، أو أطوله، أو أعرضه، أو ملء الدنيا، أو ملء البيت أو مثل الجبل أو مثل عظم الجبل، فإنه يقع بكل هذا واحدة رجعية ما لم ينو أكثر) .
    (2) (الحنفية - قالوا: للرجل أن ينيب عنه امرأته في تطليق نفسها منه. كما له أن ينيب عنه غيرها، في الطلاق على ثلاثة أوجه:
    الوجه الأول: الرسالة، وهو أن يرسل لها رسولاً يخبرها بأن زوجها يقول لها: اختاري، فالرسول ينقل عبارة الزوج إلى المرأة، فلم ينشئ عبارة من نفسه، فإذا نقل لها الرسول ذلك واختارت نفسها بالشرائط الآتية طلقت منه.
    الوجه الثاني: التوكيل، وهو أن يقيم الزوج غيره مقام نفسه في تطليق امرأته، سواء كانت المرأة نفسها. أو غيرها إلا أن المرأة لا يمكن أن تكون وكيله، لأن الوكيل يعمل عملاً للغير، أما المرأة، فإنها تطلق نفسها فلا يعمل لغيرها، وعلى هذا يكون توكيلها تفويضاً، ولو صرح بالتوكيل كما سيأتي توضيحه قريباً، والفرق بين الرسول والوكيل أن الرسول ينقل عبارة الزوج ولا ينشئ عبارة من نفسه، أما الوكيل فإنه يعبر بعبارته فلم ينقل عبارة موكله.
    الوجه الثالث: التفويض، وهو تمليك الغير الطلاق، ويفرق بين الوكالة والتفويض، بأن المفوض مالك يعمل بمشيئته، بخلاف الوكيل فإنه يعمل لمشيئته موكله، ويختلف كل من التوكيل والتفويض في عدة أحكام، منها أن الزوج المفوض لا يملك الرجوع بعد التفويض فإذا قال لامرأته: طلقي نفسك فإنها تملك الطلاق بمجرد قوله هذا، ولو لم تقل: قبلت، وليس له أن يقول: قد رجعت أو قد عزلتك بخلاف التوكيل، فإن له أن يعزل وكيله، فإذا قال لشخص أجنبي: طلق امرأتي فإن له أن يقول بعد ذلك: عزلتك، لأن هذه العبارة توكيل، وله أن يبطل توكيله بوطء زوجته، ومنها أن التفويض لا يبطل بجنون الزوج، بخلاف التوكيل، ومنها أنه لا يشترط في المفوض إليه أن يكون عاقلاً، فإذا فوض لامرأته المجنونة أو فوض لصغير لا يعقل وطلق امرأته أو طلقت نفسها وقع الطلاق بخلاف الوكيل فإنه يشترط فيه أن يكون عاقلاً من أول الأمر، والفرق بين الحالتين أنه في الحالة الأولى قد ملك الزوج الطلاق الذي له إيقاعه للمجنون، فالمجنون أوقع ما أعطاه إياه، نعم إذا فوض الطلاق إلى عاقل ثم جن فإن التفويض يبطل، لأنه ملكه وهو عاقل، ومنها أن التفويض يتقيد بالمجلس، فإذا قام المفوض إليه من المجلس قبل أن يطلق أو يختار بطل التفويض، كما سيأتي قريباً.
    ثم إن التفويض ينقسم إلى قسمين: صريح، وكناية، وألفاظ الصريح، كأن يقول لزوجته: طلقي نفسك، أو يقول لها طلقي نفسك إذا شئت أو متى شئت، أو نحو ذلك، فلذلك تفويض الطلاق إلى المرأة تملك به تطليق نفسها في المجلس، حتى ولو قال لها: وكلتك في تطليق نفسك، فإن هذا وإن كان قد صرح فيه بلفظ التوكيل، ولكن المرأة في هذه الحالة لا تنطبق عليها الوكالة لأن الوكيل يعمل لغيره، وهي تطلق نفسها، فلا تعمل لغيرها، فكلمة الوكالة لا تخرج العبارة عن التفويض، ومثل ذلك ما إذا قال لغير امرأته، طلق امرأتي متى شئت، أو إذا ما شئت، أو إذا شئت وكذا إذا قال لامرأته: طلقي ضرتك إذا شئت، أو متى شئت الخ أما إذا قال للأجنبي: طلق امرأتي أو قال لامرأته طلقي ضرتك، ولم يقيد ذلك بالمشيئة، فإنه يكون توكيلاً لا تفويضاً. أما الكناية فهي لفظان، أحدهما أن يقول: اختاري. ثانيهما: أن يقول: أمرك بيدك.
    ومن هذا يتبين أن ألفاظ التفويض ثلاثة: أحدها الصريح، سواء كان مقيداً بالمشيئة أو لا. ثانيها: اختاري. ثالثها: أمرك بيدك، وهما كناية لا يقع بهما الطلاق إلا بثلاثة شروط:
    أحدها: أن ينوي الزوج بها الطلاق.
    ثانيها: أن تنوي الزوجة كذلك.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب الطلاق]
    صـــــ 322 الى صــــــــ
    341
    الحلقة (209)



    ثالثها: أن تضيف الطلاق إلى نفسها وإلى زوجها، كما تقدم في مبحث إضافة الطلاق، على أن دعوى عدم النية لا تسمع من الزوج قضاء إذا كانا في حالة غضب، أو حالة مذاكرة الطلاق، ولكن ينفعه ذلك بينه وبين الله.
    ويشترط لصحة التفويض بألفاظه الثلاثة أن لا يقع التطليق به في المجلس، فإذا شافهها بقوله: طلقي نفسك لزمها أن تطلق نفسها في المجلس الذي شافهها وهي جالسة فيه وكذا إذا علمت بأنه فوض إليها الطلاق وهي غائبة، فإنها يلزمها أن تطلق نفسها في المجلس الذي علمت فيه بحيث لو انتقلت منه يبطل التفويض، ومثل ذلك ما إذا فوض إلى غير الزوجة فإنه يلزمه أن تطلق في المجلس. ولا يشترط أن تطلق نفسها فوراً، بل لو مكثت في مكانها يوماً أو أكثر بدون أن تتحول منه فإن لها ذلك، وكذا لا يشترط حضور الزوج المفوض، إنما الشرط أن لا تتحول عن مكانها الموجودة فيه، وأن لا تعمل عملاً يدل على الاعراض عن تطليق نفسها. فإن تحولت عن المجلس بالانتقال إلى مكان آخر بطل التفويض، وكذا إن عملت عملاً يدل على الانصراف عن ذلك، وإن لم تتحول من مكانها وذلك كما إذا كانت جالسة فقامت، أو تكلمت بكلام أجنبي يدل على انصرافها عن الموضوع، أو شرعت في خياطة ثوبها مثلاً، أو عملت عملاً يفيد الإعراض، أما إذا عملت عملاً لا يدل على الإعراض والانصراف، كأن لبست ثوباً، أو شربت ماء، أو كانت قائمة فجلست، أو كانت قاعدة فاتكأت، أو نامت وهي قاعدة أو استدعت والدها للمشورة، أو استدعت الشهود فإن كل ذلك لا يبطل به التفويض، لأنه لا يدل على إعراضها.
    وإذا كانت في سفينة جارية وفوض لها طلاقها فإن انتقال السفينة من مكانها لا يضرها لأنها كالمنزل بالنسبة لها، إنما الذي يبطل تفويضها أن تقوم هي من مكانها أو تعمل ما يدل على الإعراض وإذا كانت راكبة دابة سائرة فأوقفتها فإنه لا يضر، وإذا كانت واقفة فسيرتها فإنه يضر، لأنها سارت باختيارها إلا إذا أجابته بمجرد سكوته من التفويض بحيث وصلت قولها: طلقت نفسي بقوله: طلقي نفسك فإنه يصح مع تسيير الدابة، وإذا كانت في محمل يقوده الجمال فإنه يعتبر كالسفينة والبيت.
    هذا إذا لم يؤقت التفويض بوقت، فإذا أقته بوقت، كأن قال لها: طلقي نفسك أثناء شهرين أو نحو ذلك فإن لها أن تطلق نفسها في خلال المدة،
    وإذا قال لها: طلقي نفسك متى شئت، أو متى ما شئت، أو إذا شئت، أو إذا ما شئت فإن لها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت، ولا يصح رجوعه على أي حال، لأنه قد ملكها الطلاق، كما تقدم.
    هذا، ويتعلق بألفاظ التفويض الثلاثة المذكورة أحكام أخرى، إليك بيان ما يلزم منها:
    فأما التفويض صريحاً فإنه يتعلق به أحكام، منها أنه إذا قال لزوجته: طلقي نفسك، فقالت: طلقت نفسي وقعت واحدة رجعية، سواء نوى واحدة، أو لم ينو شيئاً، وكذا إذا نوى ثنتين فإنه يقع به واحدة فقط، لما عرفت من أن الطلاق الصريح موضوع للواحدة، فلا يصلح لنية الاثنتين، نعم إذا نوى بقوله: طلقي نفسك الثلاث فطلقت نفسها لزمته الثلاث، كما تقدم في الصريح، وإذا قال لها: طلقي نفسك، فقالت: أبنت نفسي وقع به طلاق رجعي، وذلك لأنه لما قال لها: طلقي نفسك فقد ملكها أصل الطلاق فزادت عليه وصف البينونة، فيلغي الوصف الزائد ويثبت الأصل فلا يشترط في وقوع الطلاق بقولها: أبنت نفسي أن تنوي المرأة الطلاق، كما لا يشترط إجازة الزوج الطلاق بها، وهذا بخلاف ما إذا قالت: أبنت نفسي ابتداء بدون أن يقول لها: طلقي نفسك فإنه لا يقع به الطلاق إلا إذا نوت المرأة الطلاق، وأجاز الزوج الطلاق بذلك مع نية الطلاق. أما إذا قال لها: طلقي نفسك، فقالت: اخترت نفسي فإنه لا يقع به شيء أصلاً، وذلك لأن قولها: اخترت نفسي ليست من ألفاظ التفويض لا صريحاً ولا كناية فيقع لغواً، نعم يكون كناية إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترت نفسي فإنه يقع به الطلاق البائن بشرط أن ينوي الزوج به الطلاق وتنوي الزوجة كذلك.
    وإذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت نفسها واحدة وقعت واحدة، وإذا قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثاً فإنه لا يقع به شيء على الراجح، وقيل: تقع به واحدة. وإذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت، فقالت: أنا طالق لا يقع به شيء، وذلك لأنه علق الطلاق الثلاث على مشيئتها الثلاث، ولا يمكن إيقاع الطلاق بلفظ طالق، فلم يقع به شيء، لأنه يوجد المعلق عليه، فإذا قالت أنا طالق ثلاثاً وقع الثلاث، وإذا قال لها: طلقي نفسك، فقالت: أنا طالق وقع طلاق واحد، أما إذا قال لها: طلقي نفسك، فقالت: أنا طالق فإنه لم يقع به شيء إلا إذا كان العرف يستعمل صيغة المضارع في الطلاق، أو نوت به إنشاء الطلاق لا الوعد بالطلاق في المستقبل.
    وأما التفويض بقوله: اختاري فإنك قد عرفت أنه كناية، ولا يقع به شيء إلا إذا نوى، ثم إنه إذا نوى به ثلاثاً فإنه لا يصح، وذلك لأن معنى اختيار نفسها في هذه الحالة تخليصها من قيد الزوجية، والذي يخلصها من قيد الزوجية هي البينونة، فالبينونة هي التي يستلزمها لفظ الاختيار فهي مقتضى اللفظ، ومقتضى اللفظ لا عموم له لأنه ضروري، فيقدر بقدر الضرورة، وهي البينونة الصغرى، فلا تصح نية الكبرى لعدم احتمال اللفظ إياها، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت بائن ونوى به الثلاث فإنه يصح ويلزمه ما نواه، فإن لفظ البينونة مذكور. فلا مانع من إرادة العموم منه، ومثل ذلك ما إذا قال لها: أمرك بيدك فإنه إذا نوى به الثلاث يلزمه ما نواه، كما تقدم في مبحث الكنايات.
    فإذا قال لها: اختاري ونوى به الطلاق، وقالت: اخترت نفسي فإنه يقع به واحدة بائنة، لأنه كناية، وإذا قالت: أنا أختار نفسي بصيغة المضارع فإنه يقع به طلاق بائن أيضاً، وهذا بخلاف ما إذا قالت: أنا أطلق نفسي فإنه لا يقع إلا إذا نوت إنشاء الطلاق أو كان العرف يستعمله في الطلاق كما تقدم قريباً.
    ويشترط في إيقاع الطلاق بلفظ اختاري أن يذكر الزوج أو المرأة أحد لفظين. إما النفس وإما الاختيارة، بأن يقول لها الزوج، اختاري نفسك، أو يقول لها: اختاري، وهي تقول: اخترت نفسي. أو يقول لها: اختاري اختيارة، فتقول: اخترت أو يقول لها اختاري، فتقول: اخترت اختيارة، وذلك لأن ذكر اختيارة يقوم مقام ذكر النفس، ومثل ذلك ما إذا قال لها: اختاري أمك، أو اختاري طلقة، فتقول: اخترت، وإذا قال لها: اختاري، فقالت اخترت أبي أو أمي، أو أهلي، أو الأزواج، فإنه يقوم مقام ذكر النفس، فيقع به البائن.
    أما إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترت، ولم يذكر واحد منهما النفس، أو الاختيارة أو الأب، أو الأم، أو نحو ذلك من الألفاظ التي تقدمت، فإنه لا يقع به شيء، والشرط ذكر ذلك في كلام أحدهما لا في كلام الزوج خاصة، فإذا قالت: اخترت زوجي لم يقع شيء، ولو قالت: اخترت زوجي ونفسي، فإنه لا يقع أيضاً، لأن ذكر زوجها أولاً أبطل اختيار نفسها، فلو عكست قالت: اخترت نفسي وزوجي، فإنه يقع لأن ذكر نفسها أولاً أبطل اختيار زوجها وإذا قالت: اخترت نفسي أو زوجي فإنه لا يقع، لأن - أو - لأحد الشيئين فلا يدري إن كانت قد اختارت نفسها، أو زوجها، فيكون ذلك منها اشتغالاً بما لا ينبغي، فيعد إعراضاً، وإذا قال لها: اختاري نفسك، ثم قال لها: إن اخترتني أعطيك كذا من المال فاختارته بطل اختيارها ولا يلزم زوجها المال الذي جعله لها.
    ويشترط في ذكر النفس أو ما يقوم مقامها من الاختيارة، أو الأب، أو الأم، أو نحو ذلك أن تكون متصلة بالاختيار، فإذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترت، ثم سكتت زمناً، وقالت: نفسي، فإن كان ذلك في المجلس فإنه يصح، أما إذا قالت: اخترت، ثم قامت من المجلس وقالت: نفسي فإنه لا يصح ويبطل اختيارها، وإذا كرر لفظ اختاري ثلاثاً، فقال لها: اختاري، اختاري، اختاري، فقالت: اخترت، أو اخترت اختيارة يقع ثلاثاً إذا نوى بكل واحدة الطلاق، فإذا قال: إنه نوى بواحدة الطلاق، ونوى باثنتين المسكن، فإنه يصدق قضاء، بخلاف ما إذا قال: اختاري نفسك وكررها ثلاثاً، وقال: إنه لم ينو الطلاق، فإنه لا يصدق قضاء، وذلك لأن التكرار مع ذكر النفس دليل على إرادة الطلاق، ودلالة الظاهر أقوى من النية عند القاضي، فإن كان صادقاً في دعواه فإن ذلك ينفعه ديانة بينه وبين الله.
    وحاصل ذلك أنه لا بد في الكناية من النية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال أو التأكيد بالتكرار.
    وإذا قال لها: اختاري نفسك، وكررها ثلاثة، فقالت: اخترت الأولى، أو الوسطى، فقيل: يلزمه ثلاث، لأنها ملكت الكل دفعة واحدة بدون ترتيب، فلم تتحقق الأولى والثانية فيلغو قولها اخترت الأولى، وقيل: يلزمه واحدة، وهو الصحيح.
    وإذا قال لها: اختاري نفسك وكررها ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي، أو اخترت نفسي، بتطليقة، أو اخترت الطلقة الأولى، فإنها تطلق طلقة بائنة، لأنه فوض لها الطلاق البائن، فلا تملك الرجعي، بخلاف ما إذا قال لها: اختاري تطليقة، فقالت: اخترت نفسي، فإنها تطلق واحدة رجعية، لأنه فوض لها الرجعى.
    هذا، وإذا أرسل إلى امرأته رجلاً فقال له خير امرأتي، وعلمت بذلك، فليس لها الخيار قبل أن يذهب إليها ويخيرها، وهذا بخلاف ما إذا قال له أخبرها بالخيار، وقبل أن يخبرها سمعت بالخبر فاختارت نفسها فإنه يصح.
    وأما التفويض باللفظ الثالث، وهو الأمر باليد فإنه يقع به الطلاق البائن بالنية وتصح فيه نية الثلاث بخلاف الاختيار فإنه لا تصح فيه نية الثلاث كما تقدم. فإذا قال لزوجته: أمرك بيدك، ونوى به الثلاث، فقالت: اخترت نفسي، أو اخترت نفسي بواحدة، أو قبلت نفسي، أو اخترت أمري، أو أنت علي حرام، أو مني بائن، أو أنا منك بائن، أو طالق، فإنه يقع الثلاث التي نواها فإن لم ينو الثلاث فإنه يقع واحدة بائنة.
    ويشترط في الأمر باليد ما يشترط في الاختيار من ذكر النفس أو ما يقوم مقامها، فلا بد أن تقول المرأة: اخترت نفسي، أو اخترت أمري، ولا يملك الزوج الرجوع بعد التفويض، ولا بد من اختيار نفسها في المجلس، وغير ذلك من الأحكام المتقدمة في التفويض الصريح. والتفويض بالاختيار.
    ومثل قوله: أمرك بيدك، قوله أمرك بشمالك أو أنفك، أو لسانك، ولا يشترط أن تكون كبيرة بل إذا فوض لها وهي صغيرة فإنه يصح كما تقدم قريباً.
    وكذا قوله: أعرتك طلاقك، أو أمرك بيد الله، أو أمري بيدك، فإن كل هذه الألفاظ مثل قوله: أمرك بيدك.
    هذا، وقد تقدم أنه إذا تزوجها على أنها أمرها بيدها فإنه يصح بشرط أن تبدأ المرأة بالشرط فتقول: زوجتك نفسي على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد، فيقول الزوج قبلت، أما إذا بدأ الزوج فإنها لا تطلق.
    وقد تقدم تعليل ذلك في مبحث - إذا اشترط في النكاح شرطاً - من هذا الجزء فارجع إليه.
    المالكية - قالوا: للزوج أن ينيب عن الزوجة أو غيرها في الطلاق، وتنقسم النيابة في الطلاق إلى قسمين:
    الأول: رسالة، وهي أن يرسل الزوج إلى امرأته رسولاً يعلمها بالطلاق، فالرسول لم يجعل له الزوج إنشاء الطلاق، وإنما جعل له إعلام الزوجة بثبوت الطلاق بعبارة الزوج نفسه فليس للرسول سوى نقل عبارة الزوج للزوجة لإعلامها بثبوت الطلاق، فنيابة الرسول نيابة بإعلام الزوجة بثبوت الطلاق، فحقيقة الرسالة هي أن يقول الزوج للرسول: بلغ زوجتي أني قد طلقتها، وفي هذه الحالة لا يتوقف طلاقها على تبليغها الرسالة، وقد تطلق الرسالة مجازاً، على ما إذا قال لشخص: طلق زوجتي.
    القسم الثاني: تفويض الطلاق، وهو ثلاثة أنواع: توكيل، وتخيير، وتمليك، والفرق بين الأمور الثلاثة أن التوكيل هو جعل إنشاء الطرق للزوجة أو لغيرها مه بقاء حقه في المنع من الطلاق، ومعنى ذلك أن التوكيل لا يسلب حق الموكل في عزل الوكيل أو رجوعه عن توكيله قبل تمام الأمر الذي وكله فيه، فلو وكلها في تطليق نفسها ففعلت وقع الطلاق وليس له حق الرجوع حينئذ لأنها أتمت الفعل الذي وكلها فيه، إنما له الرجوع والعزل قبل أن تطلق نفسها.
    والحاصل أن التوكيل ليس فيه جعل إنشاء الطلاق حقاً للوكيل، وإنما فيه جعل إنشاء الطلاق للوكيل نيابة عن الموكل، فللموكل عزله عن هذا متى شاء على أنه إذا وكلها بالطلاق مع تعلق حق لها به زائد على التوكيل فإنه لا يملك عزلها، مثال ذلك أن يقول لها: إن تزوجت عليك فقد جعلت أمرك بيدك وأمر من أتزوجها بيدك توكيلاً عني، ففي هذه الحالة لا يملك عزلها من التوكيل ولا عزله لأن لها حقاً فيه وهو دفع الضرر عنها، وإذا وكل الزوج عنه أجنبياً على أن يفوض للزوجة أمرها بأن قال له: وكلتك على أن تفوض لزوجتي أمرها تخييراً أو تمليكاً، أو قال له: وكلتك على أن تخير زوجتي أو تملكها أمرها، فإن ذلك يصح، وهل يكون الأجنبي في هذه الحالة وكيلاً يصح للزوج عزله أو يكون مفوضاً كالزوجة فلا يصح؟ والجواب: أنه إذا فرض للزوجة بالفعل فقد أصبحت مالكة، ولا يكون للزوج كلام، وأما إذا لم يفوض لها فإنه يكون وكيلاً يصح عزله، كما إذا وكله على طلاقها، فإن له عزله قبل أن يطلقها، فإذا طلقها، نفذ طلاقه ولا كلام للزوج، وهذا هو المعقول، لأن كونه وكيلاً في التخيير أو التمليك لغيره لا يجعله مخيراً أو مملكاً، فهو وكيل على كل حال، فمن قال: أنه يكون مالكاً للتخيير أو التمليك فلا يصح عزله فقد سهى عن كونه وكيلاً في تمليك الزوجة، فلا يكون هو مخيراً ولا مملكاً، نعم إذا خيره في عصمتها أو ملكه إياها، كأن قال له: أنت مخير في تطليق زوجتي، أو أمر عصمتها بيدها، فإنه في هذه الحالة لا يصح عزله، فإنه يكون هو المخير المملك.
    هذا هو التوكيل، أما التخيير، فهو جعل الزوج إنشاء الطلاق ثلاثاً حقاً لغيره نصاً أو حكماً،يعني أن صيغة التخيير وضعها الشارع لتمليك الغير الطلاق الثلاث نصاً أو حكماً بأنه يملك إنشاء الطلاق الثلاث، فالمخيرة إذا اختارت الطلاق وجب عليها أن تطلق ثلاثاً، وإلا سقط خيارها على التفصيل الآتي.
    أما التمليك، فهو عبارة عن جعل إنشاء الطلاق حقاً للغير راجحاً في الثلاث لا نصاً في الثلاث ولا حكماً، فيخص بأقل من الثلاث بالنية، فقوله: جعل إنشاء الطلاق حقاً للغير خرجت عنه الرسالة وخرج به التوكيل ليس فيه جعل إنشاء الطلاق حقاً للغير، وقوله: راجحاً في الثلاث خرج به التخيير لأن التخيير فيه جعل إنشاء الطلاق الثلاث للغير نصاً أو حكماً لا جعله راجحاً، وحاصل الفرق بين التوكيل وبين التخيير والتمليك، أن الوكيل يعمل على سبيل النيابة عن موكله، والمملك والمخير يفعلان عن نفسهما لأنهما قد ملكا ما كان الزوج يملكه، والفرق بين التخيير والتمليك أن التخيير يجعل للمخير - سواء كانت الزوجة أو غيرها - الحق في إنشاء الطلاق الثلاث وإن لم ينو الزوج بها الثلاث، أما التمليك فإنه يجعل للغير الحق في الثلاث راجحاً ولكن يخص ما دون الثلاث بالنية، فإذا ملك الزوج امرأته الطلاق فطلقت نفسها ثنتين أو ثلاثاً، وقال هو: بل نويت تمليكها واحدة فإنه يسمع منه بالشرائط الآتية: أما إذا خيرها وكانت مدخولاً بها فطلقت نفسها ثلاثاً وقال: إنني نويت واحدة أو ثنتين فلا يسمع قوله.
    وحاصل الفرق أن المخيرة إذا كانت مدخولاً بها وطلقت نفسها ثلاثاً فإنه ينفذ ولا يسمع من الزوج دعوى أنه نوى أقل من ذلك. أما المملكة فإن له أن يعترض على ما زاد على الواحدة.
    هذا هو المقرر المنقول عن مالك، ولكن التحقيق أن الإفتاء بذلك يتبع العرف، فإن كان العرف يستعمل التخيير في تمليك الثلاث بقطع النظر عن نية الزوج المخير عمل به، وإلا عمل بما عليه العرف، والظاهر أن المنقول عن الإمام مالك من أن التخيير للمدخول بها يملكها الثلاث بدون نية مبني على عرف زمانه، وإلا فالواقع أن التخيير ليس صريحاً في الطلاق، فهو كناية لا يلزم به شيء لغة، كما هو الحال عند الأئمة الثلاثة، ولكن المالكية يعتبرون العرف ويقدمونه على اللغة، فإذا نقل العرف لفظاً من معناه اللغوي إلى مفهوم آخر واستعمله فيه كان صريحاً فيه، وهذا هو الذي كان في عهد مالك رضي الله عنه في تخيير المرأة، أما إذا كان عرف زماننا على أنه لا يقع طلاق بالتخيير إلا بالنية، فإنه يعمل به لأن الحكم يتغير بتغير العرف.
    هذا هو إيضاح الفرق بين التوكيل، والتخيير، والتمليك.
    أما الصيغ التي تدل على التخيير، فهي كل لفظ يدل على أن الزوج فوض لامرأته البقاء على عصمته، أو عدم البقاء ومن ذلك أن يقول لها: اختاري نفسك، أو اختاريني أو اختاري أمرك.
    وأما الصيغ التي تدل على التمليك، فهي كل لفظ يدل على أن الزوج جعل الطلاق بيد امرأته أو بيد غيرها بدون تخيير، ومن ذلك أن يقول لها: طلقي نفسك أو ملكتك أمرك، أو وليتك أمرك أو أمرك بيدك أو طلاقك بيدك أو نحو ذلك.
    أما الصيغ التي تدل على التوكيل فقد ذكرت في - مباحث الوكالة - في الجزء الثالث، فارجع إليه.
    وإذ قد عرفت الفرق بين الرسالة والتمليك، والتخيير، والتوكيل، وعرفت الصيغ التي تدل على كل منها، فاعلم أنه يتعلق بها أحكام بعضها مشترك بينها، وبعضها خاصة بأحدها دون الآخر، فمن الأحكام المشتركة وجوب الحيلولة بين الزوجين بعد التمليك، أو التخيير، أو التوكيل الذي يتعلق به حق الزوجة، فإذا قال لها: اختاري نفسك، أو قال لها، أمرك بيدك، أو قال لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك توكيلاً، ثم تزوج عليها، وجب عليه أن يعتزلها ولا يقربها حتى تجيب بما يقتضي أنها طلقت نفسها أو ردت الطلاق، وذلك لأن العصمة في هذه الحالة مشكوك في بقائها، لأن للمرأة تطلق نفسها في أي وقت، ولا يحل الاستمتاع بامرأة مشكوك في بقاء زوجيتها، ولا نفقة لها زمن الحيلولة لأنها هي السبب، فإذا ماتا في زمن الحيلولة يتوارثان، أما التوكيل الذي لم يتعلق به حق لها، كما إذا قال لها: وكلتك في طلاق نفسك فإنه لا يمنع قربانها، فلو استمتع بها بعد التوكيل، ولو مكرهة كان ذلك الاستمتاع عزلاً لها من التوكيل، حتى ولو كان الزوج قاصداً بقاءها على التوكيل.
    ويصح تعليق التخيير والتمليك على أمر من الأمور، كأن بقول لها: إن جاء والدك اختاري نفسك. أو إن قدم أخوك طلقي نفسك، فإذا قال ذلك: لا يجب التفريق بينهما حتى يجيء أبوها، أو يقدم أخوها.
    وكذا يصح تقييد التمليك أو التخيير بزمن، كأن بقول لها: خيرتك إلى سنة، أو خيرتك في البقاء معي أو مفارقتي إلى سنة، أو إلى أي زمن يبلغه عمرهما ظاهراً، فإن التخيير يصح، ولكن بمجرد علم الحاكم بتخييرها أو تمليكها على هذا الوجه يجب عليه أن يطلب منها الجواب بدون مهلة، فعليها أن تطلق نفسها حالاً أو ترد ما بيدها من التمليك، أو التخيير، فإن قضت فذاك وإلا أسقط الحاكم تخييرها أو تمليكها، حتى ولو رضي الزوج بالإمهال، وذلك لأن فيه حقاً لله تعالى، وهو حرمة التمادي على الاستمتاع بالمرأة المشكوك في بقاء عصمتها.
    ومن الأحكام المشتركة بين التمليك والتخيير أنه يعمل فيهما بجواب المرأة، فإذا طلقت نفسها طلاقاً صريحاً أو كناية ظاهرة عمل بمقتضاهما، ومثال الصريح أن تقول: طلقت نفسي منك، أو أنا طالق منك، أو أنت طالق مني، ومثال الكناية الظاهرة أن تقول: أنا منك بتة، أو بائن، أو حرام، ويلحق بهما قولها: اخترت نفسي، أما إذا أجابت بالكناية الخفية فإنه يسقط ما بيدها، ولا يقبل منها أنها أرادت بذلك الطلاق، فإذا قالت: أنا منك مطلقة - بفتح اللام مخففة - سقط خيارها، وإنما وقع الطلاق بقولها: اخترت نفسي، مع كونه ليس من ألفاظ الطلاق الصريح ولا من ألفاظ الكناية الصريحة، لنه جعل جواباً للتخيير فيقع به الطلاق، وقد تقدم في مباحث الكنايات بيانات الكناية الظاهرة والكناية الخفية، فارجع إليه.
    وإذا ردت الطلاق، كأن قالت: رددت ما ملكتني، أو لا أقبل منك تخييرك، عمل بمقتضاه من بطلان ما بيدها وبقائها زوجة، ومثل ذلك ما إذا ردت التمليك بالفعل وهو يحصل بأن تمكنه من نفسها طائعة، وإن لم يحصل وطء، فمتى مكنته من نفسها بعد أن علمت بأنه خيرها أو ملكها أمرها فإن حقها يسقط ولو كانت جاهلة بأن تمكينها يسقط حقها ومثل تمكينها ما إذا ملك أمرها لأجنبي، ومكنه منها طائعاً، بأن خلى بينه وبينها ولم يحل بينهما، فمتى فعل ذلك سقط حقه في التمليك أو التخيير، وكذا يسقط حقها إذا حدد لها زمناً، ومضى ذلك الزمن ولم يوقفها الحاكم - يلزمها بالاختيار - فإذا قال لها: اختاريني أو اختاري نفسك في هذا اليوم أو في هذا الشهر ولم يوقفها الحاكم عند علمه، ومضى ذلك الزمن المحدد ولم تختر فإن حقها يسقط.
    والحاصل أنه يشترط لبقاء الخيار أمران: الأول أن لا تمكنه من نفسها باختيارها بعد علمها بالتخيير أو التمليك، فإن مكنته سقط حقها، وإن لم يطأها، ولو كانت جاهلة بأن تمكينه يسقط حقها. الثاني: أن لا يمضي الزمن الذي حدده للتخيير أن حدد له زمناً ولتحديد الزمن حالتان:
    الحالة الأولى: أن يعلم الحاكم به، وفي هذه الحالة يجب على الحاكم أو من يقوم مقامه الحيلولة بينهما حتى تجيب بالتطليق أو برد التمليك أو التخيير بلا مهلة، فإن لم تفعل قضى الحاكم بإسقاط حقها كي لا تستمر الزوجية مشكوكاً فيها زمناً.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [كتاب الطلاق]
    صـــــ 322 الى صــــــــ
    341
    الحلقة (210)


    الحالة الثانية: أن لا يعلم الحاكم فلا يوقفها الخ، وفي هذه الحالة يسقط اختيارها بعد مضي المدة وعلى كلتا الحالتين يجب على الزوج أن لا يقربها، إذا لا يحل الاستمتاع بامرأة مشكوك في بقاء عصمتها، وهل يسقط حقها إذا قامت من المجلس. أو لا؟ خلاف فبعضهم يقول: إذا خيرها تخييراً مطلقاً غير مقيد بالزمان أو ملكها تمليكاً مطلقاً لا يبقى خيارها أو تمليكها إلا في المجلس الذي خيرها فيه بحيث لو تفرقا بطل، على إنه إذا لم يتفرقا في المجلس ولكن مضى زمن يمكنها أن تختار فيه ولم تفعل سقط خيارها، وكذا إذا بقيا في المجلس ولكن فعلت ما يدل على الاعراض بطل خيارها، وهذا هو الراجح، وبعضهم يقول: لا يبطل تخييرها ولا تمليكها، وإن طال الزمن أو تفرقا من المجلس. ومن الأحكام المشتركة بينهما أن إذا خير زوجته وملكها، ثم أبانها بخلع أو بطلاق بائن، ثم ردها إلى عصمته ثانياً فإنه يبطل تخييرها أو تمليكها لأنها رجعت له باختيارها فأبطلت ما ملكته أولاً.
    أما إذا طاقها طلقه رجعية ثم راجعها فإن تخييرها لا يبطل لأن الرجعة لا تتوقف على رضاها، ومنها أنه إذا خيرها أو ملكها، فنقلت أثاث المنزل إلى دار أبيها، فإن نقلت الأثاث الذي ينقل بعد الطلاق كان طلاقاً، وإلا فلا، إلا إذا نوت به الطلاق، فإنه يكون طلاقاً بلا خلاف، وهو وإن كان فعلاً ولكن قد انضم إليه من قرينة التمليك أو التخيير ما يجعله كالصريح ومنها أنه إذا خيرها أو ملكها وأجابت بكلام يحتمل الطلاق ويحتمل البقاء في عصمته فإنها تؤمن بتفسيره ويقبل منها التفسير الذي تقرره، مثلاً إذا قال لها: اختاري فقالت: قبلت أو قالت: اخترت، أو قال لها: أمرك بيدك، فقالت: قبلت أمري أو قبلت ما ملكتني، ففي هذه الحالة تلزم ببيان غرضها، فإن قالت: أردت بقولي قبلت البقاء في عصمة زوجي أو اخترت البقاء في عصمته فإنها تبقى على عصمته، وإن قالت: أردت الطلاق، أو اخترت نفسي طلقت،وإن قالت أردت قبول التمليك أو التخيير بدون تعرض الطلاق وعدمه، بقيت على ما هي عليه من التمليك والتخيير ويحال بينهما حتى تجيب، كما تقدم، ومنها أن الزوج المخير أو المملك إذا قال: لم أرد بالتخيير أو التمليك طلاقاً أصلاً سقط حقه في الاعتراض ولزمه ما أوقعته سواء مدخولاً بها أو لا والمخيرة غير المدخول بها، لأنها هي التي له عليها حق الاعتراض كما ستعرفه بعد هذا، فإذا قال بعد ذلك إن ذلك صدر منه سهواً، وإنه يريد به أنه نوى طلقة واحدة قبل منه قوله، وعاد له حق الاعتراض على المعتمد، وقيل لا يقبل منه قوله، ويلزمه ما أوقعته، وصحح هذا القول أيضاً، ومنها أن الزوجة إذا كانت غير مدخول بها، سواء كانت مخيرة أو مملكة وخيرها الزوج تخييراً مطلقاً غير مقيد بواحدة أو ثنتين أو ثلاث، كأن قال لها: اختاري نفسك أو ملكها كذلك تمليكاً مطلقاً كأن قال لها: أمرك بيدك وطلقت
    نفسها ثلاثاً فإن للزوج الملك أو المخير الحق في الاعتراض على ذلك وعدم الاعتراف بما زاد على ما نواه ويعبر عنه الفقهاء المالكية بالمناكرة، فيقولون: للزوج الحق في مناكرتها، أي في عدم الاعتراف بما فعلته من زيادة أما المدخول بها فإن كانت مخيرة فلا حق له في مناكرتها مطلقاً، وإن كانت مملكة فله الحق في مناكرتها، وهنا يفترقان في الحكم كما يأتي.
    وإذا قالت: طلقت نفسي، أو طلقت زوجي ولم تقل ثلاثاً، فإنها تسأل عن غرضها، سواء كانت في المجلس، أو قامت منه، وسواء مضى زمن طويل كالشهرين، أو لا لأن جوابها يحتمل نية الثلاث ونية غيرها، فإذا قالت الثلاث أردت، فإن كانت مملكة كان له الحق في مناكرتها وعدم الاعتراف إلا بطلقة واحدة، سواء كانت مدخولاً بها أو لا، وكذا إذا كانت مخيرة غير مدخولاً بها فإن له الحق في مناكرتها كما تقدم أما إذا كانت مدخولاً بها فإنه يلزمه ما أوقعته إذ لا حق له في مناكرتها، وإذا قالت: أردت طلقة واحدة، فإن كانت مدخولاً بها مخيرة بطل تخييرها ولا يلزمه شيء، لأن التخيير معناه الإبانة، فهو قد خيرها في إبانة نفسها فاختارت عدم الإبانة والبقاء في عصمته، فبطل تخييرها ولأن المخيرة المدخول بها ليس لها أن توقع غير الثلاث فإن أوقعت أقل بطل تخييرها، وإن كانت مخيرة مدخولاً بها لزمته الواحدة التي أرادتها، وكذا إن كانت مملكه، سواء مدخولاً بها أو لا فإنه يلزمه الواحدة التي أرادتها.
    وإذا قالت: لم أرد بقولي طلقت نفسي عدداً معيناً ففي ذلك خلاف، فبعضهم يقول: يحمل قولها على إرادة الثلاث، فإن كانت مخيرة مدخولاً بها لزمته الثلاث بدون مناكرة وإن كانت غير مدخول بها كان له الحق في المناكرة فإن لم يناكر لزمه الثلاث أيضاً، وإن كانت مملكة لزمه الثلاث إن لم يناكر، وله الحق في المناكرة سواء كانت مدخولاً بها أولا، وهذا هو الراجح. وبعضهم يقول يحمل على الواحدة، فإن كانت مخيرة مدخولاً بها بطل تخييرها، وإن كانت غير مدخول بها لزمته الواحدة وكذا تلزم الواحدة في المملكة مطلقاً، سواء كانت مدخولاً بها أو لا.
    هذا، وإنما يكون للزوجة الحق في مناكرة المخيرة غير المدخول بها، والمملكة المدخول بها بشروط خمسة:أحدها: أن ينوي ما يدعيه من الواحدة أو الاثنتين عند تخييرها، فإن نوى واحدة له أن لا يعترف بالاثنتين وإن نوى ثنتين فله أن لا يعترف بالثالثة.
    ثانيها: أن يبادر إلى دعواه بعدم الاعتراف فإن تأخر زمناً يمكنه أن يدعي فيه سقط حقه.
    ثالثها: أن يحلف أنه نوى الواحدة أو الاثنتين عند التخيير، فإن نكل عن اليمين سقط حقه ولا ترد عليها اليمين.
    رابعها: أن لا يكرر قوله اختاري ونحوه، فإن كرره وطلقت نفسها ثلاثاً لزمته إلا أن يقول إنه نوى بالتكرار التأكيد فإن له أن لا يعترف بأكثر مما نواه.
    خامسها: أن لا يشترط التخيير أو يتبرع به الزوج في العقد فإن اشترطت عليه أن يكون لها الخيار أو يكون أمرها بيدها في العقد أو يتبرع به في العقد من تلقاء نفسه وطلقت نفسها ثلاثاً لزمته ولا حق له في عدم الاعتراف بما أوقعته أما إن تبرع لها بالتخيير أو التمليك بعد العقد فله أن لا يعترف بما أوقعته فإذا كتب في وثيقة الزواج أمرها بيدها إن تزوج عليها ولم يبين إن كان هذا صدر من الزوج في العقد باشتراطها أو تبرعه، ففي ذلك خلاف، فقيل: يحمل على أنه صدر في العقد ويلزمه الاعتراف بجميع ما أوقعته وقيل: يحمل على أنه تطوع به الزوج فله حق عدم الاعتراف. ومن الأحكام المختصة بالتخيير أنه قد اختلف فيه، فقيل: مكروه لأنه موضوع للثلاث، والطلاق الثلاث مكروه، وقيل جائز لأنه وإن كان موضوعاً للثلاث في غير المدخول بها ولكنه لم يجزم فيه بالثلاث لأن المرأة قد تختار زوجها، فالصحيح أنه جائز، أما التمليك فإن قيد بالثلاث كان مكروهاً وإلا فهو مباح اتفاقاً، ومنها أنه إذا قال لزوجته - سواء كانت مدخولاً بها أو لا - اختاري في واحدة، كان معناه اختاري المفارقة في مرة واحدة، والمفارقة في مرة واحدة تصدق بالثلاث، فيحتمل أنه أراد المفارقة في مرة واحدة، والمفارقة بالواحدة، ويحتمل أيضاً أن تكون - في - زائدة، والمعنى اختاري طلقة واحدة، فإن أوقعت ثلاثاً وادعى أنه نوى واحدة حلف اليمين على ذلك، لأن اللفظ محتمل لإرادة الثلاث، فإن حلف لزمته طلقة واحدة رجعية إذا كانت مدخولاً بها، وإن نكل لزمه ما أوقعته، ولا ترد اليمين عليها لأنها يمين تهمة، فإنه متهم على إرادة الثلاث، ويمين التهمة لا ترد في الخصم.
    وكذا إذا قال لها: اختاري في أن تطلقي نفسك أو تقيمي، فقالت: اخترت ثلاثاً، وادعى أنه أراد واحدة، حلف على ذلك، فإن حلف لزمته واحدة، وإلا لزمه ما أوقعته، وذلك لأن ضد الإقامة معه مفارقته بالبينونة، فلما قال: أو تقيمي احتمل كلامه أنه لم يرد حقيقة الطلقة التي صرح بها فيحلف على ذلك، أما إذا قال لها: اختاري في أن تطلقي نفسك، ولم يقل: أو تقيمي فأوقعت ثلاثاً وادعى أنه أراد واحدة، كان القول له بدون يمينه، وكذا إذا قال لها: اختاري في طلقة، فاختارت ثلاثاً فإنه لا يلزمه إلا واحدة بدون يمين، ومن باب أولى إذا قال لها: اختاري طلقة، فإنه لا يلزمه إلا واحدة ويبطل الزائد، أما إذا قال لها: اختاري تطليقتين فاختارت واحدة، فإنه يبطل ما قضت به، فلا تلزمه الواحدة لأنه خيرها في ثنتين، ولكن لا يبطل خيارها، فلها أن تختار بعد ذلك ثنتين أو تختار زوجها، وهذا بخلاف التمليك، فإنه إذا قال لها: ملكتك طلقتين أو ثلاثاً فقضت بواحدة لزمته واحدة، وإذا قال لها: اختاري من تطليقتين فاختارت أكثر فلا يلزمه إلا واحدة، ومنها أنه إذا خيرها تخييراً مطلقاً فاختارت واحدة بطل تخييرها إن كانت مدخولاً بها، كما تقدم قريباً، وهذا هو المشهور، وبعضهم يقول: إنه لا يبطل تخييرها ومثل ذلك ما إذا ملكها بشرط العدد، كأن قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت نفسها واحدة أو ثنتين، فإن فيه خلافاً، فقيل: يبطل تمليكها، وقيل: لا يبطل تمليكها وإنما يبطل ما أوقعته، ولها أن تطلق نفسها ثلاثاً وهذا هو الراجح عكس الأول.
    الشافعية - قالوا: للرجل أن يفوض الطلاق لزوجته: ومعناه تمليكها الطلاق، كقوله لها: طلقي نفسك، ويشترط لإيقاعها الطلاق بالتفويض شرطان: أحدهما: أن يكون الطلاق منجزاً، فإذا كان معلقاً، كما إذا قال لها: إن جاء رمضان فطلقي نفسك، فإنه لا يصح ولا تملك الطلاق بذلك، ولا فرق بين أن يملكها الطلاق بلفظ صريح أو كناية، الأول كما مثلنا، الثاني كأن يقول لها: أبيني نفسك إن شئت، بشرط أن ينوي بذلك التفويض وتنوي الزوجة الطلاق، لأنه كناية ولا يقع بها شيء إلا مع النية، ومن ذلك ما إذا قال لها: اختاري نفسك، فإنه يصح أن يكون كناية عن اختيارها الطلاق، فكأنه قال لها: اختاري طلاق نفسك.
    ثانيها: أن تطلق نفسها فوراً، فلو أخرته بقدر ما ينقطع به القبول عن الإيجاب، لا يقع الطلاق، وقال بعضهم: لا يضر الفصل بكلام يسير، فلو قال لها: طلقي نفسك، فقالت له: كيف أطلق نفسي؟ فقال لها: قولي: طلقت نفسي فقالت: ولا يضر ذلك الفصل على المعتمد، ومحل اشتراط الفورية إذا لم يقل: طلقي نفسك متى شئت، فإذا قال لها ذلك كان لها الحق في تطلق نفسها في أي وقت.
    والتفويض للمرأة كالتوكيل، فيجوز له الرجوع عنه قبل تطليق نفسها، وإذا قال لها: طلقي نفسك بألف، فطلقت بانت منه بالألف، وإن قال لها: طلقي نفسك ونوى عدداً، ونوت هي أقل منه أو أكثر منه وقع ما اتفقا عليه من ذلك العدد، فإن قال لها: طلقي نفسك ونوى بها ثلاثاً فقالت: طلقت نفسي، ونوت ثنتين وقع الثنتان، وذلك لأن كلاً منهما نوي الثنتين، فإن الذي نوى ثلاثاً نوي الثنتين ضمناً. وإن قال لها: طلقي نفسك ونوى واحدة، ونوت ثنتين وقعت واحدة، لأنها هي التي اتفق على نيتها، وإن لم ينويا شيئاً، أو لم ينو أحدهما شيئاً وقعت طلقة واحدة.
    وإن قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت نفسها واحدة وقعت الواحدة، ولها الحق في أن تطلق نفسها الثانية والثالثة على الفور ولو راجعها، وإذا قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت ثلاثاً وقعت واحدة، وألغي الاثنتان، وإن قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت ولم تذكر عدداً ولا نوته وقع الثلاث.
    وله أيضاً أن ينيب عنه غيره في تطليق زوجته، كما تقدم في مباحث الوكالة، جزء ثالث وله أيضاً أن يوكله في الخلع، ولو قدر لو كيله مالاً فخالعها على أقل منه لم تطلق، كما لو خالعها على غير الجنس الذي بينه له، وإن أطلق له التوكيل فخالعها على أقل من مهر المثل، فإنها تطلق بمهر المثل. وكذا للزوجة أن توكل عنها في الخلع، فإذا قدرت لموكلها مالاً وزاد عليه، وأضاف الخلع إليها كأن قال لها: خالعها من مالها وبوكالتها بانت بمهر المثل تدفعه هي:
    أما إذا لم يصف الزيادة إليها لزمته هو لجواز أن يكون زادها من نفسه، وصح توكيل كافر ولو في خلع مسلمة، وصح للزوج أن يوكل المحجور عليه لسفه، ولو لم يأذنه وليه، بخلاف الزوجة.
    الحنابلة - قالوا: للزوج أن ينيب عنه غيره في الطلاق، سواء كان النائب الزوجة أو غيرها، والنيابة في الطلاق توكيل على حال، سواء كانت بلفظ يدل على تمليك الطلاق، كقوله لها: طلقي نفسك، أو أمرك بيدك، أو كانت بلفظ التخيير، فللزوج أن يرجع عن النيابة قبل تطليق نفسها بأن يعزلها أو يعزل الأجنبي الذي أنابه، أو يعمل عملاً يدل على الرجوع، كأن يطأ زوجته، على أن لكل من ألفاظ التمليك أحكاماً تتعلق بها، فأما الأمر باليد، وهو أن يقول لها: أمرك بيدك أو يقول الأجنبي أمر زوجتي بيدك فهو كناية طاهرة، فإذا نوى بها الزوج الطلاق وقع في الحال وإن لم تقبل الزوجة، وإن لم ينو الطلاق، في الحال، بل نوى تفويض الطلاق للزوجة، فإن قبلته بلفظ الكناية، كقولها: اخترت نفسي لا يقع إلا بنية الطلاق منها، وإن قبلته بلفظ الصريح، كقولها: طلقت نفسي وقع بدون نية منها، ثم إن لفظ الأمر باليد يجعل لها الحق في أن تطلق نفسها ثلاثاً في المجلس وبعد المجلس ولو مضى زمن طويل ما لم يرجع قبل أن تطلق نفسها، فكأنه قال لها: طلقي نفسك ما شئت، وإذا قال: أردت واحدة لا يقبل منه ومثل ذلك ما إذا قال لغير الزوجة أمر زوجتي بيدك، أما إذا قال لها: طلقي ولم يقل متى شئت، فإنه يكون لها الحق في أن تطلق نفسها متى شاءت، لأنه لا يشترط فيه الفور، كما لا يشترط في قوله أمرك بيدك وهو توكيل من الزوج فله يرجع عنه بفسخه أو وطئها، كما تقدم، وتملك بذلك تطليق نفسها طلقة واحدة لا ثلاثاً عكس قوله لها: أمرك بيدك إلا أنم ينوي بذلك أكثر من واحدة، فإنه يقع ما نواه، وإذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي، ولم تقل ثلاثاً، لا يقع عليها الثلاث إلا إذا نوتها، كما إذا قال الزوج طلقتك، ونوى به ثلاثاً، فإن لم تنو الثلاث وقعت واحدة، أما إذا قال لها: طلاقك بيدك أو وكلتك
    في الطلاق، فإنه يكون لها الحق في أن تطلق نفسها ثلاثاً، لأن ذلك بمنزلة قوله أمرك بيدك.
    ويشترط في ايقاعها الطلاق أن تقول: طلقت نفسي، أو أنا منك طالق، فإن قالت وأنا طالق لم يقع. وكذا إذا قالت أنت طالق، أو أنت مني طالق، أو طلقتك فإنه لا يقع، بل لا بد من إضافة الطلاق إلى نفسها. أو إليها معاً كما يقول الحنفية.
    إما إذا قال لها اختاري نفسك فليس لها إلا أن تطلق واحدة رجعية كما إذا قال لها طلقي نفسك، إلا إذا قال اختاري ماشئت، أو اختاري الطلقات إن شئت، فإنها بذلك تملك الثلاث، وكذا إذا نوى عدد اثنتين أو ثلاثاً، فإنها تملك ما نواه، وإذا نوى الزوج ثلاثاً فواحدة، أو ثنتين وقع ما طلقته دون نظر إلى نيته، وإذا كرر لفظ اختاري، فقال: اختاري اختاري، اختاري، فإن نوى به عدداً وقع ما نواه وإلا لزمته واحدة، ويشترط في إيقاع الطلاق بالاختيار شروط:
    أحدها: أن ينوي الزوج به الطلاق، أو تفويض الطلاق للزوجة، فإن نوى به الطلاق وقع في الحال بدون حاجة إلى قبولها، لأنه كناية خفية، وقد نوى به الطلاق، أما إذا نوى به التفويض فإنه لا يقع إلا إذا أجابت الزوجة، فإن أجابت بالكناية كقوله اخترت نفسي لا يقع إلا بالنية وإن أجابت بالصريح كقولها طلقت نفسي وقع بدون نية منها، كما تقدم في الأمر باليد.
    ثانيها: أن تطلق نفسها في المجلس، فإن تفرقا قبل اختيار نفسها بطل تخييرها.
    ثالثها: أن لا يتشاغلا في المجلس بقول أو فعل أجنبي يقطع الخيار، إلا أن يجعل الزوج الخيار في زمن موسع كأن يقول لها: اختاري نفسك أسبوعاً، أو يوماً، أو شهراً، أو نحو ذلك فإنها تملك الخيار في المدة التي حددها.
    ويقطع الخيار في المجلس أن يقوما معاً، أو يقوم أحدهما، أو يتكلما بكلام أجنبي يدل على الاعراض، أو كان أحدهما قائماً فركب، أو مشى، أما إن كان قائماً فقعد فإنه لا يبطل أو كانت قاعدة فاتكأت فإنه لا يبطل، وإذا كانت راكبة فسارت بطل ولا يبطل بالأكل اليسير والتسبيحات القليلة وبطلب الشهود.
    وإذا جعله لها على التراخي، بأن قال لها: اختاري متى شئت، أو إذا شئت فإنه يصح) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الخلع]
    صـــــ 341 الى صــــــــ
    348
    الحلقة (211)





    مباحث الخلع
    تعريفه
    -الخلع - بفتح الخاء - مصدر خلع كقطع، يقال خلع الرجل ثوبه خلعاً أزاله عن بدنه ونزعه عنه ويقال: خلعت النعل خلعاً نزعته ويقال: خلع الرجل امرأته وخالعت المرأة زوجها مخالعة إذا افتدت منه. أما الخلع - بالضم - فهو مصدر سماعي، وليس اسماً للمصدر الذي هو الخلع - بالفتح - لأن اسم المصدر ما نقصت حروفه عن حروف فعله، ولا يخفى أن حروف الخلع - بالضم - مساوية لحروف فعله خلع، ومن قال: إنه اسم مصدر أراد أنه اسم للمصدر الذي هو الخلع - بالفتح - المشتق من خالع لا من خلع.
    ومن هذا تعلم أن الخلع - بالفتح - هو المصدر القياسي: وأنه يستعمل لغة في إزالة الثوب، وإزالة الزوجية، وأن اسم المصدر هو الخلع - بالضم - يستعمل في الأمرين كذلك، إلا أنه خص لغة بإزالة الزوجية، وبعضهم يقول: إن الخلع - بالفتح - وهو المصدر القياسي، معناه لغة النزع، وكذلك الخلع - بالضم - وهو المصدر السماعي، أو اسم مصدر خالع، معناه في اللغة النزع أيضاً، ولكن استعمل الأخير في إزالة الزوجية مجازاً، لأن كلاً من الزوجين لباس للآخر، فإذا فعلا ما يزيل الزوجية فكأنهما نزعا ذلك اللباس عنهما، وعلى هذا يكون استعمال الخلع في إزالة الزوجية بحسب الأصل اللغوي من قبيل المجاز، وقد صار بعد ذلك حقيقة لغوية في إزالة الزوجية. والحاصل أن الخلع - بالفتح - هو مصدر خلع القياسي، ومعناه إزالة الثوب، أو نزعه حساً، أما الخلع - بالضم - فمعناه هو معنى المصدر القياسي، ولكن هل اللغة تستعمله في إزالة الزوجية المعنوية، فيكون مستعملاً بحسب أصل اللغة في الإزالة الحسية والمعنوية، ثم خص لغة بالإزالة المعنوية، كالطلاق، والاطلاق، فإنهما يستعملان، بحسب أصل اللغة في رفع القيد، سواء كان حسياً أو معنوياً، ثم خص الطلاق برفع القيد المعنوي والاطلاق برفع القيد الحسي ثم أقر الشارع المعنى الثاني، وعلى ذلك يكون استعمال الخلع - بالضم - في إزالة الزوجية المعنوية حقيقة وظاهر أن كلاً من الزوجين لباس للآخر في المعنى فالخلع يزيل هذا اللباس المعنوي. أو يقال: إن الخلع - بالضم معناه لغة النزع والإزالة الحسية فقط، ثم شبه فراق الزوجين بإزالة الثوب، والعلاقة أن كلاً منهما لباس للآخر، كما قال تعالى: {هن لباس لكم} وعلى هذا يكون استعمال الخلع - بالضم - في نزع علاقة الزوجية مجازاً لغة.
    أما معناه اصطلاحاً ففيه تفصيل المذاهب (1) .
    مبحث هل الخلع جائز أو ممنوع؟ وما دليل ذلك؟
    -الخلع نوع من الطلاق، لأن الطلاق تارة يكون بدون عوض، وتارة يكون بعوض، والثاني هو الخلع، وقد عرفت أن الطلاق يوصف بالجواز عند الحاجة التي تقضي الفرقة بين الزوجين، وقد يوصف بالوجوب عند عجز الرجل عن الإنفاق والاتيان، وقد يوصف بالتحريم إذا ترتب عليه ظلم المرأة والأولاد، وقد يوصف بغير ذلك من الأحكام المتقدم ذكرها هناك على أن الأصل فيه المنع، وهو الكراهة عند بعضهم، والحرمة عند بعضهم ما لم تفض الضرورة إلى الفراق.
    فهذا الأحكام يوصف بها الخلع كما يوصف بها الطلاق (2) ، إلا أنه يجوز الخلع في الوقت الذي لا يجوز فيه الطلاق (3) ، فيصح الخلع وهي حائض، أو نفساء، أو في طهر جامعها فيه، بخلاف الطلاق.
    أما الدليل على ذلك من الكتاب الكريم فقوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، وحدود الله تعالى هي ما حده الله تعالى وفرضه على واحد من الزوجين من الحقوق وأمر كلاً منهما بالوقوف عنده وعدم مجاوزته، فمن الحقوق التي أمر بها الزوجة طاعة زوجها طاعة تامة فيما يريده من استمتاع، إلا إن ترتب عليه ضرر، ومنها إخلاص المودة له إخلاصاً تاماً، فلا يحل أن يكون جسمها معه وقلبها مع غيره، فإن وجدت عندها حالة قهرية وجب عليها أن تحارب نفسها وأن تمنعها منعاً تاماً عن كل هوى يحملها على خيانته في عرضه أو عمل ما لا يرضى عنه من التكلم مع أجنبي لا يرضى عنه أو السماح له بدخول منزله بدون إذنه أو غير ذلك، ومنها أن تقوم بكل ما يصلح الأسرة، فلا يحل لها أن ترهقه بالإنفاق فيختل نظام الأسرة وتسوء حالة المعيشة، كما لا يحل لها أن تهمل في تربية أبنائها وبناتها، أو تكون أسوة سيئة لهم.
    ومنها: عدم خيانته بالمحافظة على ماله إلى غير ذلك، ومن الحقوق التي أمر بها الزوج، الإنفاق عليها، بما يناسب حاله، والمحافظة على عرضها بإعفافها، وعدم خيانتها، ونحو ذلك من الحقوق التي بيناها في الجزء الثاني من كتاب الأخلاق.
    فإذا حدث بين الزوجين شقاق فمن السنة أن يتوسط بينهما من يستطيع التأثير عليهما من أهلهما فإن عجزوا عن الاصلاح واشتد الشقاق إلى درجة يخشى معها الخروج عن حدود الله تعالى فإنه في هذه الحالة يصح المفارقة بعوض أو بغير عوض، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} الآية، والمراد بالحكم الرجل الصالح للحكم، وإنما كان بعث الحكمين من الأهل، لأن الأهل لهم تأثير على النفوس أكثر من الأجانب لاطلاعهم على بواطن الأمور ومعرفتهم بالأساليب التي تصلح النفوس، على أن أسباب الشقاق قد تكون باطنية، فلا يستطع الزوجان إفشاءها أمام الأجانب، فحكمة اختيار الحكمين من الأهل ظاهرة، وهل للحكمين الحق في التطليق إذا اقتضت المصلحة؟ الجواب: نعم (4) وهل يصح للرجل أن يعامل زوجته بالقسوة حتى تكره معاشرته وتفتدي منه بالمال، وإذا افتدت منه بالمال فراراً من معاشرته القاسية فهل يصح الخلع ويكون له الحق في أخذ المثل؟ في الجواب عن ذلك تفصيل المذاهب (5) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: الخلع هو إزالة ملك النكاح المتوقفة على قبول المرأة بلفظ الخلع أو ما في معناه، فقوله إزالة ملك النكاح خرج به أمور ثلاثة:
    الأول: إذا خالعها في العدة بعد إبانتها فإن الخلع لا يصح، وذلك لأن ملك النكاح قد زال بإبانتها فلو خالعها بمال ثم خالعها في العدة بمال آخر فإن الخلع الثاني لا يصح، نعم إذا خالعها بمال ثم طلقها في العدة على مال فإنه يقع الثاني والفرق بين الحالتين أنه في الحالة الثانية طلقها طلاقاً صريحاً على مال، والطلاق الصريح يلحق البائن وهو الخلع. سواء كان الصريح رجعياً، أو بائناً أما في الحالة الأولى فإنه خالعها
    ثانياً. والخلع ليس صريحاً، فلا يلحق الخلع البائن: على أنه إذا طلقها على مال بعد أن خالعها على مال فإن المال الثاني لا يجب عليها، وذلك لأن الغرض من دفع المال إنما هو ملك نفسها به، وقد ملكت نفسها بالخلع الأول فيكون طلاقاً صريحاً بائناً في العدة فقط، فيلحق الخلع الذي هو طلاق بائن، أما إذا طلقها طلاقاً رجعياً ثم خالعها في العدة على مال فإن الخلع يصح ويلزم المال، لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح، ولا تملك المرأة به نفسها مادامت في العدة.
    والحاصل أن الطلاق الصريح يلحق البائن بشرط العدة، سواء كان الصريح بائناً، أو رجعياً أما الطلاق غير الصريح، وهو ما كان بالكنايات فإنه ينقسم إلى قسمين: ما هو في حكم الصريح وهي الألفاظ الثلاثة التي تقدمت، كاعتدي الخ. فإنه يقع بها واحدة رجعية، وهذه تلحق البائن، ومنها ما ليس كذلك، وهي باقي الكنايات، فإنه يقع بها البائن، وهذه تلحق الصريح، ولا تلحق الخلع البائن، فإذا خالع زوجته على مال ثم طلقها وهي في العدة بالكناية، فإن كانت من الكنايات التي تقع بها واحدة رجعية فإنها تكون كالصريح فتلحق بالخلع ما دامت في العدة، وإن كانت من الكنايات التي يقع بها البائن، فإنها لا تلحق بالخلع.
    الأمر الثاني: المرتدة إذا خالعها زوجها وهي مرتدة فإن الخلع لا يصح، لأن الردة أزالت ملك النكاح، والخلع هو إزالة الملك، فلم يتحقق معناه، فإذا خالعته على مهرها لم يسقط المهر، ويبقى له ولاية الجبر على الزواج.
    الأمر الثالث: النكاح الفاسد، فإذا نكح امرأة نكاحاً فاسداً ووطئها، فإن المهر يتقرر لها بالوطء، كما تقدم، فإذا خالعته على مهرها فإن الخلع لا يصح، ولكن في هذه المسألة خلاف، فبعضهم يقول: إن مهرها يسقط بالخلع فلا حق لها فيه بعد ذلك، وبعضهم يقول لا يسقط لأن الخلع فاسد. إذ هو إزالة ملك النكاح، والعقد الفاسد لا يترتب عليه ملك النكاح، فلا يسقط مهرها، وهذا هو الظاهر المعقول.
    وقوله: المتوقفة على قبول المرأة، معناه أن إزالة ملك النكاح بالخلع متوقفة على قبول المرأة في المجلس الذي شافهها فيه بالخلع، أو في المجلس الذي علمت فيه بالخلع إن خالعها وهي غائبة، فإن لم تقبل فإن الخلع لا يزيل ملك النكاح ولكن هذا مشروط بأحد أمرين:
    الأول: أن يذكر المال صريحاً، بأن يقول لها: خالعتك على مائة ريال مثلاً. أو على صداقك. فإذا لم تقل: قبلت فإنه لا يقع به الطلاق، وإن نوى به الطلاق، وذلك لأنه علق طلاقها على قبول دفع المال، فإذا لم تقبل لم يحصل المعلق عليه، فلا يقع شيء.
    الثاني: أن يذكر لفظاً يتضمن المال، وهو أن يقول لها: خالعتك، أو اختلعي، أو اخلعي نفسك، فإنه في هذه الحالة لا يقع شيء، إن لم تقبل، لأنه وإن لم يذكر المال، ولكن صيغة المفاعلة تتضمن ذكر المال، أو إذا قال لها: خلعتك ولم يذكر العوض فإنه يقع به الطلاق البائن، سواء قبلت، أو لم تقبل لأنه لا يتضمن ذكر المال، فإذا قال: خلعتك على عشرين جنيهاً مثلاً، وقبلت وقع الطلاق البائن ولزمها البدل.
    وبعضهم يقول: إنه لا فرق في ذلك بين خالعتك، أو اختلعي، وبين خلعتك، في إيقاع الطلاق بهما بدون ذكر المال فإذا لم يذكر مالاً وقع بهما الطلاق البائن، وإن لم تقبل، ولكن يفرق بينهما بأنه إذ قال لها: خلعتك ولم يذكر مالاً، وقالت لها: قبلت وقع الطلاق ولا يلزمها شيء، أما إذا قال لها: خالعتك ولم يذكر مالاً وقبلت سقط حقها في المهر ونحوه من الحقوق التي تسقط بدون نص، كما يأتي.
    وهل يشترط في إيقاع الطلاق بالألفاظ المشتقة من الخلع أن ينوي بها الطلاق، أو لا يشترط؟ والجواب: أنه إذا ذكر المال قامت قرينة على إرادة الطلاق، كما إذا كان في حالة غضب، أو سؤالها الطلاق، فإنه لا يشترط النية في ألفاظ الخلع، سواء كانت بهذا اللفظ، أو بغيره من الألفاظ الآتية باتفاق، فإذا ادعى بعد ذلك أنه لا يريد الطلاق وإنما يريد خلعها من ثيابها مثلاً، فإنه لا يسمع منه قضاء ولكن ينفعه ذلك ديانة بينه وبين الله، ولا يحل للمرأة أن تقيم معه. لأنها كالقاضي لا إطلاع لها على ما في نيته، أما إذا لم يذكر المال، أو لم يكن في حالة غضب ونحوها، فإنه ينظر إلى اللفظ الذي خالعها به، فإن كان العرف يستعمله في الطلاق بدون عوض واشتهر استعماله في ذلك كان طلاقاً صريحاً، وإلا كان كناية لا بد فيه من النية، والحنفية قالوا: إن ألفاظ الخلع خمسة:
    أحدها: ما اشتق من الخلع. وهي كأن يقول لها: خالعتك، اختلعي، اخلعي نفسك، اخلعتك ولهذا قالوا: إنه يقع به الخلع بدون نية، لأن العرف يستعمله في الطلاق كثيراً فأصبح كالصريح فإذا قال لامرأته: خالعتك وذكر مالاً فالأمر ظاهر، وإذا لم يذكر مالاً فإنه يقع به الطلاق نوى أو لم ينو، قبلت أو لم تقبل. ومثل خالعتك باقي الألفاظ المذكورة على التحقيق، ولكنها إذا قبلت في قوله: خالعتك، أو اختلعي سقط به حقها في المهر، فإذا قال لها: اختلعي نفسك، فقالت خلعت نفسي، ولم يذكر بدلاً لا هو ولا هي وقع الخلع وسقط حقها. وبعضهم يرى أنها تطلق بلا بدل وبه أخذ كثير من العلماء، وإذا كانت العلة في إيقاع الطلاق بلفظ خلعتك ونحوه بدون نية هو استعمال العرف فإن عرف زماننا غير ذلك، بل المتعارف فيه استعماله في اسقاط الحقوق، فأما أن يذكر البدل إلى جانبه فتقول: خالعني على كذا أو يقول هو: خالعتك على كذا، وإما أن لا يذكر، فإذا لم يذكر البدل كان الغرض منه اسقاط مالها من مهر ونحوه، وعلى هذا لا يقع به طلاق عند عدم ذكر المال إلا بالنية.
    ثانيها: لفظ بارأتك، فإذا قال لها: بارأتك على عشرين جنيهاً وقبلت وقع طلاق بائن ولزمها العشرون وسقط مهرها باتفاق، وإذا لم تقبل لم يقع طلاق ولم يلزمها شيء باتفاق، أما إذا لم يذكر البدل بل قال لها: بارأتك، فإذا قالت: قبلت وقع الطلاق البائن وسقط حقها في المهر ونحوه وكذا إذا قالت له: بارئني، فقال: بارأتك، وهل يتوقف إيقاع الطلاق بهذه على النية أو لا؟ والجواب: أنها إذا كثر استعمالها في الطلاق، كالخلع، يقع بها الطلاق بدون نية، على أن عرف زماننا لم يستعمل بارأتك في الخلع، وإنما المستعمل أن يقول لها: أبريني وأنا أطلقك، فتقول له أبرأتك، فيقول لها: طلقتك على ذلك، وهذا يقع به طلاق بائن، لأنه وإن كان صريحاً ولكنه على مال فيسقط حقها، أما إذا قال لها: بارأتك ولم يذكر مالاً فقالت قبلت، فإنه لا يقع به الطلاق البائن إلا بالنية، فإذا قال لم أنو طلاقها يسمع منه قضاء إلا إذا كان في حالة غضب أو مذاكرة الطلاق، لأنه كناية بلا كلام، ومتى قال: نويت الطلاق سقطت حقوقها التي تسقط بالخلع، وإذا قالت له أبرأتك من حقوقي كلها، فقال لها: طلقتك على ذلك وقع الطلاق بائناً، وإن كان صريحاً لأنه طلاق على عوض كما قلنا، وفي هذه الحالة تسقط نفقة عدتها.
    ثالثها: لفظ باينتك، فإنه موضوع للخلع، فإن لم يذكر مالاً وقبلت سقطت حقوقها في المهر متى نوى الطلاق، وإن لم تقبل ونوى به الطلاق طلقت وإلا فلا لأن المباينة لا يقع بها الطلاق إلا بالنية أما إذا قال لها: باينتك على عشرين ريالاً ولم تقبل لا يقع به الطلاق قولاً واحداً ولا يلزمها البدل لأنه علق إبانتها على المال، كما قلنا.
    رابعها: لفظ فارقتك، فإنه إذا ذكر مالاً فقال: فارقتك على مائة وقبلت بانت منه ولزمتها المائة وسقطت حقوقها الآتي بيانها من مهر ونحوه وإن لم تقبل لا يقع طلاق ولا يلزمها مال وإن لم يذكر مالاً فإن قبلت منه سقطت حقوقها التي تسقط بالخلع إن نوى به الطلاق أو قامت قرينة على إرادة الطلاق: وإن لم تقبل. فإن نوى به الطلاق لزمه طلاق بائن لأنه كناية، وإلا فلا يلزمه شيء.
    خامسها: لفظ الطلاق على مال فإذا قال لها: طلقي نفسك على عشرين جنيهاً، فقالت: قبلت أو طلقت نفسي على ذلك وقع الطلاق بائناً ولزمها العشرون، وهل يسقط ذلك حقها في المهر زيادة على العشرين التي دفعتها؟ الصحيح أنه لا يسقط، نعم تسقط به نفقتها، سواء كانت مفروضة أو لا، فإذا كان محكوماً لها بنفقة زوجية متجمدة سقطت بالطلاق على مال، وإن لم ينص على سقوطها. وهذه بخلاف نفقة العدة، فإنه سيأتي الكلام عليها، فإذا قال لها طلقي نفسك على عشرين ولم تقبل فإنه لا يقع طلاق ويلزمه مال ولا يسقط مهرها ولا نفقتها، وإذا قال لها: طلقي نفسك ولم يذكر مالاً كان ذلك تمليكاً للطلاق لا من باب الخلع، وقد تقدم حكمه في مبحث الإنابة في الطلاق، على أن بعضهم لم يعد الطلاق على مال من الخلع لأنه لا يسقط الحقوق على المعتمد، والخلع الشرعي يسقط الحقوق، نعم يقع به البائن ويلزم به المال المنصوص فلهذا أصبح في حكم الخلع.
    فهذه هي الخمسة المشهورة: وزيد عليها اثنان: أحدهما: ما اشتق من لفظ البيع فإذا قال لها: بعت نفسك بمائة جنيه، فقالت: اشتريت، أو قبلت وقع به الطلاق البائن ولزمتها المائة وسقط حقها الذي يسقط بالخلع، وإذا لم تقبل لا يقع الطلاق ولا يلزمها شيء، أما إذا قال لها: بعت نفسك ولم يذكر مالاً، فقالت: قبلت فإنه يقع بذلك الطلاق البائن ويسقط حقها الذي يسقط الخلع فإذا قال لها: بعت نفسك منك ولم يذكر مالاً ولم تقبل فإنه يقع به الطلاق البائن قضاء وإن لم ينو، وذلك لأن البيع زوال الملك، وهو لا يملك من زوجته إلا المتعة فباع ملك المتعة وهو معنى الطلاق، ومثل ذلك ديانة، ومثل ذلك ما إذا ذكر البدل، قبلت أو لم تقبل، فإنه لا تسمع منه دعوى عدم الطلاق قضاء، كما مر في نظائره، وإذا قال لها: بعتك طلقة ولم يذكر مالاً، فقالت: قبلت، لزمه طلاق رجعي، لأن عدم ذكر البدل جعله طلاقاً صريحاً فلو قال بعتك طلقة بمهرك، فقالت طلقت نفسي، ولم تقل، اشتريت وقع طلاق بائن وسقط مهرها.
    ثانيهما: ما اشتق من لفظ الشراء فإذا قال لها: اشتري طلاقك بألف، فقالت: قبلت، أو اشتريت وقع طلاق بائن ولزمت الألف، هكذا كما ذكر في البيع، فيكون مجموع ألفاظ الخلع سبعة، وقد علمت حكم كل واحد منها تفصيلاً.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الخلع]
    صـــــ 341 الى صــــــــ
    348
    الحلقة (212)



    المالكية - قالوا: الخلع شرعاً هو الطلاق بعوض، وقد تقدم تعريف الطلاق، فقوله: الطلاق شمل الطلاق بأنواعه المتقدمة، وهو: الصريح، والكناية الظاهرة أو أي لفظ آخر إذا كان بنية الطلاق، فإذا قالت له زوجته: طلقني على مهري، أو على مائة ريال مثلاً، فقال: طلقتك على ذلك لزمه طلاق بائن ولزمها العوض، وكذا إذا أجابها بكناية ظاهرة من الكنايات المتقدم ذكرها، فإنه يقع الطلاق البائن ويلزمها العوض، وكذا إذا أجابها بأي لفظ ناوياً به طلاقها فإنه يلزمه طلاق بائن، ولفظ من ألفاظ الطلاق الصريح، فإذا أجابها بقوله: خالعتك، أو اختلعتك كان بمنزلة قوله لها: أنت طالق، وإذا قال لها: خالعتك، أو اختلعتك بدون ذكر عوض لزمه طلاق بائن. هذا، وقد عرفه بعضهم بأنه عقد معاوضة على البضع تملك به الزوجة نفسها ويملك به الزوج العوض، ولا يخفى أن هذا التعريف فيه بيان حسن لماهية الخلع.
    الشافعية - قالوا: الخلع شرعاً هو اللفظ الدال على الفراق بين الزوجين بعوض، متوفرة فيه الشروط الآتي بيانها في شروط العوض، فكل لفظ يدل على الطلاق صريحاً كان أو كناية يكون خلعاً يقع به الطلاق البائن، وسيأتي بيان ألفاظ الطلاق في الصيغة وشروطها.
    الحنابلة - قالوا: الخلع هو فراق الزوج امرأته بعوض يأخذه الزوج من امرأته أو غيرها بألفاظ مخصوصة، أما الألفاظ المخصوصة فتنقسم إلى قسمين: صريحة في الخلع، وكناية فيه. فأما الصريحة، فهي: خلعت، وفسخت، وفاديت، فهذه الألفاظ إذا استعملها الزوج المتوفرة فيه الشروط الآتية مع ذكر العوض ولو كان العوض مجهولاً وقبلته الزوجة صح الخلع، وترتب عليه الفراق وإن لم ينو الخلع لأنها صريحة في الخلع فلا تحتاج إلى نية، فإن لم يذكر العوض أو ذكره ولم تقبل الزوجة في المجلس لم يكن الخلع صحيحاً فيلغو ولا يترتب عليه شيء، وإذا ذكر العوض وقبلت الزوجة كان ذلك فسخاً بائناً تملك به الزوجة نفسها، ولكنه لم ينقص عدد الطلقات الثلاث إلا إذا نوى الزوج الطلاق لا الفسخ فإنه يكون طلاقاً ينقص عدد الطلقات الثلاث وأما الكناية في الخلع فهي ثلاثة ألفاظ أيضاً باريتك، أبنتك، ابنتك، فهذه الألفاظ الثلاثة يصح بها الخلع بالنية، أو دلالة الحال، فأما الحال فهي أن يذكر العوض وأن يكون الخلع إجابة لها عن سؤالها، فإذا قالت له: خالعني، فقال لها: خالعتك على مائة ريال مثلاً وقبلت وقع الخلع وفسخ النكاح بينهما من غير حاجة إلى نية فسخ النكاح، أما إذا لم تسأله الخلع أو لم يذكر العوض فلا يصح الخلع بها إلا بالنية من الزوجين فلو قالت له: أبرأتك ولم تذكر عوضاً ناوية به فسخ النكاح، فقال: قبلت وهو ينويه أيضاً لزم الفسخ وإلا فلا يلزم به شيء.
    أما الطلاق في مقابل عوض فإنه يقع به طلاق بائن، إذا قالت له: طلقني بمائة شاة مثلاً. فقال لها: طلقتك استحق المائة وطلقت منه طلقة بائنة، بشرط أن ينوي الطلاق، وذلك لأن الطلاق في هذه الحالة يكون كناية، فإذا قالت له: خالعني، أو اخلعني بألف، فقال: طلقتك وقع طلاق رجعي، ولا يلزمها الألف، لأنه طلقها طلاقاً لم تطلبه، وكذا إذا قالت له: اخلعني ولم تذكر عوضاً، فقال لها: طلقتك فإنه يقع رجعياً، إلا إذا كان ثلاثاً فإنه لا رجعة فيه.
    والحاصل أن الخلع بألفاظه المخصوصة، سواء كانت صريحة أو كناية فسخاً لا ينقص عدد الطلقات إلا إذا نوى به الطلاق، فإنه يكون طلاقاً بائناً ينقص عدد الطلقات، بخلاف الطلاق على عوض بلفظ الطلاق، فإنه يكون طلاقاً بائناً ينقص عدد الطلقات بشرط النية وقبول الزوجة، فإذا سألته الخلع بدون عوض، أو بعوض فاسد، فقال لها: أنت طالق وقع به طلاق رجعي، فإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً لزمته الثلاث، مثل ذلك ما إذا سألته الخلع، أو الطلاق على مال فأجابها بكناية من كنايات الطلاق ناوياً بها الطلاق فإنه يقع طلاقاً بائناً ويلزمها العوض.
    فالخلع بألفاظ الخلع صريحة كانت، أو كناية فسخ بائن، والخلع بألفاظ الطلاق صريحة كانت أو كناية طلاق بائن ينقص عدد الطلاق بشرط النية) .
    (2) (الشافعية - قالوا: قالوا: الأصل في الخلع الكراهة، ويكون مستحباً إذا أساءت المرأة المعاشرة، ولا يوصف بغير ذلك، فلا يكون حراماً. ولا يكون واجباً) .
    (3) (المالكية - قالوا: لا يصح الخلع في الزمن المنهي عنه، كالطلاق، كما تقدم في مبحث الطلاق البدعي) .
    (4) (الحنفية، والشافعية - قالوا: ليس للحكمين حق تطليق الزوجة، لأن الولاية على الطلاق مختصة، بالأزواج أو من ينوب عنهم. والمال من حق الزوجة في الخلع، فإذا أناب الزوج الحكمين في الطلاق كان لهما ذلك على الوجه السابق في مبحث الإنابة في الطلاق) .
    (5) (الحنفية - قالوا: إذا قسى الزوج على زوجته في المعاملة وضاررها لتفتدي منه حرم عليه أخذ شيء من المال، سواء كان من الصداق، أو من غيره، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {فلا تأخذوا منه شيئاً} فإنه نهي للزوج عن أن يأخذ شيئاً من الصداق ولو كان كثيراً أما إذا أساءت الزوجة معاشرة زوجها ولم تؤد له حقوقه، أو خانته في عرضه، فله أن يأخذ عوضاً في مقابلة تطليقها بدون كراهة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} فالآية الأولى نهي للأزواج عن أن يأخذوا شيئاً من الصداق في حالتين: حالة ما إذا كان الشقاق من الزوج، وحالة ما إذا لم يخافا الوقوف عند حدود الله، والآية الثانية تبيح للأزواج أخذ العوض على الطلاق في حالة ما إذا خافا أن لا يقيما حدود الله، ومن ذلك إساءة معاشرة الزوجة ومضاررتها، فلكل آية معنى لا يعارض المعنى الآخر، فمن قال: إن الآية الثانية نسخت لا وجه له، وعلى كل حال فمتى قبلت المرأة الخلع على مال فقد لزمها المال ووقع الخلع، وأصبح البدل ملكاً للرجل، ولكن إن كان قبولها لدفع البدل مبنياً على مضاررته وإساءته معاشرتها فقد ملكه ملكاً خبيثاً، وإن كان مبنياً على نشوز الزوجة وكراهتها للرجل فإنه يملكه ملكاً حلالاً، أما إذا أكرهها الزوج على قبول الخلع، إذا كان هو المبتدي بقوله: خالعتك فقبلت مكرهة، وقع الطلاق بائناً إن كان بلفظ الخلع، ولا حق في المال، لأن الرضا شرط في وجوب المال عليها، وإن قال لها: طلقتك على
    مائة، وأكرهها على القبول وقع الطلاق رجعياً، ولا حق له في المال. وحاصله أن الإكراه على القبول إن كان بلفظ الخلع يقع به البائن ويسقط العوض، وإن كان بلفظ الطلاق على مال يقع به الرجعي ويسقط العوض.
    بقي شيء، وهو هل للزوج أن يأخذ من المرأة أكثر مما أعطاها ولو كانت ناشزة؟ التحقيق الذي ذكروه في الجواب هو أن الأولى له أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها إن كان النشوز من قبلها، أما إن كان من قبله فقد عرفت أنه لا يحل له أن يأخذ شيئاً أبداً، ولكن ظاهر الآية يفيد الإباحة، لأنه تعالى قال: {فلا جناح عليهما} في حالة ما إذا كان النشوز منهما معاً، فإذا كان منها وحدها كان عدم الجناح أولى، اللهم إلا أن يقال: نفي الجناح نفي الإثم، فلا ينافي أن الأولى له أن يأخذ ما أعطاها بدون زيادة.
    المالكية - قالوا: إذا أساء الرجل معاشرة زوجته وضاررها لتفتدي منه، فإن كان ذلك من أجل تركها للصلاة، أو للغسل من الجنابة فإنه يجوز له ذلك، فإن له أن يمسكها ويؤدبها حتى تؤدي ما فرض عليها، وإن شاء خالعها على مال، ويتم له ما أخذه، أما إذا أساء عشرتها وضاررها بضرب أو شتم بغير حق، أو أخذ مال، أو إيثار ضرة عليها في مبيت، أما إيثار ضرة عليها في حب قلبي فليس بضرر، فإذا فعل معها ذلك وافتدت منه بمال، وقع الطلاق بائناً، ورد لها المال الذي أخذه منها، فإن كان الخلع في نظير رضاع، أو نفقة حمل، أو إسقاط حضانة سقط عنها ما التزمته من ذلك وعاد لها حقها. ويثبت ضررها بشهادة واحد رأى بنفسه الضرر، أو سمعه من غيره. ولا يشترط كونه من الثقات، بل تكفي شهادة أحد الجيران بشرط أن تحلف الزوجة على ما تدعيه من ضرر، وهل يشترط تحليف الشاهد، أو لا؟ خلاف وبعضهم يقول: الصواب تحليفه أيضاً، فإن شهدت امرأتان فإن شهادتهما مع يمين الزوجة تكفي في إثبات الضرر بشرط أن تكون شهادة قطع لا شهادة سماع، بأن تشهدا بأنه ضاررها أمامهما، وقيل: تكفي شهادتهما بالسماع، على أن شهادة الواحد مع يمين الزوجة وشهادة المرأتين مع يمينها تسقط العوض المالي، أما ما لا يؤول إلى المال، فإنه لا يسقط، كخلعها بإسقاط حضانتها.
    وإذا ضاررها جاز لها التطليق به، ولكنها وهي في عصمته لم تستطع الخلاص منه إلا بالاعتراف بأن لا حق لها في ادعاء الضرر، ولا حق لها في إحضار بينة تشهد على الضرر فخالعها على مال أخذه، وسجل عليها اعترافها المذكور، فإنه لا يعمل بهذا الاعتراف، لأنه ناشئ عن إكراه، أما طريق إثبات الاعتراف فهي البينة فإن كانت قد أحضرت بينة وقالت لها قبل الخلع: أنها ستعترف لزوجها بأن لا حق لها في ادعاء الضرر ولا في الإشهاد عليه مكرهة على ذلك لتتخلص من شره، وشهدت البينة بذلك، فإن للزوجة الرجوع عن إقرارها باتفاق، ومثل ذلك إذا قامت لها بينة لم تكن تعلم بها، وشهدت بأنها اعترفت مكرهة للتخلص من شره، ويقال للبينة الأولى: بينة استرعاء، أي بينة استشهاد قبل الخلع بأنها لم تشترط على نفسها ذلك إلا للضرر.
    هذا كله إذا ضاررها هو. أما إذا كانت هي الناشزة وأساءت معاشرته بشتم ونحوه، فإنه يتم له ما أخذه بلا كراهة.
    بقي شيء آخر، وهو ما إذا علم بأنها زانية، فهل له أن يضاررها حتى تفتدي منه؟ وإذا افتدت منه بمال الضرر هل يتم له أخذه؟ والجواب: ليس له ذلك، لأنه إذا علم بزناها ورضي بالبقاء معها من أجل العوض المالي كان في حكم الذي رضي بالديوثة، فليس له إلا أن يطلقها بدون مال، أو يمسكها، كما تقدم في مباحث الطلاق، فإن ضاررها وافتدت منه بمال وثبت ذلك رجعت عليه به وبانت منه بدون مال.
    الحنابلة - قالوا: إذا أساء الرجل معاشرة زوجته فضاررها بالضرب والشتم وبالتضييق عليها وإيثار ضرتها عليها في قسم، أو منعها حقها في النفقة، أو نقصها شيئاً من حقوقها لتفتدي نفسها منه، ففعلت كان الخلع باطلاً، وإن أخذ منها شيئاً وجب أن يرده لها، وبقيت زوجة له على عصمته، كما كانت قبل الخلع، وذلك لأنها أكرهت على العوض فلا يستحق الزوج أخذه، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} والنهي يقتضي الفساد عند الحنابلة، نعم إذا كان الخلع بلفظ الطلاق، أو بلفظ الخلع ونحوه، ولكن نوى به الطلاق فإنه يقع به الطلاق رجعياً، فإذا ضاررها الزوج لا بقصد أن تفتدي منه، ولكن فعله لسوء خلقه فافتدت منه، فإن الخلع يصح، وله أخذ العوض، ولكنه يأثم بمضاررة زوجته وإيذائها فالواجب أن يعمل الأزواج بقوله تعالى: {عاشروهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} .
    هذا إذا كان الضرر من جهة الزوج، أما إذا كان من جهة الزوجة، فإن كانت تاركة لفرض من فروض الله، أو كانت فاسدة الأخلاق زانية، فإن له أن يضاررها لتفتدي منه، وإذا افتدت حل له أخذ العوض وصح الخلع، لأن الله تعالى قال: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} ، فإنها إذا فعلت فاحشة كان للزوج عضلها وتأديبها حتى تكف عن الفاحشة، أو تفتدي منه، ومثل ذلك ما إذا كان النشوز من جهتهما معاً، وهو المذكور في آية {إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} .
    الشافعية - قالوا: الأصل في الخلع الكراهة، فيكره للرجل أن يخالع زوجته لغير حاجة، كما يكره للمرأة أن تبذل مالها للرجل ليخالعها بدون ضرورة، ولكن يستثنى من الكراهة صورتان: الصورة الأولى: أن يحدث بينهما شقاق يخشى منه أن يفرط كل من الزوجين في الحقوق التي فرضها الله عليه للآخر، كما إذا خرجت الزوجة عن طاعة الزوج، وأساءت معاشرته، أو أساء هو معاشرتها بالشتم أو الضرب بلا سبب، ولم يزجرهما الحاكم ولم يتمكن أهلهما من الصلح بينهما فإنه في هذه الحالة يستحب الخلع، ومتى قبلت المرأة لزمها المال وليس لها أن تطلب رده بدعوى أنه ضاررها، نعم لا يحل للرجل أن يضار امرأته لتفتدي منه، ولكن إن وقع بشرائطه الآتية تم عليهما فليس لواحد منهما الرجوع.
    الصورة الثانية: أن يخلف بالطلاق الثلاث على أن لا يدخل هذه الدار، أو على أن لا يدخل هذه الدار هذه السنة، فإن له في هذه الحالة أن يخلعها بدون كراهة، فتبين منه ويدخل الدار، وهي ليست زوجته، فلا يقع عليه يمين الثلاث، ثم تبين منه بطلقة واحدة على الصحيح من أن الخلع طلاق لا فسخ. ومن قال: أنه فسخ يقول: أنها تبين منه ولا ينقص عدد الطلقات، بشرط أن يكون بلفظ الخلع أو بلفظ المفاداة، وأن لا ينوي به الطلاق، ومثل ذلك إذا حلف ليفعلن كذا، كما إذا حلف بالطلاق الثلاث ليتزوجن عليها، فإن له أن يخلعها ولا يقع عليه الثلاث بعدم التزوج عليها، أما إذا حلف بالطلاق الثلاث ليتزوجن عليها في هذا الشهر، ففيه خلاف. والمعتمد أنه إذا خالعها، وقد بقي من الشهر زمن يمكنه أن يتزوج فيه، فإن الخلع يخلصه من الطلاق الثلاث، وإلا فلا) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الخلع]
    صـــــ 349 الى صــــــــ
    359
    الحلقة (213)





    أركان الخلع وشروطه
    -أركان الخلع خمسة
    (1)
    الأول: ملتزم العوض، والمراد به الشخص يلتزم المال، سواء كانت الزوجة أو غيرها.
    والثاني: البضع الذي يملك الزوج الاستمتاع به، وهو بضع الزوجة، فإذا طلقها طلقة بائنة زال ملكه فلا يصح الخلع. الثالث: العوض، وهو المال الذي يبذل للزوج في مقابل العصمة. الرابع: الزوج. الخامس: العصمة، هذه هي أركان الخلع، فلا يتحقق بدونها، ويتعلق بكل ركن منها شروطه كالآتي.

    شروط ملتزم العوض والزوج وفيه خلع الصغيرة، والسفيهة، والمريضة.
    -يشترط في كل من ملتزم العوض والزوج أن يكون أهلاً للتصرف، فأما ملتزم العوض فيجب أن يكون أهلاً للتصرف المالي، وأما الزوج فيجب أن يكون أهلاً للطلاق، وهو العاقل المكلف الرشيد، فلا يصح للصغيرة، أو المجنونة، أو السفيهة أن تخالع زوجها بمال، كما لا يصح للصغير، أو المجنون أن يطلق زوجته، بخلاف السفيه فإنه يصح أن يطلق، ولا يصح أن يلتزم المال، وفي كل ذلك تفصيل في المذاهب
    (2) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: إذا كان الخلع في نظير عوض، فإن ركنه هو الإيجاب والقبول فإن كان الزوج قد بدأ بالخلع، كما إذا قال لها: خالعتك على ذلك كانت المرأة قابلة، وإذا كانت المرأة مبتدئة كان الزوج قابلاً، أما إذا لم يكن في نظير عوض وكان طلاقاً، كان ركنه ركن الطلاق وهو الصفة الحكمية التي دل عليها اللفظ، كما تقدم في أركان الطلاق، فارجع اليه) .

    (2) (الحنفية - قالوا: لا يصح للصغيرة أن تلتزم العوض المالي، فإذا قال لها الزوج: خالعتك على عشرين جنيهاً، وقالت: قبلت، وهي مميزة تعرف أن الطلاق يوجب الفرقة بينهما ويحرمها من زوجها فإنها تبين منه، ولكن لا يلزمها العوض المالي، لأنها ليست أهلاً لالتزامه، ومثل ذلك ما إذا قال لها هو: خالعتك على كذا فقبلت، فإنها تبين ولا يلزمها المال، لأنه تبرع، والصغير ليس أهلاً للتبرعات. هذا إذا خالعها بلفظ الخلع ونحوه من الكنايات المتقدمة، أما إذا قال لها: طلقتك على عشرين وقبلت، أو قالت له: طلقني على عشرين، فقال لها طلقتك. فإنه يقع رجعياً، لأنه طلاق صريح لا في نظير عوض، لأن الصغيرة لا يلزمها العوض، كما قلنا، فيقع رجعياً، ومثل ذلك ما إذا قال لها: طلقتك بمهرك فقبلت، فإنها تطلق رجعياً، ولا يسقط المهر، وهل للأب أن يختلع بنته الصغيرة؟ والجواب:
    أنه إذا اختلعها بمالها، أو بمهرها وقع الطلاق، ولا يلزمها شيء، كما لا يلزم الأب شيء في الأصح وذلك لأنه معلق بقبول الأب وقد وجد، وبعضهم يرى أنه معلق بلزوم المال، فإذا لم يلزم فلا طلاق.
    هذا، وإذا اختلعها الأب على مالها وهي صغيرة، ثم كبرت وأجازت صح الخلع ولزمها البدل، أما إذا اختلعها الأب بماله فإنه يصح الخلع ويلزمه المال بلا كلام، وكذا إذا اختلعها على مال وضمنه فإنه يلزمه. وليس للأب أن يختلع بنته الكبيرة سواء كانت بكراً أو ثيباً، فإذا فعل ذلك وقع الخلع موقوفاً على إجازتها فإن أجازته فإنه يصح ويلزمها المال، وإن لم تجزه لا يقع ولا يلزمها المال، فإن ضمن الأب أو الأجنبي المال، كما إذا قال له: اخلع بنتي أو فلانة بألف علي. أو اخلعها بألف على أني ضامن. أو اخلعها على جملي هذا. فقال الزوج: خلعتها على ذلك صح الخلع، ولزم الأب أن يدفع البدل، فإن لم يكن الجمل ملكاً له لزمته قيمته، ولا يتوقف على قبول المرأة، وهذا بخلاف ما إذا قال له: اخلعها بألف. أو اخلعها على هذا الجمل، فإنه لا يصح الخلع إلا إذا قبلت، فإن قبلت لزمها العوض، وإن عجزت عن تسليمه لزمتها قيمته، فإن لم تقبل لا يلزمها البدل باتفاق، وهل تطلق أو لا؟ فبعضهم يقول: أنها تطلق، لأن الطلاق موقوف على القبول، وقد قبل أبوها، أو الأجنبي. وبعضهم يقول: لا تطلق، لأن الطلاق معلق على قبول الزوجة ولزم المال، ووجهة نظر الأول أنه يقول: إن الطلاق بيد الزوج وقد رضي أن يعلقه على قبول الأب أو الأجنبي للعوض. وقد تحقق ذلك القبول، فينبغي أن يقع عليه الطلاق، أما كون التزام العوض صحيحاً أو لا، فتلك مسألة مالية خارجة عن ماهية الخلع، فإذا قبلته المرأة لزمها المال، وإذا لم تقبله لا يلزمها المال ووقع عليه الطلاق، وهو وجيه، ويظهر من كلامهم ترجيحه.
    وكما لا يصح للصغيرة أن تخالع زوجها بمال فكذلك لا يصح للسفيهة، والسفيهة هي التي تبلغ مبذرة مفسدة لمالها تضيعه في غير وجهه الشرعي، فإذا خالعت السفيهة زوجها على مال وقع الطلاق ولا يلزمها المال، ثم إن كان بلفظ الخلع ونحوه من ألفاظ كنايات الخلع كان بائناً، وإن كان بلفظ الطلاق كان رجعياً.
    وهل يشترط لثبوت السفه حكم القاضي بالحجر، أو لا يشترط، بل يكفي أن تكون مبذرة لمالها تضيعه في غير وجوه الشرع؟ خلاف، والمعتمد الثاني، وهو أنه متى ثبت كونها مبذرة فإنه لا يصح خلعها، ولو لم يحكم الحاكم بثبوت سفهها.
    وإذا اختلعها الأب، فإن ضمن المال صح الخلع ولزم المال، وإلا فلا، كالتفصيل المتقدم في خلع الكبيرة الرشيدة.
    وحاصل هذا كله أنه يشترط لصحة الخلع أن يكون ملتزم العوض بالغاً رشيداً، فإن التزمت الزوجة الصغيرة بعوض الخلع لا يلزمها العوض، ثم إن كانت مميزة تدرك آثار الطلاق، وقبلت وقع الطلاق،
    وإن لم تقبل لا يقع، وكذا إذا كانت صغيرة غير مميزة، فإنه لا يقع طلاقها، ولو قبلت وقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق، وبائناً إن كان بلفظ الخلع ونحوه من الكنايات، وقد عرفت أنه إذا ذكر البدل لا تسمع منه دعوى عدم نية الطلاق قضاء، وهل للأب أن يخالع عنها أو لا؟ والجواب: أنه
    إذا خالع عن الصغيرة من مالها وقع الطلاق ولا يلزمها مال، وإن كان ماله فإنه يصح، وتطلق بائناً، ومثل ذلك ما إذا ضمن المال، ومثلها الكبيرة السفيهة. فإنها إذا خالعت وقع طلاقها ولا يلزمها شيء، وليس للأب أن يخالع عنها، فإن كان من ماله صح. ولا يتوقف على قبولها، ومثل الأب الأجنبي، أما الكبيرة الرشيدة فلا يصح لأحد أن يخالع عنها من مالها بدون إذنها، فإذا خالع عنها الأب من ماله بدون إذنها فإنه يصح ويلزمه المال، ولا يتوقف على قبولها. ومثل الأب الأجنبي في ذلك.
    هذا إذا كانت الكبيرة الرشيدة صحيحة، فإن كانت مريضة مرضاً ماتت فيه، وخالعته على مال في ذلك المرض الذي ماتت فيه فإنه يصح، بشرط أن يكون من الثلث، لأنه تبرع، وليس لها أن تتبرع بما يزيد عن الثلث، فإذا خالعته على مال فإنه ينظر إلى الثلث وإلى ما يستحقه من الميراث إذا ماتت وهي في العدة، فإن كان الثلث أكثر من ذلك المال، ينظر إلى ما يستحقه من الميراث، فإن كان ما يستحقه من الميراث أكثر، فإنه يأخذ ذلك المال الذي خالعته عليه، لأنه أقل من ثلث المال ومن الميراث، وإن كان الثلث أقل من المال الذي خالعته عليه، فإنه ينظر هل الثلث أيضاً أقل مما يستحقه من الميراث؟ فإن كان كذلك أخذ الثلث، أما إن كان ما يستحقه من الميراث أقل فإنه يأخذ ما يستحقه من الميراث، فهو دائماً يأخذ الأقل، سواء كان الأقل هو الثلث أو المبلغ الذي خالعته عليه، أو الميراث. مثلاً إذا خالعته على ستين، وكان يستحق ميراثاً خمسين، وكان ثلث المال مائة فإنه يأخذ الخمسين لأنها أقل، فإذا خالعته على ستين، وكان يستحق من الميراث خمسين، وكان ثلث المال أربعين أخذ الأربعين، وعلى هذا القياس.
    هذا إذا كانت مدخولاً بها ماتت وهي في العدة، أما إذا كانت غير مدخول بها فإنها تبين بمجرد طلاقها، فلا يكون له حق في إرثها، فلا ينظر إلى ما يستحقه من الميراث، بل ينظر إلى العوض الذي خالعته عليه وإلى الثلث، فيأخذ الأقل، فإن خالعته على ستين، وكان ثلث مالها مائة أخذ الستين، وإن كان الثلث خمسين، أو أربعين أخذ الثلث، ومثل ذلك ما إذا كانت مدخولاً بها لكنها ماتت بعد انقضاء العدة، لأنه في هذه الحالة لا يكون له حق في ميراثها، فإذا برئت من المرض كان له كل المال الذي خالعته عليه. أما إذا خالعها زوجها وهو مريض، ثم مات في ذلك المرض الذي طلقها فيه، فإنها ترثه، لأن الذي يطلق امرأته في مرض موته يعتبر فاراً من ميراثها، فلا يسقط حقها، وإذا طلقها وهو صحيح ثم مات وهي في العدة، فإنها ترث وإلا فلا.
    وبهذا تعلم حكم خلع الصغيرة، والسفيهة، والمريضة، وتعلم أنه لا يلزمهن العوض، وتعلم حكم ما إذا باشر الأب أو الأجنبي الخلع عنهما، وتعلم توضيح اشتراط أهلية ملتزم العوض.
    أما اشتراط أهلية الزوج المخالع، أو المطلق فهي ضرورية، فلا يصح طلاق الصغير، ولا المجنون، ولا المعتوه، بخلاف السفيه، فإن طلاقه يقع، لأنه محجور عليه في التصرف المالي فقط، وهل للأب أن يخالع عن ابنه الصغير؟ والجواب: لا يصح، فلو قالت زوجة الصغير للأب: خالعني على عشرين جنيهاً. أو على صداقي نيابة عن ولدك، فقال لها: خالعتك على ذلك كان ذلك لغواً من
    القول لا أثر له، وإذا خالع الصغير زوجته أو طلقها، فخلعه، أو طلق فطلاقه باطل لا يصح ولا تتوقف صحته على إجازة الولي أصلاً، ومثله المجنون، والمعتوه. المالكية - قالوا: لا يصح للصغيرة، ولا للسفيهة، ولا للرقيقة أن يباشرن مخالعة الزوج بعوض مالي، ومثلهن الأجنبي المتصف بهذه الصفات، فإن خالعهن الزوج على مال وقبضه فلا يصح الخلع ويجب عليه رد المال الذي قبضه، إلا إذا أذن الولي أو السيد في الخلع، فإن أذن فإنه يصح الخلع ويلزم العوض، فإن كانت السفيهة لا ولي لها - ويقال لها: المهملة - والتزمت العوض فإنه لا يصح أيضاً، كما لو كان لها ولي لم يأذنها، وهو المعتمد، وقيل: إن بانت من زوجها عاماً فإنه يصح، وهو ضعيف، فإذا خلع الزوج زوجته الصغيرة على مال بدون إذن الولي، وقع عليه طلاق بائن، ولا حق له في العوض، وإذا قبضه يجب عليه رده، ومثلها السفيهة إذا كان لها ولي لم يأذنها، أو كانت مهملة لا ولي لها، سواء مكثت عند زوجها عاماً أو أعواماً. أو لا، على المعتمد، ومثلهما الرقيقة إذا خالعت بدون إذن سيدها، فإن اشترط الزوج في هذه الحالة صحة البراءة أو إيصال المال له، كما إذا قال للصغيرة ونحوها: إن تم لي هذا المال فأنت طالق. أو إن صحت براءتك فأنت طالق، فإنه لا يقع عليه الطلاق ولا يلزمها العوض.
    وإن قبضه لزمه رده، بشرط أن يشترط قبل التلفظ بالطلاق، فيقول: إن صحت براءتك فأنت طالق، أما إذا نطق بالطلاق أولاً، كما إذا قالت له: خالعتك على عشرين جنيهاً. فقال لها: أنت طالق على ذلك إن تم ذلك المال، فإنه يقع الطلاق ويلغو شرطه، وهذا هو المعتمد.
    وللولي المجبر، وهو الأب، ووصيه - بعد موته - والسيد أن يخالع عمن له عليها ولاية الجبر إذا طلقت، وهي البكر إذا طلقت قبل الدخول. والثيب الصغيرة. ومن زالت بعارض، فإذا كان لها مال فله أن يخالع عنها من مالها، ولو بدون إذنها، أما الوصي غير المجبر فله أن يخالع عنها بإذنها، فإذا كانت غير مجبرة، بأن كانت ثيباً بوطء الزوج، ولكنها كانت سفيهة، فهل له أن يخالع عنها من مالها بغير إذنها؟ في ذلك خلاف، والمشهور أنه لا يصح بغير إذنها، أما بإذنها فإنه يجوز، وكذا إذا خالع بدون إذنها من ماله فإنه يصح. وقد اعترض على الأول بأن إذن السفيهة لا قيمة له، فكيف يتوقف خلعه على إذنها؟! وهو وجيه لا جواب له.
    وهل للمرأة المريضة مرضاً مخوفاً أن تخالع زوجها على مال، وإذا خالعته يقع الطلاق ويلزم العوض. أو لا؟ والجواب: أنه يحرم على الزوجين أن يتخالعا في زمن المرض، ولكن إذا وقع الخلع بينهما في مرض الزوجة فإن الطلاق البائن ينفذ ولا يتوارثان، ولو ماتت وهي في العدة، لأن الطلاق البائن يقطع علاقة الزوجة، أما المال الذي التزمت الزوجة به فإنه ينظر فيه فإن كان يساوي ميراثه منها يوم وفاتها لا يوم الخلع، أو ينقص عنه ويملكه الزوج ولا يتوارثان بعد ذلك، كما ذكرنا، أما إن زاد على ميراثه فإن الزيادة لا تكون حقاً له، ويجب عليه ردها إن كان قد قبضها، ويجب أن لا يتصرف الزوج في المال قبل موتها، لأن المعتبر في تقدير المال يوم وفاتها لا يوم الخلع، وحينئذ يوضع المال الذي خالعته به تحت يد أمين إلى وفاتها، ثم ينظر فيه بعد وموتها إن كان يساوي ما يستحقه من
    الميراث، أو أقل أخذه، وإلا أعطي ما يستحقه فقط، ورد الزائد على أن المال الذي يلزم وضعه تحت يد أمين إنما هو المال الذي يساوي ميراثه فقط وقت الخلع دون الزيادة، مثلاً إذا كانت تركتها تساوي ثمانمائة جنيه يوم الخلع وخالعته بما يساوي ثلاثمائة جنيه، وكان من ميراثه الربع، وهو يساوي مائتين، وضع الربع فقط تحت يد أمين، أما الزيادة، وهي المائة فلا توضع حتى إذا ماتت ينظر، هل مجموع مالها الذي بقي يستحق فيه المائتين. أو يستحق أقل؟ فإن كان يستحق المائتين فقط أخذها، وإن كان يستحق أقل رد الزيادة وهذا التفصيل هو المعتمد، وبعضهم يقول: إن الزوج لا يستحق شيئاً من البدل، ويجب عليه أن يرده - إن كان قبضه - للمرأة أو لورثتها إن كانت قد ماتت، وقد عرفت أنه غير المعتمد.
    أما الزوج المريض مرضاً مخوفاً فإنه إذا خالع زوجته، فإن الخلع ينفذ والعوض يلزم ولكنه حرام، كما تقدم، إلا أن الزوجة ترث منه إذا مات، سواء كانت في العدة، أو انقضت عدتها، حتى ولو تزوجت غيره عدة أزواج، أما هو فلا يرثها إذا ماتت قبله، لأنه هو الذي أضاع ما بيده.
    هذا ما يتعلق بملتزم العوض المالي من التفصيل، أما ما يتعلق بالزوج المخالع فيشترط فيه الشروط التي تقدمت في الطلاق، ومنها أن يكون مسلماً، فلا يصح خلع الكافر، ومنها أن يكون مكلفاً، فلا يصح خلع الصبي، والمجنون، وهل لأب الصغير، والمجنون أن يخالع زوجتيهما؟ والجواب: نعم يصح بشرط أن يكون الخلع في مصلحتهما، ومثل الأب السيد والوصي والحاكم ونائبه فإن لهم أن يخالعوا عنهما إذا كان في الخلع مصلحتهما. وهل لأب الصغير والمجنون أن يطلق عنهما بغير عوض؟ خلاف، وبعضهم يقول: أنه لا يصح، وبعضهم يقول: يصح إن كان في طلاقه عنهما مصلحة، كما إذا فسدت أخلاق الزوجة، وهو ظاهر.
    أما السفيه البالغ فإنه يصح أن يتولى الخلع بنفسه، ثم إن كان المال الذي خالع به يساوي المال الذي يخالع به مثله فذاك، وإن خالع بدونه يجب على ملتزم العوض أن يكمله له ولكن المال الذي يخالع به السفيه لا يسلم له، فإذا سلم له لا تبرأ ذمة الزوجة أو ملتزم العوض منه، بل لا بد من تسليمه لوليه. وليس لأب السفيه أن يخالع عنه، لأن السفيه البالغ يملك الطلاق، ومثله العبد البالغ، فإنه لا يصح لسيده أن يخالع عنه.
    الشافعية - قالوا: يشترط في ملتزم العوض المالي أن يكون مطلق التصرف المالي، فلا يكون محجوراً عليه حجر سفه، سواء كانت الملتزمة الزوجة، أو غيرها، سواء كان قابلاً أو ملتمساً فإذا قالت الزوجة لزوجها: خالعني على عشرين كانت ملتزمة ملتمسة لقبول عوضها، وإذا قال الزوج خالعتك على ذلك كان قابلاً، وإذا قال الزوج لأجنبي: خالعت زوجتي على كذا في ذمتك، فقال الأجنبي قبلت كان الزوج ملتمساً والأجنبي والملتزم قابلاً، وبالعكس إذا قال الأجنبي خالع زوجتك على مائة جنيه في ذمتي، فقال الزوج: خالعتها على ذلك فإن الأجنبي يكون ملتزماً ملتمساً والزوج قابلاً، وعلى كل
    حال فيشترط في ملتزم المال، سواء كانت الزوجة، أو الأجنبي، وسواء كان ملتمساً أو قابلاً، أن يكون مطلق التصرف المالي. فإذا كان محجوراً عليه لسفه فإنه لا يصح التزامه لعوض الخلع ولو بإذن وليه، فلو أذن ولي الزوجة المحجور عليها لسفه هذه الزوجة في مخالعة زوجها على مال ففعلت لا يلزمها المال، لأنها ليست من أهل الالتزام وليس لوليها أن يبذل مالها في مثل عوض الخلع إلا إذا خشي ضياع مالها بواسطة الزوج، فأذنها بالاختلاع منه صيانة لمالها، فإنه يصح في هذه الحالة.
    وبهذا تعلم أن خلع المحجور عليها لسفه لا يلزم به مال، ولكن يقع به الطلاق رجعياً إلا في صورة واحدة، فإنه يقع به الطلاق البائن ويلزم العوض، وهي ما إذا أذنها وليها بالخلع على مال معين خوفاً من أن يبدد زوجها مالها.
    هذا إذا كانت الزوجة مدخولاً بها. أما إذا كانت غير مدخول بها فإنه يقع طلاقاً بائناً، لأن الطلاق قبل الدخول بائن، كما تقدم، فإن كانت محجوراً عليها لفلس لا لسفه فإن خلعها يصح ويقع به الطلاق البائن، أما التزامها للمال فإن له صورتين:
    الصورة الأولى: أن تلتزم بمال غير معين، كأن تقول له: خالعني على عشرين جنيهاً، وفي هذه الحالة يلزمها مبلغ العشرين ديناً في ذمتها تدفعها له بعد رفع الحجر.
    الصورة الثانية: أن تخالعه على عين من مالها المحجور عليه كأن تقول له: خالعتك على هذه الفرس مثلاً، وفي هذه الحالة تبين منه بمهر المثل ديناً في ذمتها.
    وهل المريضة مرض الموت مطلقة التصرف في مالها فيصح لها أن تخالع زوجها بالعوض الذي تريده. أو لا؟ الجواب: أن المريض مرض الموت له التصرف في ماله بغير التبرع، أما التبرع فليس له أن يتبرع ما يزيد على الثلث، وعلى هذا يكون في الجواب تفصيل، وهو أن العوض إن كان يساوي مهر المثل فإنه ينفذ بلا كلام. لأن مهر المثل في نظير حل العصمة فليس فيه تبرع، أما إن كانت الزيادة على مهر المثل فإن الزيادة على مهر المثل تكون تبرعاً، وفي هذه الحالة ينظر إن كانت الزيادة أقل من الثلث فإن له أخذها بدون اعتراض، وإن كانت أكثر وأجازت الورثة، فإنه يأخذها، فإن لم تجز الورثة، أو كان الثلث أقل منها فسخ العوض المسمى ورجع بمهر المثل فقط، وعلى هذا يقال: إن المريضة. مرض الموت مطلقة التصرف في العوض الذي يساوي مهر المثل، أما أنها تكون وصية فتجري عليها أحكام الوصية. بقي حكم الأمة إذا خالعت زوجها، فهل يصح، أو لا؟ والجواب: أن الأمة وإن كانت غير مطلقة التصرف، ولكنها ليست كالسفيه، لأنها إذا خالعت زوجها بإذن سيدها بمال عينه لها وقع الطلاق بائناً ولزمت العين التي عينها من ماله، وإذا زادت على ما عينه صح الخلع وتعلقت الزيادة بكسبها من ذلك المال، وإذا لم يأذنها سيدها، فإن الخلع يصح ويقع الطلاق بائناً بمهر المثل، ويتعلق العوض بذمتها على الوجه المتقدم.

    هذه شروط ملتزم العوض، وأما الزوج المخالع فيشترط فيه الشروط المتقدمة في الطلاق، وهو أن يكون مكلفاً، فلا يصح الخلع من الصبي والمجنون. والمعتوه، إلا السكران فإنه يصح خلعه تغليظاً عليه، وإذا خالع السفيه المحجور عليه، أو الرقيق فإن خلعهما يصح، ولكن لا يبرأ ملتزم العوض بالدفع للولي والسيد، إلا إذا قيد أحدهما الطلاق بالدفع له، كما إذا قال: إن دفعت لي كذا فأنت طالق فإنها تدفع له وتبرأ بذلك.
    الحنابلة - قالوا: يشترط في ملتزم العوض أن يكون أهلاً للتصرفات المالية، فلا يصح الخلع بعوض من الصغيرة، والمجنونة، والمحجور عليها لسفه، ولو بإذن الولي، لأن مال الخلع تبرع ولا إذن للولي في التبرعات، وهذا هو المشهور.
    وقال بعضهم: إن الأظهر صحته بإذن الولي إذا كان فيه مصلحة، فإن خالعت الصغيرة، أو السفيهة أو المجنونة زوجها، فإن كان الطلاق كأن قالت له: طلقني على كذا، فقال لها: طلقت وقع طلاق رجعي، وإن لم يكن بلفظ الطلاق، بل بلفظ الخلع وغيره مما تقدم، كان كناية إن نوى به الطلاق طلقت وإلا فلا، وإن كان بلفظ الطلاق الثلاث لا رجعة فيه، كما تقدم، أما الأمة فإنه يصح أن تخالع بإذن سيدها ويكون العوض الذي أذنها فيه في ذمة السيد وليس للأب أن يخالع عن بنته الصغيرة من مالها، وكذلك المجنونة والسفيهة، وليس له طلاقها كذلك، وإذا فعل الأب لم يقع، ولا طلاق إلا أن ينوي الزوج به الطلاق أو يكون بلفظ الطلاق، فإنه يقع رجعياً، كما ذكرنا.
    وللأب والأجنبي أن يلتزم عوض الخلع من ماله، بأن يقول: اخلع زوجتك على ألف، أو طلقها على ألف، أو بألف، أو على سلعتي هذه فيجيبه الزوج، فيصح الخلع ويلزم الأب، أو الأجنبي بأن يدفع للزوج عوضاً دون الزوجة.
    وإذا قال له: اخلع زوجتك على مهرها. أو على سلعتها وأنا ضامن، فإنه يصح ويلزمه العوض دون الزوجة، لأنه ضمن بغير إذنها، أما إذا قال له: اخلع زوجتك على جملها هذا، أو على ألف منها ولم يضمن، فأجابه الزوج فإن الخلع لا يصح، لأنه بدل مال غيره، بدون إذنه العوض، فبطل الخلع.
    وإذا قالت له الزوجة: خالعني على جمل أخي فلان وأنا ضامنة، صح الخلع ولزمها العوض أو قيمته إن عجزت، أما إذا لم تقل له: وأنا ضامنة، فالخلع لم يصح، وإذا خالعته الزوجة وهي مريضة مرض الموت فإن كان العوض أكثر من ميراثه منها فإنه لا يملك إلا ما يساوي ميراثه، أما إذا كان أقل من ميراثه، فإنه يأخذه بدون زيادة لأنه أسقط الزيادة باختياره فلا يستحقها، فتعين استحقاقه للأقل، فإن صحت من مرضها الذي خالعته فيه كان له الحق في كل المبلغ الذي خالعته عليه.
    وإن طلقها بائناً في مرض موته فإنها تستحق ميراثها، ولو أوصى لها بشيء أكثر فإنها لا تستحقه فهذا شرط ملتزم العوض، وأما شرط الزوج المطلق، فهو شرط الطلاق المتقدم، فيصح الخلع من كل زوج يصح طلاقه. فيصح خلع المسلم، والذمي، والبالغ، والصبي المميز الذي يعرف معنى الطلاق ويفعله، والرشيد، والسفيه، والحر، والعبد، لأن كل واحد منهم زوج يصح طلاقه فيصح خلعه، وكما يصح الخلع من الزوج أو نائبه يصح ممن له الولاية كالحكم في الشقاق وكطلاق والحاكم في الإيلاء، أو العنة ونحوهما، ويقبض الزوج عوض الخلع ولو كان محجوراً عليه لفلس، أما إن كان محجوراً عليه لسفه، أو كان مميزاً فإنه لا يصح لهما قبض العوض، بل الذي يقبضه الولي، وإن كان رقيقاً بدله السيد لأنه ملكه) .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الخلع]
    صـــــ 359 الى صــــــــ
    367
    الحلقة (214)


    شروط عوض الخلع، وفيه الخلع بالنفقة، والحضانة والمال، ونحو ذلك

    -وأما عوض الخلع، فيشترط فيه شروط: منها أن يكون مالاً له قيمة، فلا يصح الخلع باليسير الذي لا قيمة له، كحبة من بر، ومنها أن يكون طاهراً يصح الانتفاع به، فلا يصح بالخمر. أو بالخنزير، والميتة، والدم وهذه الأشياء لا قيمة لها في نظر الشريعة الإسلامية، وإن كان لبعضها قيمة مالية عند غيرهم، كما تقدم في المهر، ومنها أن لا يكون مغصوباً، ومنها غير ذلك.
    ويصح الخلع بالمال، سواء كان نقداً، أو عرض تجارة. أو مهراً. أو نفقة. أو أجرة رضاع. أو حضانة. أو نحو ذلك، وفي ذلك تفصيل المذاهب (1) .
    __________

    (1) (الحنفية - قالوا:
    ما جاز أن يكون مهراً جاز أن يكون بدلاً في الخلع، وقد عرفت تفصيل ذلك في شروط المهر، فارجع إليها.
    فإذا خالعت زوجها على خمر، أو خنزير، وقبل منها فإن كان يلفظ الخلع ونحوه بانت منه ولا شيء له عليها، ولا يسقط شيء من مهرها، وإن كان بلفظ الطلاق وقع الطلاق رجعياً بعد الدخول وبائناً قبله.
    وإذا خالعته على مال مغصوب ليس ملكاً لها، فإن الخلع يصح والتسمية تصح، ثم إذا أجازه المالك أخذه الزوج، وإن لم يجزه كان له قيمته، وإذا خالعته على شيء محتمل، كأن قالت له: خالعتك على ما في الدار، أو قالت خالعتك على ما في بطون هذه الغنم فإنه يصح، ثم إن كان في الدار أو في بطون الغنم شيء فهو للزوج، وإن لم يكن فلا شيء له، لأنه قبل أن يخالعها على ما يحتمل أن يكون مالاً، أو لا يكون، فإذا سمت مالاً معيناً، ولكنه ليس بموجود حالاً، وإنما يوجد بعد، كما إذا قالت له: خالعني على ثمر نخلي في هذا العام. أو على كسبي في هذا الشهر، فإن الخلع يصح وعليها أن ترد له ما قبضت من مهر، سواء وجد الثمر والكسب أو لم يوجد ثم إن وجد يكون حقاً له وإذا سمت مالاً موجوداً بالفعل، كما إذا خالعته على ما في بيتها من المتاع. أو على ما في نخيلها من الثمار. أو على ما في بطن ناقتها من ولد، أو على ما في ضروع غنمها من اللبن. فإن الخلع يصح ثم إن وجد ما سمت كان له، وإن لم يوجد لزمها رد ما قبضت من المهر.

    والحاصل أنها إذا خالعته على مال غير معين، فذلك على ثلاثة أوجه:
    أحدها: أن لا تذكر مالاً أصلاً ولكن تذكر عبارة تحتمل المال وعدمه، كما إذا قالت له: خالعني على ما في بيتي أو ما في يدي، فإنه يحتمل أن يكون فيه شيء وأن لا يكون، وحكمه أن الخلع يصح وإن وجد شيء أخذه، وإلا فلا شيء له. ثانيها: أن تذكر مالاً ليس موجوداً في الحال، ولكن يوجد بعد، كما إذا قالت له: خالعني على ما تنتجه نخيلي من ثمر في هذا العام، وحكم هذا أن الخلع يصح، وعليها أن ترد ما قبضته من مهر، وإن لم تكن قبضت سقط مالها، سواء وجد الثمر أو لم يوجد. ثالثها: أن تذكر مالاً مجهولاً، ولكنه موجود في الحال، كما إذا قالت له خالعني على الولد الذي في بطن هذه الناقة، أو على الثمر الموجود على النخيل، أو المتاع الموجود في الدار وحكمه أن الخلع صحيح، ثم إن وجد شيء كان للزوج، وإن لم يوجد ردت له ما قبضت من مهر. وإذا خالعته على جمل شارد. أو فرس تائه، فإن الخلع يصح وعليها تسليم عينه إن قدرت وإن عجزت وجبت عليها قيمته، ولا ينفعها أن تشترط البراءة من ضمانه. فإنه لازم لها أو قيمته على كل حال، وإذا خالعته على حيوان موصوف كفرس مسكوفي، أو جمل يقدر على الحمل، أو نحو ذلك، فإن الخلع يصح ويلزمها أن تعطيه الوسط، أو تعطيه قيمة الوسط، أما إذا خالعته على حيوان غير موصوف وقع الطلاق. ووجب عليها أن ترد له المهر والنفقة التي استحقتهما عليه بعقد النكاح.
    ويصح الخلع على نفقة العدة والمتعة، ولكن يشترط لإسقاط النفقة أن ينص عليها في الخلع وذلك لأن الخلع يسقط عن الزوجين حقوق الزوجية الثابتة لكل منهما وقت الخلع ولو لم ينص عليها إلا إذا خالعته على كل مهرها فإنها ترد له ما قبضته منه، فلا يسقط بالخلع لأنه هو الذي به الخلع، أما نفقة العدة فلا تسقط إلا إذا نص عليها وذلك لأنها تثبت يوماً فيوماً، فلا تكون حقاً للمرأة واجباً على الزوج، ولهذا لو قالت له: أنت بريء من نفقتي أبداً مادمت امرأتك فإنه لا يبرأ من نفقتها، لأن إبراء شخص من حق لا يصح إلا إذا وجب عليه أولاً والنفقة لمستقبله لا تجب عليه الآن لأن سبب النفقة هو عدم خروج المرأة من دار زوجها إلا بإذنه وهذا السبب يحدث يوماً فيوماً وهذا بخلاف ما إذا جعلت عوضاً عن الخلع، فإنه يصح. وذلك لأن الخلع سبب في وجوب العدة، والزوج يستوفي العوض ولا يلزم استيفاؤه دفعه.
    والحاصل أن الإبراء من النفقة قبل الخلع أو بعد لا يصح، لأنها لم تجب، فلا معنى لإبرائه منها، وأما جعل النفقة عوضاً عن الخلع فإنه يصح، لأن الخلع سبب في وجوب العدة والنفقة عوض يستوفيه شيئاً فشيئاً. وأما المتعة فإنها تسقط بدون ذكر، فإذا قال لزوجته غير المدخول بها التي لم يسم لها مهراً: خالعتك، فقالت: قبلت سقطت متعتها، وإذا خالعته على السكنى فإنها لا تسقط، وذلك لأنها ملزمة شرعاً بالسكنى في البيت الذي طلقت فيه، فإذا سكنت في غيره ارتكبت معصية، وحينئذ تكون السكنى حق الشرع، فلا يصح اسقاطها نعم إذا كانت ساكنة في بيت مملوك لها، أو كانت تعطي أجرة السكن من مالها، وخالعته على الأجرة فإنها تسقط ويكون الخلع في نظير المال لا في نظير
    السكن، ولا يلزم بأن تصرح بأجرة السكني، فإذا قالت له خالعتك على السكني، فإنه يصح ويحمل على الأجرة، فإذا فرض وكانت ساكنة في منزل الزوج وقت الطلاق وخالعته على السكني فيه والخروج منه، فإنها لا تسقط.
    واعلم أن في سقوط الزوجين بالخلع ثلاثة أوجه:
    الوجه الأول: أن لا يذكر البدل، كأن يقول لها: خالعتك ناوياً به الطلاق ولم يذكر بدلاً، وقالت: قبلت، فإنها تبين منه لوجود الإيجاب والقبول، ثم يسقط حق كل منهما قبل الآخر على المعتمد، فإذا كان لها معجل صداق سقط حقها فيه، وإذا قبضت كل الصداق وخالعها قبل الدخول سقط حقه في نصفه، ومن باب أولى إذا قبضته كله ثم خالعها بعد الدخول، فإنه لا يستحق فيه شيئاً، وكذا إذا لم تقبض من الصداق شيئاً فإن حقها يسقط فيه بالخلع.
    الوجه الثاني: أن ينفي البدل، كأن يقول لها: اخلعي نفسك مني بدون شيء، فقالت خلعت نفسي بدون شيء، فإنها تبين منه ويبقى لكل منهما حقه قبل صاحبه، فإذا كان لها معجل صداق، أو نفقة زوجية، فإنها تبقى. وإذا كان له نصف صداقها، كما إذا فعل ذلك قبل الدخول، فإنه يبقى له. الوجه الثالث: أن يكون البدل معيناً معروفاً، كما إذا خالعها على عشرين جنيهاً ولم يذكر الصداق وفي هذه الحالة إن كانت المرأة مدخولاً بها وقبضت كل الصداق فإنه لا يلزمها إلا العشرون جنيهاً، وتذهب بما قبضت، فلا يرجع عليها بشيء، كما لا ترجع عليه بشيء بعد الطلاق، وإن لم تقبض الصداق فقد ضاع عليها، فعليها البدل، ولا ترجع على الزوج بشيء، أما إذا كانت غير مدخول بها فإن كان المهر مقبوضاً فإن الزوج لا يستحق فيه شيئاً بل يأخذ البدل ويضيع عليه نصف المهر وإن لم يكن مقبوضاً فإنها لا تستحق فيه شيئاً بل يضيع عليها نصفه زيادة على بدل الخلع الذي سمته، ومثل ذلك ما إذا بارأها بمال معلوم سوى المهر، وقد عرفت أنه إذا خالعها على مهرها وكانت مدخولاً بها فإن كانت قبضته فإنه يجب عليها رده، وإن لم تكن قبضته فإنه يسقط عن الزوج جميع المهر، ولا يتبع أحدهما الآخر بشيء، ومثل ذلك ما إذا لم يكن مدخولاً بها.
    هذا، وهل إذا التزم الرجل ببدل في الخلع يصح أو لا،؟ مثلاً إذا قالت له: خالعتك على مهري ونفقة عدتي بشرط أن ترد لي عشرة جنيهات، فقال: قبلت، فهل يلزمه أن يرد العشرة أو لا؟ والجواب: نعم يلزمه أن يرد، ولكن لا يصح أن يعتبر هذا مالاً يدفعه هو لها في مقابل الخلع لأن البدل خاص بها هي إذ به تملك نفسها، وإنما يعتبر استثناء من بدل الخلع، مثلاً إذا كان صداقها عشرين جنيهاً ونفقة عدتها خمسة، فإنه يطرح منها عشرة، ويكون عوض الخلع خمسة عشر، فإن كان المبلغ الذي طلبته يزيد عن عوض الخلع تجعل الزيادة مضافة إلى المهر قبل الخلع تصحيحاً للقاعدة.
    ويصح الخلع على نفقة الولد مدة معينة، سواء كان رضيعاً، أو فطيماً على المعتمد، حتى ولو كانت حاملاً به، فإذا قالت له: خالعتك على نفقة ولدي الذي في بطني مدة رضاعه سقط حقها في أجرة الرضاع ولزمها أن ترضعه حولين بعد ولادته، وبعضهم يقول: لا يلزم تعيين المدة في الرضيع، فإنها
    إذا قالت له: خالعتك عل نفقة الولد، وهو رضيع، كان معنى ذلك أن لا حق لها في أجرة الرضاع في مدة الرضاع، ولا يخفى أن الأول أظهر في حسم مادة النزاع، أما إذا كان فطيماً فإنه ينبغي فيه تحديد المدة، لأن نفقته هي طعامه وشرابه، وهذا لازم له في كل حياته، فلا تصح التسمية بدون توقيت، فإذا قالت له: خالعتك على نفقة ولدك مدة حياتي فإنه لا يصح ويسقط بذلك مهرها، وإذا كانت قبضته فإنه يجب عليها أن ترده، فإذا خالعته على نفقته مدة معينة فإنها تلزمها، وإذا مات الولد أو هرب لزمها أن تدفع ما بقي من نفقته للزوج إلا إذا شرطت براءتها منها بعد موته، وذلك بأن يقول الزوج: خالعتك على أني بريء من نفقة الولد إلى ثلاث سنين، فإن مات الولد قبلها فلا رجوع لي عليك، فتقول: قبلت فإنه يصح، وإذا مات قبلها فلا رجوع له والخلع على البراءة من النفقة لا يستلزم الكسوة، فلا تدخل إلا إذا نص عليها، وإذا خالعته على أن تمسك البنت إلى البلوغ، فإنه يصح. أما الغلام فلا، لأنه في حاجة إلى أن يتعلم من أبيه أخلاق الرجولة، فلا يصح الخلع على إمساكه إلا مدة لا يبلغ فيها كمدة الحضانة، وهي سبع سنين، ولها أن تخالعه على إمساكه نحو عشر سنين، لأن الولد ينبغي أن يتصل بأبيه قبل البلوغ ليتعلم منه أخلاق الرجولة.
    ذلك ما عللوا به الفرق بين الأنثى والذكر. والظاهر أنه إذا كانت البيئة التي فيها أمه أفضل له من هذه الناحية، فإنه يصح إمساكه كالأنثى، على أنه إذا تزوجت أمه فللزوج أخذ الولد وإن اتفقا على تركه لأنه حق الوالد، ويرجع الزوج عليها بنفقته في المدة الباقية ما لم تشترط البراءة في الأول كما ذكرنا. وإذا خالعته على نفقة الولد مدة معينة وهي معسرة، فلها مطالبة أبيه بالنفقة، ويجبر عليها، ولكنه يرجع عليها إذا أيسرت.
    المالكية - قالوا: يشترط في العوض أن يكون حلالاً، فلا يصح الخلع على خمر أو خنزير أو مال مغصوب علم الزوج بأنه مغصوب، ومثله المسروق، فإن خالعته على شيء من ذلك وقع الطلاق البائن ويبطل العوض، فإن كان مغصوباً وجب عليه أن يرده لصاحبه، وإن كان خمراً وجبت إراقته، وإن كان خنزيراً وجب إعدامه على المعتمد، وقيل: يسرح، ولا شيء للزوج على الزوجة في مقابل ذلك ومثل ذلك ما إذا خالعته على شيء بعضه حلال وبعضه حرام، كما إذا خالعته على خمر وثوب. فإن الخلع ينفذ والعوض يبطل، فلا شيء للزوج مطلقاً.
    والحاصل أن العوض إذا كان خمراً وجب على الزوج المسلم أن يريقه، ولكن آنيته لا يكسرها لأنها تطهر بالجفاف، وإذا كان خنزيراً وجب عليه أن يقتله، وقيل: بل يسرحه لحال سبيله، وإن كان مغصوباً، أو مسروقاً وجب عليه أن يرده إلى أصحابه، وينفذ الطلاق البائن، ولا شيء له في مقابل هذه الأشياء، ولا يشترط أن يكون العوض محقق الوجود، فيصح الخلع بالغرر، كالجنين في بطن أمه، مثلاً إذا خالعته على ما في بطن هذه الناقة التي تملكها من حمل، فقبل فإنها تطلق بذلك طلاقاً بائناً، ثم إن ولدت الناقة كان الولد ملكاً له وإن نزل ميتاً فقد ضاع عليه ولا شيء له قبل زوجته، وإن كانت لا تملك الناقة فإن الطلاق البائن يقع عليه لا شيء له، لأنه قد قبل الخلع على شيء غير محقق، فيعتمل لأن
    يقبض أو لا يقبض، وكذا لا يشترط أن يكون العوض غير معين فيصح الخلع على عرض تجارة غير موصوف، كمقطع من القماش أو جمل، أو جاموسة غير موصوفة بصفة، فإذا قالت له: خالعني على جاموسة صح الخلع وبانت منه، وله عليها جاموسة وسطى لا صغيرة ولا كبيرة، ومثل ذلك ما إذا قالت له: خالعني على مقطع من القماش، فإن له الحق في مقطع وسط من جنس القماش، وهكذا.
    وكذا لا يشترط أن يكون مقدوراً على تسليمه، فيصح أن تخالعه على جمل شارد أو ثمرة لم يبد صلاحها، ثم إن حضر الجمل، وصلحت الثمرة فهما له، وإلا فلا شيء له، ويقع الطلاق بائناً.
    ويصح الخلع على نفقتها مدة الحمل، فإذا كان بها حمل ظاهر أو محتمل وخالعته على نفقة عدتها وهي مدة حملها، فإنه يصح، ولكنها إذا أعسرت في هذه المدة، وجب عليه أن ينفق عليها وتكون هذه النفقة ديناً عليها يأخذه منها إذا أيسرت.
    وكذا يصح الخلع على إسقاط الحضانة، فإذا قالت له: خالعني على إسقاط حقي في حضانة ولدي منك، فقال: خالعتك على ذلك، فإنه يصح وتبين منه ويسقط حقها في الحضانة وينتقل إلى الأب، ولو كان هناك من يستحقها غيره ولكن بشرط أن لا يخشى على الولد المحضون ضرر بمفارقة أمه أو يكون الأب لا يستطيع حضانته، وإلا وقع الطلاق ولم تسقط الحضانة باتفاق. وبعضهم يقول: إذا خالعت على إسقاط حضانتها لا تنتقل الحضانة للأب، ولكن تنتقل لمن لها حق الحضانة بعد الأم، وهذا هو الذي عليه العمل وبه الفتوى. وإن كان الأول، وهو انتقاله للأب المشهور، وإذا خالعته على إسقاط الحضانة ومات الأب، فهل تعود الحضانة للأم أو لا؟ والجواب: نعم تعود للأم، وقد يقال أن الأم أسقطت حقها، فإذا مات الأب تنتقل الحضانة لمن يستحقها بعد الأم، ولكن الظاهر أن الأم أسقطت حقها للأب، فإذا مات عاد الحق لها لأنها أولى بالحضانة، فالظاهر أنها تعود للأم، فإذا ماتت الأم والأب موجود، فهل تنتقل الحضانة إلى من لها حق الحضانة بعد الأم، أو تستمر للأب على القول المشهور؟ والجواب: أن الظاهر استمرارها للأب لأنها انتقلت به بوجه جائز، وبعضهم يقول: أنها تنتقل لمن لها حق الحضانة بعد الأم قياساً على من أسقط حقه في وقف الأجنبي ثم مات فيعود حقه لمن بعده ممن رتبه الواقف. وهل إذا سقط حقها في حضانة حملها قبل الولادة يصح أو لا؟ والجواب: يصح، ولا يقال أنه إسقاط للشيء قبل وجوده، لأن سبب الوجود ظاهر، وهو الحمل.
    ويصح الخلع على أجرة رضاع الحمل الذي في بطنها مدة رضاعة، فإذا قالت له خالعني على أجرة رضاع ولدي الذي في بطني فقال لها: خلعتك على ذلك وقبلت فإنها تبين منه، وعليها رضاع ولده مدة الرضاع مجاناً، فإذا مات الولد قبل الحولين سقط ما بقي من أجرة الرضاع، فلا يرجع عليها أبوه بشيء ما لم تكن عادتهم الرجوع، فإن له مطالبتها بالباقي، أما إذا ماتت هي أو جف لبنها فعليها مقدار ما بقي من أجرة رضاعه، ويؤخذ من تركتها إن كانت قد ماتت.
    وهل تسقط نفقتها مدة الحمل تبعاً لسقوط أجرة الرضاع من غير أن ينص عليها أو لا؟ والراجح أنها لا تسقط، لأنهما حقان أسقطت أحدهما ولم تسقط الآخر. وإذا خالعها على أجرة رضاع ابنه مدة
    الرضاع وعلى أن تنفق عليه في هذه المدة. أو على ولده الكبير هذه المدة، فإن فيه خلافاً، فبعضهم يقول: يسقط الزائد على مدة الرضاع، سواء حدد مدة الانفاق بزمن الرضاع أو زاد عليها، أو خالعها على الإنفاق عليه مدة، أو على غيره منقطعة عن الرضاع، وبعضهم يقول: لا يسقط مطلقاً، فإذا اشترط أن تنفق عليه، أو على ولده الكبير مدة الرضاع لزمها ذلك، فإذا مات الولد كان للأب أن يأخذ نفقته التي ضمها إلى أجرة الرضاع يوماً فيوماً، أو شهراً فشهراً طول المدة، وكذا إذا لم يقيد بمدة معينة فإنه يلزمها الإنفاق عليه ما دام موجوداً، ولا يضر الغرر في الخلع، وهذا هو الراجح، وبعضهم يقول: إن كانت المدة معينة فإنه يصح، وإلا فإن النفقة تسقط عنها.
    ويصح الخلع مع البيع، كأن تخالعه على فرس، على أن تأخذ منه خمسة جنيهات مثلاً، ففي هذه الحالة يكون نصف الفرس في مقابلة العصمة. والنصف الآخر مبيعاً بالخمسة جنيهات، وهو صحيح، فإذا فرض وكانت الفرس تساوي الخمسة التي دفعها، فإن الخلع يصح أيضاً، لأن عين الفرس تعتبر عوضاً، بصرف النظر عن الخمسة التي دفعها، فيقع الطلاق بائناً على الراجح وبعضهم يقول: في هذه الحالة يقع الطلاق رجعياً، لأن الزوجة لم تدفع عوضاً فإن الفرس أخذت عوضها المساوي لها، فإذا خالعته على جمل شارد فإن البيع يكون فاسداً، والخلع يكون صحيحاً، وعلى هذا فيجب على الزوجة أن ترد الخمسة التي أخذتها لفساد البيع، ويجب عليه أن يرد هو عليها نصف الجمل الذي اشتراه بهذه الخمسة، ويبقى النصف الآخر ملكاً له في نظير حل العصمة، وإذا خالعته على ما في يدها وهي مضمومة، أو ما في صندوقها وهو مغلق، فلو وجد بهما شيء ولو تافه، كزبيبة، فإنه يكون له ويصح الخلع، وكذا إذا لم يكن فيهما شيء أصلاً أو فيهما شيء ليس بمال، كتراب فإنها تبين منه على القول الأقرب المستحسن.
    أما إذا خالعته على شيء معين وتبين أنه ليس ملكاً لها، فإن الخلع لا يصح، حتى ولو أجازه الغير. وهذا بخلاف ما إذا خالعته على شيء غير معين، كما إذا خالعته على قطنية بلدية، ثم جاءته فتبين أنها ملك لغيرها فإن الخلع يصح، وتلزم بإحضار واحدة مثلها، وإذا قال لها: إن أعطيتني ما أخالعك به فأنت طالق، فأعطته شيئاً تافهاً لا يساوي ما يخالع به مثله فإنها لا تطلق.
    الشافعية - قالوا: يشترط في العوض أن يكون مقصوداً، أي له قيمة وأن يكون راجعاً إلى جهة الزوج وأن يكون معلوماً، وأن يكون مقدوراً على تسليمه، وأن يكون حلالاً غير فاسد.
    وبالجملة فيشترط في الخلع الشروط المتقدمة في الصداق، فكل ما يصلح صداقاً يصلح أن يكون بدلاً في الخلع. ويرد عليه أن الصداق يصح على تعليم بعض القرآن بنفسه، فإنه يصح أن يكون صداقاً، ولا يكون بدل خلع. لأنها لو خالعته على أن تعلمه بعض القرآن بنفسها فإنه لا يصح، لأنها تكون بعد الخلع أجنبية لا يجوز لها أن تعلمه. والجواب: أن عدم الصحة جاءت من تعذر تعليمه بنفسها، وإلا فهو صحيح في ذاته. فخرج بالعوض الطلاق بلا ذكر عوض، فإن فيه تفصيلاً، لأنه لم يذكر المال، فلا يخلو إما أن
    ينويه أو ينفيه. أو لا ينوي ولا ينفي، وسيأتي بيان ذلك في الصيغة، وقوله: مقصود، أي له قيمة مالية، خرج به العوض الذي لا قيمة له، فإذا طلقها في نظير حشرة أو دم، فإنه يقع عليه الطلاق رجعياً، وقوله: راجع لجهة الزوج، خرج به ما إذا كان لها مال عند شخص غير الزوج فطلقها زوجها على براءة ذلك الشخص من دينه، فإنه يقع الطلاق رجعياً أيضاً فإذا كان لها عند زوجها دين ولها عند أخيه دين فطلقها على البراءة من دينه ودين أخيه وقع الطلاق بائناً في نظير البراءة من دين الزوج، ولا يضر ضم أخيه إليه وصحت براءتهما، ولا تجب على المرأة مهر المثل بعد ذلك، وإذا كان للزوجة قصاص على زوجها فأبرأته على ما ثبت لها من ذلك القصاص فإنه يصح ويقع الطلاق بائناً، وإذا كان لها عليه حد قذف أو تعزير فأبرأته منهما وطلقها على ذلك وقع الطلاق بائناً ولزمها أن تدفع لزوجها مهر مثلها، وذلك لأن العوض يشترط فيه أن يكون من الأشياء التي يصح جعلها صداقاً وحد القذف والتعزير إن كان لا يصح جعلهما صداقاً، ولكنهما كالمال المقصود، لأنهما لهما قيمة في ذاتهما.
    والمراد بالمقصود هو ما له قيمة وإن كان لا يقابل بمال، فلهذا يلزم الطلاق البائن بالخلع عليهما، ويجب على الزوجة أن تدفع مهر المثل، ولا يسقط الحد عنه وقيل: يسقطان لأن الخلع عليهما يتضمن العفو عنهما، ولكن هذا ضعيف، لأنه لو صح لما وجب على الزوجة مهر المثل.
    والحاصل أن العوض إذا كان مالاً مقصوداً صح الخلع ووجب المال. فإن لم يكن له قيمة مالية أصلاً وقع عليه الطلاق رجعياً، وإن كان مقصوداً، ولكنه فاسد، كالخمر والخنزير وقع الطلاق بائناً بمهر المثل، ومثله ما إذا كان مقصوداً ولكنه لا يقابل بمال كحد القذف والتعزير أما المقصود الذي يقابل بمال، كالقصاص، فإنه يصح، ويرتفع القصاص.
    ومن هذا تعلم أن نفقة العدة والحضانة ونحوهما مال مقصود يصح بهما الخلع وقوله: معلوم، خرج به ما إذا خالعها على شيء مجهول، فلو قالت له خالعني على دابة. أو ناقة. أو ثوب ولم تعينه له، فخالعها وقع الطلاق بائناً ولزمها مهر المثل وقوله: غير فاسد، خرج ما إذا خالعها على مال فاسد، كالخمر. والخنزير، فإنه يقع به الطلاق البائن ويلزمها أن تدفع له مهر المثل، وإذا خالعها بمعلوم ومجهول، كما إذا خالعها على فرسه ودابة أخرى معينة، فإنه يفسد ويجب عليها مهر المثل، أما إذا خالعها بصحيح وفاسد معلوم، كما إذا قال لها: خالعتك على عشرين جنيهاً وعلى هذا الدن من الخمر فإنه يصح في الصحيح، ويجب في مقابل الفاسد مهر المثل، ولو خالعها على ما ليس موجوداً، كما إذا قالت له: خالعني بما في داري، أو بما في كفي، ولم يكن فيهما شيء بانت بمهر المثل، ولو علم الزوج أن ليس فيهما شيء، ومثل ذلك ما إذا خالعته على مال مغصوب أو غير مقدور على تسليمه، وكذا إذا خالعها على شيء مجهول في ذاته، كما إذا قال لها: خالعتك على ثوب في ذمتك فإنها تبين بمهر المثل، وهذا بخلاف ما إذا علق الخلع على مجهول، فإن فيه تفصيلاً، وهو أنه إن أمكن إعطاء المعلق عليه فإنها تبين بمهر المثل أيضاً، وذلك إذا قال لها: إن أعطيتني ثوباً فأنت طالق، فأعطته ثوباً فإنها تبين بذلك بمهر المثل، وإن كان لا يمكن إعطاء المعلق عليه فإنها لا تطلق منه،
    وذلك كأن يقول لها: إن أعطيتني ما في كفك فأنت طالق وليس في كفها شيء يمكن إعطاؤه فإنها في هذه الحالة لا تطلق، وإن علق طلاقها على البراءة من معلوم فإنه يصح الخلع ويلزم العوض، كما إذا قال لها: إن أبرأتني من صداقك المعروف لهما فأنت طالق فقالت له: أبرأتك، فإنه يصح، فإذا قالت له: إن طلقتني فأنت بريء من صداقي، وهي جاهلة بصداقها، فإن كان
    يظن أن صداقها مال مقصود غير فاسد وقع بمهر المثل، وإن علم أن صداقها فاسد، فإنها تطلق رجعياً، وإن قالت له: أبرأتك. ولم تذكر مالاً، فقال لها: إن صحت براءتك فأنت طالق، فإن كان الذي أبرأته منه معلوماً وقع الطلاق رجعياً، لأنه لم يقع في مقابل عوض، لأنه علقه بصحة البراءة، وصحة البراءة متحققة قبل طلاقه، لأنها أبرأته حقاً، وإن أبرأته من شيء مجهول فلا يقع شيء.
    وإذا قال لها: إن أبرأتني من دينك فأنت طالق، وكان دينها مجهولاً، فقالت له: أبرأتك فإنه لا يقع به شيء، وذلك لأنه علق البراءة على دين مجهول، فلم تتحقق البراءة فلم يوجد المعلق عليه.
    وإذا خالع عن الزوجة غيرها على مال فاسد، وصرح بالفساد فإنه يقع رجعياً، كما إذا قال له: خالع زوجتك على هذا المال المغصوب، أو على هذا الخمر، وذلك لأن الأجنبي لا مصلحة له بل هو متبرع بدون فائدة تعود عليه، فإذا صرح بفساد العوض كان معنى ذلك عدوله عن التبرع، بخلاف الزوجة فإن لها منفعة وهي ملك نفسها، فإذا صرحت بالفساد، أو ذكرت مالاً فاسداً مقصوداً فإنه يلزمها مهر المثل. أما إذا لم يصرح الأجنبي بالفساد، كما إذا قال له: خالع زوجتك على هذا الجمل، وكان في الواقع مغصوباً فإنه يصح الخلع وعليها مهر المثل.
    الحنابلة - قالوا: يشترط في عوض الخلع أن يكون مالاً حلالاً، فإذا خالعها على خمر. أو خنزير. ونحوهما، وهما يعلمان تحريمه، فإن الخلع يقع فاسداً لأن الرضاء به يدل على الرضاء بغير عوض، ولا بد من العوض لأنه ركن الخلع، فلا يتحقق بدونه، أما إن كانا لا يعلمان التحريم فإنه يصح الخلع، وتلزم المرأة بدفع قيمة العوض، أو مثله إن كان له مثل من حلال، وذلك لأن الخلع معاوضة بالبضع، فلا يفسد العوض، كعقد النكاح، فإذا قال: إن أعطيتني خمراً، أو خنزيراً، فأنت طالق فأعطته وقع الطلاق لوجود الإعطاء، ولكنه يكون رجعياً لعدم صحة العوض، ولا شيء على الزوجة لرضائه بغير العوض، فإن قلت: إنكم قلتم في النكاح: إذا أصدقها مهراً فاسداً صح العقد ولزمه مهر المثل فلماذا لم تقولوا: إذا خالعها على مال فاسد صح الخلع ولزمها مهر المثل؟
    والجواب: أن خروج البضع من ملك الزوج ليست له قيمة مالية، بخلاف دخوله في ملكه. فإنه متقوم بالصداق ولهذا قلنا: إن الخلع يفسد، بخلاف النكاح بمهر المثل، ولا يشترط في العوض أن يكون معلوماً فيصح الخلع بالمجهول، فإذا خالعها على ما في بيتها من المتاع صح الخلع. وله ما في بيتها قليلاً كان، أو كثيراً، فإن لم يكن في بيتها شيء كان له الحق في أقل شيء يصدق عليه اسم المتاع، وكذا إذا خالعها على ما في يدها، فإن لم يكن في يدها شيء، كان له أقل ما يصح أن يكون فيها وهو ثلاثة دراهم، وإن كان في يدها شيء فهو له قليلاً كان أو كثيراً.
    وكذا لا يشترط في العوض أن يكون موجوداً فيصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما إذا خالعها على حمل ناقتها. أو حمل غنمها. أو بقرها أو نحو ذلك، فإذا كان هناك حمل كان للزوج وإن لم يكن حمل وجب عليها إرضاؤه، فإن لم يتراضيا لزمها أن تعطيه ما يتناوله اسم الحمل ومثل ذلك ما إذا خالعته على ما تحمل شجرتها من الثمر. أو خالعته على ما في ضروع ماشيتها من الغنم فإنه يصح على الوجه المذكور.
    ويصح الخلع بذكر العوض عاماً غير موصوف، كما إذا قالت له: خالعني على جمل، أو على بقرة، أو على ثوب أو شاة، ولم تعينه، فإن الخلع يصح ويلزمها أن تدفع له أقل جمل أو بقرة أو شاة، وإن قالت: خالعني على هذا الجمل فخالعها ثم ظهر أنه مغصوب، فإنها لا تطلق، ومثل ذلك ما إذا ظهر أنه مرهون، فإنها لا تطلق.
    ويصح الخلع على سكنى دار معينة مدة معلومة، كما إذا قالت له: خالعني على أن تسكن في هذه الدار سنتين أو أكثر أو أقل، فقال لها: خالعتك على ذلك فإنه يصح، وله السكنى، فإن هدمت الدار رجع عليها بأجرة مثل هذه الدار.
    وكذا يصح الخلع على أن ترضع ولده منها أو من غيرها مدة معينة، فإن مات الولد قبل استيفائهم كان له الحق في المطالبة بأجرة رضاع مثله، فيما بقي له. ومثل ذلك ما إذا ماتت هي، أو جف لبنها. وإذا خالعته على إرضاع ابنه ولم تذكر مدة فإنها تلزم بإرضاعه المدة المقررة للرضاع شرعاً وهي الحولان، سواء كان الخلع قبل الوضع أو بعده مباشرة، أو كان في أثناء المدة، فإن كان قد مضى على ولادته سنة لزمها أن ترضعه الحول الباقي. ويصح أن تخالعه على كفالة ولده مدة معينة، كما يصح أن تخالعه على نفقته مدة معينة كعشر سنين ونحوها، ويحسم أن يذكر مدة الرضاع من هذه المدة إن كان الولد رضيعاً وأن يذكر صفة الطعام الذي تطعمه للولد، بأن يقول: خالعتك على نفقة ولدي عشر سنين فترضعيه منها سنتين أو أقل حسبما يتفقان عليه، وأن تطعميه خبزاً من الحنطة مثلاً، كل يوم ثلاثة أرغفة أو رغيفين أو نحو ذلك ويذكر الأدم ونحو ذلك، فإن لم يذكر فإن الخلع يصح وتحمل مدة الرضاع على المدة الشرعية، والنفقة على ما جرى به العرف والعادة، وللوالد أن يأخذ منها قيمة النفقة ويباشر الإنفاق عليه هو، وإذا مات الولد فله الحق في الرجوع عليها بقيمة النفقة في المدة الباقية، ويصح للحامل أن تخالعه على نفقة حملها لأنها واجبة عليه بسبب موجود، وهو الحمل، ولا يضر جهالة قدر المدة، وتسقط نفقتها ونفقة الولد حتى تفطمه فلها الحق في المطالبة بنفقته) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الخلع]
    صـــــ 367 الى صــــــــ
    376
    الحلقة (215)



    شروط صيغة الخلع
    -لا بد للخلع من صيغة، فلا يصح الخلع بالمعاطاة، كأن تعطيه مالاً وتخرج من داره بدون أن يقول لها: اختلعي على كذا فتقول له: اختلعت، أو تقول له: اخلعني على كذا، فيقول لها:خلعتك على ذلك، فالإيجاب والقبول بالقول لا بد منه، أما الفعل المذكور، فلا يقع به الخلع وإن نوي به الطلاق، أو كان الطلاق به متعارفاً (1) ، وفي صيغة الخلع وشروطها تفصيل المذاهب (2) .
    مبحث الخلع طلاق بائن لا فسخ والفرق بين الفسخ والطلاق.
    -قد عرفت من تفصيل المذاهب المتقدم أن ألفاظ الخلع تنقسم إلى قسمين: منها ما هو صريح منها ما هو كناية، فالصريح يقع به طلاق بائن بدون نية، والكناية يقع بها طلاق بائن بالنية، على ما هو موضح في كناية الطلاق في المذاهب ثم إذا نوى به الطلاق الثلاث، فإنها تلزمه، وكذا إذا نوى به طلقتين (3) فإنهما يلزمانه، وعلى كل حال فالخلع يترتب عليه طلاق يحسب من عدد الطلقات الثلاث التي يملكها، فليس هو مجرد فسخ (4) ، وذلك لأن الفرقة بين الزوجين تارة تكون طلاقاً. وتارة تكون فسخاً، فالفرقة بالطلاق هي حل عصمة الزوجية بلفظ الطلاق الصريح. أو الكناية، ومنها الخلع، وهو إن كان بلفظ الخلع كان طلاقاً صريحاً. وكذا إذا كان بلفظ الطلاق على مال، وإلا كان كناية، كما تقدم إيضاحه، ومنها فرقة الإيلاء، فإذا حلف الرجل أن لا يقرب زوجته ينتظر لها أربعة أشهر، فإذا لم يحنث ويقربها يؤمر بقربانها من القاضي، فإن لم يفعل طلقت منه على التفصيل الآتي في بابه، ومنها غير ذلك مما هو مفصل في المذاهب (5) .
    __________
    (1) (المالكية - قالوا: إذا عمل عملاً يدل على الطلاق عرفاً فإنه يقع به الطلاق فإذا فرض وأعطت الزوجة لزوجها مالاً وكان بيدهما حبل فقطعه الزوج، وكان ذلك في عرف القوم طلاقاً فإنها تطلق بذلك طلاقاً بائناً في مقابلة العوض، فإذا لم تعطه مالاً وكان ذلك في عرفهم أن يطلقوا بقطع الحبل، فإنه يكون طلاقاً رجعياً، فإذا لم يكن العرف جارياً بذلك وفعل ذلك ناوياً به الطلاق، فإن قامت قرينة تدل على الطلاق لزم به الطلاق، مثلاً إذا تنازع الزوج مع أهل الزوجة فقالوا: نرد لك ما أخذنا، وترد لنا بنتنا، ففعلوا كان طلاقاً بائناً، وإن لم ينطق بالطلاق ولم يجر به العرف.
    والحاصل أن الطلاق بالفعل يصح بتحقق أحد أمرين: أحدهما: أن يكون الطلاق في عرف القوم بالفعل، كما مثلنا، ومنه ما إذا أغضب الرجل امرأته فخلعت أسورتها وأعطتها إياه فقبلها وخرجت من منزله فلم يمنعها وكان ذلك طلاقاً في عرفهم، فإنه يصح ويكون خلعاً، وإن لم ينطق بصيغة الطلاق. ثانيهما: أن تقوم قرينة تدل على الطلاق بالفعل، فإنه يقع، كما ذكرنا) .
    (2) (الحنفية - قالوا: قد ذكرنا لك في تعريف الخلع أن ألفاظ الخلع سبعة، وفصلنا لك ما يتعلق بكل لفظ منها. وبقي من الأحكام التي تتعلق بالصيغة أنه يشترط في صحة القبول من الزوجة أن تكون عالمة بمعنى الخلع، فإذا كانت أعجمية ولقنها زوجها بالعربية كلمات - اختلعت منك بالمهر ونفقة العدة - فقالت هذه الكلمات، وهي لا تعرف معناها وقبل الزوج، فإنها تطلق منه بائناً، ولا شيء له قبلها، ثم إن الخلع بالنسبة للرجل يمين، فلو ابتدأ الخلع بقوله: خالعتك على مائة مثلاً فإنه لا يملك الرجوع عنه، وكذا لا يملك فسخه ولا نهي المرأة عن قبوله. وله أن يعلقه بشرط ويضيفه إلى وقت. فإذا قال لها: إذا قدم زيد خالعتك على ألف وقبلت عند مجيء زيد صح الخلع. أما إذا قبلت قبل مجيء زيد فإنه لا يصح، ومثل ذلك ما إذا قال لها: إذا دخلت الدار فقد خالعتك على ألف فدخلت الدار، وقالت: قبلت الخلع عند دخول الدار، فإنه يصح فيقع الطلاق بائناً وتلزم بالعوض. أما إذا قالت: قبلت الدخول فإنه لا يصح، وكذا إذا أضافه إلى وقت. كما إذا قال لها: خالعتك على ألف غداً أو في آخر الشهر، فإنه يصح إذا قالت: قبلت عند مجيء الغد. أو آخر الشهر، أما إذا قالت: قبلت قبل ذلك، فإنه لا يصح.
    أما الخلع بالنسبة إلى المرأة فإنه معاوضة المال، لأنها تعطي الرجل مالاً ملكاً له في نظير الطلاق، وذلك معنى المعاوضة بين اثنين أحدهما يعطي مالاً لغيره على سبيل الملك وثانيهما يعطي بدلاً في نظير تمليك ذلك المال. وإذا كان كذلك فإنها يصح لها أن ترجع قبل القبول، فلو بدأت الخلع هي، فقالت: اختلعت نفسي منك بألف. أو خالعني على صداقي ونفقة عدتي، فلها أن ترجع قبل أن يقول الزوج: خالعتك على ذلك، ويبطل بقيامها عن المجلس قبل القبول، كما يبطل بقيامه هو عن
    المجلس أيضاً، ولو كان الزوج غائباً وبلغه وقبل لم يصح، ولا يصح لها أن تعلقه بشرط ولا تضيفه إلى وقت.
    وهل يصح شرط الخيار للزوجة أو لا يصح؟ خلاف بين الإمام. وصاحبيه. مثلاً إذا قال الزوج لها: خالعتك بمهرك ونفقة عدتك على أن يكون لك ثلاثة أيام. أو أكثر، فإن الإمام يقول: إن ذلك صحيح، فلها أن تقبل في مدة الخيار ويقع الطلاق البائن وتلزم بالعوض، ولها أن ترد، فلا يلزم طلاق ولا عوض، أما صاحباه فيقولان: إن الخيار باطل والطلاق واقع في الحال، والمال لازم إن قبلت.
    ويصح الخيار للرجل في بدل الخلع إذا وجد به عيباً فاحشاً يخرجه من الجودة إلى الوساطة ومن الوساطة إلى الرداءة، أما العيب اليسير فلا خيار له فيه، فلو اختلعت منه نفسها على عشرين إردَبّاً من القمح الجيد فوجدها متوسطة كان له ردها. وإذا كانت متوسطة فوجدها رديئة كان له ردها، أما إذا وجد بها غلتاً يسيراً، فإنه لا يضر. ويشترط مطابقة الإيجاب للقبول، فإذا قال لها: أنت طالق أربعاً بثلاثمائة، فقالت: قبلت ثلاثاً لم تطلق، لأنه علق الخلع على قبولها الأربع، فإذا قبلت ثلاثاً لم يتحقق المعلق عليه. وهو قبولها الأربع.
    وإذا قال: طلقتك على ألف، فقالت: قبلت، ثم قال لها: طلقتك على ألف، فقالت: قبلت، ثم قال لها: طلقتك على ألف، فقالت: قبلت، فإنه يقع ثلاث تطليقات بثلاثة آلاف وهذا بخلاف ما إذا قال لها: خالعتك، ولم يذكر بدلاً، فقالت: قبلت، ثم أعاد لها اللفظ، فقالت: قبلت، فإن الثاني لا يقع، لأن الأول وقع بائناً، فلا يلحقه الثاني، والفرق بين العبارتين أو الأول مذكور فيه العوض، فلا يقع إلا إذا قبلته، ولما كرره لها بالعوض قبلت، فيقع الثلاث جملة واحدة بالعوض المكرر، أما الثاني فلم يذكر فيه العوض، فلا يتوقف وقوع الطلاق على قبولها متى نواه، أو كان بلفظ خالعتك، فإنه لا يحتاج إلى نية على قول، كما تقدم، وإنما الذي يتوقف على قبولها سقوط حقها، وحينئذ يقع الطلاق باللفظ بدون قبولها، وهو بائن، فإذا كرره فإن الثاني لا يلحقه.
    هذا إذا بدأ الزوج بالعوض، أما إذا بدأت الزوجة، بأن قالت: خلعت نفسي منك بألف وكررتها ثلاثاً، فقال: قبلت، فإنه لا يقع إلا واحدة بألف على الصحيح، والفرق بين الحالتين أنك قد عرفت أن الخلع يمين من جانب الرجل، فيصير معلقاً على قبوله، بل يكون معاوضة لها الرجوع عنه قبل أن يتم، فإذا كررته يكون قبولاً للعقد الأخير. ويلغو الأول بالثاني، والثاني بالثالث.
    وإذا قالت له: طلقني أربعاً فطلقها ثلاثاً. فإنها تطلق ثلاثاً بالألف، ولا تضر المخالفة هنا، وإذا قالت له: طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة، بانت منه واحدة بثلث الألف، بشرط أن يطلقها في المجلس. فلو قام وطلقها لم يجب شيء. لأنه معاوضة من جانبها، فيشترط في قبوله المجلس. فإذا
    طلقها اثنتين كانت له كل الألف. كما إذا طلقها ثلاثاً بلفظ واحد أو متفرقة. بشرط المجلس، فإذا قالت: طلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثاً. فإن قال: أنت طالق ثلاثاً بألف. وقالت: قبلت. وقعت الثلاث بالألف. وإن لم تقبل لا يقع شيء. فإن قال: أنت طالق ثلاثاً ولم يقل: بألف فقيل: تطلق ثلاث بلا شيء. وقيل: تطلق واحدة بالألف والثنتان مجاناً، وهذا بخلاف ما إذا قالت له: طلقني ثلاثاً على ألف فطلقها واحدة فإنها تطلق رجعياً ولا شيء عليها للفرق بين - على - وبين باء الجر - فإن - على - للشرط، والمشروط وهو الألف لا يوزع على أجزاء الشرط وهي الثلاث فلو طلقها ثلاثاً متفرقة في مجلس واحد لزمها الألف. لأن الأولى والثانية تقع رجعية فوقعت الثالثة وهي في عصمته فله الألف. أما إن طلقها ثلاثاً في ثلاثة مجالس. فلا شيء له وعندها ثلث الألف. أما الباء فإنها مصاحبة للعوض، والعوض ينقسم على المعوض. هذا إذا بدأت الزوجة، فإذا بدأ الزوج فقال لها: طلقي نفسك ثلاثاً بألف. أو على ألف فطلقت نفسها واحدة، فإنه لا يقع شيء، وذلك لأنك قد عرفت أن الخلع يمين معلق على قبول المرأة إذا بدأ به الرجل، وظاهر أن المعلق على القبول هو طلاقها ثلاثاً، فإذا طلقت نفسها واحدة، فإنها لم تقبل اليمين المعلق، فلا يقع شيء بخلاف ما إذا كانت هي البادئة، فإنه من جهتها معاوضة، فإذا عرضت عليه ثلاثاً بألف وطلقها واحدة فإنها تبين منه بثلث الألف.
    وإذا قالت له: طلقني واحدة بألف، فقال لها: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة طلقت ثلاثاً، الأولى بألف وثنتان مجاناً.
    وإذا خالعها على أن يكون صداقها لولده، أو لأجنبي أو خالعها على أن يمسك الولد عنده فإن الخلع يصح، ويبطل الشرط.
    المالكية - قالوا: يشترط في الصيغة ثلاثة شروط:
    الشرط الأول: أن تكون لفظاً، بأن ينطق بكلمة دالة على الطلاق، سواء كان صريحاً أو كناية، فإذا عمل عملاً يدل على الطلاق بدون نطق، فإنه لا يقع به الطلاق إلا إذا جرى به العرف. أو قامت قرينة، كما تقدم.
    الشرط الثاني: أن يكون القبول في المجلس إلا إذا علقه الزوج بالأداء أو الإقباض، فإنه لا يشترط أن يكون القبول في المجلس، فإذا قال لها: إن أقبضتني عشرين جنيهاً أو أديت إلي كذا فأنت طالق، فإن لها أن تقبضه بعد المجلس ومتى فعلت بانت منه، إلا إذا طال الزمن بعد الانصراف عن المجلس بحيث تمكث مدة يظهر فيها أن الزوج لا يريد أن يمد لها، على أنه إذا قامت قرينة على أن الزوج يريد أن تقبضه في المجلس، فإنه يعمل بها بحيث لو قامت من المجلس بطل الخلع فلا تملك طلاق نفسها بالبدل.
    الشرط الثالث: أن يكون بين الإيجاب والقبول توافق في المال، فإذا قال لها: طلقتك ثلاثاً بألف فقالت قبلت واحدة بثلث الألف لم يلزمه طلاق، فإن له أن يقول: إنني لم أرض بطلاقها إلا بألف، وهذا بخلاف ما إذا قالت له: طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة بألف، فإن الطلاق ينفذ والعوض يلزم،
    وذلك لأنها تملك نفسها بهذا وتبين به، فما زاد عليه لم يتعلق به غرض الشارع، ولا فائدة لها منه، وكذا إذا قالت له: طلقني واحدة بألف، فطلقها ثلاثاً، فإنه يصح لحصول غرضها وزيادة.
    الشافعية - قالوا: صيغة الخلع هي كل لفظ من ألفاظ الطلاق صريحة وكناية ومن كنايته لفظ بيع وفسخ، فإذا قال لها: بعتك نفسك بألف ناوياً بذلك الطلاق فقالت: قبلت كان خلعاً صحيحاً تبين به ويلزمها العوض ومثل ذلك ما إذا قال: فسخت نكاحك بألف، وفي هذه الحالة يكون لفظ الفسخ طلاقاً ينقص عدد الطلقات، ومثال صريح الطلاق في الخلع أن تقوله له: طلقني على عشرين، فقال: طلقتك على ذلك فإنه يكون طلاقاً صريحاً بائناً يقع بدون نية، فإذا نوى به أكثر من واحدة لزمه ما نواه، أما إذا قالت له: أبني على عشرين، فقال لها: أبنتك فإنه لا يقع به الطلاق إلا بالنية، وهكذا في كل ألفاظ الكنايات التي تقدمت.
    وهل ما اشتق من لفظ الخلع أو الافتداء صريح أو كناية؟ خلاف، والمعتمد أنه إذا ذكر معه العوض صريحاً أو لم يذكر العوض ولكن نواه، فإنه يكون صريحاً وإلا كان كناية. مثلاً إذا قال لها: خالعتك أو خلعتك أو اختلعي على عشرين جنيهاً فقبلت كان ذلك طلاقاً بائناً صريحاً لا يحتاج إلى نية، ومثل ذلك ما إذا قال لها: افتدي نفسك بعشرين جنيهاً فقالت: افتديت، فإنه يقع به البائن بدون نية، فإذا لم تقبل لم يقع طلاق ولم يلزمها مال، وكذا إذا لم يذكر المال ولكن نواه، بأن قال لها: خالعتك، ونوى على عشرين جنيهاً مثلاً فقالت: قبلت كان صريحاً لأن نية العشرين تقوم مقام ذكرها، فإذا لم ينو المال ولم يذكره فإن في ذلك صوراً ثلاثاً.
    الصورة الأولى: أن ينوي الطلاق وينوي معه قبول التماسها، أي ينتظر أن تجيبه على طلبه فإن قبلت وقع الطلاق بائناً بمهر المثل إن كانت رشيدة، وإن لم تكن رشيدة وقع الطلاق رجعياً وإن لم تقبل لم يقع شيء.
    الصورة الثانية: أن ينوي الطلاق ولا ينوي التماس قبولها، وفي هذه الحالة يقع الطلاق رجعياً ولو لم تقبل، لأنه نوى طلاقها ولم يعلقه على قبولها، وإذا لم ينو التماس قبولها، فإن لم ينو الطلاق فلا يقع به شيء، مثلاً إذا قال لزوجته: خالعتك ولم يذكر عوضاً ولم ينو التماس قبولها وقع به شيء ولو قبلت، فإذا قال لها: خالعتك، وهو ينوي الطلاق ولا ينوي التماس قبولها وقع رجعياً، قبلت أو لم تقبل، فإذا نوى التماس قبولها مع نية الطلاق فإن قبلت بانت بمهر المثل إن كانت رشيدة، وإن لم تقبل لم يقع به شيء، فهذا مثال للصورتين.
    الصورة الثالثة: أن لا ينوي الطلاق، وفي هذه الحالة لا يقع شيء، سواء نوى التماسها القبول أو لم ينو، وسواء قبلت أو لم تقبل، وذلك لأنه كناية لا يلزم به شيء إلا بالنية.
    هذا وإذا بدأ الزوج بالطلاق على مال فذكر العوض كان الخلع عقد معاوضة مشوب بنوع تعليق فلا يقع به الطلاق إلا إذا قبلت، فكأنه قال لها: إن قبلت دفع العوض فأنت طالق، وعلى هذا يصح له
    الرجوع قبل قبولها نظراً لجهة العوض، فإن قلت: إن البيع تتوقف صحته على القبول - كالطلاق - على مال، وحيث قلتم: إنه يصح للمطلق على مال أن يرجح قبل قبول الزوجة لتوقف صحة الطلاق على القبول، يلزمكم أن تقولوا: إنه يصح للبائع أن يرجع قبل قبول المشتري لتوقف صحة البيع على القبول، والجواب: أن هناك فرقاً بين الحالتين وهو أن البيع، وإن توقف على القبول، ولكن ليس للبائع أن يستقبل وحده بالبيع في أي حال، إذ لا يتحقق البيع إلا بقبول المشتري، أما المطلق فإنه يصح أن يستقل بطلاق المرأة بدون قبولها إذا جرده عن العوض، فالذي يتوقف على القبول هو العوض، فالرجل قد عدل عن استقلاله بالطلاق وعلقه على قبول الغير، أما البائع فليس له استقلال في إيجاد البيع من الأصل حتى يقال: إنه عدل عن الاستقلال وعلقه بالغير، وهذا بخلاف ما إذا بدأ بصيغة تعليق في حالة الإثبات. كما إذا قال: متى أعطيتني عشرين جنيهاً فأنت طالق، فإنه ليس له الرجوع قبل إعطائه، ومتى أعطته طلقت، ولا يشترط فيه أن تقول: قبلت، كما لا يشترط أن تعطيه فوراً، إلا إذا قال لها: إن أعطيتني، أو إذا أعطيتني، فأنت طالق فإنه يشترط أن تعطيه فوراً لأن لفظ - إذا، وإن - يقتضيان الفور في الإثبات، بخلاف - متى - فإنه صريح في جواز التأخير، فإذا قال: إن، أو إذا، ومضى زمن يمكنها الإعطاء فيه ولم تعط فلا تطلق.
    هذا، وأما شروط الصيغة فهي الشروط المتقدمة في البيع في الجزء الثاني من هذا الكتاب ومنها أن يكون كلام كل واحد منهما مسموعاً للآخر ولمن يقرب منه من الحاضرين، ومنها أن يكون القبول ممن صدر معه الخطاب، ومنها أن يقصد كل منهما معنى اللفظ الذي ينطق به، فإن جرى على لسانه بدون أن يقصد معناه فإنه لا يصح، فإذا أراد أن يقول لها: أعطيتك ألفاً، فقال لها: طلقتك على ألف فإنه لا يقع به شيء بينه وبين الله، ومنها أن لا يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام، ولكن في البيع يضر الكلام ولو يسيراً، أما هنا فإنه لا يضر الكلام اليسير، وإنما الذي يضر الكلام الذي يشعر بالإعراض عن الموضوع، ومنها أن يتفق الإيجاب مع القبول، فإذا قال لها: طلقتك بألف، فقالت قبلت بألفين لا يقع شيء. وإذا قال لها: طلقتك ثلاثاً بألف. فقالت: قبلت واحدة بألف فإن الثلاث تقع بالألف، وذلك لأنه وإن لم يوافق القبول الإيجاب في الطلاق ولكن وافقه في المال. والزوجة تملك المال. والزوج يملك الطلاق فقد وافقته فيما تملك فتلزم به ويلزم هو بالثلاث إلى غير ذلك من الشروط المتقدمة. فارجع إليها إن شئت.
    الحنابلة - قالوا: يشترط في صيغة الخلع شروط:
    أحدهما: أن تكون لفظاً، فلا يصح الخلع بالمعاطاة، ولو نوى بها الطلاق، بل لا بد فيه من الإيجاب والقبول.
    ثانيها: أن يكون الإيجاب والقبول في المجلس، فإذا قال لها: خلعتك بكذا، وقام من المجلس قبل أن تقبل، فإنه لا يصح وكذا إذا قامت هي ولم تقبل.
    ثالثها: أن لا يضيف الخلع إلى جزء منها، فإذا قال لها: خلعت يدك أو رجلك بكذا، وقبلت كان لغواً، وذلك لأن الخلع فسخ لا طلاق، وإضافة العبارة الدالة على الفسخ إلى جزء المرأة تعتبر، بخلاف الطلاق، فإنه إذا أضافه إلى جزء متصل بها فإنه يقع كما تقدم، نعم إذا قال لها:خلعت رجلك بكذا، ونوى الطلاق فإنه يكون طلاقاً فتطلق كما تقدم إيضاحه في التعريف. رابعها: أن لا يعلقه على شرط، فإذا قال لها: إن بذلت لي كذا فقد خلعتك فإن الخلع لا يصح ولو بذلت له ما سماه بخلاف الطلاق فإنه يصح تعليقه. فإذا قال لزوجته: إن أعطيتني هذا الجمل فأنت طالق، فأعطته إياه طلقت، ولو وجده معيباً لا يصح له رده أما إن يظهر أنه مغصوب فلا يقع الطلاق، والمراد بإعطائه أن تخلي بينه وبين الجمل ليملكه، وبعضهم يقول: لا بد من أن تقول له: ملكتك هذا الجمل، لأن فعلها غير كاف في التمليك، وهل يصح الخلع مع الشرط أو لا؟ والجواب: نعم يصح ويلزم العوض، فإذا قال لها: خلعتك بكذا على أن يكون لي الحق في الرجعة، وقبلت فإن الخلع يصح ويبطل الشرط. فلا يكون له الحق في الرجعة، ومثل ذلك ما إذا شرط الخيار، كما إذا قال لها: خالعتك بكذا على أن يكون لي الخيار أو لك الخيار ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، فإن الخلع يصح والخيار يبطل، فيقع الخلع فوراً وله الحق في العوض.
    ويصح الخلع مع البيع، فإذا قالت لزوجها: بعني هذا الجمل، وطلقني بمائة، فإنه يصح إذا قال لها: قبلت في المجلس، ويكون ذلك بيعاً، وخلعاً. لأن كلاً منهما يصح مفرداً فصحا مجتمعين، ثم ينظر إلى المبلغ بالنسبة لصداقها المسمى في عقد الزواج، فإن كان خمسين جعل عوض الخلع خمسين وثمن الجمل خمسين، فإذا وجدت بالجمل عيباً وردته به رجعت بالخمسين التي خصته. وإن كان مهرها أكثر نقص بقدر ذلك من ثمن الجمل، وعلى هذا القياس، ولا بد من مطابقة القبول للإيجاب فيما يوافق غرض الموجب، فإذا قالت له: اخلعني بألف، فقال طلقتك لم يستحق الألف لأنه أوقع طلاقاً لم تطلبه، فلم يتحقق الخلع الذي بذلت فيه العوض، وهذا بخلاف ما إذا قالت له: طلقني واحدة بألف أو على ألف، ونحو ذلك فطلقها ثنتين، أو ثلاثاً فإنه يستحق الألف، لأنه أتى بغرضها وزيادة وإذا قالت له: طلقني واحدة بألف، فقال: أنت طالق وطالق، وطالق، فإنها تبين بالأولى، لأنها في مقابلة عوض فلم يلحقها ما بعدها، فإن قال أنت طالق. وطالق بألف وقعت الأولى رجعية فتلحقها الثانية، لأن البائن يلحق الرجعي ولغت الثالثة، أما إن ذكر - بألف - عقب الثالثة فقط، فإنها تطلق ثلاثاً.
    وإذا قالت له: طلقني ثلاثاً بألف فقال: قبلت واحدة أو اثنتين، فإنه لا يستحق شيئاً ووقعت رجعية، وإن قال لها: أنت طالق ثلاثاً بألف، فقالت: قبلت واحدة بألف وقع الثلاث أما إذا قالت قبلت واحدة بخمسمائة، أو قبلت الثلاث بخمسمائة فإنه لم يقع شيء، لأن الشرط لم يوجد) .
    (3) (الحنفية - قالوا: إذا نوى بالخلع ثلاثاً فإنه يلزم به، أما إذا نوى به ثنتين فلا يلزمه إلا واحدة، وقد تقدم تعليل ذلك في مبحث الكناية فارجع إليه) .
    (4) (الحنابلة - قالوا: إن الخلع فسخ لا طلاق، فلا ينقص به عدد الطلقات ما لم يكن بلفظ الطلاق. أو ينوي به الطلاق، كما تقدم إيضاحه في مذهبهم، وقالوا أيضاً: إن الإيلاء منوط بالحاكم فإن شاء طلق وإن شاء فسخ) .
    (5) (الحنفية - قالوا: بين الزوجين تارة تكون فسخاً. وتارة تكون طلاقاً، فتكون فسخاً في مواضع: منها تباين الدار حقيقة وحكماً، ومعنى ذلك أن يترك أحد الزوجين الحربيين دار الحرب إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، فإذا فعل ذلك بانت منه امرأته أما المستأمن، وهو الذي يدخل دار الإسلام بأمان لتجارة ونحوها بنية العودة إلى بلاده، فإن امرأته لا تبين منه، وقد تقدم بيان ذلك في صحيفة 196، ومنها فساد العقد بسبب من الأسباب كما إذا تزوجها بغير شهود. أو إلى مدة معينة. أو نحو ذلك، مما تقدم تفصيله في النكاح الفاسد ففي هذه الحالة تجب الفرقة بينهما وتكون فسخاً لا طلاقاً، ومنها أن يفعل ما يوجب حرمة المصاهرة بأصول المرأة الاناث وفروعها، كأن يقبل بنت زوجته بشهوة. أو أمها. أو نحو ذلك، مما هو مفصل في مبحث ما يوجب حرمة المصاهرة، صحيفة 62 وما بعدها، وكذا إذا فعلت الزوجة ما يوجب حرمة المصاهرة مع أصوله، أو فروعه الذكور، كتقبيل ابن زوجها البالغ بشهوة، ونحوه، ومنها إسلام أحد الزوجين الكافرين في دار الحرب، فإذا أسلمت الزوجة وهي في دار الحرب تبين من زوجها الكافر بعد ثلاث حيض كما تقدم في صحيفة 194 وما بعدها، ومنها أن ترضع الزوجة ضرتها الصغيرة، فإنها تصبح أمها في الرضاع، فتبين منه هي ومن أرضعتها وهذه البينونة فسخ لا طلاق لأنهما يحرمان عليه مؤبداً.
    ومنها أن يرتد أحد الزوجين، فإنه إذا وقع ذلك بانت منه امرأته فسخاً لا طلاقاً كما تقدم بيانه في صحيفة 199، أم الفرقة بالطلاق فهي في مواضع الطلاق بالجب. والعنة، وقد تقدم بيانه في مبحث العيوب. ثانيها: الفرقة بالإيلاء. ثالثها: الفرقة باللعان. رابعها: بصريح الطلاق وكنايته على ما تقدم إيضاحه.

    الشافعية - قالوا: تنقسم فرقة النكاح في الحياة إلى قسمين: طلاق. وفسخ، فالطلاق أربعة أنواع:

    الأول: ألفاظ الطلاق صريحة. وكناية.
    الثاني: الخلع.
    الثالث: فرقة الإيلاء. الرابع: فرقة الحكمين، فإذا وكل الزوج حكمين في تطليق امرأته أو وكلتهما الزوجة في طلاقها بعوض مالي ففعلا، فإنه يكون طلاقاً لا فسخاً.
    أما الفرقة بالفسخ فهي أمور: منها الفرقة بسبب إعسار الزوج عن دفع الصداق أو النفقة والكسوة والمسكن بعد إمهاله ثلاثة أيام وقد عرفت أن الفسخ بسبب الإعسار من المهر إنما يكون قبل الوطء، كما تقدم بيانه في صحيفة 148، ومنها فرقة اللعان الآتي بيانه، ومنها فرقة العيب المتقدم تفصيله في بابه، ومنها فرقة الوطء بشبهة، وقد تقدم بيانه في صحيفة 112 مبحث الوطء بشبهة، ومنها الفرقة بسبي أحد الزوجين، وقد تقدم بيانه في صحيفة 197، ومنها فرقة إسلام أحد الزوجين الكافرين، وتقدم إيضاحها في صحيفة 193 ومنها ردة منه أو منها وتقدم في صحيفة 207، ومنها إذا أسلم الكافر وتحته أختان، وتقدم في صفحة 192، ومنها فرقة عدم الكفاءة وتقدمت في مبحث الكفاءة، ومنها فرقة الانتقال من دين لآخر، كالانتقال من اليهودية للنصرانية وبالعكس ومنها فرقة الرضاع بشروطه المتقدمة.
    المالكية - قالوا: الفرقة بين الزوجين تارة تكون طلاقاً، وتارة تكون فسخاً، فتكون طلاقاً فيما يلي:
    - 1 - في كل عقد فاسد مختلف فساده كنكاح الشغار. ونكاح السر. والنكاح بدون ولي ونحو ذلك مما تقدم، فكل عقد فاسد عند المالكية صحيح عند غيرهم فإنه يفسخ بطلاق يحسب من عدد الطلقات، أما إذا كان مجمعاً على فساده فإنه يفسخ بغير طلاق، ومن ذلك العقد على امرأة في عدة الغير، أو العقد على محرمة من المحارم، أو العقد على خامسة وتحته أربعة، أو نحو ذلك من العقود المجمع على فسادها فإنها تفسخ بغير طلاق، وقد تقدم بيان ذلك في ص 17 وما بعدها.
    - 2 - فسخ الحاكم بالغيب طلاق بائن، سواء طلق هو أو أمرها بأن تطلق نفسها إلا إذا كان مولياً وطلق عليه، فإن طلاق الحاكم في هذه الحالة يكون رجعياً، ومثله ما إذا طلق عليه الحاكم بسبب الإعسار عن دفع النفقة فإن طلاقه يكون رجعياً، وقد تقدم في صحيفة 167، وما بعدها.
    - 3 - الردة طلاق بائن على المشهور، وقد تقدمت في مباحث الردة.
    - 4 - الخلع، وهو طلاق صريح، كما تقدم في بابه.
    - 5 - الطلاق الصريح، والكناية.
    - 6 - الفرقة بسبب الإيلاء طلاق كالفرقة بسبب العيب، فيأمره القاضي بالطلاق أو يطلق عليه القاضي أو جماعة المسلمين. أو يأمرها به فتطلق نفسها، ويحكم القاضي به أو يثبته طلاقاً على الخلاف المتقدم في الطلاق بالعيب، إلا أنه بائن في العيب ورجعي في الإيلاء إلا إذا طلق هو رجعياً.
    - 7 - الفرقة بسبب الإعسار عن دفع الصداق أو دفع النفقة، فإن الحاكم يطلق عليه طلقة واحدة رجعية إن أبى عن تطليقها، أو يأمرها بأن تطلق نفسها ثم يحكم به كما تقدم، وتكون الفرقة فسخاً فيما يلي: أولاً: في العقد الفاسد المجمع على فساده، ومنه نكاح المتعة على المعتمد، لأنه مجمع على فساده بين الأئمة ومن قال بجوازه فقوله شاذ لا يعول عليه، ومن نظر إلى هذا القول قال إنه مختلف فيه، فالفرقة بسببه طلاق لا فسخ. ثانياً: الفرقة بالرضاع. فإنها فسخ بلا طلاق. ثالثاً: الفرقة باللعان، فإنها توجب تأبيد التحريم، فلا يحل له أن يتزوجها بحال، فلا يعتبر ذلك طلاقاً، رابعاً: الفرقة بسبب السبي، فإنها تقطع علاقة الزوجية بين الزوجين، فإذا سبيت المرأة الحربية وهي كافرة وزوجها غير كافر فإنها تصير غير زوجة له فتحل لغيره بمجرد أن تحيض مرة، وقد تقدم توضيحه في صحيفة 196، وكذا إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين، فإن الفرقة بينهما فسخ بغير طلاق، وقد تقدم توضيحه في صحيفة 191.
    الحنابلة - قالوا: الفرقة تارة تكون فسخاً. وتارة تكون طلاقاً، فتكون فسخاً في أمور: منها الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق أو نيته، ومنها ردة أحد الزوجين. ومنها الفرقة لعيب من العيوب المتقدمة في هذا الباب، ولا يفسخ إلا حاكم.
    ومنها الفرقة بسبب إعساره عن دفع الصداق والنفقة ونحوها، ولا يفسخه إلا حاكم أيضاً، ومنها إسلام أحد الزوجين، وينفسخ نكاحهما إذا انقضت عدتها. أما إذا أسلمت المرأة ثم أسلم زوجها وهي في العدة فإن نكاحهما يبقى، كما هو موضح في صحيفة 193، وما بعدها، أما فرقة الإيلاء فهي منوطة بالحاكم فإذا انقضت المدة، وهي أربعة أشهر ولم يطأ زوجته ولم تعطف عليه وطلبت من الحاكم طلاقها، فإنه يأمره بالطلاق، فإن أبى طلق عليه الحاكم واحدة أو ثلاثاً، أو فسخ العقد بدون طلاق، كما سيأتي إيضاحه في بابه، ومنها الفرقة بسبب اللعان فإن اللعان يوجب التحريم بينهما على التأبيد، ولو لم يحكم به القاضي بحيث لا تحل له بعد ذلك، وأم الفرقة بسبب الطلاق فهي ما كانت بألفاظ الطلاق صريحاً أو كناية، على الوجه المتقدم في مباحث الطلاق) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الرجعة]
    صـــــ 376 الى صــــــــ
    404
    الحلقة (216)




    مباحث الرجعة
    تعريفها
    -الرجعة - بفتح الراء - وروي كسرها أيضاً، ولكن بعض اللغويين أنكر الكسر، وهي اسم للمرة من الرجوع، ولعل هذا هو السبب في إنكار ورودها بالكسر، لأنها بالكسر اسم للهيئة، كما قال ابن مالك، وفعلة لمرة - كجلسة - وفعلة لهيئة كجلسة - ولا يعقل أن تكون هنا اسم لهيئة الرجوع، ولكن المدار في هذا على السماع، فإذا سمع استعمالها بالكسر في المرة فإنه يكون صحيحاً لغة، وإن خالف القاعدة المذكورة، وقد نقل بعض أئمة اللغة أن استعمالها بالكسر في المرة أكثر من الفتح، أما فعلها، وهو - رجع - فيأتي لازماً ومتعدياً، فيقال: رجع الشيء إلى أهله ورجعته إليهم، وعلى الأول يكون على وزن جلس، فيقال: رجع زيد إلى أهله يرجع رجوعاً، والرجعي بمعنى الرجوع بالضم، ويقال: رجعى - بالكسر - لرجعة امرأته، والمرجع مصدر ميمي، بمعنى الرجوع أيضاً، وهو شاذ، لأنه مصدر فعل يفعل، كقطع يقطع، والمصدر الميمي من فعل يفعل - بالفتح - يكون مفتوح العين، وعلى الثاني يكون على وزن قطع، فيقال: رجع زيد الشيء إلى أهله يرجعه رجعه رجعاً، كقطع الشيء يقطعه قطعاً، فتحصل أن مصدر رجع اللازم الرجوع، والرجعى - بالضم والكسر - والمصدر الميمي المرجع ومصدر رجع المتعدي الرجع - بالفتح - كالقطع، وأن الرجعة - بفتح الراء، وكسرها - في اللغة اسم للمرة من الرجوع، سواء رجع من طلاق أو من طريق أو غيرهما، وأما معناها في اصطلاح الفقهاء، ففيه تفصيل المذاهب (1) .
    دليل الرجعة
    -إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، فإن كان لحاجة شرعية فإنه لا ينبغي له أن يراجعها خصوصاً إذا كان طلاقها واجباً وإمساكها محرماً، فإنه يحرم عليه أن يرجع إليها ثانياً، أما إذا كان طلاقها محرماً، كما إذا طلقها طلاقاً بدعياً، فقد عرفت اختلاف الأئمة في الرجعة، وعرفت أن بعضهم يرى وجوبها عليه، فإن لم يفعل أرغمه الحاكم. أو راجع عنه إن أبى، أما إن طلقها طلاقاً مباحاً، كأن ساءت المعاشرة بينهما مؤقتاً، ولم يستطع أحد أن يصلح بينهما، ثم زالت هذه الشدة بعد الطلاق وصفت القلوب، فإن الرجعة في هذه الحالة تكون مندوبة، إلى غير ذلك من الأحكام المتقدم بيانها في مبحث الطلاق السني.
    ثم إن الرجعة ثابتة بالكتاب، والسنة والاجماع، فأما الكاتب فمنه قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك أن أرادوا اصلاحاً} ، وأما السنة فمنها حديث ابن عمر المتقدم حين طلق امرأته، فإن النبي صله الله وعليه وسلم قال لعمر: "مر ابنك فليراجعها"، فدل ذلك على ثبوت الرجعة، على أن النبي صلى الله وعليه وسلم قد طلق حفصة، ثم راجعها، وأما الإجماع فقد أجمع أئمة الدين على أن الحر إذا طلق دون الثلاث. والعبد إذا طلق دون اثنتين لهما حق الرجعة في العدة ولم يخالف في ذلك أحد.
    أركان الرجعة وشروطها
    -للرجعة أركان ثلاثة: صيغة، ومحل، ومرتجع، ولكل واحدة من هذه الثلاثة شروط مفصلة في المذاهب (1) .
    مبحث اختلاف الزوجين في انقضاء العدة المبطل للرجعة، وما يتعلق بذلك.
    -يبطل حق الزوج في الرجعة بانقضاء عدة الزوجة بالحيض ثلاث مرات، إن كانت من ذوات الحيض، وبوضع الحمل كاملاً أو سقطاً، وبثلاثة أشهر من تاريخ طلاقها إن كانت آيسة من الحيض لكبر أو صغر، وإنما تنقضي العدة بأمارات مفصلة في المذاهب (2) .
    فإذا اختلف الزوجان في انقضاء العدة، بأن ادعى الزوج أنها باقية، وادعت الزوجة أنها انقضت، ولا حق له في الرجعة، أو ادعى الزوج انه راجعها في العدة قبل أن تنقضي، ولم يخبرها إلا بعد انقضائها، وأنكرت الزوجة ذلك، فإن فيه أيضاً تفصيلاً تعلمه من الاطلاع على المكتوب تحت الخط الموجود أمامك.

    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: الرجعية هي إبقاء الملك القائم بلا عوض في العدة، فقوله: إبقاء الملك معناه أن ملك عصمة الزوجة يحتمل الزوال بالطلاق الرجعي إذا انقضت العدة، فالرجعة من الطلاق رفع لذلك الاحتمال، وإبقاء لذلك الملك واستدامة له، ولذا قال: الملك القائم، لأن ملك العصمة قائم بالطلاق الرجعي لم ينقطع، وقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} معناه وأزواجهن أحق برجعتهن، فالرد معناه الرجعة، وهي إبقاء الملك القائم، وليس معناه رد الملك الزائل، كما قد يتبادر من الرد يقال على الشيء الذي انعقد زوال ملكه، وإن لم يزل بالفعل، فالطلاق الرجعي سبب في زوال الملك لا حالاً، بل بعد انقضاء العدة، فالرد إبقاء للملك الذي لم يزل بعد، فلا فرق بين قوله: رد الملك القائم، وقوله: إبقاء الملك القائم، قوله: في العدة معناه أن الجعة لا تتحقق إلا إذا كانت العدة باقية لم تنقض، والمراد عدة المدخول بها حقيقة، فإذا طلق امرأته التي وطئها طلاقاً رجعياً، فإن له حق الرجعة مادامت في العدة، أما إذا طلقها بعد الخلوة بدون وطء فإنها تعتد، ولكن لا يكون له عليها حق الرجعة بل تبين منه كما لو كانت غير مدخول بها بالمرة، ولو لمسها، أو قبلها، أو نظر إلى فرجها الداخل بشهوة، وذلك لأن عدة الخلوة شرعت للاحتياط، فليس من الاحتياط أن تعتبر المرأة غير المدخول بها حقيقة كالمدخول بها في الطلاق الرجعي، بل الاحتياط أن تعتبر غير مدخول بها، فيكون طلاقها بائناً.
    وبهذا تعلم أن الطلاق الرجعي سبب في زوال الملك بعد العدة، فالرجل يملك الزوجة ما دامت في العدة ملكاً تاماً، فيحل له أن يستمتع بها بدون نية رجعة مع الكراهة التنزيهية، فإذا فعل معها فعلاً يوجب حرمة المصاهرة من لمس بشهوة، أو تقبيل، أو نظر إلى داخل فرجها بشهوة، أو نحو ذلك مما تقدم، فإن ذلك يكون رجعة ولو لم يقصد به الرجعة، وكذا إذا فعلت معه ذلك، كأن قبلته بشهوة، أو نظرت إليه، أو نهو ذلك مما يأتي.
    المالكية - قالوا: الرجعة عودة الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد، فقوله: من غير تجديد عقد خرج به عود الزوجة إلى العصمة في الطلاق البائن بعقد، فإنه لا يسمى رجعة، وإنما يسمى مراجعة، لأنه متوقف على رضا الزوجين، وعرفها بعضهم بأنها رفع الزوج أو الحاكم حرمة متعة الزوج بزوجته بطلاقها، ومعناه أنه إذا طلقها طلاقاً رجعياً حرم عليه الاستمتاع بها بدون نية الرجعة، فإذا نوى الرجعة فقد راجعها ورفع هذه الحرمة، وكذا إذا طلقها طلاقاً بدعياً ولم يرض بردها، فإن الحاكم يردها له قهراً عنه، وبذلك يرفع حرمة استمتاعه بها، وعرفها بعضهم بأنها رفع إيجاب الطلاق حرمة متعة الزوج بزوجته بانقضاء عدتها ومعناه أن الطلاق الرجعي يوجب حرمة استمتاع الزوج بزوجته بعد انقضاء عدتها، فالرجعة ترفع هذا التحريم الذي يحصل بعد انقضاء العدة لا قبله، وعلى هذا التعريف يحل للرجل أن يستمتع بامرأته قبل انقضاء العدة بدون نية الرجعة وهو قول شاذ، والمشهور الأول، وهو أنه لا يحل له الاستمتاع بدون نية الرجعة.
    الشافعية - قالوا: الرجعة رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة، ومعناه أن الطلاق الرجعي يحرم الزوجة على زوجها بحيث تكون كالأجنبية، فلا يحل له أن يستمتع بها، وإن كان له عليها حق الرجعة بدون رضاها وعلى هذا فيكون ملكه ناقصاً. فالرجعة ترده إلى النكاح الكامل المبيح للاستمتاع بها، فلا يرد أن المطلقة رجعياً لا تزال في النكاح، فما معنى ردها إلى النكاح؟ ويقال في الجواب ما ذكرنا، وهو أن الطلاق جعل نكاحها ناقصاً، فالرجعة تردها إلى النكاح الكامل، وبعضهم يقول: إن معنى ردها إلى النكاح ردها إلى ما يوجبه النكاح، وهو حل الاستمتاع، فكأنه قال: رد المرأة إلى حل الاستمتاع بها، وهو حسن.
    والشافعية يقولون: يحرم على المطلق رجعياً أن يطأ المطلقة أو يستمتع بها قبل رجعتها بالقول ولو بنية الرجعة، خلافاً للحنفية الذين يقولون بحل الاستمتاع بالزوجة بالوطء وغيره، ويقولون: إن التلذذ بها بشهوة رجعية ولو لم ينو الرجعة، مع كراهة التنزيه، وخلافاً للمالكية الذين يقولون بجواز الاستمتاع بها بنية الرجعة، وإلا حرم، وخلافاً للحنابلة الذين يقولون إن الرجعة تحصل بالوطء واو لم ينو به الرجعة بدون كراهة.
    الحنابلة - قالوا: الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد، وهو تعريف لا يرد عليه شيء، ثم إن الحنابلة يقولون: إن إعادة المطلقة طلاقاً رجعياً تارة تكون بألفاظ مخصوصة وتارة تكون بالوطء، سواء نوى به الرجعة أو لا، وسيأتي توضيه) .
    (2) (الحنفية - قالوا: إن ركن الرجعة هو الصيغة وحدها، وأما المحل، والمرتجع فهما خارجان عن الماهية، ثم الصيغة عندهم قسمان: قول، وفعل، والقول إما صريح، أو كناية، فالصريح هو كل ما يدل على الرجعة وإبقاء الزوجية، ونحو: راجعتك، وراجعتك، وراجعتك، إذا كان مخاطباً لها، فإن لم يكن مخاطباً لها، سواء كانت حاضرة أو غائبة، قال: رجعت زوجتي، أو امرأتي الخ، ومن الصريح رددتك، ومسكتك، وأمسكتك. وهذه الألفاظ تحصل بها الرجعة وإن لم ينو، إلا أنه يشترط في الرجعة بقوله: رددتك، أن يقول: إلى أو إلى نكاحي أو إلى عصمتي فإن لم يقل ذلك لا يكون صريحاً في الرجعة. بل يكون كناية يتوقف على النية، وذلك لأن رددت يحمل رد زواجها فلم يقبلها. ويحتمل رجعتها إليه، فإذا صرح بكلمة إليه، أو إلى عصمته، فقد رفع الاحتمال، ومن الصريح أن يقول لها: نكحتك، أو تزوجتك، وأما الكناية فهي مثل أن يقول لها: أنت عندي كما كنت، أو أنت امرأتي أو أصبحنا من الآن كما كنا، أو نحو هذا، فإن نوى بهذه الألفاظ الرجعة فإنه يصح وإلا فلا، أما الفعل فقد تقدم أنه كل فعل من الزوج أو الزوجة يوجب حرمة المصاهرة من لمس، أو تقبيل، أو نظر إلى داخل الفرج، ويشترط في ذلك الشهوة، فإن فعل أحد الزوجين مع الآخر شيئاً من هذا بدون شهوة فإنه لا تتحقق به الرجعة، على أن المرأة إذا قبلته، أو نظرت إلى فرجه، أو نحو ذلك بدون أن يشتهي هو فلا بد أن تقول: إنها هي فعلت بشهوة، ولا بد أن يصدقها، أما إذا قال: إنها لم تفعل بشهوة فلا تصح الرجعة إلا إذا قامت قرينة على كذبه وصدقها، أما إذا قبلته فانتشر، أو عانقها وقبل فاها، أو أمسك ثديها.
    أو نحو ذلك من الأمارات التي تدل على أنه التذ، فغن حصل شيء من ذلك ومات الزوج وادعى الورثة أنها فعلت معه بدون شهوة، فلم ترجع زوجة له وادعت هي أنها فعلت بشهوة، فإن ادعت أنه قد اشتهى هو فإن بينتها على ذلك تسمع، ولا تثبت الرجعة بالنظر إلى الدبر بشهوة إجماعاً، لأنه لا تثبت بذلك حرمة المصاهرة، وهل الوطء في الدبر رجعة أو لا؟ فبعضهم يقول: إنه ليس برجعة، ولكن الصحيح أنه رجعة، لأن فيه المس بشهوة، كما لا يخفى. وإنما لم تثبت به حرمة المصاهرة مع كونه فيه مساً لأنك قد عرفت في مبحثه أن حرمة المصاهرة تثبت بالوطء في الفرج وبالمقدمات المفضية إلى الوطء في الفرج، فإذا وطئها في الدبر ظهر أنه لا يقصد وطأها في الفرج فمقدمات الوطء في الدبر لا قيمة لها بخلافه هنا. فإن الغرض المس بشهوة مطلقاً، وقد تحققت، ولا تصح الرجعة بالخلوة بدون تلذذ، وكما تحصل الرجعة بمقدمات الوطء المذكورة تحصل بالوطء من باب أولى، والوطء كمقدماته جائزان للزوج المطلق طلاقاً رجعياً سواء نوى بهما الرجعة أو لا. ولكن الأولى أن يراجعها بالقول، وأن يشهد على ذلك عدلين ولو بعد الرجعة بالفعل، وإذا راجعها وهي غائبة يندب له إعلامها، وهذه هي الرجعة السنية وأما الرجعة بالوطء ومقدماته فإنها بدعية فإن راجع بها ندب له أن يرجع بالقول ويشهد على قوله وإلا كان مكروهاً تنزيهاً. كما عرفت. وإنما حل وطء المطلقة رجعياً والتلذذ بها، لأن ملك العصمة باق من كل وجه ولا يزول إلا عند انقضاء العدة، كما بيناه.
    فإن قلت: إذا كانت الزوجية قائمة من كل وجه، فما بالكم قلتم: إنه لا يصح للزوج أن يسافر بزوجته المطلقة طلاقاً رجعياً قبل مراجعتها؟ قلت: إن ذلك ثبت بالنص، وهو النهى عن خروج المطلقة مطلقاً من منزلها، قال تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} ، والنهى عن الإخراج مطلقاً شمل الإخراج من أجل السفر.
    ويشترط للرجعة شرط واحد، وهو أن تكون الزوجة مطلقة طلاقاً رجعياً، بحيث لا يكون ثلاثاً في الحرة ولا ثنتين في الأمة. أو واحدة مقترنة بعوض مالي في الخلع، أو موصوفة بصفة تنبئ عن الإبانة.
    كطلقة شديدة أو مشبهة بما يفيد الإبانة كطلقة مثل الجبل، أو تكون كناية من الكنايات التي يقع بها الطلاق البائن، أو واحدة قبل الدخول.
    والحاصل أن الطلاق البائن، هو الطلاق الثلاث، والطلاق الواحد بعوض مالي، والطلاق الواحد الموصوف أو المشبه بما يشعر بالإبانة على الوجه المتقدم في وصف الطلاق، والكنايات التي يقع بها الطلاق البائن، بخلاف الكنايات التي يقع بها الرجعي، وقد تقدم بيانهما في مبحث الكنايات بالإيضاح التام، والطلاق قبل الدخول، أما الطلاق الرجعي فهو ما ليس كذلك وهو الذي تصح فيه الرجعة، ثم إن الرجعة تصح من المجنون بالفعل، مثلاً إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً، وهو سليم، ثم جن فله مراجعتها بالوطء أو بالتقبيل، أو نحو ذلك، وكذلك تصح رجعة النائم والساهي والمكره، فإذا قبلها بشهوة وهي مكرهة فقد راجعها بذلك، وكذا إذا كانت جالسة متكئة وأمكنه أن ينظر إلى داخل فرجها بشهوة، فإن ذلك يكون رجعة ولو لم تعلم، وكذا إذا نظرت إلى ذكره بشهوة بدون علمه فإنه يكون رجعة، وتصح أيضاً مع الهزل، واللعب، والخطأ، بأن أراد أن يقول لأخته: اسقني الماء فجرى لسانه يقول: راجعت زوجتي، نعم يشترط في صحة الرجعة أن لا يعلقها على شرط، كأن يقول: إن دخلت الدار قد راجعتك وكذا يشترط أن لا يضيفها إلى وقت في المستقبل كأن يقول: إذا جاء الغد فقد راجعتك، فإذا قال ذلك فإنه لا يكون رجعة باتفاق، على أنهم يعدون ذلك من أحكام الرجعة ويمكن عده في الشروط وكذا لا يصح شرط الخيار في الرجعة، فإذا قال لها: راجعتك على أني بالخيار، فإن الرجعة لا تصح، وعلى هذا يمكن أن يقال: إن شروط الرجعة أربعة: أحدها: أن يكون الطلاق رجعياً فلا رجعة من الطلاق البائن. ثانيها أن لا يشترط فيها الخيار.
    ثالثها: أن لا يضيفها إلى زمن. رابعها: أن لا يعلقها على شرط ثم إنه يشترط في الرجعة خمسة شروط، وهي:
    - 1 - وأن لا يكون ثلاثاً.
    - 2 - وأن لا يكون واحدة بعوض، سواء كان بلفظ الخلع ونحوه، أو بلفظ الطلاق.
    - 3 - وأن لا يكون واحدة قبل الدخول.
    - 4 - وأن لا يكون واحدة موصوفة أو مشبهة بما يفيد البينونة.
    - 5 - وأن لا يكون كناية من الكنايات التي يقع بها الطلاق البائن بالنية أو بقرينة الحال.
    فالطلاق الرجعي هو ما توفرت فيه الشروط فإذا ضمت الشروط للشروط المتقدمة كانت شروط الرجعة تسعة، ولا حاجة إلى عد شروط المرتجع من كونه عاقلاً بالغاً الخ، لأن الرجعة لا تتحقق إلا بعد تحقق الطلاق من نكاح صحيح، فالصبي والمجنون لا يتحقق منهما طلاق فلا رجعة، والنكاح الفاسد لا طلاق منه فلا رجعة، فتحصل أن ركن الرجعة شيء واحد، وهو قول مخصوص، أو فعل مخصوص، والأول ينقسم إلى قسمين: صريح، وكناية، والثاني ينقسم إلى قسمين: وطء، وعمل يوجب حرمة المصاهرة، ويصح التعبير عنه بمقدمات الوطء وكلاهما يحل للزوج فعله مع مطلقته الرجعية كما يحل لها مع كراهة التنزيه، فالرجعة السنية التي لا كراهة فيها هي أن يراجعها بالقول، ويشهد على قوله عدلين، ثم إن راجعها في غيبتها يعلمها ولا يدخل عليها إلا بإذنها كي تستعد للقائه، ولهذا قسموا الرجعة إلى قسمين: سنية، وبدعية، أما شروطها فقد عرفت ما فيها. المالكية - قالوا: يشترط في المرتجع شرطان، أحدهما: أن يكون بالغاً، فلا تصح الرجعة من الصبي ولا من وليه، وذلك لأن طلاق الصبي غير لازم، وطلاق وليه عنه إما أن يكون بعوض، وهو بائن لا رجعة فيه حتماً، وإما أن يكون بغير عوض، وهو بائن أيضاً، لأنه بمنزلة الطلاق قبل الدخول، لأن وطء الصبي لا يعتبر، فكأنه عدم محض، وهذا بخلاف نكاح الصبي فإنه صحيح، ولكنه يتوقف على إجازة الولي. ثانيهما: أن يكون عاقلاً، فلا تصح الرجعة من المجنون، ومثله السكران، فإن رجعته لا تصح ولو كان سكره بحلال.
    ولا يشترط أن يكون حراً، فإن العبد يصح نكاحه بإذن سيده وإذن السيد بالنكاح إذن بتوابع النكاح، فلا تتوقف رجعته على إذن سيده، ومثل العبد المحجور عليه لسفه أو لفلس، فإن لهما الحق في الرجعة بدون إذن الولي في المحجور عليه لسفه، أو إذن الغريم إذا كان محجوراً عليه لفلس، وكذا لا يشترط أن يكون المرتجع سليماً من المرض، فيصح للمريض أن يراجع زوجته، وليس في رجعته إدخال وارث جديد، وهو لا يجوز، لأن المطلقة رجعياً ترث وهي في العدة على كل حال، وإن لم يراجعها.
    وكذا لا يشترط أن يكون الزوجان غير محرمين إحرام النسك، فيصح للمحرم أن يراجع زوجته حال الإحرام، سواء كانت محرمة هي، أو لا؟ فهؤلاء الخمسة تصح رجعتهم، وإن كان لا يصح نكاحهم ابتداء، وهم: العبد، والسفيه، والمفلس، والمريض والمحرم، أما الصبي فإنه وإن كان يجوز نكاحه لا يقع موقوفاً على إذن وليه ولكنه لا يصح طلاقه أيضاً، وطلاق وليه عنه بائن لا رجعي، وأما المجنون والسكران فنكاحهما لم يصح أصلاً، كما أن طلاقهما لم يصح، فلم تصح رجعتهما بحال من الأحوال. وأما المرتجعة وهي الزوجة، فيشترط فيها ثلاثة أمور: أحدها: أن تكون مطلقة طلاقاً غير بائن، والطلاق البائن هو ما كان بالثلاث أو كان واحدة في نظير عوض أو كان واحدة ونوى به طلاقاً بائناً أو حكم به حاكم على الزوج بسبب عيب، أو نشوز، أو إضرار، أو فقد الزوج، أو إسلام، أو كمال عتق الزوجة. إلا إذا حكم به الحاكم بسبب الإيلاء، فإنه يكون رجعياً وكذا إذا حكم به عليه لعسر في النفقة فإنه يكون رجعياً له مراجعتها في العدة، ومثل ذلك ما إذا كان موسراً ولكنه غائب عنها في مكان بعيد لا تصل إليه وليس له مال في بلدها، فإنه إذا طلق عليه القاضي وحضر وهي في العدة كان له مراجعتها، فمتى كانت مطلقة طلاقاً غير بائن فإن له مراجعتها بدون رضاها. ثانيها: أن تكون في عدة نكاح صحيح أما إذا كانت في عدة نكاح فاسد، كما إذا تزوج خامسة ودخل بها، فإن نكاحه فاسد يفسخ بعد الدخول، وعليها العدة ولا تصح رجعتها وهي معتدة، وكذا إذا جمع أختاً مع أختها، ولو ماتت الأولى أو طلقت، لأن النكاح فاسد فلا تصح رجعتها.
    ثالثها: أن يدخل بها ويطأها وطأً حلالاً، فإذا تزوج امرأة ودخل بها وهي حائض ووطئها في حال الحيض، أو وطئها وهي محرمة بالنسك فقط، ولم يطأها قبل ذلك ولا بعده، ثم طلقها طلقة رجعية فإنه لا يحل له رجعتها، لأن وطأها محرم لا قيمة له في نظر الشرع والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، فكأنه طلقها قبل الدخول فتبين منه ولا رجعة له عليها، ولا تصح الرجعة إلا إذا ثبت النكاح بشاهدين، وثبتت الخلوة أيضاً ولو بامرأتين، وتصادق الزوجان على الوطء، فإذا لم تعلم الخلوة بينهما وأراد رجعتها فإنه لا يمكن منها، ولو تصادقا على الوطء قبل الدخول أو بعده من باب أولى، فإن التصادق على الوطء لا ينفع على أي حال عند عدم العلم بالخلوة ومع كون تصادقهما على الوطء لا يعمل به في الرجعة فإنه يعمل في غير الرجعة، فإذا أقر بأنه وطئها لزمه نفقتها وسكناها ما دامت في العدة، وإذا أقرت بأنه وطئها لزمها أن تعتد منه وأن لا تتزوج غيره حتى تنقضي عدتها، على أنه إذا أقر هو بالوطء ولم تصدقه فلا يلزمها شيء، وبالعكس، وأما ما تتحقق به الرجعة فهو أمران:
    أحدهما: القول: وهما قسمان: الأول: صريح في الرجعة لا يحتمل غيرها، كرجعت زوجتي إلى عصمتي، وراجعتها، ورددتها لنكاحي، فإذا لم يقل: لنكاحي لا يكون صريحاً إذ يحتمل عدم قبولها، يقال: رد الأمر إذا لم يقبله.
    والثاني: كناية يحتمل الرجعة وغيرها، كقوله: أمسكت زوجتي، أو مسكتها، فإنه يحتمل أمسكتها حبستها لأعذبها، وأمسكتها في عصمتي زوجة، ومن ذلك ما إذا قال لها: أعدت الحل، ورفعت التحريم فإنه يحتمل لي، أو لغيري، أو رفعت عني، أو عن غيري، فهو كناية فإن كانت بلفظ صريح لا تحتمل غيره، فإن الرجعة تصح به بدون نية، قضاء لا ديانة، فلا بد من النية لتحل له بينه وبين الله، أما المحتمل فإن الرجعة لا تصح به بدون نية مطلقاً، وهل إذا قال قولاً صريحاً هازلاً ينوي به عدم الرجعة يكون رجعة أو لا؟ والجواب: أنها تكون رجعة في الظاهر، فيلزم بنفقتها وكسوتها، وإذا مات ترثه بناء على هذا القول الهزلي، أما بينه وبين الله فليست بزوجة له، فلا يحل له وطؤها إلا إذا راجعها بلفظ جدي في العدة. أو عقد عليها إذا انقضت العدة، كما إذا أتى بلفظ صريح بدون نية وبدون هزل. بقي هل تصح الرجعة بالكلام النفسي بينه وبين الله أو لا؟ قولان مصححان، ولكن المعول عليه أن الكلام النفسي لا يثبت به يمين، ولا طلاق ولا رجعة، لا في الظاهر ولا في الباطن، على أنه لا خلاف في أنه لا يترتب عليه شيء في الظاهر، فإن القاضي له الظاهر.
    الأمر الثاني: الفعل، وهو أن يطأ الزوجة بنية مراجعتها، فإن فعل ذلك فإنه يصح وتعود الزوجية بينهما، وإن لم ينو حرم عليه ذلك الوطء ولكن هذا الوطء لا يوجب حداً ولا صداقاً ويلحق به نسب الولد إذا حملت منه، ويجب عليه أن يستبرئها بحيضة بعد هذا الوطء بحيث لا يحل له أن يراجعها بالوطء مع نية المراجعة قبل أن تحيض وتطهر بعد الوطء الأول ولكن يحل له أن يراجعها بالقول: إن كانت باقية في العدة، فإذا انقضت عدتها بعد وطئها ولم يراجعها بالقول لقد بانت منه، ولا يحل له ولا لغيره أن ينكحها قبل أن تحيض حيضة الاستبراء فإذا عقد عليها قبل انقضاء مدة الاستبراء كان العقد فاسداً فيفسخ، وإذا وطئها في زمن الاستبراء لا يتأبد تحريمها عليه.
    هذا، وإذا وطئها بلا نية مراجعتها ثم انقضت عدتها وطلقها بعد ذلك، فهل يعتبر هذا الطلاق ويلحق بالأول أو لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه لا يلحق، وذلك لأنك قد عرفت أن المشهور أنه لا يحل للرجل أن يطأ مطلقته رجعياً بدون نية الرجعة، فإذا وطئها كذلك لم يكن مراجعها وعلى هذا إذا انقضت عدتها لا تكون له زوجة، فطلاقها بعد ذلك لم يصادف محلاً، وبعضهم يقول: إن الطلاق الثاني يلحق وذلك لأن الوطء بدون نية الرجعة يعتبر رجعة عند بعضهم فبالنظر لهذا القول ينبغي الاحتياط فتحسب زوجة له بحيث لو طلقها بعد العدة يعتبر طلاقه وهذا القول هو المشهور، ولا مانع عند المالكية أن يبنى قول مشهور على قول ضعيف.
    والحاصل أن الرجعة تحصل بالقول مع النية، سواء كان القول صريحاً أو محتملاً، فإذا أتى بالقول الصريح الذي لا يحتمل، فإنه يكون رجعة في الظاهر وإن لم ينو، سواء كان جاداً أو هازلاً، أما بينه وبين الله فإنها لا تحل له إلا إذا نوى بلفظ الرجعة وكان جاداً لا هازلاً، وإذا أتى بقول محتمل، فلا تحصل به الرجعة لا قضاء ولا ديانة إلا بالنية، وكما تحصل بالقول تحصل بالفعل مع النية، فإذا وطئها بنية الرجعة صح، وإلا فلا، وحرم عليه ذلك الوطء على الوجه الذي ذكرناه، أما الكلام النفسي بدون لفظ ففيه قولان: وأما النية وحدها بدون أن يتلفظ أو يطأها، فإنها لا تنفع، بلا خلاف.
    وبهذا تعلم أن الصيغة إن كانت قولاً صريحاً، أو كناية فيشترط فيها النية، وإن كانت فعلاً، وهو الوطء فيشترط فيه النية، وكذا يشترط أن تكون الرجعة بالقول منجزة غير معلقة على شيء على الراجح، فإذا قال لها: إذا جاء الغد فقد راجعتك، فإن هذا لا يكون رجعة أصلاً لا في الغد ولا الآن، وذلك لأن الرجعة ضرب من ضروب الزواج، فكأنه قد تزوجها بالرجعة، وكما لا يجوز التأجيل في النكاح بحيث لا يصح أن يقول شخص لآخر: زوجني بنتك الآن على أن يحل لي وطؤها فكذا لا يجوز التأجيل في الرجعة، وبعضهم يرى أنه لا يشترط ذلك، فيصح أن يقول لها: إن جاء الغد فقد راجعتك ويكون ذلك رجعة في الغد الآن. فإذا جاء الغد صحت الرجعة من غير أن يأتي برجعة جديدة، أما الآن فيكون حكمها حكم من لم تراجع بحيث لا يحل له أن يطأها بدون نية مراجعتها، وعلى هذا إذا انقضت عدتها قبل مجيء الغد فلا تصح الرجعة وتبين منه.
    الشافعية - قالوا: المرتجع هو الزوج أو وكيله إذا وكل عنه من يراجع له زوجته، أو وليه إذا جن بعد أن وقع طلاقاً رجعياً، وهو عاقل فإنه يشترط له سواء كان زوجاً أو وكيله أو وليه ثلاثة شروط: أحدها أن يكون عاقلاً، فلا تصح الرجعة من المجنون، والصبي الذي لا يميز، كما لا يصح طلاقهما، وإذا طلق المجنون حال إفاقته ثم جن فلوليه أن يراجع عنه، وكذا إذا علق الطلاق وهو عاقل على شيء ثم وقع بعد جنونه، كما إذا قال: أنت طالق إن دخلت دار أبيك ثم جن فدخلت، فإن الطلاق يقع لأنه صدر منه وهو عاقل، ولكن لا تصح رجعته حال جنونه، إنما لوليه أن يراجع عنه، ولكن يشترط لصحة رجعة الولي الشروط التي يصح للولي أن يزوج بها المجنون، وقد تقدمت في صحيفة 37 و 38، ومنها أنه إذا كان الولي غير مجبر فإنه لا يصح له أن يزوج المجنون إلا إذا كان في حاجة إلى الزواج، وإلا فلا، ومثل المجنون النائم والمغمى عليه، فإنه لا يصح رجعتهما إلا بعد الإفاقة، ثانيها: أن يكون بالغاً، فلا تصح الرجعة من الصبي المميز، فإن قلت: إن الصبي المميز لا يقع طلاقه أصلاً، فكيف يتصور رجعته،؟ لأن الرجعة إنما تتصور إذا كانت الزوجة مطلقة، ثم يقال: إنها صحيحة أو فاسدة، أما إذا كانت المرأة غير مطلقة، فما معنى رجعتها صحيحة أو فاسدة؟ والجواب: أن الحنابلة يقولون: أن الطلاق الصبي المميز يقع، فإذا قضى حاكم حنبلي بطلاق صبي، فإنه لا يصح له أن يراجعها عند الشافعية، وأيضاً يمكن أن تتصور رجعة الصبي فيما إذا طلق رجل بالغ امرأته ووكل صبياً مميزاً في رجعتها، فهل تصح رجعته أو لا؟ والجواب: لا تصح، ولا يخفى أن هذه صور فرضية لا تقع في زماننا وإنما الغرض من ذكرها استيفاء البحث العلمي، وهل إذا طلق الصبي المميز وحكم الحنبلي بصحة طلاقه يصح لوليه أن يراجعها له أو لا؟ والجواب: نعم يصح
    بشرطين: الشرط الأول: أن يكون للولي الحق في زواجه وهو الأب أو الجد بالشروط المتقدمة في صحيفة 37.
    الشرط الثاني: أن لا يحكم الحنبلي بالطلاق البائن فإن تناول حكمه البينونة، فإنه لا يصح للولي أن يراجع، وإنما يصح أن يعقد عليها عقداً جديداً. وقد ذكر بعض علماء الشافعية بهذه المناسبة مسألة، وهي أن الحنابلة يقولون: إن الصبي المميز الذي لم يبلغ سنه عشر سنين إذا كان ينتصب ذكره ويفهم معنى الوقاع فإنه إذا تزوج امرأة مطلقة ثلاثاً وأولج فيها ذكره ثم طلقها فإن طلاقه يصح بدون الولي، وتحل مطلقته لزوجها الأول بدون أن تعتد من الصبي، لأن المفروض أن سنه لم يبلغ عشر سنين.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الرجعة]
    صـــــ 376 الى صــــــــ
    404
    الحلقة (217)


    وأقول: أن الناس يمكنهم أن يفعلوا ذلك تقليداً للإمام أحمد بشرط أن يجتنبوا قصد التحليل بقدر الإمكان بقطع النظر عن مذهب الشافعي، وذلك بأن المرأة المطلقة ثلاثاً إذا يئس منها زوجها وذهبت إلى حال سبيلها فإن لها أن تعمد إلى صبي مميز يعرف الزواج والطلاق، وإن كان له ولي تأخذ منه إذناً بزواجها منه، ثم تتزوجه بإيجاب وقبول بولي شاهدين، ثم تمكنه منها ولو بإيلاج رأس ذكره المنتصب في داخل فرجها وبعد ذلك يطلقها بدون أن يعلم بذلك زوجها الأول وبدون أن تتفق مع الصبي على تطليقها، أو مع وليه.
    وبالجملة فلا تشير إلى التحليل، وبذلك تحل للأول بدون عدة، فإن قلت: إن ذلك لا يخلو عن قصد التحليل من المرأة وقصد التحليل مفسد للعقد عند الحنابلة، قلت: نعم وللتفادي من ذلك تقلد المرأة في ذلك الإمام أبي حنيفة، لأن قصد التحليل، ولو من المحلل عند الحنفية لا يضر بل قد يكون محموداً إذا ترتب عليه مصلحة، كعدم تضييع الأولاد، أو الجمع بين زوجين متحابين أو نحو ذلك، أما ما يفعله الناس من كون الزوج يجيء بالمحلل ويعطيه نقوداً ويحضره حين يدخل مع مطلقته، فإن هذه الصورة الشنعة لا تصلح في تقليد الحنابلة وقد تقدم تفصيل المذاهب في المحلل، فارجع إليه.
    ثالثها: أن يكون المرتجع مختاراً، فلا تصح رجعة المكره.
    وبالجملة فكل من كان أهلاً للزواج في ذاته في الجملة، ولو توقف زواجه على الأذن فإنه يصح طلاقه ورجعته، وذلك هو العاقل البالغ، فإذا عرض ما يمنع الأهلية مؤقتاً كالسكر فإنه لا يمنع الرجعة، فتصح رجعة السكران لأن استتار عقله بعارض السكر لا يجعله مجنوناً، فلا يفقد الأهلية بسبب ذلك العارض، وذلك لأنه أهل لمباشرة الزواج في الجملة، أي بعد أن يفيق من سكره، ومثله المحرم بالنسك، فإنه وإن كان لا يصح له أن يباشر عقد الزواج وهو محرم، ولكن الاحرام عارض مؤقت لا يفقده الأهلية، فيصح له أن يراجع وهو محرم، لأنه أهل للزوج وهو غير محرم وكذا السفيه، فإنه وإن كان محجوراً عليه التزوج بسبب السفه، لأن التزوج متوقف على المال ولكن هذا الحجر عارض فإذا كان متزوجاً وطلق زوجته رجعياً، فإن له رجعتها بدون إذن، ومثل السفيه العبد فإنه وإن كان غير أهل للتزوج بنفسه بدون إذن سيده، ولكن إذا أذنه سيده بالزواج فإن له أن يطلق ويراجع بنفسه، إذ المراد بأهلية الزواج أنه يصح منه مباشرة عقد الزواج، وإن توقف على إذن، فمتى أذن الولي السفيه، أو العبد كان أهلاً لتولي الزواج، أما المكروه فإنه وإن كان أهلاً لمباشرة عقد الزواج في الجملة أي بعد الزوال الإكراه، ولكن أعمال المكره غير المعتبرة في نظر الشرع فلهذا اعتبروا الإكراه غير مفيد في الرجعة، فإذا أكره شخص على مراجعة زوجته ولم يقر بها حتى مات بعد انقضاء العدة فإنها لا ترثه.
    وهل الردة سبب عارض كالسكر، فيصح للمرتد أن يراجع مطلقته؟ والجواب: لا، وذلك لأن الردة تزيل أثر النكاح فالمرأة ليست محلاً للرجعة رأساً.
    فهذا تفصيل شروط المرتجع، وأما المحل، وهي الزوجة فيشترط فيها شروط:
    أحدها: أن تكون زوجة معقود عليها بصحيح العقد، فخرجت الأجنبية، فإنها لا تحل بالرجعة طبعاً، سواء كانت غير معقود عليها أصلاً، أو كانت معقوداً عليها وطلقت طلاقاً بائناً كأن طلقها ثلاثاً،أو طلقها قبل الدخول بها، والمراد بالدخول وطؤها ولو في دبرها، كما تقدم في محله، ومثل الوطء ادخال مني الرجل بأنبوبة ونحوها في قبلها أو دبرها، أو طلقها طلقة واحدة على عوض، أو طلقها طلقة واحدة رجعية وانقضت عدتها، فإنها في كل هذه الأحوال تكون أجنبية لا تحل بالرجعة.
    ثانيها: أن تكون معينة، فلو كان متزوجاً ثنتين، وقال: إحدى زوجتي طالق، ثم قال: راجعت زوجتي المطلقة إلى عصمتي فإن الرجعة لا تصح فلا بد من أن يقول: زوجتي فلانة طالق، ثم يقول في الرجعة: راجعت زوجتي فلانة أو يخاطبها أو يشير إليها، كما يأتي في الصيغة.
    ثالثها: أن تكون الزوجة قابلة للحل، أما إذا كانت غير قابلة للحل كالمرتدة في حال ردتها فإنها في هذه الحالة لا تحل لأحد فهي غير قابلة للحل، فإذا كان زوج المرتدة قد طلاقها طلاقاً رجعياً فإنه لا يصح له رجعتها إلا إذا تابت، وكذا إذا ارتد هو، أو ارتدا معاً فإنه لا يصح له الرجعة في هذه الحالة، لأن الردة تزيل أثر الحل، فلا يحل الاستمتاع حال الردة.
    رابعها: أن تكون مطلقة لا مفسوخاً نكاحها، فإنها لا تحل بالرجعة، وإنما تحل بالعقد، كالمطلقة طلاقاً بائناً.
    وبعضهم عد شروط الرجعة
    سبعة: أحدها: أن تكون زوجة، وأراد به إخراج الأجنبية التي لم يعقد عليها أصلاً،
    ثانيها: أن تكون موطوءة في القبل أو في الدبر، وأراد به إخراج المطلقة قبل الدخول.
    ثالثها: أن تكون معينة وأراد به إخراج رجعة المبهمة.
    رابعها: أن تكون قابلة للحل، وأراد به إخراج المرتدة.
    خامسها: أن تكون مطلقة، وأراد به إخراج المفسوخ عقدها، فإنها لا تحل بالرجعة بل بالعقد كما ذكرنا.
    سادسها: أن تكون مطلقة طلاقاً مجاناً بدون عوض وأراد به إخراج المطلقة على عوض بائن.
    سابعها: أن لا يستوفي الزوج عدد طلاقها، هو الثلاث، فإن طلقها ثلاث مرات فلا تحل له إلا إذا نكحت غيره.
    ولا يخفى أن المآل واحد، فمن أراد الاختصار فإنه يمشي مع الأول، ومن أراد الإيضاح فإنه يمشي مع الثاني.

    وأما الصيغة فيشترط لها شروط: الشرط الأول: أن تكون لفظاً يشعر بالمراد، وهو ينقسم إلى قسمين: صريح وكناية، فالصريح رددتك إلي، ورجعتك، وارتجعتك، وأرجعتك وأنت مراجعة، ومسكتك، ولكن يشترط في رددت أن يضيف اللفظ إليه، أو إلى النكاح، فيقول: رددتك إلي، أو إلى نكاحي، وإلا لم يكن صريحاً، إذا يحتمل رددتك إلى أهلك، ويشترط في رجعت وأمسكت، وما تصرف منهما أن ينسبه إلى المرأة، أما بكاف الخطاب، بأن يقول: رجعتك وهكذا، وأما بالاسم الظاهر، بأن يقول: رجعت زوجتي أو رجعت فلانة، وأما باسم الإشارة، بأن يقول: رجعت هذه ويشير إليها، فإن لم يقل ذلك، بأن قال: رجعت، أو ارتجعت أو نحو ذلك من غير أن يذكر ما يدل على المرأة من ضمير ونحوه فإنه يكون لغواً، فلا تصح به الرجعة، نعم إذا سأله سائل، فقال له: هل راجعت زوجتك؟ فقال: راجعتها، فإنه يصح، وإن لم يذكر ما يدل على المرأة، لأنها ذكرت في السؤال على أنه يسن مع هذا أن يقول: رجعتك إلى نكاحي، أو راجعتك إلي، أو أمسكتك على نكاحي.
    والحاصل أنه يجب في رددت أمران: أحدهما أن يذكر فيه ما يدل على المرأة من كاف الضمير، أو الاسم الظاهر، أو اسم الإشارة، بأن يقول: رددتك، أو رددت زوجتي أو فلانة أو رددت هذه. الأمر الثاني: أن يضيف ذلك إليه أو إلى نكاحه، فيقول: رددت زوجتي إلى نكاحي، أو إلي، أو إلى عصمتي فإن لم يقل ذلك، فإنه لا يكون صريحاً لأنه يحتمل ردها إلى أهلها وعدم قبولها، أما غير رددت من صيغ الصريح فإنه يشترط فيه نسبته إلى الزوجة، ويسن فيه نسبته إلى الزوج أو إلى نكاحه، كما يسن أن يشهد على الرجعة، وإنما كانت هذه الألفاظ صريحة في الرجعة لأنها اشتهرت فيها، وقد ذكر بعضها في كتاب الله تعالى: فمن ذلك الرد قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} وورود المصدر يدل على صحة استعمال فعله وما اشتق منه. كرددت زوجتي إلي أو أنت مردودة إلي ومن ذلك الإمساك قال تعالى: {فإمساك بمعروف} وهو مثل الرد، ومن ذلك الرجعة قال تعالى {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} .
    ولهذا، قلنا إن صرائح الرجعة منحصرة فيما ذكر. وتحصل بها الرجعة بدون نية.
    وأما كناية الرجعة، فهي كأن يقول لها: تزوجتك، أو نكحتك، فإن هذه الألفاظ صريحة في العقد ولا يمكن استعمالها في الرجعة صريحاً، لأن المطلق رجعياً زوجة، فلا معنى لقوله لها: تزوجتك، أو نكحتك، فكل ما كان صريحاً في باله - ولا يمكن أن ينفذ في الموضوع المستعمل فيه - فإنه يكون كناية، وهذا معنى قولهم: ما كان صريحاً في بابه، ولم يجد نفاذاً في موضوعه كان كناية في غيره، وقد يقال: إنه يصح استعمال تزوجت ونكحت في الرجعة بمعنى أعددتك إلى زواج كامل ونكاح كامل، كما قالوا في رددت زوجتي إلى نكاحي، أي إلى نكاحي الكامل الذي لا ينقطع بمضي العدة، ولعل هذا هو السبب في قول بعضهم: إن لفظ التزويج والنكاح استثني من قاعدة ما كان صريحاً في بابه ووجد نفاذاً في موضوعه لا يكون كناية في غيره، فإن هذا القائل لاحظ أن لفظ التزويج والنكاح يمكن استعمالها في موضوع الرجعة على معنى أنه تزوجها زواجاً كاملاً، وإن كانت زوجة له فلا يصح أن يكون كناية في الرجعة على هذه القاعدة، ولكن الشافعية استثنوا لفظ النكاح والتزويج من هذه القاعدة، فقالوا: إنهما كنايتان، فلا تصح الرجعة بهما إلا بالنية، فالرجعة لا تصح إلا باللفظ، سواء كان صريحاً، أو كناية، ويلحق باللفظ الكتابة فإذا كتب راجعت زوجتي إلى عصمتي ونحوه فإنه يصح، وترجع زوجة له بذلك لأن الكتابة كاللفظ، ومثل الكتابة إشارة الأخرس المفهمة.
    فلا تصح الرجعة بالوطء أو بمقدمات الوطء، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو، لأنه لا يدل على الرجعة إلا وطء الكافر، فإنه إذا كان الرجعة عندهم فإننا نقرهم عليه، ويحرم على المطلق رجعياً أن يتمتع بمطلقته قبل أن يراجعها باللفظ لا بوطء ولا بغيره، فإن وطئها كان عليه مهر المثل، لأنه وطء شبهة، لأن الحنفية يقولون بجوازه، وإن راجع بعده لأن فيها تحريم الوطء كالبائن هكذا في المهر، بخلاف ما إذا وطئها وهو مرتد ثم أسلم، فإنه لا مهر عليه، لأن الإسلام يزيل أثر الردة، أما الرجعة فلا تزيل أثر الطلاق.
    وإذا وطئها في أثناء العدة فإنها تبتدأ العدة من الفراغ من الوطء بحيث لو لم يراجعها فإنها لا تحل لغيره حتى تحيض ثلاث حيض بعد فراغه من وطئها أو يمضي عليها أربعة أشهر إن كانت لا تحيض من ابتداء الفراغ، ولا يحسب لها ما مضى، أما إذا أراد مراجعتها هو فإنه ليس له أن يراجعها إلا فيما بقي لها من العدة الأولى، مثلاً إذا حاضت حيضتين بعد طلاقها رجعياً، ثم وطئها بدون رجعة، فبعد الفراغ من وطئها تبتدئ عدة جديدة، فلا تحل لغيره حتى تحيض ثلاث حيض أخرى غير الحيضتين، أما هو فإنه ليس له مراجعتها إلا في المدة الباقية لها، وهي الحيضة الأخيرة.
    هذا إذا لم تكن حاملاً، فإذا كانت حاملاً أو أحبلها بالوطء، فإن عدتها وضع الحمل على كل حال، وله أن يراجعها ما لم تلد.
    الشرط الثاني من شروط الصيغة: أن تكون منجزة، فإذا علقها على أمر ووقع، فإنها لا تصح، مثلاً إذا قال لزوجته: راجعتك إن شئت فقالت: شئت، فلا تصح الرجعة.

    الشرط الثالث: أن لا تكون مؤقتة بوقت، فإذا قال لها: راجعتك شهراً لم تحصل الرجعة.

    الحنابلة - قالوا: يشترط في المرتجع أن يكون عاقلاً، ولو صبياً مميزاً حراً كان أو عبداً، فإذا طلقها وهو عاقل ثم جن فلوليه أن يراجع عنه، ولا تصح رجعة المرتد قبل توبته، كما لا يصح تزويجه ذكراً أو أنثى، وإذا طلق في أثناء ردته كان طلاقه موقوفاً، فإن أسلم وقع طلاقه وإن لم يسلم لم يقع، لأنه لم يصادف محلاً، فإن الردة تفسخ النكاح.
    ويشترط في المحل، وهي الزوجة أن تكون زوجة بصحيح العقد، فلا تصح رجعة الأجنبية أو المفسوخ عقدها لفساد فيه، وأن يكون قد وطئها أو خلا بها، لأن الخلوة توجب العدة عند الحنابلة، فإن طلقها قبل ذلك فلا رجعة لها، لأن المطلقة قبل الدخول تبين ولا عدة لها، وأن تكون مطلقة طلاقاً رجعياً، فلا رجعة للمطلقة على مال، أو المطلقة ثلاثاً، أو المطلقة قبل الدخول، وأن تكون في العدة، فلا رجعة لمن انقضت عدتها.
    أما الصيغة فإنها لفظ وفعل، فأما اللفظ فيشترط فيه شرطان: أحدهما أن يكون صريحاً في الرجعة، وهو رجعتك، ورجعت زوجتي وراجعت زوجتي، وارتجعت زوجتي، وأمسكت زوجتي، ورددتها، فلا يصح الرجعة بقوله: نكحتها أو تزوجتها، فإنه كناية والرجعة لا تصح بالكناية. ثانيهما: أن لا تكون معلقة على شرط كأن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد راجعتك فإن ذلك ليس رجعة، وأما الفعل فهو الوطء فيحل للمطلق رجعياً أن يطأ زوجته، وإذا فعل فقد رجعت لذلك، ولو لم ينو به الرجعة، أما غير الوطء فلا تحصل به الرجعة، فلو قبلها، أو لمسها أو باشرها أو نظر إلى فرجها بشهوة أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يكون رجعة ومثل ذلك ما إذا خلا بها، فإن الخلوة لا تكون رجعة) .
    (2) (الحنفية - قالوا: يبطل حق الزوج بانقضاء العدة بواحد من الأمور الثلاثة المذكورة فأما الحيض، فإن الرجعة تبطل به إذا ادعت أنه انقطع بعد شهرين من تاريخ الطلاق، لأن أقل ما تنقضي به العدة شهران عند الإمام، فإذا ادعت أنها حاضت ثلاث مرات قبل الشهرين فإنها لا تصدق، وذلك لأنه إذا طلقها في أول مدة طهر لم يطأها فيه، تحتاج إلى ثلاث حيض، وثلاثة أطهار، الطهر الذي طلقها فيه، وطهران بعد الحيضتين، حتى ترى دم الحيضة الثالثة في آخر الطهر الثاني، وأقل الطهر خمسة عشر يوماً، فيكون مجموع الأطهار خمسة وأربعين يوماً، وتحتاج إلى ثلاث حيض، ويعتبر في الحيضة الوسط وهو خمسة أيام، فيكون مجموع الحيض خمسة عشر يوماً، مضافة إلى خمسة وأربعين يوماً، فالمجموع ستون يوماً، وإنما يعتبر في الحيض أقله، وهو ثلاثة أيام، لأن اجتماع أقل الطهر وأقل الحيض في مدة واحدة نادر لا يعول عليه، وبعضهم يبينه بوجه آخر، فيقول: إن المفروض أن يطلقها في آخر الطهر الذي لا وطء فيه، كي لا تطول عليها المدة.
    فتحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم تحيض فيتم لها بذلك طهران، وثلاث حيض، لأن الطهر الذي طلقها فيه لم يحسب لأنه طلقها في آخر جزء منه، وأقل الطهر خمسة عشر يوماً، فيكون الطهران ثلاثين يوماً، أما الحيض فيحسب أكثره وهو عشرة أيام، فالثلاثة حيض بثلاثين يوماً أيضاً، وهما الشهران، وإنما اعتبر أكثر الحيض ليتعادل مع أقل الطهر، ولا يخفى أن المآل واحد من الأمرين، وأنه لا فرق بين أن يطلقها في أول الطهر، أو في آخره، بالنسبة لحسبان الشهرين فلا بد من انقضاء الشهرين من تاريخ طلاقها، وإلا فلا تصدق بأن عدتها قد انقضت بالحيض فإذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض بعد شهرين، فإن حق الزوج في الرجعة يبطل بانقطاع دم الحيضة الأخيرة التي تنتهي بها عدتها، فإن كانت حرة تبطل رجعتها وانقطاع الحيضة الثالثة، وإن كانت أمة تبطل رجعتها بانقطاع دم الحيضة الثانية، لأن عدة الأمة حيضتان، ثم إن الدم لأكثر الحيض، وهو عشرة أيام. فإن عدتها تنقضي وإن لم تغتسل، فإذا مكثت حائضة عشرة أيام ولم ينقطع الدم فإنه ينظر إن كانت لها عادة ينقطع عندها الدم. كان لها حق الرجعة إلى انقطاعه عند عادتها، وإن لم يكن لها عادة بطل حقه في الرجعة. وإن لم ينقطع عندها الدم، كان له حق الرجعة إلى انقطاعه عند عادتها. وإن لم يكن لها عادة بطل حقه في الرجعة. وإن لم ينقطع الدم لأن أكثر مدة الحيض عشرة أيام. فعند انقضائها تبطل الرجعة إذا لم توجد لها عادة، أما إذا انقطع دم الحيضة الأخيرة لأقل من عشرة أيام. فإن حقه في الرجعة لا يبطل إلا بأحد أمرين:
    الأمر الأول: أن تغتسل بماء طهور، ولو كان مشكوكاً في طهوريته. كما إذا كان الماء سؤر حمار، ولكن إذا اغتسلت به مع وجود الماء المطلق فإنه لا يصح لها أن تصلي به، أو تتزوج فهو يقطع حق الرجعة فقط.
    الأمر الثاني: أن يمضي عليها وقت صلاة كامل بعد انقطاع الدم، بحيث تكون الصلاة ديناً في ذمتها، مثلاً إذا انقطع الدم عقب دخول وقت الظهر ولم تغتسل فإن له أن يراجعها حتى يدخل وقت العصر، وكذا إذا انقطع الدم عند شروق الشمس فإن له أن يراجعها حتى يدخل وقت العصر. لأن الوقت من شروق الشمس إلى الظهر مهمل لا تجب عليها فيه صلاة. فمن شروق الشمس إلى العصر لا يجب عليها إلا وقت واحد، وهو الظهر، فإذا انقطع الدم في أخر وقت الظهر، يعني قبل العصر بنصف ساعة مثلاً، فإن كان ذلك الوقت يمكنها أن تغتسل فيه وتكبر تكبيرة الإحرام قبل خروجه فإنه يعتبر وقتاً كاملاً، لأنه بذلك يجب عليها ديناً في ذمتها. أما إن كان ذلك الوقت لا يمكنها أن تغتسل وتكبر فيه، فإن رجعته لا تبطل إلا إذا انقضى الزمن الباقي من وقت الظهر وانقضى زمن العصر بتمامه، ودخل في وقت المغرب، وعلى هذا القياس فإذا لم تجد ماء فإنه يقوم التيمم مقام الغسل، وقيل: لا يكفي التيمم إلا إذا صلت به صلاة كاملة، ولو نفلاً، والراجح الأول: لأن التيمم مقام الغسل، طهارة كاملة عند فقد الماء. هذا إذا كانت مسلمة، أما الكتابية فرجعتها تبطل بمجرد الانقطاع بدون اغتسال أو مضي وقت صلاة، وهل لو انقطع دم حيضها لأقل المدة ثم اغتسلت بماء طهور غير مشكوك فيه، ثم تزوجت بآخر وعاد لها الدم ثانية، يبطل الزواج وتعود الرجعة، أو تبطل الرجعة ويستمر الزوج؟ في هذه المسألة خلاف، فبعضهم يقول: إن بطلان الرجعة منوط بانقطاع الدم، فإذا انقطع لأقله ثم عاد لا يكون قد انقطع حقيقة، فتعود الرجعة ويبطل عقد الزواج.
    أما الغسل فقد شرط ليقوي الانقطاع لأقل الحيض، على معنى أنه إذا وجد الانقطاع والاغتسال حكم الشارع بطهارتها، فإذا عاد الدم حكم بعدم طهارتها، وبعضهم يقول: إن بطلان الرجعة منوط بالاغتسال بعد انقطاع الدم، فمتى اغتسلت حلت للأزواج وبطلت الرجعة، فإذا تزوجت ثم عاد الدم فإن تزوجها يستمر صحيحاً ولا يبطله عودة الدم.
    ومثل ذلك ما إذا انقطع دمها لأقل المدة ولم تغتسل ولكن مضى عليها وقت صلاة كامل بدون دم فإنها تحل للأزواج بذلك، ويبطل حق الزوج في الرجعة، فإذا عاد لها الدم عاد الخلاف المذكور فبعضهم يقول: يعود الحق في الرجعة ويبطل الزواج، لأن مناط بطلان الرجعة انقطاع الدم، وبعودته تبين أنه لم ينقطع، وبعضهم يقول: لا يبطل الزواج ولا يعود الحق في الرجعة، لأن مناط بطلان الرجعة مضي وقت الصلاة بعد انقطاع الدم.
    والمعقول الذي تنضبط به الأحكام، هو أن حق الرجعة يبطل وأن الزواج يستمر صحيحاً، ولو عاد الدم، سواء كان ذلك بعد الغسل أو بعد مضي وقت صلاة، إذ لا معنى للحكم بصحة تزوجها عند هذه الأمارة، فإذا تزوجت ووطئها الزوج الجديد مثلاً وعاد الدم فهل يصح أن يقال له: أنها ليست زوجة لك، فإن زوجها القديم قد راجعها؟ إن ذلك ليس من الأمور الهينة التي يسهل على النفوس أن تسيغها، فمتى جعل الشارع هذه الأمارة دليلاً على طهارة الزوجة وأباح لها أن تتزوج بالغير، فلا يصح أن يقال بعد ذلك: أن للشارع إبطال هذه الأمارة وانتزاع الزوجة من حضن القديم، على أن ذلك يفضي إلى تعليم النساء الكذب وعدم الصدق، فإن المرأة التي تتزوج زوجاً جديداً إذا علمت أنها ستنزع منه لا بد أن تكتم الدم الذي عاد لها، وهذا مما لا معنى له، ومن أجل ذلك جرت متون المذاهب على أن الزواج الثاني صحيح، وأن الرجعة لا تعود بعودة الدم نعم لو قالوا: أن الاحتياط أن لا يحل لها التزوج إلا بعد أن ينقطع الدم لأكثر الحيض مع ملاحظة عادتها إن كانت لها عادة بعد مضي أكثر المدة كان ذلك حسناً ولكنهم لم يفعلوا.
    وأما وضع الحمل فإنه يبطل حق الرجعة، ثم إن كان كاملاً فإن العدة تنقضي بخروج أكثره، إذ لا يشترط خروجه جميعه على أنها لا يحل أن تتزوج إلا بخروجه جميعه احتياطاً، إذا كانت حاملاً في اثنين، فإن العدة تنقضي بخروج الثاني، وتبطل الرجعة بخروج أكثره، ولا فرق في انقضاء العدة وبطلان الرجعة بين أن تكون حاملاً به من الزوج المطلق أو من غيره، فلو تزوج حبلى من الزنا وهو عالم بها ثم طلقها فولدت بعد الطلاق انقضت عدتها منه، فإذا ادعت أنها ولدت حملها، وأنكر الزوج الولادة فلا يخلو إما أن يكون حملها ظاهراً، بأن كانت بطنها كبيرة مثلاً، ثم صغرت، فإن دعواها يثبت بشهادة القابلة، لأن ظهور الحمل يؤيد شهادتهما، أما إذا لم يكن بها حمل ظاهر فإن الولادة لا تثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، كما سيأتي في المسألة التالية.
    ويتعلق بها مسائل: المسألة الأولى: إذا طلق شخص زوجته وهي حامل، ولكنه ادعى أنه لم يطأها أصلاً فلم يحبلها، فهل يصح له أن يراجعها قبل وضع الحمل، أو لا يصح؟ وإذا راجعها فهل تكون الرجعة صحيحة قبل الوضع أو لا؟ والجواب: أنه يصح له أن يراجعها قبل الوضع، ولكن لا تكون زوجة له إلا بعد وضع الحمل في مدة تقل عن ستة أشهر من تاريخ الطلاق وستة أشهر فأكثر من تاريخ عقد الزواج وذلك لأنه ادعى أنه لم يطأها.
    وهذه الدعوى تفيد أنه طلقها قبل الدخول، وأنه لا عدة له عليها فلا رجعة له، فإذا راجعها قبل وضع الحمل الذي تنقضي به العدة على كل حال كان مكذباً لنفسه، وهذا التكذيب لا يقره الشارع إلا إذا ثبت، وهو لا يثبت إلا إذا ولدت امرأة في مدة تقل عن ستة أشهر من تاريخ الطلاق، لأنها إن ولدت بعد ستة أشهر من تاريخ الطلاق احتمل أن يكون الولد من وطء حديث بعد الطلاق، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر فلا يكون منه، وكذا ينبغي أن يكون في مدة ستة أشهر فأكثر من تاريخ عقد الزواج، لأنها إن جاءت به في مدة تقل عن ذلك لا يكون ابنه، بل يكون من غيره لولادته قبل انقضاء ستة أشهر من تاريخ الزواج، فإذا ولدته في المدة المذكورة كان ابنه، وكان قوله: أنه لم يطأها كذباً حقاً، أما إذا ولدته في غير هذه المدة فإنه يكون صادقاً في قوله: أنه لم يطأها، وتكون مطلقة قبل الدخول حقيقة، فتبطل رجعته، والحاصل أنه إذا أنكر وطأها وظهر أنها حامل وأراد تكذيب نفسه بمراجعتها، فإن له أن يراجعها قبل وضع الحمل لأنها إذا وضعت فلا حق له في الرجعة على أي حال، لما علمت أن الوضع تنفضي به العدة ولو من غيره، ثم تنتظر بعد الرجعة، فإن ولدت في مدة يثبت فيها نسب الولد منه ظهرت صحة الرجعة، وإلا فلا، على أن المشايخ اختلفوا في هل توصف الرجعة بالصحة قبل الوضع في المدة المذكورة أولا، مع اتفاقهم أنها لا تكون زوجة له بالرجعة إلا بعد ظهور صحتها بالوصف؟ فبعضهم قال: إنها توصف بالصحة. وبعضهم قال: لا. وقد استدل من قال: أنها توصف بالصحة بأمرين: أحدهما أنه لو كان الشخص يملك جارية وباعها وادعى المشتري أنها حامل، كان الحمل عيباً فيها يصح له ردها به، ويثبت حملها بظهوره للنساء التي تعرف الحبل فإذا قالت امرأة خبيرة بالحمل: إنها حامل ثبت الحبل وكان عيباً ترد به.
    الأمر الثاني أنهم صرحوا في باب ثبوت النسب أن النسب يثبت بالحمل الظاهر وحيث أنه يصح الحكم بظهور الحبل قبل ولادته ويصح ثبوت النسب بظهور الحبل قبل الولادة، فإنه يصح الحكم بصحة الرجعة قبل الولادة، فإذا ولدت فقد ظهرت صحة الرجعة بيقين.
    وقد رد الدليل الأول، بأن الذي قال: ان الجارية ترد بقول امرأة: انها حامل قول ضعيف، لمحمد. ولأبي يوسف فيه روايتان: أظهرهما أنه إذا أخبرت امرأة بأن الجارية حامل، صح للمشتري أن يخاصم البائع، فيحلف البائع على أنها ليس بها حمل وقت البيع، وبذلك لا ترد عليه وإذا نكل عن اليمين، فإنها ترد عليه لنكوله. أما إذا لم يظهر بها حمل ولم تقل امرأة: انها حامل فليس للمشتري الحق في الخصومة مع البائع، وحاصل ذلك أن شهادة المرأة التي تعرف الحبل تجعل للمشتري الحق في الخصومة مع البائع فقط ولا تجعل له الحق في الرد، فظهور الحبل لم يترتب عليه حكم الرد، حتى يقاس عليه الحكم بصحة الرجعة.
    أما الدليل الثاني فقد رد أيضاً بأنهم لم يقولوا: ان النسب يثبت بظهور الحمل، وإنما الذي قالوه: ان النسب يثبت بالفراش إذا كانت الزوجة غير مطلقة، ويثبت بالولادة إذا كانت مطلقة، والولادة تثبت بقول القابلة - الداية - مثلاً إذا طلق الرجل امرأته الحامل طلاقاً رجعياً وهي حامل ثم راجعها فادعت أنه راجعها بعد أن وضعت وأنكرت ولادتها، فإن ولادتها لا تثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، إلا إذا كان الحبل ظاهراً، كما ذكرنا آنفاً، فإنه حينئذ يكفي لإثبات الولادة شهادة القابلة لأن ظهور الحبل يؤيد شهادة المرأة، فظهور الحبل لم ثبت به الولادة والنسب وإنما ثبت ذلك بشهادة القابلة المؤيد بظهور الحمل، وشهادة القابلة لا تكون إلا بالولادة، فلا من لثبوت النسب من الولادة على كل حال لأنها هي التي تفيد اليقين، يدل لذلك ما ذكره في المبسوط،حيث قال: لو قال رجل لامرأته: إذا حبلت فأنت طالق، فإنها لا تطلق إلا إذا جاءت بولد في مدة أكثر من سنتين، فإذا وطئها مرة احتمل أن تكون قد حملت منه، فالأفضل له أن لا يقربها احتياطاً، ولكن لو وطئها بعد ذلك فإنه يجوز، ولو ظهر حملها فإن ظهور الحمل لا تطلق به لاحتمال أن لا يكون حملاً، وإنما تطلق إذا ولدت بيقين، ومتى تبين أنها طلقت وهي حامل وانقضت عدتها بالوضع، ويشترط لأكثر مدة الحمل من وقت الطلاق، وهي سنتان كما ذكرنا، أما قبل السنتين فإنه يجوز أن تكون قد حملت قبل تعليق الطلاق، فلا يتحقق التعليق، لأن المعلق عليه وهو الحمل كان موجوداً قبل اليمين وهذا كله صريح في أن ظهور الحمل لا يعتبر لا في ثبوت النسب. ولا في رد الجارية بعيب الحبل.
    ولا في ثبوت طلاق المرأة فكذلك لا يعتبر في مسألة الرجعية، فإذا راجعها قبل الوضع وقعت الرجعة موقوفة لا يحكم بصحتها إلا بعد ولادتها في المدة المعينة، وإلا تبين فسادها، وحاصل هذا الخلاف، أن بعضهم يقول: ان الرجل الذي أنكر وطء زوجته لا يملك رجعتها قبل وضع الحمل، لأن نكران الوطء يقتضي أنها مطلقة قبل الدخول، والرجعة تقتضي أنه وطئها فناقض نفسه، ولا بد لتكذيبه في الدعوى الأولى من أمارة شرعية يقينية، وهي الولادة في مدة يثبت النسب الولد منه. وحيث أنه لا يمكن أن يراجع بعد الوضع، فله أن يراجع رجعة موقوفة قبل الولادة، ولكن لا يترتب على هذه الرجعة حل الاستمتاع بالزوجة قبل أن تلد، لأن الرجعة لا يمكن الحكم عليها بالصحة قبل الولادة المذكورة، وظهور حمل المرأة غير كاف لأن ظهور الحمل أمارة ظنية، وبعضهم يقول: تصح الرجعة بظهور الحمل، ولكن لا تظهر صحتها إلا بالوضع في المدة المعينة، ومعناه أنها لا تكون زوجة له إلا إذا وضعت في المدة المذكورة، وإذاً فليس للخلاف فائدة، لأن كلاً منهما يقول: إن صحة الرجعة موقوفة على الولادة، إلا أن الفريق الأول يقول: إن الرجعة قبل الولادة لا يحكم عليها بالصحة، والفريق الثاني يقول: يحكم عليها بالصحة الموقوفة على الولادة، وتوقف ظهور الصحة على الولادة لا ينافي الحكم بالصحة قبل الولادة.
    فإن قلت: ما فائدة هذا الكلام، أليس للزوجين مندوحة عن كل هذا بعمل عقد جديد؟ قلت: فائدته تظهر عند الشقاق فإذا راجعها الرجل قبل وضع الحمل وأشهد على الرجعة ثم جاءت بولد لأقل من ستة اشهر من تاريخ الطلاق، ولستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج، كان ولده، وبذلك يثبت كذبه في دعواه عدم وطئها، وتصح الرجعة وتكون زوجة له، وإن لم ترض فلا يحل لها أو تتزوج غيره، ولها عليه حقوق الزوجية ولكن هذه النتيجة متفق عليها بين الفريقين المختلفين في وصف الرجعة بالصحة وعدمها، وإنما ذكرنا آراءهم تكملة للبحث العلمي، ولأن في أدلة كل واحد منهما فوائد لا تخفى.
    المسالة الثانية: رجل تزوج امرأة ثم ادعى أنه لم يطأها أصلاً، ثم ولدت منه ولداً لستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج وهي زوجة له، ثم طلقها بعد الولادة، فهل يصح له أن يراجعها قبل انقضاء عدتها، أو لا يصح، فكانت مطلقة قبل الدخول فلا رجعة لها؟ والجواب: أن له الرجعة، لأنها لما ولدت على فراشه وهي زوجة له وكانت ولادتها في المدة المعتبرة شرعاً وهي ستة أشهر من تاريخ الزواج كان كاذباً في ادعائه عدم الوطء شرعاً وعلى هذا تكون زوجة له.
    المسألة الثالثة: إذا خلا رجل بامرأته ثم أنكر وطأه إياها ثم طلقها طلقة رجعية، فهل يصح له المراجعة أو لا؟ والجواب: أنه لا حق له في الرجعة، لأنها مطلقة قبل الدخول، وقد عرفت أن الخلوة توجب العدة، ولكن تصح بها الرجعة، فإذا فرض وراجعها ولم تقر بانقضاء العدة، ثم تبين أنها حامل وجاءت بولد لأكثر من سنتين، وهي أكثر مدة الحمل، فإنه يثبت نسبه من المطلق ويتبين صحة رجعته بولادتها، أما إذا ولدت في اقل من سنتين، فإن ولادتها لا تكون رجعة لاحتمال أنها حملت به قبل طلاقها ويثبت نسبه منه متى ولدته لستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج وهذا بخلاف المسألة الأولى، فإنه أنكر وطأها ولم يعترف بالخلوة بها، ثم طلقها فكانت مطلقة قبل الدخول والخلوة فلا عدة عليها، فلا تثبت الزوجية بينهما إلا إذا وضعت لأقل من ستة أشهر من تاريخ الطلاق ولستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج، أما في هذه المسألة فإن المفروض أنه اعترف بالخلوة فيجب عليها أن تعتد منه، والمطلقة رجعياً ما دامت لم تعترف بانقضاء عدتها فإنها إذا ولدت ثبت نسب الولد من مطلقها، ثم إن راجعها قبل الولادة، فإن كانت الولادة لأكثر من سنتين كانت رجعة، وإلا فلا، كما بيناه، وأما انقضاء العدة بالأشهر فإنه لليائسة من المحيض لكبر أو صغر والمتوفى عنها زوجها، وسيأتي بيانه في مباحث العدة.
    هذا، وإذا اختلف الزوجان، فادعى الزوج الرجعة وأنكرت الزوجة، فإن لذلك صوراً:
    الصورة الأولى: أن يدعي أنه راجعها قيل انقضاء عدتها ثم يخبرها بذلك بعد انقضاء العدة، بأن يقول لها: كنت راجعتك قبل انقضاء العدة ولا بينة له، وفي هذه الصورة لا يكون له حق في الرجعة إلا إذا صدقته في دعواه، فإن صدقته فإن الرجعة تصح قضاء، أما إذا كذبته فلا رجعة له عليها، وذلك لأن الزواج يثبت بالتصادق فثبوت الرجعة بالتصادق أولى، لأن الزوجية لم تنقطع، ولكن إن كان كاذباً، فإن الرجعة لا تصح ديانة ولو صدقته فلا يليق بالمسلم أن يقول لها: راجعتك كذباً، ويجعل هذه رجعة كافية لإباحة زوجته بعد انقضاء عدتها، فإنه يحرم عليها أن يطأها إن كان كاذباً، وقد يقال: إذا رغب كل منهما في العودة إلى الزوجية، فأية فائدة في ادعاء الرجعة ومصادقة الزوجة، أو ليس من المعقول البديهي أن تجديد العقد في مثل هذه الحالة أولى وأنزه وأبعد عن الشك والاحتمال ومع هذا، فلا فرق بين الرجعة وبين تجديد العقد من حيث عدد الطلاق. وما وراء ذلك فلا قيمة له عند الاتفاق؟ والجواب: أن العقد قد يكون غير ممكن كما إذا كانا مسافرين في الصحراء وليس معهما شاهدان، ولا يمكنهما الحصول على شاهدين بسهولة، وكان قد راجعها حقاً قبل انقضاء عدتها، فإن التصادق على الرجعة حينئذ أسهل من العقد، وأيضاً قد تكون هذه آخر طلقة، وبانقضاء العدة تحرم مؤيداً، وغير ذلك.
    والمفكرون من الفقهاء يفرضون كل ما عساه أن يقع ويذكرون له أحكامه، فإذا ادعى الرجعة ولم تصدقه ولا بينة له فلا رجعة له عليها والقول قولها. وهل له اليمين أولا؟ والجواب: نعم له تحليفها اليمين على المفتى به، وبعضهم يقول: لا يمين له عليها، لأن الرجعة لا تحليف فيها، كبعض أمور أخرى: منها الإيلاء والنسب، والنكاح، والحدود، واللعان، ولكن المفتى به أن فيها الحلف ما عدا الحدود، واللعان.
    الصورة الثانية: أن يدعي بعد انقضاء العدة أنه راجعها قبل أن تنقضي ويقيم البينة على أنه قال: راجعت زوجتي فلانة أمام البينة، وفي هذه الحالة تصح الرجعة، وكذا إذا أقر أمام البينة على أنه جامع زوجته أو لمسها بشهوة. أو نظر إلى فرجها بشهوة قبل انقضاء العدة، فإذا شهدت البينة بأنه أقر بذلك لها قبل انقضاء العدة فإن الرجعة تثبت، أما إقراره بعد انقضاء العدة بذلك، فإنه لا قيمة له، لأنه لم يخرج عن كونه دعوى للرجعة بخلاف إقراره به قبل انقضاء العدة، فإنه إقرار بالرجعة. فمتى ثبت ذلك الإقرار ثبتت الرجعة.
    الصورة الثالثة: أن يدعي رجعتها في العدة، كأن يقول لها: قد راجعتك أمس، وفي هذه الحالة يصدق. ويكون ذلك رجعة، وإن لم ينشئ رجعة جديدة، فلا يلزم أن يقول لها: راجعتك، لأنه يملك الإنشاء في الحال فيملك الإخبار به في الماضي، ويصح إخباره به. ولكن يشترط أن يقصد بقوله: كنت راجعتك أمس إنشاء رجعتها. أما إذا قصد مجرد الإخبار فإنه يتوقف على تصديقها. فإن صدقته فذاك، ولعل قائلاً يقول: ما فائدة هذا الكلام أيضاً، إذ لا معنى لكونه يخبرها بإنشاء الرجعة أمس يريد به رجعتها، وهو قادر على أن يقول لها: راجعتك من غير لف ولا عناء؟ فماذا يكون الحكم؟
    والجواب: أن هذه المسألة قد تقع، وقد يترتب عليها خلف، وذلك لأنه من الممكن القريب أن يقول زوج لمطلقته: قد راجعتك أمس في آخر لحظة من حيضتها الأخيرة ثم ينقطع دم الحيض بعد ذلك فتنقضي عدتها، فتقول له: إن هذا ليس برجعة فلا رجعة لك علي، فماذا يكون الحال؟ أن الشرع في هذه الحالة يقول لها: إن هذه رجعة، فمتى ادعى أنه قصد بذلك إنشاء الرجعة صدق وكان مراجعاً.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الرجعة]
    صـــــ 376 الى صــــــــ
    404
    الحلقة (218)


    الصورة الرابعة: أن يقول لها: رجعتك من غير أن يعلم أن عدتها قد انقضت. وهذه الصورة تحتها حالتان.
    الحالة الأولى: أن تجيبه فور قوله هذا بقولها: قد انقضت عدتي بحيث يكون كلامها متصلاً بكلامه، وفي هذه الحالة تبطل الرجعة، بشرط أن يكون كلامها في زمن يصح فيه انقضاء العدة، بأن يكون قد مضى شهران إن كانت من ذوات الحيض، إلا أن تدعي الحمل، وأنها أسقطت سقطاً مستبين الخلق، وثبت ذلك. وإلا فلا يعبأ بقولها، وتصح الرجعة، والصاحبان يقولان: تصح الرجعة، ولو قالت له ذلك، لأن العدة كانت قائمة ظاهراً قبل قولها، فقوله: راجعت صادف قيام العدة، ولكن الإمام يقول: إنها أمينة على نفسها، فمتى قالت له: أن عدتي قد انقضت كان معناه أنها انقضت عدتي، فقال لها: راجعتك لا يكون ذلك رجعة باتفاق وللزوج تحليفها بأن عدتها قد انقضت عند إخباره بذلك.
    ا
    لحالة الثانية: أن يقول لها: راجعتك، فتسكت ولو قليلاً، ثم تقول له: قد انقضت عدتي، وفي هذه الحالة تصح الرجعة باتفاق لأنها متهمة بالسكوت.
    الصورة الخامسة: أن تدعي انقضاء عدتها ثم تكذب نفسها، وتقول: إن عدتي لم تنقض، وفي هذه الحالة يصح له أن يراجعها لأنها كذبت نفسها في حق عليها، وهو حق الزوج في رجعتها، فيبقى هذا الحق قائماً، بخلاف ما إذا كذبت نفسها قي حق لها، فإن تكذيبها لا يعتبر.
    الصورة السادسة: أن يخلو بها ثم يدعي أنه وطئها وهي تكذبه في دعوى الوطء، وتدعي أنه طلقها قبل الوطء، وبذلك تبين منه، فلا رجعة له عليها، وحكم هذه الصورة أن الرجعة تصح ويصدق هو بلا يمين، لأن الظاهر - وهو الخلوة بها - يؤيده ويكذبها.
    الصورة السابعة: إذا لم تثبت خلوته بها، وادعى أنه وطئها فكذبته، وفي هذه الصورة لا رجعة له، لأن الظاهر يكذبه عكس الصورة الأولى.
    خاتمة في أمور: أحدها إذا كان للزوجة مؤجل صداق إلى الطلاق وطلقها رجعياً، فهل لها المطالبة بالمؤجل قبل أن تبين منه بانقضاء العدة أو لا؟ والجواب: أن الصحيح ليس لها المطالبة إلا بعد أن تبين بانقضاء العدة. ثانيها: إذا قال لها: راجعتك على عشرين جنيهاً مثلاً، فطالبته بها، فهل يلزمه المبلغ أو لا؟ خلاف، فبعضهم يرى أنه يلزمه المبلغ ويجعل ملحقاً بالمهر، وبعضهم يرى أنه لا يلزمه، لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك، والعوض لا يجب عليه في مقابلة الملك، وهو الظاهر. ثالثها: إذا قال الرجل المطلق رجعياً: أبطلت رجعتي أو لا رجعة لي أو أسقطت حقي في مراجعتك ثم راجعها، فهل لها أن تقول له: إنك أسقطت حقك فلا رجعة لك علي؟ والجواب لا، فإن حقه في الرجعة ثابت بالشرع فلا يملك التنازل عنه ولا اسقاطه.
    المالكية - قالوا: تبطل الرجعة بالأمور المذكورة على التفصيل الآتي، فأما الحيض فإن عدتها تنقضي بثلاثة أطهار لا بثلاث حيض، وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالإقراء شهر، وذلك لأنه إذا طلقها في أول الشهر وهي طاهرة، ثم حاضت بعد الطلاق بلحظة، فإن هذا الطهر يحسب لها، فإذا كان ذلك بالليل ثم استمر الدم إلى ما قبل الفجر وانقطع، فإنه يحسب لها حيضة، وذلك لأن أقل الحيض في باب العدة. هو أن ينزل يوماً أو بعض يوم، بشرط أن يقول النساء: إنه حيض، فإذا استمرت طاهرة إلى نهاية اليوم الخامس عشر حسب لها ذلك الطهر، لأن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، ويحسب بالأيام لا بالليالي. فإذا حاضت في الليل واستمر الحيض إلى ما قبل طلوع الفجر كان ذلك حيضة. فإذا انقطع واستمرت طاهرة خمسة عشر يوماً ثانية كان ذلك طهراً ثالثاً، وعلى ذلك تكون قد طهرت ثلاثة أطهار. الطهر الذي طلقها فيه - وهو اللحظة التي حاضت بعدها - ثم الطهر الثاني.
    والطهر الثالث، وهما ثلاثون يوماً ولحظة، فإذا فرض ووقع ذلك في شهر رمضان فإنها تحيض فيه وتطهر وتقضي عدتها بنهايته، ولم تفطر فيه يوماً واحداً.
    فإذا قالت له: إن عدتها قد انقضت بالطهر من الحيض ثلاث مرات بعد الطلاق، فإن ذلك يحتمل ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تدعي انقضاء عدتها في زمن لا يمكن أن تنقضي فيه العدة مطلقاً، وهي أقل من شهر، فإنها في هذه الحالة لا تصدق في دعواها ولا يسأل في شأنها النساء.
    الوجه الثاني: أن تدعي انقضاء عدتها في زمن يندر انقضاء العدة فيه، وهو الشهر مثلاً لأنه وإن كان يمكن أن تنقضي العدة في شهر ولكنه نادر، وفي هذه الحالة تصدق بشهادة الخبيرات من النساء، فإذا شهدت بأن النساء قد يحضن ثلاث حيض في هذه المدة ويطهرن منها على الوجه المتقدم إذن تصدق بلا يمين، وقيل: بل تصدق إن حلفت بأن عدتها قد انقضت، فإن نكلت عنه صحت الرجعة. الوجه الثالث: أن تدعي انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاء العدة فيه غالباً. وفي هذه الحالة تصدق بلا يمين، ولا سؤال النساء.
    وإذا أراد رجعتها فقالت له: إن عدتها قد انقضت في زمن يمكن انقضاؤها فيه ثم كذبت نفسها، وقالت: أنها لم تحض، أو لم تلد لا يسمع قولها، حتى ولو شهدت النساء بأن ليس بها أثر حيض أو ولادة، لأنها تبين بمجرد قولها: حضت ثالثة. أو وضعت الحمل.
    هذا إذا صرحت بأنها حاضت الثالثة، أما إذا قالت: أنها رأت دم الحيضة الثالثة ثم رجعت، وقالت: إنها رأت الدم ولكنه لم يستمر يوماً أو بعض يوم فلم يكن دم الحيض الذي تنقضي به العدة، ففي هذا خلاف، فبعضهم قال: لا يسمع قولها أيضاً، كالأولى وبعضهم قال: يسمع قولها إن قالت أنها رأت الدم وانقطع، ولم يعد ثانياً، حتى مضى الطهر، أما إن قالت: أنها رأت المد وانقطع حالاً ثم عاد قبل أن تمضي عليه مدة طهر كان حيضاً تنقضي به العدة، وهذا هو الراجح.
    وإذا طلقها زوجها طلقة رجعية ثم مات عنها بعد سنة أو اكثر فادعت أنها لم تحض أصلاً، أو ادعت أنها حاضت واحدة أو اثنتين فقط حتى ترث منه لعدم انقضاء عدتها. فإن هذه لا يخلو حالها من أحد أمرين: الأول: أن تكون لها عادة باحتباس دم الحيض عندها، فتمكث مثل هذه المدة بدون حيض ثم تحيض، وقد وقع لها ذلك في زمن أن كانت زوجة للمتوفى، وأخبرت به الناس حتى عرف عنها، وفي هذه الحالة تسمع دعواها ويقبل قولها بيمين، ويكون لها حق الميراث. الثاني: أن لا يظهر منها هذا في حال حياة مطلقها، وفي هذه الحالة لا يقبل قولها ولا ترث، لأنها ادعت أمراً نادراً، أما إذا مات بعد ستة أشهر من يوم الطلاق. أو أكثر إلى سنة، وادعت عدم انقضاء العدة، فإنها ترث بيمين إن لم يظهر منها غيبة دم الحيض واحتباسه مدة حياة المطلق، أما إن ظهر منها ذلك فإنها ترثه بدون يمين، فإن مات بعد الطلاق بأربعة أشهر إلى ستة أشهر فإنها تصدق من غير يمين مطلقاً، ومثل ذلك ما إذا كانت مرضعة فإنها تصدق وترث بلا يمين، ولو مات بعد سنة أو أكثر، وكذا إذا كانت مريضة، وذلك لأن الرضاع والمرض يمنعان الحيض غالباً.
    هذا ما يتعلق بالحيض أو الإقراء، وأما الحمل، فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل كله، بحيث لو انفصل منها بعضه فإنه يحل للزوج رجعتها.
    ولا فرق بين أن يكون الولد كاملاً، أو سقطاً. فإذا ادعى الزوج أنه راجعها في العدة كذبته ولا بينة له، فتزوجت بغيره، ثم وضعت ولداً كاملاً لأقل من ستة أشهر بعد وطء الزوج الثاني فإن الولد يلحق بالأول لظهور كون الحمل منه لا من الثاني، ويفسخ النكاح الثاني، وترد إلى الأول برجعته التي ادعى أنه أنشأها قبل انقضاء العدة، وهل يتأبد تحريمها على الزوج الثاني بحيث لو مات زوجها الأول أو طلقها يحل له أن ينكحها ثانياً أو لا؟ والجواب: نعم يحل له ذلك. لأنها ليست معتدة حتى يقال: إن من نكح معتدة الغير حرمت عليه مؤبداً، وذلك لأن المفروض أن زوجها الأول راجعها، وألحق الولد به، فهي ذات زوج نكحها الثاني نكاحاً فاسداً، على أن بعضهم يقول: من تزوج معتدة بطلاق رجعي لا يتأبد عليه تحريمها، فلو فرض وكانت معتدة فإنه لا يتأبد عليه تحرمها.
    وإذا ادعى أنه راجعها في العدة بالوطء بنية الرجعة أو راجعها بالتلذذ بها في العدة وأقر بذلك أمام شهود قبل انقضاء العدة، بأن قال أمامهم: راجعت زوجتي بالوطء مع نية الرجعة. أو تلذذت بها بدون وطء مع نية الرجعة، وأنكرت هي ذلك، وشهدت الشهود بإقراره صحت رجعته ما دامت الخلوة بها ثابتة، ولو بامرأتين، كما تقدم، ومثل ذلك ما إذا ادعى الرجعة، وأتى ببينة شهدت بأنها رأته قد بات عندها، أو رأيته قد اشترى لها أشياء أرسلها لها فإن الرجعة تصح بشرط أن تشهد البينة بأنها عاينت ذلك، أما إذا شهدت بإقراره أمامها قبل انقضاء العدة، فإن الرجعة لا تصح.
    وإذا راجعها فقالت: حضت ثالثة، فلا رجعة لك علي، وأتى بشهود شهدوا بأنها أخبرتهم بأنها لم تحض الثالثة، ولم يمضي وقت يمكنها أن تحيض فيه، فإن رجعته تصح، وإن لم تقم البينة على ذلك فلا تصح.
    ثالثها: أن تنقضي عدتها بالأشهر. وسيأتي بيان ذلك في مباحث العدة.
    الشافعية - قالوا: تبطل الرجعة بانقضاء العدة وهي تنقضي بثلاثة أمور:

    أحدها: وضع الحمل، فإذا ادعت أنها وضعت الحمل ولا رجعة له عليها وأنكر الزوج فإنها تصدق بيمينها بغير بينة. بشروط أن تكون المدة التي مضت بعد طلاقها يمكن أن تضع فيها الحمل ثم إن الحمل الذي تنقضي به العدة ثلاثة أقسام: الأول أن تضعه تام الخلق، فإذا وضعت ولداً تام الخلق في مدة ستة أشهر ولحظتين: لحظة الوطء ولحظة الولادة من وقت إمكان اجتماعهما بعد عقد الزواج. فقد انقضت عدتها بذلك، أما إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت إمكان اجتماعهما، فإن عدتها لا تنقضي ولا يلتفت إليه، لأن الولد يكون من غيره ويكون له الحق في الرجعة بعد ولادته ما دامت في العدة، وعدتها تنقضي بثلاثة قروء - أطهار - بعد انقضاء النفاس، وذلك لأن النفاس كالحيض لا يحسب من العدة، القسم الثاني: أن تضعه سقطاً مصوراً وهذا يشترط في انقضاء العدة به أن يمضي على سقطه مائة وعشرون يوماً ولحظتان من إمكان اجتماعهما، فإن جاءت به لأقل من ذلك مصوراً فلا تنقضي به عدتها. لأنه لا يكون ابنه.
    القسم الثالث: أن تضعه مضغة، ويشترط لانقضاء العدة بها أن يمضي على إمكان اجتماعهما ثمانون يوماً ولحظتان، على أنه يشترط لهذا شرط آخر، وهو أن تشهد القوابل أن هذه المضغة أصل آدمي، وإلا فلا تنقضي بها العدة أصلاً.
    وقد استدلوا على أن أقل مدة الحمل التام ستة أشهر بقوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} فإن مدة الفطام حولان، والباقي - وهو ستة أشهر - مدة الحمل، واستدلوا على أن أقل مدة المصور مائة وعشرون يوماً، وأقل مدة المضغة ثمانون يوماً بحديث الصحيحين.
    ثانيها: الإقراء، والقرء: الطهر من الحيض. والعدة تنقضي بثلاثة أقراء، فإذا ادعت أن عدتها انقضت بالإقراء في مدة ممكنة فإنها تصدق بيمينها بدون بينة، وأقل مدة ممكنة في الزوجة الحرة اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان. لحظة للقرء الأول، ولحظة للدخول في الحيض الثالثة، مثال ذلك: أن يطلق زوجته وهي طاهرة في آخر لحظة من ذلك الطهر، بشرط أن يكون طهراً عقب حيض، فتحيض بعد ذلك مباشرة، وترتفع الحيضة في أقل زمن الحيض وهو يوم وليلة، ثم تمكث طاهرة أقل الطهر. وهو خمسة عشر يوماً ثم تحيض يوماً وليلة أيضاً، ثم تطهر خمسة عشر يوماً ثم تحيض وبذلك يتم لها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان: لحظة الطهر الذي طلقها فيه ومدة الحيضة الأولى، وهي يوم وليلة - أربعة وعشرون ساعة - ومدة الطهر الثاني الذي يلي الحيضة الأولى، وهو خمسة عشر يوماً بلياليها ومدة الحيضة الثانية التي تلي الطهر الثاني، وهي يوم وليلة أيضاً، ومدة الطهر الثالث الذي يلي الحيضة الثانية، وهي خمسة عشر يوماً ثم لحظة من الحيضة الثالثة التي يتم بها الطهر الثالث، ومجموع ذلك اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
    هذا إذا طلقها في طهر قبله حيض، أما إذا طلقها وهي طاهر قبل أن تحيض أصلاً، فإن هذا الطهر لا يحسب من العدة لأن الطهر الذي يحسب من العدة هو ما كان بين دمين قبله وبعده، وهذه يمكن أن تنقضي عدتها بثمانية وأربعين يوماً، وذلك بأن يطلقها في آخر لحظة من ذلك الطهر الذي لا يحسب لها، فتحيض أقل الحيض يوماً وليلة، ثم تطهر أقل الطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض أقل الحيض كذلك ثم تدخل في الحيضة الرابعة بلحظة، فهذه ثلاثة أطهار بخمسة وأربعين يوماً، وثلاث حيض بثلاثة أيام، ولحظة الحيض الرابعة، فالمجموع ثمانية وأربعون ولحظة.
    هذا إذا طلقها في الطهر، أما إذا طلقها في آخر لحظة من حيضها فإنها يمكن أن تنقضي عدتها في هذه الحالة بسبعة وأربعين يوماً ولحظة من حيضة رابعة، وذلك لأنها تمكث طاهرة بعد الحيضة التي طلقها فيها خمسة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة ثم تطهر خمسة عشر يوماً، هذا هو الطهر الثالث، ثم تحيض الرابعة، ومتى رأت الدم انقضت عدتها ومجموع ذلك ثلاثة أطهار في خمسة عشر يوماً يساوي خمسة وأربعين، وحيضتان بيومين، ولحظة الحيضة الرابعة، وهو العدد المذكور.
    هذا إذا كانت حرة، أما إذا كانت أمة فإنها إذا طلقت في آخر طهر انقضت عدتها بستة عشر يوماً ولحظتين، وإذا طلقت في حيض انقضت بأحد وثلاثين يوماً ولحظة، ولا يخفى توجيه ذلك.
    واعلم أن اللحظة من الحيضة الأخيرة ليس من العدة فلا تصح الرجعة فيها، وإنما هي معتبرة للاستدلال على تكملة القرء الأخير.
    ثالثها: الأشهر فتنقضي عدة الآيسة من الحيض بثلاثة أشهر كما سيأتي إيضاحه في مباحث العدة، وهذه لا يتصور فيها خلاف، فإذا كانت آيسة من الحيض وادعت أن عدتها انقضت بالإقرار وكذبها فإنه يصدق بيمينه، وكذا إذا كانت صغيرة، فإنها إذا ادعت أنها حاضت وانقضت عدتها بالإقراء والواقع أن مثلها لا يمكن أن تحيض، فإن القول قوله، ويصدق بيمينه وقيل: يصدق بدون يمين.
    هذا، وإذا ادعى الرجعة وأنكرت فلا يخلو إما أن يكون ذلك في العدة أو بعد انقضائها، فإذا كان في العدة فإنه يصدق بيمينه، فإن قلت: إذا كانت العدة باقية فيمكنه أن يقول: راجعت زوجتي وينتهي بدلاً من الخصومة والحلف، قلت: إن هذا يشمل ما إذا وطئها في العدة وادعى أنه راجعها قبل الوطء بدون بينة وأنكرت الرجعة، لأن لها الحق في المهر بالوطء قبل الرجعة كما تقدم فإذا حلف أنه راجعها قبل الوطء فإنه يصدق، وهل تعتبر دعواه في هذه الحالة إنشاء للرجعة أو إقراراً بها؟ قولان مرجحان. ولكن الأوجه أنها إقرار، إذ لا معنى لكون الدعوى إنشاء للرجعة. أما إذا ادعى الرجعة بعد انقضاء العدة، فإن في ذلك صوراً.
    الصورة الأولى: أن يتفقا على وقت انقضاء العدة، ويختلفا في وقت الرجعة، فتقول: إن عدتها انقضت يوم الجمعة مثلاً، وهو يوافقها على ذلك، ولكن يقول: إنه راجعها يوم الخميس قبل انقضاء العدة، وهي تقول: بل راجعني يوم السبت بعد انقضاء العدة ولم تكن قد تزوجت غيره ولم يكن له بينة على رجعته، وحكم هذه الصورة أن القول للمرأة بيمينها فتحلف على العلم أي تقول والله لا أعلم أنه راجع يوم الخميس، وبذلك تصدق، ولا يكون له عليها حق الرجعة.
    الصورة الثانية: عكس الأولى، وهي أن يتفقا على وقت الرجعة، ويختلفا في وقت انقضاء العدة، والمسألة بحالها، كأن يقول: إنه رجعها يوم الجمعة، وأنها ولدت يوم السبت بعد الرجعة وهي توافقه على أنه راجعها يوم الجمعة، ولكنها ولدت يوم الخميس قبل الرجعة، وفي هذه الحالة يكون القول قول الزوج بيمينه، فيحلف بأن عدتها لم تنقض يوم الخميس وتثبت رجعته، وذلك لأنها في هذه الصورة قد اعترفت بالرجعة، فكان الأصل وجود الرجعة وعدم انقضاء العدة حال الرجعة، فيعمل بالأصل ويكون القول للزوج بعكس الصورة الأولى، فإن الاتفاق فيه على انقضاء العدة فالزوج معترف بانقضاء العدة فكأن الأصل في هذه الحالة حصول انقضاء العدة وعدم الرجعة حال انقضاء العدة، فعمل بهذا الأصل، وجعل القول للزوجة بيمينها.
    الصورة الثالثة: أن تدعي أنها ولدت قبل أن يراجعها، وهو قد ادعى أنه راجعها قبل أن تلد، ولم يعين أحدهما وقتاً، وفي هذه الحالة تقبل دعوى السابق منهما، سواء رفعها إلى حاكم أو محكم وذلك لأنها إن سبقت الزوجة، فادعت أن عدتها انقضت وأنه لم يراجعها في العدة، وحضر الزوج فوافقها على انقضاء العدة، ولكنه قال: إنه راجعها قبل انقضائها، فقد اتفقا على الانقضاء واختلفا في الرجعة، وفي هذه الحالة يكون الأصل عدم الرجعة، وإن سبق الزوج فادعى الرجعة كانت الرجعة هي الأصل، لأنه سبق بذكرها قبل أن تدعي المرأة انقضاء عدتها، فتقررت الرجعة وهي موافقة عليها إلا أنها حصلت بقضاء العدة، ولكن الأصل عدم انقضاء العدة في هذه الحالة، وبعضهم يقول: إن حضرت أمام الحاكم من غير تراخ وادعت أنه راجعها بعد العدة كان القول لها، ولكن الراجح الأول.
    والحاصل أنها إن حضرت أولاً أمام الحاكم أو المحكم وادعت أن عدتها انقضت قبل الرجعة ثبت قولها، لأن لها الحق فيه ما دام الزمن يسع انقضاء العدة وتقرر أمام الحاكم فإذا حضر بعدها وادعى أنه راجعها قبل العدة كان قوله لغواً، وإذا حضر هو أمام الحاكم وقرر أنه راجعها ثبت قوله، لأن له الحق في ذلك، فإذا حضرت بعده وقالت: إنه راجعها بعد انقضاء العدة كان قولها لغواً.
    الصورة الرابعة: أن تتزوج غيره، ثم يدعي أنه راجعها قبل أن تنقضي عدتها، ولا بينة له، وفي هذه الحالة تسمع دعواه وله عليها الحلف، فإن حلفت بأن عدتها قد انقضت فذاك وإن أقرت فإنها تلزم بدفع مهر مثلها لزوجها الأول. ولا يفسخ نكاحها من الثاني لكونه صحيحاً في الظاهر ولاحتمال أنها كاذبة في إقرارها لتتخلص من زوجها الثاني، نعم إذا مات زوجها الثاني أو طلقها فإنها ترجع إلى زوجها الأول بلا عقد جديد عملاً بإقرارها، واستردت منه المهر الذي غرمته له إذا أقام الزوج الأول بينة على أنه راجعها في العدة، فإن عقدها على الثاني يفسخ.
    وبهذا تعلم أن إقرارها بأنها تزوجت بالثاني قبل انقضاء عدت الأول لا يعتبر، لأنها كذبت نفسها، فإن إقدامها على التزوج إقرار بانقضاء العدة، فإذا قالت بعد ذلك: إن عدتها لم تنقص احتمل أنها كاذبة في الثاني لتتخلص من زوج الثاني، فلم يعمل به ولكن لما كان يحتمل أنها صادقة فيه من جهة أخرى، وقد ادعى الزوج الأول أنه راجعها، فإنه يعمل به من هذه الناحية إذا طلقت من زوجها الثاني، فتعود إليه بدون عقد جديد، أما البينة فإن الشأن فيها الصدق، ومتى شهدت بأنه راجعها قبل انقضاء العدة، فقد ثبت بطلان العقد الثاني، فيفسخ. الصورة الخامسة: أن يدعي أنه طلقها بعد أن وطئها، فله مراجعتها، وهي أنكرت الوطء وفي هذه الحالة يكون القول لها بيمينها لأن الأصل عدم الوطء، ثم إنه أقر لها بالمهر كاملاً وهي لا تدعي إلا نصفه، فإن كانت قد قبضته فلا رجوع له بشيء عملاً بإقراره وإن لم تكن قبضت فلا تطالبه عملاً بإقراره، فإن أخذت النصف، ثم اعترفت بعد ذلك بوطئه إياها، فهل تستحق النصف الآخر بناء على اعتراف الزوج الأول أو لا بد من ذلك من اعتراف جديد من الزوج؟ والمعتمد أنه لا بد فيه من اعتراف جديد.
    الصورة السادسة: أن تنكر الزوجة الرجعة، ثم تعترف بها، وفي هذه الحالة يقبل اعترافها.
    الحنابلة - قالوا: ينقطع حق الزوج في الرجعة بانقضاء العدة، فإذا انقضت العدة فلا رجعة لمفهوم قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} فإن الرد للموصوف بكونه بعلاً، وهو الزوج، فإذا انقضت العدة لم يكن بعلاً، وتنقضي العدة بأمور.
    أحدها: أن تطهر من الحيضة الثالثة إن كانت حرة. أو من الحيضة الثانية إن كانت أمة ومعنى طهرها أن تغتسل بعد انقطاع الدم، فإن لم تغتسل لا تنقضي عدتها ويكون له الحق في رجعتها، ولو مكثت عشر سنين لم تغتسل، وذلك لأن عدم الغسل يحرم على الزوج وطأها كالحيض، وحيث أن الحيض يجعل له الحق في الرجعة، فكذلك عدم الغسل، لأنه كالحيض في منع الزوج من الوطء فكان له حكمه، ولا تحل للأزواج قبل الاغتسال بحال من الأحوال ولكن إذا مات زوجها قبل أن تغتسل فلا ترثه، وكذا إذا ماتت هي لا يرثها، لأن انقطاع الدم كاف في انقضاء العدة بالنسبة للميراث، وكذا بالنسبة للطلاق، فلو طلقها ثانية بعد انقطاع دم الحيضة الأخيرة لا يلحقها الطلاق لأنها تعتبر بائنة وكذا بالنسبة للنفقة وسائر حقوق الزوجية فإنها تنقطع بانقطاع دم الحيضة الأخيرة، ولو لم تغتسل.
    والحاصل أن انقطاع دم الحيضة الأخيرة تبطل به حقوق الزوجية، ولو لم تغتسل، ماعدا الرجعة وحلها للأزواج فإنهما لا يبطلان إلا بالغسل.
    واعلم أن الحنابلة يقولون: إن القرء هو الحيض، ولا بد أن تحيض الحرة ثلاث حيضات، وأقل مدة يمكن أن تحيض فيها ثلاث حيض تسعة وعشرون يوماً ولحظة، لأن أقل الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فإذا فرض وطلقها في آخر الطهر ثم حاضت عقب الطلاق يوماً وليلة حسبت لها حيضة، فإذا طهرت واستمر طهرها ثلاثة عشر يوماً حسب بها، فإذا حاضت يوماً وليلة حسبت لها حيضة ثانية، فيكون المجموع خمسة عشر يوماً، فإذا طهرت ثلاثة عشر يوماً حسب له طهر، فإذا حاضت بعده يوماً وليلة حسبت لها حيضة ثالثة وذلك أربعة عشر يوماً، فإذا ضمت إلى خمسة عشر كان المجموع تسعة وعشرين يوماً، أما اللحظة الباقية فهي أن تدخل في الطهر من الحيضة الثالثة، لأن بهذه اللحظة يعرف انقضاء الحيضة، وهي ليست من العدة، فإن ادعت أن عدتها انقضت في اقل من هذه المدة فلا تسمع دعواها، وأما الأمة فيمكن انقضاء عدتها في خمسة عشر يوماً ولحظة.
    ثانيها: أن تضع الحمل كله بحيث لو نزل بعضه يكون له الحق في الرجعة، وإذا كانت حاملاً في اثنين ووضعت أحدهما فإن العدة لا تنقضي ما لم ينزل الثاني، ويكون له الحق في الرجعة قبل نزوله، فإن لم يراجعها حتى وضعت الحمل كله فإنه لا يكون له حق في رجعتها، وتحل للأزواج ولو لم ينقطع نفاسها، وكذا لو لم تغتسل منه، لأن العدة تنقضي بوضع الحمل لا بانقطاع النفاس ولا بالغسل منه، وإذا تزوجت المطلقة رجعياً قبل أن تنقضي عدتها فإنها تعتبر في عدة الزوج الأول حتى يطؤها الثاني. مثلاً إذا حاضت الحرة حيضتين، ثم عقد عليها آخر، فإنها تعتبر في عدة الأول بعد العقد عليها، بحيث لو حاضت مرة ثالثة بعد العقد، وطهرت منه، بأن اغتسلت بعد انقطاعها، قبل أن يطأها الزوج الثاني انقضت عدة الزوج الأول، لأن العقد الثاني لا قيمة له، فإذا راجعها قبل ذلك صحت رجعته، أما إذا وطئها الزوج الثاني فإن عدة الزوج الأول تقف عند الوطء بحيث لا يحسب حيضها بعد الوطء من عدة الزوج الأول، فيحل له رجعتها وإذا حملت من الزوج الثاني كان له الحق في رجعتها مدة الحمل وبعد الوضع أيضاً، لأن الوضع ليس منه، فبه تنقضي عدتها من الثاني، أما عدتها من الأول فباقية ولم يقطعها ظاهراً إلا وطء الزوج الثاني، وإذا رجعت إلى الأول فإنه لا يحل له وطؤها إلا بعد أن تضع حملها وتطهر من نفاسها، وإذا أمكن أن تكون حاملاً من الأول ووطئها الثاني فأكمله، فإن للأول رجعتها قبل وضعه، لأنه إن كان من الأول فرجعته صحيحة قبل الوضع، وإن كان من الثاني فالأمر ظاهر، أما إذا راجعها بعد الوضع فإن الرجعة لا تصح إلا إذا كان الولد من الثاني، كما عرفت، أما إذا كان من الأول فالرجعة باطلة، لأن العدة تكون قد انقضت بالوضع.
    هذا، وإن ادعت انقضاء عدتها بوضع الحمل كاملاً ليس سقطاً لم يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد العقد، لأن ذلك أقل مدة الحمل، أما إن ادعت أنها أسقطت الحمل فإنه لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوماً من إمكان الوطء بعد العقد، لأن العدة لا تنقضي إلا بما يبين فيه الخلق، والجنين لا يبين خلقه إلا بعد هذه المدة.
    ثالثها: الأشهر إذا كانت يائسة من الحيض ولم تكن حاملاً.
    هذا،
    وإذا قالت: قد انقضت عدتي، فقال لها: كنت قد راجعتك، ولا بينة له، فالقول قولها، لأنها تملك الادعاء بهذا في الزمن الممكن، وإن بدأ هو فقال: قد راجعتك فقالت له: قد انقضت عدتي فلم يصدقها كان القول قوله، لأنه يملك الرجعة قبل قبولها، وقد صحت في الظاهر، فلا يقبل قولها في إبطالها.
    وإذا قال لها: راجعتك أمس، فإن قال لها ذلك وهي في العدة اعتبر رجعة، وإن قال لها ذلك بعد انقضاء العدة، فإن صدقته فذاك، وإن لم تصدقه فالقول لها.
    وإن اختلفا في الوطء قبل الطلاق فادعى أنه أصابها أو خلا بها - فله عليها حق الرجعة - وأنكرت كان القول لها، لأن الأصل عدم الوطء فإن ادعت هي بعد الطلاق أنه أصابها أو خلا بها لتستحق كل المهر، وأنكر هو كان القول قوله: لأنه المنكر. وهي لا تستحق في الموضعين إلا نصف المهر، سواء أنكرت الوطء أو ادعته، ولكن إذا ادعى أنه وطئها وأنكرت، وكانت قبضت المهر فلا يرجع عليها بشيء، أما إذا لم تكن قبضته فلا تستحق إلا نصفه، وفي حالة ما إذا ادعت أنه أصابها وأنكر، فإنه يرجع عليها بنصف المهر إذا كانت قد قبضته) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الرجعة]
    صـــــ 404 الى صــــــــ
    413
    الحلقة (219)





    خاتمة في مسألتين
    -إحداهما: هل يملك الثلاث إذا عادت له بعد التزوج بغيره؟
    ثانيهما: هل المطلقة رجعياً زوجة. أو لا؟

    - 1 - إذا طلق الرجل زوجته واحدة. أو ثنتين وانقضت عدتها وتزوجت بغيره ووطئها الزوج الثاني، ثم طلقها وعادت للأول، فهل يملك عليها الطلقات الثلاث. كما لو طلقها ثلاثاً ووطئها زوج غيره، أو تعود له بما بقي من طلقة أو طلقتين؟
    - 2 - وهل المطلقة رجعياً زوجة تعامل معاملة الأزواج قبل الرجعة. أو لا؟
    أما الجواب عن المسألة الأولى: فهو أنها تعود بما بقي لها من الطلاق، سواء وطئها زوج آخر أو لا. وذلك لأن الذي يهدم عدد الطلقات هو الطلاق الثلاث فقط، فإذا طلقها ثلاثاً ثم تزوجت غيره ووطئها، وطلقها وعادت لزوجها الأول فإنه يملك عليها ثلاث طلقات، أما إذا طلقها واحدة أو ثنتين وعاد إليها فإنه يملك ما بقي فقط، سواء وطئها زوج غيره أو لا، وهذا يكاد يكون متفقاً عليه (1) وهو مروي عن عمر، وعلي، وأبي بن كعب وعمران بن الحصين.
    وأما الجواب عن المسألة الثانية، فهو أنها زوجة قبل الرجعة في غير الاستمتاع، فيه ترث من زوجها وتورث، ويصح الإيلاء منها، فإذا حلف أن لا يقرب مطلقته رجعياً مدة أربعة أشهر كان مولياً تجري عليه الأحكام الآتية في مبحث الإيلاء: ويصح لعانها، فإذا رمى مطلقته رجعياً بالزنا، ولم يأت بأربعة شهداء، تلاعنا، كما لو كانت غير مطلقة ويصح الظهار منها فإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي لزمته كفارة الظهار الآتي بيانها، ويلحقها الطلاق، فلو قال: زوجاتي طوالق، طلقة ثانياً: وإن خالعها صح الخلع، أما الزنية والاستمتاع ففيهما تفصيل المذاهب (2) .
    مباحث الإيلاء
    تعريفه
    -الإيلاء معناه في اللغة اليمين مطلقاً. سواء كان على ترك قربان زوجته. أو غيره، ومع هذا فقد كان الإيلاء على ترك وطء الزوجة في الجاهلية، له حكم خاص، وهو تحريمها حرمة مؤبدة فإذا قال: والله لا أطأ زوجتي، كان معنى ذلك عندهم تحريمها أبداً، فالمعنى اللغوي أعم من المعنى الشرعي، لأن الإيلاء في الشرع معناه الحلف على ترك وطء الزوجة خاصة فلا يطلق عند الفقهاء على الحلف على الأكل، أو الشرب، أو غير ذلك.
    وحكم الإيلاء في الشرع مغاير لحكم الإيلاء في الجاهلية، لأن الحلف به لا يحرم المرأة حرمة مؤبدة، كما ستعرفه، ثم إن الإيلاء مصدر آلي يولي إيلاء، كأعطى إعطاء، والألية اسم بمعنى اليمين، وتجمع على ألايا، كخطية وخطايا، ومثلها الألوة - بسكون اللام وتثليث الهمزة - فالألوة اسم بمعنى اليمين، ويقال أيضاً: تألى يتألى، بمعنى أقسم يقسم ومثله ائتلى يأتلي، ومنه قوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} الآية، أي لا يقسموا.
    أما معناه في الشرع، فهو الحلف على أن لا يقرب زوجته، سواء أطلق بأن قال: والله لا أطأ زوجتي، أو قيد بلفظ أبداً، بأن قال: والله لا أقربها أبداً، أو قيد بمدة أربعة أشهر فما فوق، بأن قال: والله لا أقرب زوجتي مدة خمسة أشهر، أو مدة سنة، أو طول عمرها، أو ما دامت السموات والأرض. أو نحو ذلك.
    فإن قال ذلك كان مولياً بذلك، أما إذا قيد بشهرين، أو ثلاثة، أو أربعة (3) بدون زيادة على الأربعة ولو يوماً، فإنه لا يعتبر مولياً بذلك ومثل الحلف بالله الحلف بصفة من صفاته، كما إذا قال: وقدر الله، أو علم الله ونحو ذلك، وكذا إذا حلف بغير الله وصفاته، كالطلاق والظهار، والعتق، والنذر، فإذا قال: هي طالق إن وطئتها، أو هي علي كظهر أمي إن وطأتها أو لله علي نذر أن أحج إلى بيت الله أو عبدي حر إن وطئتها، فإنه يكون مولياً بكل هذا (4) على أن تعريف الإيلاء شرعاً فيه تفصيل المذاهب (5) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: خالف في ذلك أبو حنيفة، وأبو يوسف، فقالا: إذا وطئها زوج آخر بعقد صحيح، وعادت لزوجها الأول يملك عليها الثلاث، كما لو طلقها ثلاثاً بلا فرق وهذا مروي عن ابن عباس، وابن عمر، ولكن محققي الحنفية قالوا: إن قول محمد هو الصحيح، كقول الأئمة الثلاثة، وحجتهم في ذلك أنه مروي عن كبار الصحابة، وليس من السهل مخالفتهم. وبعضهم رجح قول الصالحين، وهو الراجح فيما يظهر، لأنه إن كان الترجيح مبنياً على مجرد الرواية فالصاحبان قد رويا عن فقيهين عظيمين من فقهاء الصحابة، وكفى بابن عباس، وابن عمر حجة في الفقه، وإن كان مبنياً على الدليل، بل المعقول القريب أن وطء الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فإنه يهدم الأقل من باب أولى، وقول محمد: أن قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} جعل غاية للحرمة الكبيرة فهدمها، لا يخفى ضعفه، لأنه لم يتعرض فيها لعدد وإنما بين الحل بنكاح الثاني، ولو سلم، فإنه لم يحصر الهدم على الثلاث، بلا أفاد أنه يهدم الثلاث فغيرها أولى) .
    (2) (الحنفية - قالوا: يجوز للمطلقة رجعية أن تتزين لزوجها الحاضر لا الغائب طبعاً. ويحوم ذلك في الطلاق البائن والوفاة، ولكن بشرط أن تكون الرجعة مرجوة، بحيث لو ظنت أنها إذا تزين له حسنت في نظره فيراجعها فإنها تفعل. أما إذا كانت تعتقد أن الزينة لا فائدة منها وإن طلاقها مبني على أمر آخر فلا تفعل، ويجوز له أن يخلو بها ويدخل عليها من غير استئذان ولكن يندب له إعلامها بأن يشعرها قبل دخوله، فإن لم يفعل كره ذلك تنزيهاً، ولكن يشترط في ذلك أن يكون ناوياً الرجعة، أما إذا كان مصراً على عدم العودة إليها فيكره له الخلوة بها إذا ربما لمسها بشهوة فيكون ذلك رجعة وهو لا يريدها، فيلزمه أن يطلقها ثانياً، فتطول عليها العدة، وهو ليس بحسن فإذا لم يكن قاصداً الرجعة فيكون له تنزيهاً أن بخلو بها وإنما كره تنزيهاً لأن زوجته يباح له وطؤها بلا نية رجعة، لكن ينبغي له أن لا يطيل عليها العدة بالوطء إذا لم يكن عازماً على الرجعة، فإذا كان عازماً فلا كراهة في ذلك مطلقاً، ولها الحق في القسم إن كان لها ضرة ما دام ناوياً على مراجعتها وإلا فلا.
    وهل يصح له أن يسافر بها ويخرجها من المنزل الذي طلقت فيه إذا كان ناوياً الرجعة، أو لا؟ والجواب: أن التحقيق لا يصح إخراجها من المنزل مطلقاً قبل الرجعة بالفعل لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} الآية، كما تقدم، وبعضهم يقول: إذا نوى الرجعة فله ذلك.
    ويندب للزوج أن يشهد على الرجعة رجلين عدلين، ولو بعد الرجعة بالفعل.
    المالكية - قالوا: إذا كان ناوياً مراجعتها فإنه يحل له أن يستمتع بها بلمس ونظر إلى عورة وخلوة ووطء، فإذا فعل شيئاً من ذلك مقارناً للينة كان رجعة وكان جائزاً وإلا حرم فإذا لم يكن ناوياً على العودة لها يحرم عليه أن يخلو بها أو ينظر إلى زينتها أو يستمتع بها، بل تكون منه في ذلك بمنزلة الأجنبية، أما إذا كان عازماً على العودة، فيه زوجة في الاستمتاع كغيره.
    الشافعية - قالوا: لا يحل له أن يخلو بها أو يستمتع بها قبل الرجعة بالقول، سواء كان ناوياً مراجعتها أو لا، فهي ليبست زوجة له في الاستمتاع قبل مراجعتها بالقول، وزوجة له فيما عدا ذلك فهي زوجة له في خمسة مواضع فقط، مبنية في خمس آيات من القرآن:
    إحداها: قوله تعالى: {الذين يؤلون من نسائهم} والإيلاء يشمل المطلقة رجعياً، فهي من النساء. ثانيها: قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} ، والمطلقة رجعياً ترث وتورث، فهي داخلة في الزوجات.
    ثالثها: قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} الخ، والمطلقة رجعياً داخلة في الزوجات إذا رماها زوجها بالزنا كما ذكرنا.
    رابعها: قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} والرجعية يصح الظهار منها، كما ذكرنا فهي من نساء الرجل.
    خامسها: قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء} والرجعية تطلق، فهي من الزوجات.
    الحنابلة - قالوا: للرجعية أن تتزين لمطلقها مطلقاً، وله أن يخلو بها، ويطأها، ويستمتع بها، ويسافر بدون كراهة، سواء نوى الرجعة أو لا إلا أن الاستمتاع بها بغير الوطء لا يكون رجعة، فهي زوجة له بالنسبة للاستمتاع كغيره من الأمور المذكورة) .
    (3) (الحنفية - قالوا: أقل مدة الإيلاء أربعة أشهر فقط، فلا يشترط الزيادة عليها، كما سيأتي توضيحه في حكم الإيلاء) .
    (4) (الحنابلة - قالوا: أنه لا يكون مولياً إلا إذا حلف بالله، أو بصفة من صفاته كما هو موضح في تعريفهم الآتي) .
    (5) (الحنفية - عرفوا الإيلاء بأنه اليمين على ترك قربان الزوجة مطلقاً غير مقيد بمدة أو مقيداً بمدة أربعة أشهر فصاعداً بالله تعالى، أو تعليق القربان على فعل شاق، فقولهم: اليمين بالله شمل ما إذا حلف باسم الله أو بصفة من صفاته، وقولهم: على ترك قربان الزوجة المراد به الوطء في القبل على الوجه الآتي بيانه، وقولهم أو تعليق القربان على فعل شاق شمل ما إذا علق على طلاق كما إذا قال: إن وطئتك فأنت طالق، أو على عتق، كما إذا قال: إن أتيتك فعبدي حر، أو على نذر، كأن قربتك فعلي حج، أو صيام ولو يوم، لأنه شاق، بخلاف ما إذا قال: إن قربتك فعلي صيام هذا الشهر أو الشهر الماضي، لأن الماضي لا يصح نذره، والشهر الحاضر يمكنه أن يطأها بعد نهايته ولا شيء عليه، لنه يصير ماضياً، وكذا إذا قال: فعلي هدي، أو اعتكاف، أو يمين أو كفارة يمين، أو فعلي عتق رقبة، من غير أن يعين، أو علي صلاة مائة ركعة، ونحو ذلك مما في فعله مشقة على النفس، بخلاف ما إذا قال: علي صلاة ركعات أو إتباع جنازة، أو تسبيحات أو نحو ذلك مما لا مشقة جنازة، أو تسبيحات أو نحو ذلك مما لا مشقة فيه فإنه لا يكون مولياً، فإن أتاها، وكان مولياً بالله، كان عليه كفارة يمين، وإن كان معلقاً على طلاق وقع الطلاق، سواء علق على طلاقها أو طلاق امرأة غيرها، وإن كان معلقاً على عتق رقبة غير معينة لزمته، وإن كان معلقاً على غير ذلك لزمه وسقط الإيلاء، وإن لم يقربها فرق بينهما على الوجه الآتي.
    وبهذا تعلم أن الإيلاء إنما يصح بالطلاق، والعتاق، والظهار، والهدي، والحج، والصوم، ونحو ذلك، لأن في فعلها مشقة على النفس، أما النذر فإن كان في الوفاء به مشقة على النفس فإنه يصح الإيلاء به، وإلا فلا يصح، كما إذا قال: إن وطئتك فلله علي أن أصلي عشرين ركعة إذ لا يخفى أن صلاة عشرين ركعة لا مشقة فيها في ذاتها، وإن كانت قد يشق فعلها على بعض النفوس الضعيفة بسبب الكسل، فمن قال ذلك فإنه لا يكون مولياً، بخلاف ما إذا نذر صلاة مائة ركعة، فإن فيها مشقة في ذاتها، فيعتبر الحالف بنذرها مولياً.
    فإن قلتك إنه إذا حلف بالله، بأن قال: والله لا أطأ زوجتي يكون مولياً، بل هو الأصل في الإيلاء، مع أنه إذا وطئ امرأته لا يلزمه فعل شيء شاق، والجواب: أنه يلزمه كفارة اليمين، وظاهر أن الكفارة فعل شاق، وأورد على هذا أمران.
    أحدهما: إيلاء الذمي باليمين، كأن يقول: والله لا أطأ زوجتي، فإنه يكون بذلك مولياً عند الإمام بحيث لو رفع إلينا الأمر فإننا نحكم بكونه مولياً، مع انه إذا وطئها فلا كفارة عليه، لأن الذمي غير مخاطب بالكفارة وأجيب: بأنه يلزمه الإيلاء لأنه معاملة لا عبادة، ولا تلزمه الكفارة لأنها عبادة، وهو ليس من أهل العبادة، فهي مستثنى من هذا الحكم لعارض الكفر.
    ثانيهما: أنه إذا قال: والله لا أطأ زوجاتي الأربع، فإن له أن يطأ ثلاثاً منهم بدون كفارة وبهذا يكون قد آلى من زوجاته بدون أن يفعل أمراً شاقاً.
    والجواب: أنه إذا قال: والله لا أطأ زوجاتي الأربع كان معناه أنه حلف على ترك وطء الأربع جميعاً، فإذا أتى بعضهن لا يحنث، بل يحنث إذا أتى الأربع، فإذا أتى الثلاث وترك واحدة صار مولياً منها وحدها، ونظير ذلك ما إذا حلف لا يكلم زيداً، وعمراً، ثم كلم زيداً فقط فإنه لا يحنث، فإذا كلم عمراً بعد زيد حنث، كما إذا كلمهما معاً وكذا لو قال لزوجته، وأمته: والله لا أقربكما، ثم أتى زوجته وحدها فإنه لا يكون مولياً، فإذا أتى الأمة بعدها كان مولياً من زوجته لتوقف الحلف على اتيانهما معاً.
    الحنابلة - قالوا: الإيلاء حلف زوج - يمكنه أن يجامع - بالله تعالى أو صفة من صفاته على ترك وطء امرأته ولو قبل الدخول في قبلها، فقولهم: زوج خرج به سيد الأمة، فإنه لو حلف أن لا يطأ أمته لا يكون مولياً، وقولهم: يمكنه أن يجامع خرج به الصغير الذي لا يمكنه الجماع، ومثله العنين، والمجبوب، فإن حلف هؤلاء لا يكون إيلاء شرعياً وقولهم: بالله أو صفة من صفاته خرج به الحلف بالكعبة، والنبي، والطلاق، والعتق والظهار، ونحو ذلك، فإن من حلف بها لا يكون مولياً، وقولهم على ترك وطء امرأته في قبلها خرج به ما لو حلف على ترك وطئها في دبرها أو بين فخذيها أو نحو ذلك، مما سيأتي تفصيله.
    وهل الحلف بالنذر، كالحلف بالله، أو كالحلف بغيره؟ خلاف، فلو قال لها: إن وطئتك فالله علي أن أصلي عشرين ركعة، كان مولياً ينتظر له أربعة أشهر، ثم يعمل معه ما يعمل مع المولي، وبعضهم يقول: إنه يكون مولياً لأن الحلف بالنذر كغيره ليس بيمين، وهو الظاهر، وذلك لأن الحنابلة قالوا: إن الإيلاء هو قسم، والقسم لا يكون إلا بالله أو صفة من صفاته، فإذا علق الحلف على الوطء بالطلاق، كأن قال: إن جامعتك فأنت طالق، أو علقه على العتق، كان قال: إن أتيتك فعبدي حر، أو علقه على ظهار، كأن قال: إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي، أو علي نذر كأن قال: إن جامعتك فعلي حج أو صدقة، أو نحو ذلك. فإنه لا يكون بكل هذا مولياً، لأن العليق بالشرط ليس فيه معنى القسم، ولذا لم يؤت فيه بحرف القسم، غايته أن يشارك القسم في المنع من الفعل أو الترك، فتسميته حلفاً من باب التجوز، فالحالف بالتعلق كالحلف بالكعبة في أن كل منهما ليس قسماً، فإذا حلف بشيء من ذلك وجامعها كان عليها جزاؤه فيقع طلاقه. ويلزمه عتقه، ونذره، وصلاته، وصيامه، وإن لم يجامعها لم يكن مولياً. نعم للزوجة إذا تركها زوجها أربعة أشهر - ولو بدون إيلاء - الحق في رفع أمرها للحاكم ليأمره بإتيانها، أو بطلاقها كما سيأتي في حكم الإيلاء.
    وإذا قال لها: إن وطئتك فلله علي صوم أمس، فإنه لا يلزمه بوطئها شيء، لأن نذر الماضي لا يلزم، ومثل ذلك ما إذا قال لها: إن وطئتك فعلي صوم هذا الشهر، ثم وطئها بعد انقضائه، فإنه لا يلزمه شيء لأنه صار ماضياً، أما إذا قال لها: إن وطئتك فعلي صيام الشهر الذي أطؤك فيه، ثم وطئها كان عليه أن يصوم ما بقي من ذلك الشهر.
    وإذا قال لها: والله لا أطؤك إن شاء الله، ثم وطئها، فلا شيء عليه، لأن الاستثناء ينفعه، ومن هنا يتضح لك أن الحنابلة يخالفون الحنفية وباقي الأئمة في أن التعليقات ليست قسماً على التحقيق، فلا يعتبرونها إيلاء إلا أنهم مع هذا يوجبون جزاءها إذا فعل المعلق عليه، على أنه لا فرق بينهم وبين غيرهم في النتيجة لأنهم يحتمون على ما حلف بها أن يأتي زوجته بعد أربع أشهر، أو يطلق، وإن لم يكن مولياً.
    المالكية - قالوا: الإيلاء شرعاً هو حلف زوج مسلم، مكلف يمكنه أن يجامع النساء على ترك وطء زوجته غير المرضعة أكثر من أربعة أشهر إن كان حراً، وأكثر من شهرين إن كان رقيقاً، فقوله حلف زوج يشمل ثلاث أنواع: النوع الأول: الحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته، كأن يقول: والله لا أطؤك أصلاً، أو لا أطؤك مدة خمسة أشهر، ومثل ذلك ما إذا قال: وعلم الله وقدرة الله ونحو ذلك. النوع الثاني: التزام أمر معين يصح التزامه من طلاق، وعتق وصدقة، وصلاة وصيام، وحج، وأمثلة ذلك هي أن يقول: إن وطئتك فأنت طالق، فعلي عتق عبدي فلان، أو فعلي جنيه صدقة، أو فعلي صلاة مائة ركعة، أو فعلي صيام شهر، أو فعلي المشي إلى مكة، ويسمى هذا نذراً معيناً، النوع الثالث: التزام أمر مبهم، كأن يقول: علي نذر إن وطئتك، أو علي صدقة إن وطئتك.
    أما إذا قال: علي نذر أن لا أطأك، أو أن لا أقربك، فإن فيه خلاف، فبعضهم يقول: إنه يكون مولياً بذلك وبعضهم يقول: لا، ووجه الأول أن معنى قول القائل: علي نذر أن لا أطأك إن انتفى وطؤك فعلي نذر فقد علق النذر في الواقع على عدم وطء زوجته، وعدم وطء الزوجة معصية، والنذر المعلق على المعصية لازم، ووجه القول الثاني أن هذا ليس بتعليق، وإنما معناه مصدر مأخوذ من - أن ... والفعل فكأنه قال: عدم وطئك نذر علي، وهذا نذر للمعصية لا تعليق للنذر على معصية، ونذر المعصية لا يصح.
    وبهذا تعلم أن الخلاف دائر على أنه تعليق، أو ليس تعليق؟ فمن يقول: إنه تعليق للنذر على عدم الوطء، يقول: إنه لازم، لأن تعليق النذر على المعصية لازم، ومن يقول: إنه ليس بتعليق وإنما هو مبتدأ وخبر، فكأنه قال: عدم وطئك علي نذر، فإنه يقول: إنه غير لازم لأنه نذر للمعصية لا تعليق النذر على المعصية، فلا يصح الإيلاء به، فإن كان التعلق صريحاً فلا خلاف في أنه يصح به الإيلاء سواء كان النذر معيناً، أو مبهماً، كما في الصورة التي قبل هذه، وهي إن وطئتك فعلي نذر، فإنه علق النذر على وطئها، فهو لازم بلا كلام، وقوله مسلم خرج به إيلاء الكافر فإنه لا يكون مولياً، بحلفه، خلافاً للأئمة الثلاثة، فإنهم يقولون: إن إيلاء الكافر صحيح كما ستعرفه في الشروط، وقد استل الأئمة على رأيهم بقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} الخ.
    والموصول من صيغ العموم يشمل المسلم، والكافر، والحر، والعبد، وأجاب المالكية عن ذلك بأن ذلك يصح إذا بقي الموصول على عمومه، ولكن قوله تعالى بعد ذلك، {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} يدل على تخصيص - الذين - بالمسلمين، لأن الذين يغفر الله لهم بالرجوع إلى وطء زوجاتهم هم المسلمون، أما الكافر فهو خارج عن رحمة الله على أي حال وقد أجيب عن هذا بأن قاعدة مذهب المالكية تفيد أن الكافر يعذب على الكفر وعلى المعصية، فلا يعذبه عليه، وهو وجيه، وقوله مكلف خرج به إيلاء الصبي والمجنون، فإن إيلاءهما لا ينعقد، كالكافر، وقوله: يمكنه أن يجامع النساء خرج به المجبوب، والخصي، والشيخ الفاني العاجز عن إتيان النساء، أما المريض الذي يمنعه مرضه عن إتيان النساء حال مرضه، فإنه يصح الإيلاء منه ما لم يقيده بمدة المرض فإنه لا يكون مولياً في هذه الحالة لأنه لا يقدر على الوطء فيها بطبيعته، وقوله: على ترك وطء زوجته يشمل ما إذا كلن الترك منجزاً أو معلقاً فمثال المنجز أن يقول لها: والله لا أطؤك أكثر من أربعة أشهر ومثال المعلق أن يقول لها: لا أطؤك ما دمت في هذه الدار أو في هذه البلدة، فكما أن اليمين تارة يكون منجزاً، وتارة يكون معلقاً فكذلك ترك الوطء، تارة يكون منجزاً وتارة يكون معلقاً. وكذلك الزوجة تارة تكون منجزة، وتارة تكون معلقة فأما المنجزة فظاهرة وأما المعلقة، فمثالها أن يقول: إن تزوجت فلانة فوالله لا أطؤها مدة خمسة أشهر مثلاً، أو يقول: والله لا أطأ فلانة وهي أجنبية، ثم يتزوجها فإنه يكون مولياً بذلك، وهذا هو المشهور، وبعضهم يقول: لا إيلاء على الزوجة المعلقة لقوله تعالى: {للذين يؤولون من نسائهم} فجعل الإيلاء خاصاً ولا يخفى أن الأجنبيات لا يدخلن في نساء الرجل، ولكن المشهور هو الأول.
    فالحاصل أن اليمين تارة يكون منجزاً، وتارة يكون معلقاً، وقد عرفت الأمثلة في أنواع الحلف وكذا المحلوف عليه، وهو ترك الوطء تارة يكون منجزاً وتارة يكون معلقاً، وكذلك الواقع عليها الحلف، وهي الزوجة وقد عرفت الأمثلة، وقوله: غير المرضعة خرج به المرضعة، فإنه إذا حلف أن لا يطأها ما دامت مرضعة فإنه لا يكون مولياً، بشرط أن يقصد مصلحة الولد أو لم يقصد شيئاً، أما إن قصد منع نفسه من جماعها بدون سبب فإنه يكون مولياً، وقوله: أكثر من أربعة أشهر خرج به ما إذا حلف أن لا يقربها أربعة أشهر أو أقل، فإنه لا يكون مولياً بذلك فلا بد من الزيادة على الأربعة ولو بيوم، وهو رأي الأئمة الثلاثة خلافاً للحنفية، فإنهم يقولون: إنه يكون مولياً بالأربعة بدون زيادة عليه.
    الشافعية - قالوا: الإيلاء هو حلف زوج يتصور وطؤه ويصح طلاقه على امتناعه من وطء زوجته التي يتصور وطؤها في قبلها مطلقاً، أو فوق أربعة أشهر، فقوله: حلف، يشمل ثلاثة أشياء.
    الأول: الحلف باسم من اسمائه تعالى أو صفة من صفاته، كقوله: والله لا أطأ زوجتي، أو وقدرة الله لا أطأ زوجتي.
    الثاني: يتعلق الطلاق أو العتق على الوطء كما إذا قال: إن وطئتك فأنت طالق، أو إن وطئتك فضرتك طالق. ومثل ذلك ما إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر فقد علق بذلك طلاقها أو طلاق ضرتها على وطئها، كما علق عتق عبده على وطئها.
    الثالث: الحلف بالتزام النذر، كصلاة وصيام، وغيرهما من القرب كما إذا قال: إن وطئتك فالله علي صلاة، أو صيام، أو علي عتق، أو علي حج، أو صدقة، أو نحو ذلك، فهذه هي الأمور الثلاثة التي ينعقد بها الحلف على وطء الزوجة. ويكون الزوج بها مولياً وسيأتي بيان حكم كل واحد منها في مبحث حكم الإيلاء.
    وقوله: زوج، يشمل المسلم، والكافر، ويشمل الكبير والصغير، والحر والعبد، ويشمل أيضاً السكران، فلو حلف وهو سكران ألا يطأ زوجته كان مولياً، ويشمل أيضاً المريض الخصي - وهو مقطوع الأنثيين القادر على الوطء والمجبوب الذي لا يقدر على الوطء إذا حلف وقوله: يتصور وطؤه خرج به الصبي الذي لا يعرف الوطء وكذا من أصيب بشلل في عضو التناسل فعجز عن الوطء أو قطع ذكره بحيث لم يبق منه القد الذي يصلح للوطء، لأن إيلاء مثل هذا لا معنى له، إذ هو عجز بطبيعة الحال. وهذا بخلاف المريض الذي يرجى برؤه، فإن إيلاءه يصح ما لم يقيد بمدة المرض، فإنه في هذه الحالة لا يكون لإيلائه معنى، لأنه عاجز بطبيعته، فلا إيذاء للزوجة من حلفه.
    وقوله: يصح طلاقه به إيلاء من لا يصح طلاقه كالصبي، والمجنون، والمكره، فإن إيلاء هؤلاء لا يصح، وإنما قال: زوج ليخرج غير الزوج، فلو حلف شخص لا يطأ هنداً، وهي غير زوجة له لا يكون مولياً منها إذا تزوجها، وإنما يكون مقسماً، فلو وطئها يكون عليه كفارة يمين وقد عرفت فيما تقدم أن الحلف بالطلاق على الأجنبية لا يقع.
    وقوله: من وطء زوجته خرج به ما إذا حلف على ترك وطء أمته فإنه لا يكون مولياً، إلا إذا الأمة زوجة. فإن الإيلاء يصح منها كالحرة.
    وقوله: التي يتصور وطؤها خرج به الصغيرة التي لا تطيق الوطء فإذا حلف أن لا يطأها سنة وكانت تطيق الوطء بعد ستة أشهر إلا قليلاً، فإنه يكون مولياً منها، لأن المدة من السنة التي تطيق فيها الوطء هي مدة الإيلاء، ومثل الصغيرة التي لا تطيق الوطء من بها علة تمنع الوطء كما إذا كانت رتقاء، بخلاف ما إذا كانت مريضة مرضاً لا يمنع الوطء أو يمنعه مؤقتاً فإن الإيلاء يصح، ولكن لا يكون لها الحق في المطالبة بالرجعة إلى الوطء إلا بعد برأها، كما يأتي في حكم الإيلاء.
    وقوله: في قبلها خرج به ما إذا حلف أن لا يطأها في دبرها، فإنه لا يكون مولياً بذلك، لأنه حلف على ترك فعل مطلوب تركه، هذا بخلاف ما إذا قال: والله لا أطؤها إلا في دبرها فإنه يكون بذلك مولياً، فكأنه قال: والله لا أطؤها في قبلها، ولو قال: والله لا أطؤها إلا وهي حائض أو إلا وهي صائمة رمضان، أو إلا في المسجد، فإنه لا يكون مولياً بذلك، وذلك لأنه وإن كان قد حلف أن لا يطأها في وقت يحرم عليه وطؤها، ولكن ليس فيه حلف على ترك وطئها في قبلها والتحريم لعارض الحيض ونحوه لا يمنع من جواز الوطء في المحل، بخلاف ما إذا حلف أن لا يأتيها إلا في الدبر، لأن تحريمه ذاتي، وإذا حلف أن يطأها بين فخذيها أو نحو ذلك فإنه لا يكون مولياً.
    وقوله: مطلقاً شمل ما لم يقيد المدة بوقت ما. كما إذا قال لها: إن وطئتك فأنت طالق أو قيدها بما يفيد التأبيد كما إذا قال لها: والله لا أطؤك أبداً، أو طول عمرك، أو حتى ينزل المسيح. أو حتى تقوم الساعة، أو قيدها بما يزيد على أربعة أشهر ولو لحظة، كما إذا قال لها: والله لا أطؤك أربعة أشهر وخمس دقائق مثلاً، أما إذا قال لها: أربعة أشهر فقط. أو أقل فإنه لا يكون مولياً بذلك) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,148

    افتراضي رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله

    الفقه على المذاهب الأربعة
    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
    الجزء الرابع
    [مباحث الإيلاء]
    صـــــ 413 الى صــــــــ
    430
    الحلقة (220)



    أركان الإيلاء وشروطه
    -أركان الإيلاء ستة (1) : محلوف به، ومحلوف عليه، وصيغة، ومدة، وزوجان، فأما المحلوف به فهو اليمين المتقدم بيانه في التعريف عليه فهو الوطء، فإذا قال: والله لا أطأ زوجتي كان الوطء محلوفاً عليه، واسم الله محلوف به، وكذا إذا قال: علي الطلاق لا يطؤها فإن الطلاق محلوف به، والوطء محلوف عليه، وقد يعلق المحلوف عليه على الزوجة باعتبار كون الوطء قائماً بها وأما الصيغة فهي صيغة اليمين بأقسامه المتقدمة، وأما المدة فهي مدة الإيلاء، وهي أن لا يطأها مدة تزيد على أربعة أشهر (2) .
    ولكل واحد منها شروط مفصلة في المذاهب (3) .
    حكم الإيلاء ودليله
    -للإيلاء حكمان: حكم أخروي وهو الإثم إن لم يفئ إليها، وحكم دنيوي، وهو طلاقها بعد أربعة أشهر على الوجه الآتي، وقد ثبت ذلك بقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ، ومعنى يؤلون يقسمون وقوله: {من نسائهم} متعلق {بيؤلون} لأنه متضمن معنى البعد عن النساء، ولهذا عدي - بمن - أما آلى بدون ملاحظة البعد فإنه يتعدى - بعلى - يقال: آلى - على - امرأته - لا من - امرأته.
    وقد عرفت أن الإيلاء على النساء كان معروفاً عند العرب ومستعملاً في ترك وطء المرأة، وكان حكمه عندهم تحريمها تحريماً مؤبداً، فقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} معناه للذين يقسمون على ترك وطء نسائهم، ترقب أربعة أشهر، فإن فاءوا ورجعوا إلى الوطء الذي حلفوا على تركه فإن ذلك يكون توبة منهم عن ذلك الذنب، فالله يغفره لهم بالكفارة عنه.
    ومن هذا يتضح أن الإيلاء حرام لما فيه من الاضرار بالمرأة بالهجر وترك ما هو ضروري لازم للطبائع البشرية وايجاد النوع الإنساني وحرمانها من لذة أودعها الله فيها لتحتمل في سبيلها مشقة تربية الذرية ومتاعها، وإشعارها بكراهيته وانصرافه عنها، وكل ذلك إيذاء لها، فإن قلت: إن ذلك يقتضي أن لا يمهله الّه أربعة أشهر. قلت إن الحكمة في إمهاله هذه المدة المحافظة على علاقة الزوجية، ومعالجة بقائها بما هو غالب على طبائع الناس، فإن البعد عن الزوجة مثل هذا الزمن فيه تشويق للزوج إليها، فيحمله على زنة حاله معها وزناً صحيحاً، فإذا لم تتأثر نفسه بالبعد عنها ولم يبال بها، سهل عليه فراقها، وإلا عاد إليها نادماً على اساءتها مصراً على حسن معاشرتها، وكذلك المرأة، فإن هجرها من وسائل تأديبها، فقد تكون سبباً في انصرافه عنها باهمال زينتها أو بمعاملته معاملة توجب النفرة منها، فبعده عنها هذه المدة زاجراً لها عما عساه أن يفرط عنها، فانتظار هذه المدة لازم ضروري لبقاء الزوجية.
    وقوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} يحتمل أمرين: أحدهما إن أصروا على تنفيذ يمينهم وهجروا نسائهم فلم يقربوهن حتى انقضت المدة المذكورة، وهي أربعة أشهر، فإن ذلك يكون إصراراً منهم على الطلاق، فيكون طلاقاً ولو لم يطلقوا (4) أو تطلب المرأة الطلاق، فانقضاء المدة في ذاته طلاق، ووجه ذلك أن قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} الخ كلام مفصل بقوله {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا} الخ، واللغة تقتضي أن المفصل - بكسر الصاد - يقع عقب المفصل بدون فاصل، فيجب أن تقع الفيئة - بمعنى الرجعة - إلى الجماع أو يقع الطلاق عقب انقضاء مدة أربعة أشهر بدون فاصل من طلب المرأة أو تطليق الرجل، ونظير ذلك أن يقول شخص لآخر: إنني نزلت بجواركم، فإن أعجبكم ذلك مكثت وإلا رحلت فإن معنى هذا إن لم ترضوا عني رحلت بدون أن أعمل أي عمل آخر سوى الرحيل.
    المعنى الثاني: أن معنى قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} أي عزموا على الطلاق بعد مضي المدة، فالعزم على الطلاق لا يتحقق إلا بعد مضي المدة، بأن يطلقها من تلقاء نفسه، أو ترفع الأمر للقاضي على الوجه الذي ستعرفه.
    فالفاء في قوله تعالى: {فإن فاؤوا} للتعقيب، أي فإن فاؤوا عقب مضي المدة إلى جماع زوجاتهم وأخرجوا كفارة أيمانهم {فإن الله غفور رحيم وإن عزموا} على الطلاق عقب انقضاء المدة {فإن الله سميع عليم} وعلى الأول أن يكون معنى قوله تعالى: {فإن الله سميع عليم} سميع لإيلائهم عليهم بما يترتب عليه من ظلم المرأة وإيذائها بانقضاء المدة من غير فيئة، فيعاقبهم عليه، ففيه تهديد للذين يصرون على هجر الزوجة حتى تنقضي المدة التي يترتب على انقضائها تطليقها، وعلى الثاني يكون تهديداً لمن طلق بعد انقضاء المدة، أو طلق عليه الحاكم، ويتعلق بهذه الآية أمور مفصلة في المذاهب (5) .
    __________
    (1) (الحنفية - قالوا: ركن الإيلاء شيء واحد، وهو صيغة الحلف بناء على ما تقدم من أن الركن هو ما كان داخل الماهية، وإنما تتحقق ماهية الإيلاء بالصيغة، أما هذه الأشياء فإنها شروط للماهية، وقد عرفت أن الذين يعدونها شروطاً فإنما يريدون من الركن ما لا تتحقق الماهية إلا به، سواء كان داخلاً في ماهيتها أو لا) .
    (2) (الحنفية - قالوا: مدة الإيلاء أربعة أشهر فقط بدون زيادة) .
    (3) (الحنفية - قالوا: يشترط في صيغة اليمين شروط:

    أحدها أن يجمع بين زوجته وامرأة أخرى، فلو قال: والله لا أطأ زوجتي وأمتي أو لا أطأ زوجتي وفلانة الأجنبية، فإنه يكون مولياً من امرأته بذلك. إذ يمكنه أن يطأها وحدها ولا كفارة عليه، كما تقدم في التعريف.
    ثانيها: أن لا يستثني بعض المدة، فإذا استثنى فإنه لا يكون مولياً في الحال، مثلاً إذا قال لها والله لا أطؤك سنة إلا يوماً فإنه لا يكون مولياً في الحال. ثم إذا مكث سنة لم يقربها حتى ولا في اليوم الذي استثناه لا يحنث في يمينه، لأنه لم يصرح بأنه يقربها في اليوم الذي استثناه، بل أباح لنفسه قربانها في يوم منكر من أيام السنة، فله أن يقربها في يوم شائع في أيام السنة كلها، فإن حلف بهذا كان له أن يقربها في يوم يختاره عقب الحلف، فإن قربها ينظر إن كان قد بقي من السنة أربعة أشهر فأكثر بعد القربان صار مولياً بمجرد غروب شمس ذلك اليوم الذي قربها فيه بحيث لو أتاها بعد ذلك حنث وتجب عليه الكفارة، وإن لم يأتها ومكث أربعة أشهر كاملة من غروب شمس ذلك اليوم ولم يقربها بانت بطلقة على الوجه المتقدم.
    أما إذا أتاها بعد حلفه يوماً، وكان الباقي من السنة أقل من أربعة أشهر فإنه لا يكون مولياً وعلى هذا لو حلف أول السنة بأنه لا يقربها سنة إلا يوماً كانت يمينه منحلة باستثناء هذا اليوم، فلا يمكن اعتباره مولياً، لأن له أن يقربها في أي يوم من أيام السنة، فيحتمل أن يقربها قبل مضي أربعة أشهر فلا يكون مولياً إلا بعد أن يقربها ذلك اليوم الذي قد استثناه، فإذا قربها وكان الباقي من السنة أربع أشهر فأكثر كان مولياً، وإلا فلا يكون مولياً، ومثل ذلك ما إذا قال: والله لا أقربك سنة إلا ساعة، فإن الساعة لا يجعله مولياً في الحال، أما إذا قال: والله لا أقربك سنة إلا يوماً أقربك فيه فإنه لا يكون مولياً أبداً، سواء قربها أو لا، وذلك لأنه قد صرح بقربانها في يوم من أيام السنة ومتى صرح بذلك فقد انحلت اليمين فلا إيلاء، ولو قال: والله لا أقربك إلا يوماً، وحذف سنة، فإنه لا يكون مولياً إلا إذا قربها، فإذا قربها كان مولياً إيلاء مؤبداً.
    ثالثها: أن لا تكون مقيدة بمكان، فإذا قال: والله لا أطأ زوجتي في دار أبيها لا يكون مولياً لانحلال اليمين بوطئها في مكان آخر.
    رابعها: أن لا تكون مشتملة على المنع عن القربان فقط، فلو قال لها: إن وطئتك إلى الفراش فأنت طالق، فإنه لا يكون مولياً لأنه يمكن أن يحل اليمين بدعوتها إلى الفراش، فإذا دعاها إلى الفراش طلقت، ثم بعد ذلك له إتيانها في أي وقت بدون أن يلزمه شيء.
    ويشترط في الزوج أن يكون أهلاً للطلاق، بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا يصح إيلاء المجنون، والصبي، ولا يشترط الإسلام، فيصح إيلاء الذمي، إلا إذا حلف بما هو قربة دينية، كما لو قال: إن وطئتك فعلي حج، فإنه لا يكون بهذا مولياً باتفاق، أما إن قال: إن وطئتك فعلي عتق عبد فإنه يكون مولياً باتفاق ويلزمه العتق، فإن حلف بالله أنه لا يطؤها فإن إيلاءه يصح عند أبي حنيفة ولا يصح عندهم، وقد تقدم بيانه في التعريف، وكذا يصح إيلاء العبد إذا حلف بشيء غير مالي لأن تصرفاته المالية لا تنفذ، فلو قال: إن وطئتك فعلي عتق رقبة أو فعلي صدقة، فإنه لا يكون مولياً بذلك.
    ويشترط في المدة أن تكون أربعة أشهر كاملة للحرة بدون زيادة، كما تقدم أما إذا كان متزوجاً أمة فإن مدة الإيلاء منها شهران، سواء كان الزوج حراً أو عبداً. وبذلك تعلم أنه يصح الإيلاء مع مانع يمنع الوطء، ولو كان خلقياً كالجب، والصغر ونحوه، كما ستعرفه في بيان حكمه. هذا، وتنقسم الصيغة إلى قسمين: صريحة، وهي كل لفظ يدل على إتيان المرأة بمجرد سماعه بحيث يكون استعماله في هذا المعنى غالباً، كالجماع، والوطء، والقربان، والمباضعة، وإدخال الذكر في الفرج، ونحو ذلك، فلو ادعى في الصريح أنه لم يرد الجماع فإنه لا يصدق قضاء، ولكن يصدق ديانة، أما الكناية فهي ما دل على الجماع، ولكن يحتمل غيره، ولا يتبادر إلى الذهن، كقوله: والله لا أمسها، لا آتيها، لا أدخل بها، لا أغشاها، لا تجمع بين رأسي ورأسها مخدة، لا أبيت معها في فراش، لا أصاحبها، أو والله ليغيظها، ولا يكون بذلك مولياً إلا بالنية.
    المالكية - قالوا: يشترط في الصيغة شروط: أحدها أن لا تشتمل على ترك وطء الزوجة تنجيزاً أو تعليقاً، كما تقدم بيانه في التعريف، فلو قال: والله لأهجرن زوجتي أو لا أكلمها، فإنه لا يكون مولياً بذلك. ثانيها: أن لا يقيدها بزمان خاص، كأن يقول: والله لا أطؤها ليلاً، أو والله لا أطؤها نهاراً، وهذا بخلاف ما إذا قال: والله لا أطؤك حتى تخرجي من البلد، فإنه يكون مولياً إذا كان خروجها من البلد فيه معرة عليها، ومثل ذلك ما إذا قال: في هذه الدار وإذا ترك وطأها بدون إيلاء أو حلف لا ينزل فيها منيه فإن لها أن ترفع الأمر للقاضي ليطلقها عليه وللقاضي أن يطلق عليه فوراً بدون أن يضرب له أجلاً، وله أن يضرب له أجلاً. ثالثها: أن لا يستثني، فلو قال: والله لا أطؤك في هذه السنة إلا مرتين، فإنه لا يلزمه الإيلاء، لأنه يمكنه أن يترك وطأها أربعة أشهر، ثم يطؤها، ثم يتركها أربعة أشهر أخرى، ثم يطؤها، وتبقى أشهر أخرى أقل من مدة الإيلاء، فلا يحنث ولا يكون مولياً بذلك، وإذا قال لها: والله لا أطؤك في هذه السنة إلا مرة، فإنه لا يكون مولياً حتى يطأها، ثم تكون المدة الباقية من السنة أكثر من أربعة أشهر للحر وأكثر من شهرين للعبد. رابعها: أن لا يلزمه بيمينه حكم، كما إذا قال: إن وطئتك فكل فلس أملكه يكون صدقة فهذه اليمين حرج ومشقة، فلا يلزمه بها حكم، فلا يكون مولياً بها، ويشترط في الزوج أن يكون مسلماً ولو عبداً، وأن يكون مكلفاً فلا يصح إيلاء الصبي، والمجنون، وأن يتصور منه الإيلاء، فخرج المجنون، والصغير، والخصي، والشيخ الفاني، ويشترط في الزوجة أن تكون مرضعة، وقد تقدم إيضاح هذه القيود في التعريف فارجع إليها إن شئت.
    ويشترط في المدة أن تكون أكثر من أربعة أشهر ولو بيوم على المعتمد، وبعضهم يقول: بعشرة أيام إذا كان حراً، وأما العبد فيشترط أن تكون زيادة عن شهرين.
    الشافعية - قالوا: يشترط في الزوجين أن يتأتى من كل واحد منهما الجماع، فإذا كان الزوج صغيراً أو مجبوباً أو نحو ذلك، فإنه لا يصح منه الإيلاء، ويشترط في صيغة اليمين أن تكون اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته، أو تعليقاً، أو نذراً، كما تقدم في التعريف، ويشترط في المحلوف عليه أن يكون ترك الوطء بخصوصه، فلو حلف على ترك الاستمتاع بها فيما دون ذلك فإنه لا يصح، ويشترط في المدة أن تزيد على أربعة أشهر ولو بلحظة، ويشترط في الصيغة أن تكون لفظاً يشعر بترك الوطء، وقد إيضاح ذلك في التعريف. فارجع إليه.
    وتنقسم الصيغة إلى قسمين: الأول صريحة، كأن يقول: والله لا يقع مني تغييب حشفة في فرجك، أو والله لا أطؤك، أو لا أجامعك، فإن قال: أردت الوطء بشيء آخر، فإنه يصدق ديانة لا قضاء، ولو قال: أردت بالفرج الدبر فإنه يصدق ديانة أيضاً. الثاني: كناية، كقوله والله لا أمسك أو لا أباضعك، أو لا أباشرك، أو لا آتيك، أو لا أغشاك، فإنه لا يكون مولياً إلا إذا نوى الجماع، وذلك لأن هذه الألفاظ لم تشهر فيه.
    الحنابلة - قالوا: للإيلاء أربعة شروط:
    الأول: أن يحلف الزوج على ترك الجماع في القبل خاصة.
    ثانيها: أن يحلف بالله أو صفة من صفاته، ثم إن المحلوف عليه تارة يكون صريحاً يعامل به قضاء وديانة، وهي كل لفظ دل على إتيان المرأة صريحاً، كإدخال الذكر في الفرج ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا تحتمل غير هذا المعنى، وتارة يكون صريحاً في القضاء فقط وهي كل لفظ دل على الجماع عرفاً. ومن ذلك أن يقول: والله لا وطئتك، أو لا جامعتك، أو لا باضعتك، أو نحو ذلك، وحكم هذا أنه يعامل به قضاء، ولا يسمع منه أنه أراد معنى آخر، ولكن إن كان صادقاً فإنه ينفعه بينه وبين الله، وتارة لا يكون مولياً إلا بالنية، كقوله: والله لا أنام معك في فراش واحد ونحو ذلك، فإذا لم ينو ترك الجماع فإنه لا يكون مولياً.
    ثالثها: أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر.
    رابعها: أن يكون من زوج يمكنه الوطء.
    وذلك تعلم أنه يصح من مسلم، وكافر، وحر، وعبد، وبالغ، ومميز، وغضبان، وسكران، ومريض مرضاً يرجى برؤه، كما يصح من زوجة يمكن وطؤها، سواء دخل بها أو لم يدخل، ولا يصح من مجنون وعاجز عن الوطء بسبب شلل في عضو التناسل أو قطع أو نحو ذلك) .
    (4) (الحنفية - قالوا: هذا هو الذي يجب العمل به، فمتى مضت المدة طلقت منه طلقة بائنة بدون عمل آخر، وسيأتي إيضاح مذهبهم في التفصيل الذي بعد هذا، وخالفهم الأئمة الثلاثة) .
    (5) (الحنفية - قالوا: متى انقضت مدة أربعة أشهر من تاريخ الحلف ولم يطأها فإنها تطلق منه طلقة واحدة بائنة بدون أن ترفع الأمر إلى القاضي وبدون أن يطلقها هو، فإذا أقر قبل انقضاء المدة أمام شهود أنه جامعها، ثم انقضت المدة وادعت الزوجة أنها بانت منه بعدم وطئها في المدة، وادعى هو أنه وطئها وأقر بذلك أمام شهود، وشهدت الشهود على إقراره فإنه يصح ولا تبين منه، ثم إن وقع الإيلاء في غرة الشهر، أي في أول ليلة منه اعتبرت الأشهر الأربعة بالأهلة، وإن وقع في وسط الشهر ففيه خلاف، فبعضهم يقول: تعتبر المدة بالأيام وبعضهم يقول: يعتبر الشهر الأول بالأيام، أما الشهر الثاني، والثالث، والرابع فتعتبر بالأهلة، ثم يكمل ما نقص من الشهر الأول بأيام من الشهر الخامس، مثلاً إذا آلى منها في نصف شعبان حسبت الخمسة عشر يوماً الباقية من شعبان، ثم يحسب رمضان وشوال وذو القعدة بالأهلة، ويؤخذ من ذي الحجة خمسة عشر يوماً يكمل بها شعبان، والرأي الثاني أحوط، كما لا يخفى، ثم إذا مضت المدة ولم يقربها وبانت منه، فإن في ذلك ثلاث صور:
    الصورة الأولى: أن يحدد مدة واحدة، كأن يحلف بالطلاق الثلاث أن لا يطأها مدة أربعة أشهر ثم مضت الأربعة أشهر ولم يقربها فإنها تبين منه ويسقط الحلف بحيث لو جدد عليها العقد، فإنه يطؤها ولا يمين عليه، وهذا ظاهر لأن يمينه مؤقتة.
    الصورة الثانية: أن يزيد مدة ثانية، كأن يحلف بالطلاق الثلاث أن لا يقربها مدة ثمانية أشهر وفي هذه الحالة إذا وطئها قبل انقضاء المدة لزمه الطلاق الثلاث، وإذا لم يقربها ومضت أربعة أشهر بانت منه، فإذا جدد عليها العقد بعد ذلك وصارت زوجة له ووطئها قبل مضي الأربعة أشهر الباقية وقع عليه الطلاق الثلاث، أما إذا تركها حتى تمضي الأربعة أشهر وتتم المدة التي حلف أن لا يقربها فيها عليه الطلاق الثلاث، فإنها تبين منه بينونة أخرى ويسقط الحلف فإذا جدد عليها العقد ثانياً كان له وطؤها كما يشاء، فإذا قال لها: إن وطئها في مدة سنة تكون طالقاً ثلاثاً، وانتظر المدة الأولى فبانت منه، ثم جدد عقده عليها، ولم يطأها حتى مضت المدة الثانية، وهي تكملة الأشهر الثمانية، فبانت منه ثانياً ثم مضى عليها بعد انقضاء المدة الثانية زمن ولو يسير جدد فيه العقد عليها فإنه لا يكون مولياً بما بقي لأنه أقل من أربعة أشهر لانقضاء زمن من الأربعة أشهر الباقية لم تكن زوجة له فيه والشرط أن تكون مدة الإيلاء أربعة أشهر كاملة، ولا يشترط الزيادة علياه.
    الصورة الثالثة: أن لا يحدد مدة، سواء قيد بلفظ الأبد، كأن يحلف بالطلاق الثلاث أن لا يقربها أبداً، أو دائماً، أو طول عمرها، أو لم يقيد بشيء أصلاً، كأن يحلف أن لا يطأها وتحت هذه الصورة أربعة أوجه:
    الوجه الأول: أن يطأها قبل انقضاء أربعة شهور، وحكم هذا أنه يلزمه الطلاق الثلاث.
    الوجه الثاني: أن لا يطأها حتى تمضي أربعة شهور، وحكم هذا أنها تبين منه مرة بانقضاء أربعة أشهر، فإن جدد عليها العقد ثانياً كان مولياً وبانت منه بعد مضي مدة أخرى، فإن جدد عليها العقد ثالثاً كان مولياً وتبين منه بعد مضي مدة أخرى، وبذلك لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فإذا تزوجت غيره وطلقها، وعادت إلى الزوج الأول لم يكن مولياً ولم تطلق بوطئها، لأن ملك الزوج الأول قد انتهى بالثلاث وعادت إليه بملك جديد لا إيلاء فيه.
    الوجه الثالث: أن يحلف بالثلاث أن لا يقربها أبداً، ولا يقربها حتى تمضي أربعة شهور فتبين منه مرة واحدة وتتزوج غيره، ثم تطلق وترجع إلى الأول، وفي هذه الحالة لا يسقط الإيلاء فإن وطئها وقع عليه الطلاق الثلاث الذي حلف به قبل أن تتزوج غيره أما إذا لم يطأها فإنها تبين منه بعد مضي أربعة شهور، فإن عقد عليها ثانياً كان مولياً وبانت منه بعد مضي مدة ثانية، فإن وطئها وقع عليه الثلاث، وإلا بانت منه بعد مضي مدة ثالثة، وبذلك لا تحل له إلا إذا نكحها زوج غيره، وذلك لأن الزوج الثاني يهدم عدد طلقات الزوج الأول، سواء كانت ثلاثاً أو أقل، - عند الإمام - فتعود الزوجة له بثلاث طلقات، وحيث أنها تزوجت قبل أن ينقطع عنه ملكها لأن المفروض أنها تزوجت بعد أن بانت منه مرة أو مرتين، فإن الإيلاء المؤبد لا يسقط فتعود إليه بثلاث طلقات، وحيث أنه مول فلا تقع الطلقة إلا بمضي مدة الإيلاء، وهي أربعة أشهر، فيقع في كل مدة طلاق بائن، ولكنك قد عرفت أن المعتمد أنها تعود إليها بما بقي، فإذا بانت منه مدة الإيلاء، ثم تزوجت غيره ورجعت إليه ثانياً فإنها ترجع إليه بطلقتين فقط، وعلى هذا إذا عقد عليها ولم يطأها بانت منه بواحدة بعد أربعة شهور، فإن عقد عليها ثانياً ولم يطأها، ومضت مدة أربعة شهور بانت منه نهائياً، لأن الأولى محسوبة عليه، فإذا تزوجت غيره ورجعت إليه ثانياً سقط بذلك الإيلاء.
    الوجه الرابع: أن يحلف بالثلاث أن لا يطأها أبداً، ولكن قبل أن يطأها وقبل أن تبين منه بانقضاء أربعة شهور طلقها ثلاثاً، ثم انقضت عدتها وتزوجت غيره، وعادت إليه ثانياً فإنه يملكها بثلاث طلقات ويسقط الإيلاء، فلا شيء عليه إذا وطئها، لأن الطلاق الثلاث أبطل الإيلاء وأخرج الزوجة عن ملكه، ونظير ذلك ما إذا قال لها: إن دخلت بك فأنت طالق ثلاثاً، ثم طلقها قبل الدخول بها طلاقاً ثلاثاً منجزاً، فتزوجت بغيره وطلقت، ثم رجعت له ثانياً ودخل بها، فإن طلاقه المعلق على الدخول بها لا يقع، وذلك لأن الطلاق الثلاث المنجز أبطل الطلاق الثلاث المعلق وهذا هو المعتمد، خلافاً لمن قال: إن الطلاق الثلاث المنجز لا يبطل الإيلاء ولا يبطل المعلق، وهذا هو بخلاف ما إذا حلف بالثلاث أن لا يطأها، ثم طلقها طلقة واحدة بائنة قبل انقضاء مدة أربعة شهور، أو طلقها طلقتين ثم تزوجت غيره بعد انقضاء عدتها وطلقت وتزوجها ثانياً فإن الإيلاء في هذه الحالة لا يسقط.
    لأن الذي يسقطه هو الطلاق الثلاث فقط يسقط بالطلقة الواحدة أو الطلقتين، فإذا عادت إليه في هذه الحالة ووطئها وقع عليه الثلاث، وإن لم يطأها كان في أمرها الخلاف بين محمد، وأبي حنيفة، فمحمد يقول: تعود إليه بما بقي، فلا يملك عليها إلا طلاقاً إن كانت قد بانت منه مرتين، أو طلاقين إن بانت منه واحدة، أما أبو حنيفة فإنه يقول: تعود إليه بالطلقات الثلاث، لأن الزوج الثاني هدم عدد طلقات الأول، سواء كانت ثلاثاً أو أقل وقد تقدم إيضاحه في الوجه الثالث، على أنهم أجمعوا على ضرورة تجديد العقد عند انقضاء كل مدة، فإذا انقضت أربعة شهور وبانت منه، ولم يجدد عليها العقد حتى مضت أربعة شهور أخرى ثم جدد عليها العقد فإن المدة الأولى لا تحسب، فلا يتكرر الطلاق إلا بعد تجديد العقد على المعتمد، بالمدة الحالة تحتسب من وقت تزوجها، سواء كان في العدة أو بعد انقضائها.
    هذا، واعلم أنه إذا حلف بالله أن لا يطأها، ثم مضت مدة الإيلاء، وبانت منه وانقضت وتزوجت بغيره، ورجعت إليه ثانياً، ووطئها حنث في يمينه ووجبت عليه الكفارة، وذلك لأن التزوج بالغير لا يسقط اليمين بالله، وإنما يسقط اليمين بالطلاق.
    وإذا آلى من مطلقته طلاقاً رجعياً فإن الإيلاء يصح وتحسب المدة من وقت الإيلاء، فإذا انقضت العدة قبل مضي أربعة شهور بانت بانقضاء العدة وبطل الإيلاء، فلا تبين منه ثانياً بمدة الإيلاء أما إذا لم تنقض قبل مدة الإيلاء كما إذا كانت ممتدة الطهر فإنها تبين بمضي مدة الإيلاء وإذا آلى من زوجته ثم طلقها طلاقاً بائناً قبل انقضاء مدة الإيلاء، ففيه تفصيل، وهو أنه إذا انقضت مدة الإيلاء قبل انقضاء العدة بانت واحدة بالإيلاء، وذلك لأن إبانتها بعد الإيلاء لا تقطع حكم الإيلاء مادامت في العدة، فإذا انقضت عدتها بانت بأخرى، أما إذا انقضت عدتها قبل انقضاء مدة الإيلاء، فإن حكم الإيلاء يسقط وتبين واحدة بانقضاء العدة.
    وإذا حلف أن يطأ أجنبية فإنه لا يكون مولياً منها، ولكن إذا تزوجها ووطئها حنث وعليه الكفارة، فإذا حلف أنه لا يطؤها إن تزوجها فإنه يكون مولياً منها.
    وتحصل الفيئة بالوطء في القبل، ولو كان مكرهاً، أو مجنوناً، بأن حلف وهو عاقل ثم جن أما المجنون قبل الحلف فإن إيلاءه لا ينعقد كالصغير، لأنه يشترط لصحة الإيلاء أن يكون المولى أهلاً، كما في الشروط.
    والأهلية إنما تعتبر عند الحلف لا بعده، فإذا انقضت المدة وكان بالزوجة مانع طبيعي من صغر، ورتق، أو مرض لا يمكن معه وطؤها، أو كانت ناشزة ولا يعرف مكانها، فإن الفيئة في هذه الحالة تكون باللسان، كأن يقول: فئت إليها، أو أبطلت إيلائي، أو رجعت عما قلت، ونحو ذلك، فمتى قال ذلك فإنها لا تطلق بمضي المدة المذكورة، أما اليمين فإن كانت معلقة، بأن كان طلاقاً معلقاً على وطئها، أو عتقاً، أو نذراً، فإنه يبقى على حاله بحيث لو زال المانع ووطئها لزمه الطلاق، أو العتق، أو النذر الخ، وإن كان يميناً لزمته الكفارة.
    هذا إذا لم يكن مقيداً، أما إذا كان مقيداً بمدة، كما لو حلف لا يقربها أربعة أشهر، وانقضت وهي معذورة فإنها لا تبين منه، وإذا وطئها لا يلزمه شيء لانحلال اليمين بمضي المدة بخلاف ما إذا كانت باليمين مطلقة، أو مؤبدة، فإنه إذا وطئها لزمه كفارتها، أو جزاؤها، ومثل ذلك ما إذا كان المانع قائماً بالزوج، كما إذا عرضت له عنة، أو كان محبوساً في محل لا يمكنها الوصول إليه فيه، أو كان مسافراً وبينهما مسافة لا يمكن قطعها في مدة أربعة أشهر، أو نحو ذلك، فإن فيئته تكون باللسان أيضاً، ولكن يشترط في الحبس أن يكون بغير حق، فإن كان محبوساً بحق فإنه لا يكفي منه بفيئة اللسان، بل تبين منه بانقضاء المدة، وإذا كان مريضاً مرضاً يرجى زواله ولكنه يمنعه عن الوطء عند انقضاء المدة فإن فيئته تكون باللسان بثلاثة شروط:
    الشرط الأول: أن تبقى الزوجية قائمة بينهما إلى وقت الفيئة، فلو مضت أربعة أشهر كاملة ولم يقل: فئت إليها ونحوه فإنها تبين منه، فإذا قال بعد ذلك فلا ينفع، فلو تزوجها ثانياً بعقد جديد وهو مريض عاد الإيلاء، بحيث لو لم يطأها حتى مضت المدة بانت منه ثانياً.
    وقد عرفت أنه إذا قدر على وطئها لزمته الكفارة، أو الجزاء على أي حال، وهذا بخلاف ما إذا كان صحيحاً وآلى من زوجته ومضت مدة أربعة، فبانت منه ثم وطئها بعد بينونتها، فإن الإيلاء يسقط وتلزمه الكفارة أو الجزاء، فإذا عقد عليها بعد ذلك لا يكون مولياً منها، بحيث لو لم يجامعها حتى مضت أربعة أشهر لا تبين منه.
    الشرط الثاني: أن يكون مرض موجباً لعجزه عن الجماع.
    الشرط الثالث: أن يدوم عجزه هذه المدة بحيث يحلف وهو مريض عاجز عن الجماع ويستمر عجزه. أما إذا حلف أن لا يطأها وهو صحيح وبقي صحيحاً مدة يمكنه أن يجامع فيها ثم مرض واستمر عاجزاً عن الجماع أربعة أشهر ولم يطأها، فإنها تبين منه ولا تنفعه الفيئة باللسان لأن الشرط أن يستمر عجزه كل مدة الإيلاء بحيث لا يبرأ وقتاً يستطيع فيه وطؤها، فإذا آلى وهو مريض ثم مرضت هي أيضاً بعد مرضه، ولكنه برئ قبل مضي المدة واستمرت هي مريضة إلى انقضاء المدةـ فقيل: إنها تبين منه، ولا تنفعه الفيئة باللسان، وذلك لأن مرضه هو سبب في الترخيص له بالفيئة اللسانية ومرضها هي سبب آخر، والقاعدة أن سبب الرخصة إذا تعدد في زمن آخر عمل بالأول وألغي الثاني وقد عرفت أنه مرض أولاً، ثم مرضت هي ثانياً، فسبب هو مرضه، أما مرضها فقد ألغي حيث برئ فإن سبب رخصته قد زال، وبعضهم يقول: إن فيئته تكون باللسان في هذه الحالة، لأن مرض زوجته مانع، على أن هذا فيما إذا حصل السببان في زمن واحد، أما إذا حصلا في زمنين مختلفين فإنه يعمل بهما، مثلاً إذا قال لها: والله لا أطؤك أبداً، وهو مريض، ثم مضت مدة الإيلاء فبانت منه، ثم صح وتزوجها ثانياً فإن الإيلاء يعود. كما عرفت، فإذا مرض ثانياً ففيئته باللسان، ولا تعتبر الصحة في هذه الحالة، وسبب الرخصة، وهو مرضه، قد تعدد في زمنين لا في زمن واحد، فالسبب الثاني قد جاء بعد زوال الزمن الأول، فلم يلغ الثاني، وهذا هو المعتمد.
    فإذا قام بالزوجة أو الزوج مانع شرعي، كما إذا كانت حائضاً أو كان أحدهما متلبساً بالإحرام وكان بينه وبين التحلل مدة تزيد على أربعة أشهر أو نحو ذلك فإن الفيئة لا تكون إلا بالجماع، أما الفيئة باللسان فإنها لا تنفع، وذلك لأن الوطء ممكن، غايته أنه معصية، وحيث أنه قد حلف وعصى الله من الأصل فاليحتمل جزاء إثمه، فإذا وطئها في هذه الحالة فقد عصى وإذا تركها فقد بانت منه. فهو على أي الحالتين خاسر.
    ومن هذا تعلم أنه إذا وطئها وهي حائض أو نفساء، فإنه يأثم، ولكن الإيلاء يسقط بذلك وتجب الكفارة، أو الجزاء.
    هذا وإذا آلى من زوجته، ثم ارتد ولحق بدار الحرب بانت منه وسقط الإيلاء، لأن ملكه زال بلحوقه بدار الحرب مرتداً وبطل الإيلاء على الصحيح، وقيل: لا يبطل بحيث لو أسلم وتزوجها ثانياً رجع الإيلاء، والصحيح أنه لا يرجع.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •