الدرس السادس والأربعون
غزوة تبوك
في رجب من السنة التاسعة كانت غزوة تبوك.
وتقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قُضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك.
وقد عزم النبي ﷺ على غزو الروم لنشر دين الإِسلام في هذه البلاد التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد غزوة مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوَّة؛ فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطورية في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، إلَّا أنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين، وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإِسلامية أن تُنْشَر بين ساكني تلك الدول، التي يمنع حكامها الظالمون المسلمين من نشر الدين الحق فيها.
والذي جعل النبيَّ ﷺ يخرج في هذا الوقت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدة وعُسرة، هو وصول خبر إلى المدينة أنَّ أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبيَّ ﷺ يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم.
فنادى منادي رسول الله ﷺ في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي ﷺ أن يُعْلم الصحابة بوجهته الحقيقة إنما كان ﷺ إذا أراد غزوة يغزوها وَرَّى بغيرها.
عن كَعْبِ بن مَالِكٍ ﭬ قال: كَانَ رَسُولُ الله ﷺ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى [أي: أوهم] بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ الله ﷺ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا [المفاز: الفلاة التي لا ماء فيها]، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ.
وأمر النبي ﷺ أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العُسْرة، فقَالَ النَّبِي ﷺ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بن عفان ﭬ.
وقد تبرع عُثْمَانُ رضي الله عنه من المال فقط بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَجاء بها فنْثَرَهَا في حِجْرِ النبي ﷺ، فجعل النَّبِي ﷺ يُقَلِّبُهَا في حِجْرِهِ، وَيَقُولُ: «ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ».
وأخذ المنافقون يثبطون المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾ [التوبة: 81].
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 81].
يُبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمره ﷺ أشدُّ حرًا مما فروا منه.
وجاء المعذِّرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي ﷺ ضعفهم وفقرهم وعدم استطاعتهم الخروج معه ﷺ، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية مستأذنين النبي ﷺ في عدم الخروج.