تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 64

الموضوع: دروس في السيرة النبوية

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس السادس عشر
    خروج النبي ﷺ من مكة إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام
    لما مات أبو طالب وخديجة رضي الله عنها واشتد إيذاء قريش للنبي ﷺ؛ قرر النبي ﷺ الخروج إلى مكان آخر غير مكة يلقي فيه دعوته، لعله يجد من ينصره ويُؤويه حتى يبلغ رسالة ربه؛ فخرج النبي ﷺ إلى الطائف يلتمس النصرة من قبيلة ثقيف التي كانت تسكن الطائف، وتبعد الطائف عن مكة حوالي 110 كيلو مترًا؛ فلما ذهب النبي ﷺ إلى الطائف لم يجد ما كان يتمناه، بل رفضوا دعوته ﷺ وآذوه أذى شديدًا.
    عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي ﷺ فقالت له: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيل بن عبد كُلَال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فَلَم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما رَدُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثم قال: يا محمد إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الجبلين، فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
    ثم لما كان النبي ﷺ في طريق الرجوع إلى مكة، ونزل بوادي نخلة القريب من مكة يصلي ويقرأ القرآن، نزل عليه مجموعة من الجن، فلما سمعوه أنصتوا، وكانوا تسعة: أحدهم اسمه زوبعة، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (32)﴾ [الأحقاف: 29 - 32].
    فكان نزول الجن على النبي ﷺ وإيمانهم به تسليةً من الله تعالى للنبي ﷺ بعد الأذى الذي لاقاه في الطائف.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس السابع عشر
    عَرْضُ النبي ﷺ الإسلام على القبائل في موسم الحج
    كان النبي ﷺ يستغل مواسم الحج وإقبال الناس وتوافدهم إلى بيت الله الحرام للدعوة إلى دينه ورسالته لَعَلَّ أحدًا أن يستجيب له فيؤويه وينصره بعد ما كذبه قومه.
    فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نَبِيِّهِ ﷺ خرج رسول الله ﷺ يَعْرِضُ نفسه على القبائل كعادته فالتقى بمجموعة من قبيلة الخزرج أراد الله بهم خيرًا.
    فقال لهم النبي ﷺ: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
    وكانت اليهود تسكن المدينة مع الخزرج، فكانوا إذا كان بينهم شجار قالت اليهود لهم: إن نبيًّا مبعوث الآن قد اقترب زمانه، نَتَّبِعُهُ فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كَلَّمَ رسول الله ﷺ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه لَلنَّبيُّ الذي تهددكم به يهود، فلا يسبقوكم إليه.
    فآمن به هؤلاء الرجال، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله تعالى بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإنْ يجمعهم الله على هذا الدين فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا، وهم ستة نفر جميعهم من الخزرج:
    1 - أسعد بن زرارة.
    2 - عوف بن الحارث.
    3 - رافع بن مالك بن العجلان.
    4 - قطبة بن عامر بن حديدة.
    5 - عقبة بن عامر بن نابي.
    6 - جابر بن عبد الله بن رئاب.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثامن عشر
    رحلة الإسراء والمعراج
    ثم كافأ الله عز وجل رسولَه ﷺ وسَرَّى عنه برحلة الإسراء والمعراج؛ فأراه من آياته الكبرى ما جعل قلبه ﷺ يطمئن ويثبت، وينكشف عنه ما به من هَمٍّ وحزن وأسى بعد وفاة عمه وزوجته ڤ وما لاقاه من إعراض قومه عن دعوته.
    فبينما كان النبي ﷺ مضطجعًا عند الكعبة في الحِجْر بين النائم واليقظان إذ أتاه ملَك فشق من رقبته إلى بطنه ﷺ، فاستخرج قلبه ﷺ ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بإناء من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره ﷺ، ثم أغلقه، ثم جِيء النبيُّ ﷺ بدابة أبيض يقال له: البراق، أكبر من الحمار وأصغر من البغل تقع خطوته عند نهاية بصره، فاستصعب عليه ركوبه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه، فركب النبي ﷺ حتى أتى بيت المقدس، فربط النبي ﷺ الدابة بالحلقة التي يربط به الأنبياء، ثم دخل المسجد، فصلى بالنبيين والمرسلين إمامًا، ثم خرج، فجاءه جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار النبي ﷺ اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة [أي: الإسلام].
    يقول النبي ﷺ: ثم أخذ جبريل بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد ﷺ، فقال: أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدَة [أي: جَمْعٌ مِنَ الناس] وعلى يساره أسودة، إذا نظر هذا الرجل ناحية يمينه ضحك، وإذا نظر ناحية يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خَلُصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فَسَلِّمْ عليهما، فسلمت فردَّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال: هذا يوسف فَسَلِّم عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إلى إدريس قال: هذا إدريس فَسَلِّمْ عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فَسَلِّم عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فَسَلِّم عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بُعِثَ بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك، فَسَلِّم عليه، قال: فسلمت عليه فَرَدَّ السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رُفِعْتُ إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلَالِ هَجَرَ وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفُرات، ثم رُفِعَ لي البيتُ المعمور، ثم أُتِيتُ بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فُرِضَتْ عَلَيَّ الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت، فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله فرجعت، فَأُمْرْتُ بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال: مثله فرجعت، فَأُمِرْتُ بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بِمَ أمرتَ، قلت: أُمِرْتُ بخمس صلوات كل يوم، قال: إنَّ أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال ﷺ: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وَأُسَلِّمْ، قال: فلما جاوزتُ نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس التاسع عشر
    بيعة العقبة الأولى والثانية
    فلما كان موسم الحج من العام الثاني عشر من البعثة -أي بعد عام فقط من التقاء النبي ﷺ بالأنصاريين الستة أقبل على رسول الله ﷺ وفد من الأنصار قِوَامُهُ اثنا عشر رجلًا، عشرة من الخزرج وهم:
    1 - أسعد بن زُرَارَةَ.
    2 - عوف بن الحارث.
    3 - رافع بن مالك بن العجلان.
    4 - قطبة بن عامر بن حديدة.
    5 - عقبة بن عامر بن نابي.
    6 - معاذ بن الحارث بن عفراء.
    7 - ذكوان بن عبد قيس.
    8 - عبادة بن الصامت.
    9 - يزيد بن ثعلبة.
    10 - العباس بن عبادة بن نَضْلَةَ بن مالك بن العجلان.
    واثنان من الأوس وهم:
    11 - أبو الهيثم بن التَيِّهَان.
    12 - عُوَيْمُ بن ساعدة.
    فَلَمْ يتخلف من الستة الأول إلا جابر بن عبد الله بن رئاب فقط.
    فبايع هذا الوفد رسول الله ﷺ بيعة العقبة الأولى؛ حيث بايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئًا، ولا يزنون، ولا يسرقون، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يعصون الله.
    فانطلق القوم بعد ذلك عائدين إلى المدينة المنورة، فأرسل معهم النبي ﷺ مصعب بن عمير ﭬ وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يُسمى في المدينة بالمقرئ.
    ثم كانت بيعة العقبة الثانية في الموسم التالي مباشرة في السنه الثالثه عشرة من البعثة.
    لما عاد أصحاب البيعة الأولى إلى المدينة المنورة، ونشروا الإسلام بين الناس، حتى لم يبق بيت إلى ودخله الإسلام، اجتمع المسلمون وقالوا: حتى متى نترك رسول الله ﷺ للمشركين يؤذونه؟ فرحل إلى النبي ﷺ سبعون رجلًا من المدينة، حتى التقوا بالنبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة»، فبايعوه على ذلك.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس العشرون
    الهجرة إلى المدينة المنورة
    رأى النبي ﷺ دار الهجرة في رؤية منامية؛ حيث رأى ﷺ أنه هاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فإذا هي المدينة؛ فكان ذلك وحيًا من الله تعالى وإيذانًا له ﷺ بأن يأمر أصحابه بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الجهاد والدعوة في سبيل الله.
    فذكر النبي ﷺ الرؤية لأصحابه، فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنورة.
    فكان أول من خرج مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وبلال، وسعد، وعمار بن ياسر، وأبو سلمة، ثم خرج عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي ﷺ.
    وتأخر النبي ﷺ وحبس معه أبا بكر وعليًّا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، حيث كان المشركون يضعون ودائعهم عند النبي ﷺ؛ لِمَا يعلمون من صدقه وأمانته ﷺ.
    ثم عزم النبي ﷺ على الهجرة فجاء إلى أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ﭬ جالسًا في بيته وقت الظهيرة، فاستأذن رسول الله ﷺ، فأَذِن له أبوبكر ﭬ، فدخل فقال النبي ﷺ لأبي بكر: أَخْرِجْ مَنْ عندك، فقال أبو بكر: إنما هُمْ أهلك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: فإني قد أُذِنَ لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحابة يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم، فقال أبو بكر ﭬ: فخذ يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله ﷺ: بالثَّمن.
    فجهزت عائشة وأسماء ﭭ الراحلتين، وجهَّزا طعامًا، ثم لَحِقَ رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور، فاختفيا فيه ثلاث ليال، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، ثم يخرج من عندهما في السحر، فيأتيهما بخبر مكة، وكان عامر بن فُهَيْرَةَ مولى أبي بكر يسرح بالغنم فيأتيهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيشربان من لبن الغنم، ثم يرحل عنهما قبل الفجر، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
    وفي تلك الأثناء تفطن المشركون أن رسول الله ﷺ وأبا بكر قد خرجا، فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة، حتى إن أبا بكر ﭬ سمع صوت أقدامهم حول الغار، فرفع رأسه فإذا هو بأقدام القوم، فقال: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، فقال له ﷺ: اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما.
    ثم استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلًا عالمًا بالطريق إلى المدينة، وكان هذا الرجل على دين كفار قريش، ولكنهما أَمِنَاه.
    ثم خرجوا في وقت الظهيرة، والطريق خالٍ لا يمر فيه أحد.
    فمشوا تلك الليلة كلها حتى أصبحوا، يقول أبو بكر ﭬ: فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بَعْدُ فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانًا ينام فيه النبي ﷺ في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، فحلب لي، قال أبو بكر: فأتيت النبي وكرهت أن أوقظه من نومه، فوافقته قد استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن للرحيل؟، قلت: بلي، قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: يا رسول الله أُتِينَا فقال ﷺ: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله ﷺ فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال سراقة: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليَّ فَادْعوَا لي، فاللهُ لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا النبيُّ ﷺ اللهَ فخرجت فرس سراقة.
    فلما نجا سراقة قص على رسول الله ﷺ أخبار قريش وأنهم جعلوا فيه الدية لمن يأتي به ﷺ، ثم عرض سراقة على النبي ﷺ الزاد والمتاع، فلم يأخذ النبي ﷺ منه شيئًا، إلا أن قال له ﷺ: أَخْفِ عنا.
    ووفى سراقة بما وعد به رسول الله ﷺ فكان لا يلقى أحدًا إلا رده.
    وَمَرَّ النبي ﷺ وأبو بكر ﭬ على أم معبد، وكانت عندها شاة ضعيفة لا تحلب من قلة الأكل، فنظر رسول الله ﷺ إلى الشاة، وقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة لم تخرج مع الغنم لضعفها، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: إنْ رأيت بها لبنًا فاحْلُبها، فدعا بها رسول الله ﷺ فمسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها فدرَّت، فحلب رسول الله ﷺ في إناء، ثم سقاها حتى رَوِيَت، وسقى الرجل الذي كان معهما ليدلهما على الطريق وعامر بن فُهيرة حتى رَوَوا، ثم حلب فيه الثانية حتى ملأ الإناء، ثم ارتحلوا عنها، فجاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا ضعيفة من قلة الطعام، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، فقال: من أين لك هذا يا أم معبد ولا حلوب في البيت؟ قالت: مَرَّ بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، فوصفت أم معبد النبي ﷺ، فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكِرَ لنا من أمره ما ذُكِرَ، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا.
    وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ﷺ من مكة فكانوا يخرجون كل يوم ينتظرونه، ثم يعودون إلى بيوتهم إذا اشتد عليهم حَرُّ الظهيرة، وفي يوم وبعدما عادوا إلى منازلهم قدِمَ رسول الله ﷺ، فرآه رجل من اليهود، فنادى اليهودي بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جَدُّكُمُ الذي تنتظرون، فخرج المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله ﷺ.
    فلبث رسول الله ﷺ في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء.
    ثم أراد النبي ﷺ دخول المدينة المنورة، فارتحل، فلما قدم المدينة تنازعوا أيهم يَنْزِل عليه رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله, يا محمد يا رسول الله، فقال النبي ﷺ: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، فقال ﷺ: فانطلق فهيئ لنا مقيلًا.
    فنزل النبي ﷺ في دار الصحابي الجليل خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري.
    فأقام النبي ﷺ في السُّفْل وأبو أيوب في العُلْو، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله ﷺ، فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: السفل أرفق، فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول النبي ﷺ في العلو، وأبو أيوب في السفل، فكان يصنع للنبي ﷺ طعامًا، فكان أبو أيوب يأتي بعدما يأكل النبي ﷺ فيسأل عن موضع أصابع النبي ﷺ فيتتبع أبو أيوب موضع أصابعه، وفي يوم صنع له طعامًا فيه ثُوم، فسأل أبو أيوب عن موضع أصابع النبي ﷺ فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ فقال النبي ﷺ: لا ولكني أكرهه، قال أبو أيوب: فإني أكره ما تكره.
    وحينما دخل النبي ﷺ المدينة وكان راكبًا راحلته سار بها حتى بركت عند مسجد الرسول ﷺ بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكانت هذه الأرض ملكًا لغلامين يتيمين اسمهما سهل وسهيل، فقال رسول الله ﷺ حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله ﷺ الغلامين لشراء الأرض منهما وبناء المسجد عليها، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا، وكان رسول الله ﷺ يَنْقِلُ معهم اللَّبِنَ لبناء المسجد، ويقول وهو يَنْقِلُ اللَّبِنَ:
    اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ

    فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَه ْ
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الحادي والعشرون
    النبي ﷺ يعقد معاهدة مع اليهود بالمدينة
    ثم بعدما استقر النبي ﷺ بالمدينة قام بعقد معاهدة مع اليهود؛ وكانوا ثلاث قبائل يسكنون المدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
    وكانت أهم بنود هذه المعاهدة:
    أولًا: أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه المعاهدة.
    ثانيًا: أن اليهود ينفقون مع المسلمين في الحرب.
    ثالثًا: لا يخرج أحد من اليهود من المدينة للقتال إلا بإذن النبي ﷺ.
    وقد منع هذا البند اليهود من الخروج من المدينة إلا بعد استئذان النبي ﷺ، وهذا القيد على تحركاتهم ربما يستهدف بالدرجة الأولى منعهم من القيام بنشاط عسكري كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها.
    رابعًا: إذا حدث خلاف بين أهل هذه المعاهدة فإنَّ مردَّه إلى الله ورسوله ﷺ.
    اعترف اليهود بموجب هذا البند بوجود سلطة قضائية عُليا يَرْجِع إليها سائرُ سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكنَّ اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائمًا بل فقط عندما يكون الشجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي ﷺ، وقد خَيَّرَ القرآنُ الكريمُ النبيَّ ﷺ بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ﴿فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين ﴾ [المائدة: 42].
    خامسًا: أنه لا يحل لأهل هذه المعاهدة حماية قريش ولا حماية من نصرهم.
    قد منع هذا البند اليهود من حماية قريش أو نصرها، وكان النبي ﷺ يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلابد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي حماية اليهود لتجارة قريش إلى وقوع الخلاف بين اليهود وبين المسلمين.
    سادسًا: أن بينهم النصر على من أراد غزو المدينة.
    سابعًا: أن هذه المعاهدة لا تحمي ظالمًا أو آثمًا.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثاني والعشرون
    المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
    وفي السنة الأولى من الهجرة آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك رضي الله عنه، وكانوا تسعين رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار؛ حيث أراد النبي ﷺ توطيد العلاقة بين المهاجرين وإخوانهم من الأنصار، فحدث ما أراده النبي ﷺ وقويت العلاقة بين المهاجرين والأنصار حتى صاروا كالجسد الواحد، وصار كل واحد يفضل أخاه على نفسه، حتى قالت الأنصار للنبي ﷺ: اقسم بيننا وبين إخواننا من المهاجرين ما نملكه من نخيل، فقال النبي ﷺ: لا، فقالت الأنصار: إذًا يقوم إخواننا من المهاجرين برعاية الأرض على أن يشاركونا في الثمار، فوافق النبي ﷺ.
    وآخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع ﭭ، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال له عبد الرحمن ﭬ: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فذهب عبد الرحمن إلى السوق، وعمِل، ثم عاد ومعه الخير الكثير، واستمر عبد الرحمن بن عوف في العمل حتى صار من أغنياء المدينة.
    وقد وصف الله تعالى تلك المحبة وذلك الإيثار في كتابه العزيز، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾ [الحشر: 9].
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثالث والعشرون
    غزوة بدر الكبرى
    وفي رمضان من السنة الثانية من هجرة النبي ﷺ سمع رسول الله ﷺ بأن أبا سفيان بن حرب مقبلًا بقافلة عظيمة من الشام، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون.
    فحثَّ رسول الله ﷺ أصحابه على الخروج إليها لاسترداد بعض أموالهم التي استولت عليها قريش، فخرج بعض الصحابة ولم يخرج الآخرون؛ ظنًّا منهم أنَّ النبي ﷺ لن يلقى حربًا؛ وذلك أن عدد الرجال في قافلة المشركين قليل.
    وكان أبو سفيان بن حرب هو رئيس قافلة المشركين، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل كلَّ مَن قابله من الركبان خوفًا من المسلمين، حتى عَلِمَ أبو سفيان أنَّ النبي ﷺ قد خرج هو وأصحابه لملاقاته.
    فاستأجر أبو سفيان رجلًا اسمه ضَمْضَم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيخبرهم الخبر حتى يغيثوه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة، حتى وصل هناك، فصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، وهو يقول: يا معشر قريش أموالكم مع أبي سفيان قد عَرَضَ لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث.
    فتجهزت قريش للخروج بجيش تعداده نحو ألف مقاتل بما معهم من جِمَال وخيول، للدفاع عن أموالها.
    وفي المقابل خرج النبي ﷺ في جيش تعداده حوالي ثلاث مئة وتسع عشر مقاتل، ليس معهم إلا فرس واحد للمقداد بن عمرو، وسبعون بعيرًا يتبادل كلُّ ثلاثة الركوب على بعير؛ فكان النبي ﷺ وعَليٌّ وأبو لُبابة يتبادلون بعيرًا، فقال عليٌّ وأبو لُبابة للنبي ﷺ: نحن نمشي عنك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».
    فسار جيش المسلمين، والنبي ﷺ لا يعلم بأنَّ الخبر قد وصل قريشًا وأنهم تجهزوا بجيش كبير لمحاربة المسلمين.
    وأما أبو سفيان فقد تمكن بأنْ يَفِرَّ بقافلته، فأخذ بها طريق الساحل -وهو غير طريقهم المعتاد- وأُخْبِرَ النبي ﷺ بفرار القافلة، وبأنًّ قريشًا خرجت بجيش كبير لمحاربة المسلمين.
    فحينها استشار النبي ﷺ أصحابه في الأمر فبعضهم كره القتال، وكانوا يرون أن القتال لا فائدة منه؛ لأن القافلة نجت فلا غنيمة تفيد المسلمين، ولأن المسلمين غير مستعدين للحرب كما استعدت قريش.
    فنظر النبي ﷺ إلى الأنصار وقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم أكثر الجيش، فقال سعد بن معاذ ﭬ: والله لكأنك تريدنا يا رسول، قال: «أجل» قال سعد ﭬ: فقد آمَنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرَّ به عَيْنُكَ، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».
    وكان لواء المسلمين في هذه المعركة مع مصعب بن عمير ﭬ وكان أبيض وكان أمام رسول الله ﷺ رايتان سوداوان إحداهما مع عليِّ بن أبي طالب يقال لها: العِقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
    فسار النبي ﷺ مستعينًا بالله تعالى على هؤلاء المجرمين الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورءاء الناس ليصدوا عن سبيل الله.
    وعلى الجانب الآخر فإن كفار قريش كادوا أن يرجعوا بلا قتال حيث تذكروا الذي كان بينهم وبين بني بكر من خصومة وخافوا أن يأتوهم من خلفهم فيعينون عليهم جيش المسلمين، وبينما هم على ذلك إذ جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا.
    ثم وصل الفريقان إلى بدر التي تبعد عن المدينة بنحو (160) كيلو مترًا، وكان جيش المسلمين أسبق إلى هناك فلما أمسى القوم بعث النبي ﷺ عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون خبر قريش، فوجدوا غلامين لقريش أتوا ليأخذوا ماء لجيش المشركين، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فقالا: نحن سُقَاةُ قريش، بعثونا نَسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فقالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش»، قالا: هم والله وراء هذا الجبل الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله ﷺ: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: «ما عددهم؟» قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يومًا تسعًا، ويوما عشرًا، فقال رسول الله ﷺ: «القوم فيما بين التسع مئة والألف»، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البُختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومُنَبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، فأقبل رسول الله ﷺ على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»، ثم قال النبي ﷺ: «هذا مصرع فلان»، ويضع يده على الأرض ها هنا وها هنا، فما ابتعد أحدهم عن موضع يد رسول الله ﷺ، فبات المسلمون تلك الليلة بالعدوة الدنيا -أي القريبة من المدينة، وبات المشركون بالعدوة القصوى- أي البعيدة عن المدينة من ناحية مكة.
    ثم أنزل الله تعالى على المؤمنين النعاس أمانًا لهم، وراحة من عناء السفر، حتى إذا ما بدأت المعركة كانوا في ذِروة النشاط والاستعداد.
    أما النبي ﷺ فَلَمْ ينم تلك الليلة ليلة السابع عشر من رمضان، بل ظل في عريشه الذي بناه له الصحابة يدعو ربه، ويستغيث به، ويستنصره، ويقول: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ [القمر: 45، 46].
    وأنزل الله تعالى الأمطار على المسلمين في الليل؛ لتتصلَّب الأرضُ وتثبت أقدامُهم في القتال.
    فلما أن طلع الفجرُ نادى المنادي: الصلاة عباد الله، فجاء الناس فصلى بهم رسول الله ﷺ وحَرَّضَ على القتال، ثم قال: «إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل»، ثم اقترب جيش المشركين من جيش المسلمين، واصطف الفريقان، ورأى النبي ﷺ رجلًا منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله ﷺ: «يا علي ناد لي حمزة»، وكان حمزة أقربهم من المشركين، فقال له النبي ﷺ: «مَنْ صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم»؟ فقال حمزة: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين، لا تصلون إليهم، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جَبُنَ عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم، فسمع ذلك أبو جهل، فغضب واتهم عتبة بالجبن والخوف، فقال عتبة: ستعلم اليوم أينا الجبان.
    ثم خرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فقالوا: من يبارز؟ فخرج ستة من الأنصار، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بني عمنا من بني عبد المطلب، فقال رسول الله ﷺ: «قم يا عليُّ، وقم يا حمزة، وقم يا عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب» فأقبل حمزة إلى عتبة، فقتله، وأقبل عليٌّ إلى شيبة، فقتله، وأما عُبيدة والوليد فأصاب كل واحد منهما الآخر، فجاء عليٌّ وحمزة إلى الوليد فقتلاه، واحتملا عبيدة، فمات عبيدة ﭬ أثناء رجوعهم من المعركة بمكان اسمه الصفراء، ودفن هنالك.
    وكان النبي ﷺ قد منع الجيش من التقدم أو الالتحام مع المشركين إلا أن يكون النبي ﷺ هو المتقدم أولًا، فقال لهم: «لا يتقدمنَّ أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه».
    فلما أقبل المشركون واقتربوا من جيش المسلمين أخذ النبي ﷺ ترابًا من الأرض ثم رماه في وجوه المشركين فما وقع منها شيء إلا في عين رجل منهم.
    وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ [الأنفال: 17].
    ثم أمرهم النبي ﷺ بالهجوم، فقال لهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض»، فقال عُمَيْر بن الحُمَام الأنصاري ﭬ: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: «نعم»، قال: بخ، بخ.
    فقال رسول الله ﷺ: «ما يحملك على قولك بخ، بخ؟»، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال ﷺ: «فإنك من أهلها»، فأخرج عُمَير بن الحُمَام تمرات من جُعْبته فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتل.
    والتحم الجيشان التحامًا شديدًا، وظهرت بطولات الصحابة ﭫ، يتقدمهم النبي ﷺ فهو أشجع الشجعان، حتى إن عليًّا ﭬ يقول: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ﷺ وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا.
    ونزلت الملائكة في ميدان المعركة بقيادة الأمين جبريل عليه السلام، فبشَّر النبي ﷺ أصحابه، وقال: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».
    وقُتل في هذه المعركة عدو الله أبو جهل، يقول عبد الرحمن بن عوف ﭬ: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع [أقوى] منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق ظلي ظله حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال: مثلها، قال: فنظرت إلى أبي جهل بين الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما، حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال ﷺ: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: «كلاكما قتله»، والغلامان هما معاذ ومعَوِّذ ابنا عفراء.
    وقتل الزبير بن العوام ﭬ عبيدة بن سعيد بن العاص، حيث رآه وهو مُغَطَّى بالسلاح لا يُرى منه إلا عيناه، وكان عُبيدة يكنى أبو ذات الكَرِش، فقال: أنا أبو ذات الكَرِش، فحمل عليه الزبيرﭬ بالحربة فطعنه في عينه فمات.
    وقُتِل أيضًا عدو الله أمية بن خلف، وهو الذي كان يُعذِّب بلالًا بمكة؛ يقول عبد الرحمن عوف ﭬ: مررت يوم بدر بأمية بن خلف وهو واقف مع ابنه عَلِيٌّ، ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني أمية قال لي: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك؟ قال: قلت: نعم، قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن - أي من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن- بقول عبد الرحمن: ثم خرجت أمشي بهما، فقال أمية بن خلف: مَنِ الرجل المعلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قال عبد الرحمن: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذِّب بلالًا بمكة على ترك الإسلام-، فيخرجه إلى جبال مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد، فلما رآه بلال قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فقال له عبد الرحمن: دع أسيري، فقال بلال: لا نجوت إن نجا.
    فاجتمع الناس على أمية وابنه فقتلوهما.
    وانتهت المعركة بهزيمة المشركين هزيمة نكراء، ونصر كبير للمسلمين، وقُتِل من المشركين سبعون، وأُسر سبعون.
    وأمر النبي ﷺ بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فأُلقوا في بئر، فلما كان اليوم الثالث انطلق النبي ﷺ إلى البئر فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم موَبِّخًا لهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم اللهَ ورسولَه، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا رُوح لها، فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لِمَا أقول منهم».
    وأما الأسرى فقد فداهم النبي ﷺ بمال؛ حيث قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «ما ترى يا ابن الخطاب؟»، فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمَكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فإنَّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قال عمر، ففداهم النبي ﷺ بالمال، فنزل القرآن مؤيدًا لرأي عمر ﭬ؛ حيث نزل قوله تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ أن الله غفور رحيم﴾ [الأنفال: 67- 69].
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الرابع والعشرون
    غزوة بني قينقاع
    كان النبي ﷺ قد عاهد أهل المدينة على السِّلْم -كما تقدم- بعد وصوله إليها، وكانت اليهود ومنهم يهود بني قينقاع من أهل هذه المعاهدة، وكان من شروط هذه المعاهدة ألا يعتدي طرف على الآخر، وألا يغدر طرف بالآخر.
    ولكن اليهود كعادتهم منذ وُجِدوا على وجه هذه البسيطة لا عهد لهم ولا ميثاق ولا ذمة، قوم ملئوا الدنيا غدرًا وفسادًا، ووقيعة بين أهل الأرض.
    فلما كان هذا هو طبع اليهود ودأبهم الذي لا ينفك عنهم، لم يحفظ يهود بني قينقاع ما عاهدوا عليه النبي ﷺ، فكان جزاؤهم أن أجلاهم النبي ﷺ عن المدينة؛ لأنهم نقضوا العهد مع النبي ﷺ؛ حيث إنَّ النبي ﷺ جمعهم بسوق بني قينقاع - وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة - ثم قال: «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم»، فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنَّا مثل قومك، لا يغرنَّك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربنا لتعلمن أنا نحن الناس.
    فكانت هذه المقالة بمثابة نقض العهد الذي بينهم وبين النبي ﷺ، فحاصرهم النبي ﷺ في ديارهم حتى نزلوا على حكمة، فقام إليه رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول، فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ - حيث كان بنو قينقاع حلفاء الخزرج قبيلة ابن سلول - فأبطأ عليه رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ، فأعرض عنه رسول الله ﷺ، فأدخل يده في قميص رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «أرسلني»، وغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا، ثم قال: «ويحك! أرسلني»، قال ابن سلول: لا، والله لا أُرسلك حتى تُحسن في مواليَّ، أربع مئة حاسر، وثلاث مئة دارع، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله ﷺ: «هم لك»، وأمر بهم أن يُجْلَوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت ﭬ، فلحقوا بأَذْرِعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مَسْلَمَة ﭬ.
    وذكر بعض أهل السير سببًا آخر للغزوة، فقال: إن امرأة من العرب قدمت ببضاعة لها، فباعتها بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
    وقد يكون كلا الموقفين حدث. والله أعلم.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الخامس والعشرون
    غزوة السَّويق
    كان أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة، نذر أن لا يمس رأسَه ماءٌ حتى يغزو محمدًا ﷺ، فخرج في السنة الثالثة من الهجرة في مئتي راكب من قريش؛ لِيَبِرَّ يمينَه، فسار حتى وصل المدينة، وأتى بني النضير تحت الليل، فأتى حُيَيَّ بن أَخْطَبَ، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلَّام بن مِشْكَم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه، فأذن له، فاستضافه وأطعمه وسقاه، وذكر له من خبر المسلمين، ثم خرج أبو سفيان حتى أتى أصحابَهُ، فبعث رجالًا إلى ناحية من المدينة، يقال لها: العريض، فحرقوا بعض النخل بها، ووجدوا بها رجلًا مِنَ الأنصار وحليفًا له في حَرْثٍ لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين.
    وعلم بهم الناس، فخرج رسول الله ﷺ في طلبهم، واستعمل على المدينة بَشِير بن عبد المنذر، وهو أبو لبابة، حتى بلغ مكان اسمه قرقرة الكدر، ثم انصرف رسول الله ﷺ راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأى المسلمون أزوادًا من أزواد المشركين قد ألقوها يتخففون منها للنجاء، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله ﷺ: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: «نعم».
    وسميت بغزوة السويق لأن أكثر ما ألقى المشركون من أزوادهم السَّويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة السويق.
    والسويق: هو أن يُحَمَّص القمح أو الشعير أو نحو ذلك، ثم يُطْحَن، وقد تمزج باللبن والعسل والسمن ويُلَتُّ، فإن لم يكن شيء من ذلك مُزِجَ بالماء.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس السادس والعشرون
    مقتل كعب بن الأشرف اليهودي بأمر رسول الله ﷺ
    كان كعب بن الأشرف اليهودي من الحاقدين على الإِسلام والمسلمين بالمدينة، وهو من قبيلة طَيِّءٍ، وأمُّه من بني النضير، وكان يكتم غيظه وحقده على المسلمين، حتى انتصر المسلمون على المشركين في موقعة بدر، وجاء الخبرُ، فلم يستطع كتم ما بداخله من حقد وغيظ على النبي ﷺ، وعلى الإسلام والمسلمين، حتى إنه قال حين بلغه الخبر: أَحَقٌّ هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لَبَطْنُ الأرض خير من ظهرها.
    فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، فاستضافوه وأكرموه، وجعل يُحَرِّض على الرسول ﷺ، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أُصيبوا ببدر.
    ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فأنشد أشعارًا فيها سبٌّ لنساء المسلمين، فقال رسول الله ﷺ: «مَنْ لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟»، فقام محمد بن مسلمة ﭬ فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم»، قال: فَأْذَنْ لي أن أقول شيئًا [أي: شيئًا فيه كذب على كعب]، قال: «قل»، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة - يقصد النبي ﷺ - وإنه قد أتْعَبَنَا، وإني قد أتيتك أستسلفك، فقال كعب: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّهُ، فقال ابن مسلمة: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقًا أو وَسْقَيْن، قال كعب: نعم، ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم، قال: كيف نُرْهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فَيُسَبُّ أحدُهم فَيُقال: رُهِنَ بَوْسق أو وَسْقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك السلاح.
    فواعده أن يأتيه بالسلاح فجاءه ليلًا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، وأبو عيسى بن جبر، والحارث بن أوس وعبَّاد بن بشر.
    ومشى معه رسول الله ﷺ إلى البقيع، ثم وجههم، فقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم»، ثم رجع رسول الله إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة - وكان كعب حديث عهد بعرس - فقام كعب، فقالت امرأته: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا لَمَا أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: لو يُدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل كعب فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماش، فنتحدث بقية ليلتنا هذه، قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة وضع يده في رأس كعب، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طِيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن كعب، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ أبو نائلة برأس كعب، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه، وقد صاح عدو الله صيحة لم يَبْقَ حولهم حصن إلا وقد أُوقِدَت عليه نار، ووقع عدو الله ميِّتًا.
    وقد أصابت بعض السيوف الحارث بن أوس بن معاذ فَجُرح في رأسه أو في رِجْله، وخرج الصحابة متوجهين إلى النبي ﷺ، وقد أبطأ عليهم الحارث بن أوس ونزفه الدم، فانتظروه واحتملوه إلى رسول الله ﷺ آخر الليل، والنبي ﷺ قائم يصلي، فسلموا عليه، فخرج إليهم، فأخبروه بقتل عدو الله، وتفل النبي ﷺ على جُرْح الحارث، فرجع كأن لم يكن شيء، فأصبحوا وقد خافت يهود لما علموا بقتل كعب، فأصبح ليس بالمدينة يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس السابع والعشرون
    غزوة أحد
    لم تهدأ قريش ولم يسكن لها بال منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلت في غيظ شديد وغليان مما حدث، فقد قُتِل زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعت هيبتها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالَبون بالثأر واسترداد الكرامة، فأخذوا يَعُدُّودن لذلك منذ رجوعهم من بدر.
    بل قيل إنهم خصصوا القافلة التي نجت من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر.
    وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، ثم خرجوا لمحاربة المسلمين، في شوال من السنة الثالثة للهجرة.
    وقد رأى النبي ﷺ هذا في رؤيا منامية قبل علمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه ﭫ فقال ﷺ: «رأيت في رؤياي أني هززت سيفًا فانقطع صدره فإذا هو ما أُصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن مما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقَرَا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد»؛ أي: هم المؤمنون الذين قُتِلوا يوم أحد.
    ثم أُخْبِرَ النبي ﷺ بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فقال لهم: «لو أنا أقمنا بالمدينة فإنْ دخلوا علينا فيها قاتلناهم»، فقالوا: يا رسول الله والله ما دُخِل علينا فيها في الجاهلية فكيف يُدْخَل علينا فيها في الإسلام؟ فقال النبي ﷺ: «شأنكم إذًا»، وَلَبِسَ ﷺ ملابس الحرب، فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله ﷺ رأيه، فجاءوا فقالوا: يا نبي الله شأنك إذًا، فقال ﷺ: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته [ملابس الحرب] أن يضعها حتى يقاتل».
    فخرج النبي ﷺ بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسان فقط.
    ولبس النبي ﷺ درعين.
    واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بالناس.
    ثم سار ﷺ بالجيش متوجهًا إلى أحد، حتى إذا كانوا بمكان اسمه الشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أُبِيِّ بن سَلول بثلث الجيش، وقال: علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أُذَكِّرَكُم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال.
    وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاك ُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ﴾ [آل عمران: 166، 167].
    وكاد بنو سلمة وبنو حارثة أن يفشلا ويتَّبعا المنافقين لولا أن ثبتهم الله؛ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) ﴾ [آل عمران: 122].
    وتقدم الجيش الإسلامي إلى ميدان أُحُد وأخذ النبي ﷺ ينظم مواقع الجيش ويملي على الجند خطته، فجعل النبي ﷺ وَجْهَ جيشه إلى المدينة وظهره إلى جبل أُحُد؛ لحماية ظهر المسلمين من أن يداهمهم أُحُد من خلفهم، ثم عزز ذلك بخمسين راميًّا بقيادة عبدلله بن جبير ﭬ أَوْقَفَهم على جبل عَيْنَيْن الذي يقع خلف جبل أحد حتى إذا أراد أَحَدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابل من النبال فمنعوه من ذلك، وشدَّد عليهم النبي ﷺ بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي ﷺ: «إنْ رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم».
    وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعات الميدان فأصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يُفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أُحُد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلى المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي ﷺ.
    وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة ﭬ وبين رجل من المشركين يقال له: سِبَاع، حيث خرج سباع هذا من بين الصفوف فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة ﭬ فقال: يا سِباع يا ابن أم أنمار، أَتُحَادَّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة ﭬ، ثم حانت ساعة القتال فالتقى الفريقان, والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أُبِيِّ بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولًا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلى معسكرهم.
    فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماة ذلك تركوا أماكنهم على الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فقال لهم عبد الله بن جبير ﭬ: عَهِدَ إليَّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا، فأبوا.
    فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأى المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك بقيادة خالد بن الوليد، وأحاط المشركون بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط، واستغل إبليس عليه لعنة الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أي عباد الله انتبهوا إلى أُخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أُخراهم، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتى إن حذيفة بن اليمان ﭬ رأى أباه اليمان ﭬ يضربه المسلمون، فقال: أي عباد الله أبي، أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم.
    وفي وسط المعركة قُتِل مصعب بن عمير ﭬ، الذي كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة، قتله ابن قَمِئَة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ﷺ، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قُتِل مصعب ﭬ أعطى رسول الله ﷺ اللواء علي بن أبي طالب ﭬ.
    وصاح الشيطان وسط الميدان: قُتِل محمد، وانتشر الخَبَرُ وشاع بين صفوف المسلمين، فخارت قُوى بعضِ المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر ﭬ فقال لهم ما يُجْلِسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله ﷺ قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل.
    وكان أنس بن النضر ﭬ لَم يشهد مع النبي ﷺ غزوة بدر، فقال: غِبتُ عن أول قتال للنبي ﷺ، لئن أشهدني الله مع النبي ﷺ لَيَرَيَنَّ الله ما أصنع، فلما رأى ذلك من المسلمين يوم أُحُد، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أُحُد، فقاتلهم حتى قُتِل، فما عُرِفَ حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنزلت فيه وفي أصحابه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ [الأحزاب: 23].
    وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفَرَّ آخرون بين الشِّعاب بعدما شاع بينهم خَبَرُ مقتل النبي ﷺ.
    أما النبي ﷺ فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أول من عرف بأن الرسول ﷺ حَيٌّ هو كعب بن مالك ﭬ فنادى في المسلمين يبشرهم بذلك فأمره الرسول ﷺ بالسكوت لئلا يَفْطُنَ له المشركون.
    وظل النبي ﷺ يقاتل وحوله فئة قليلة من الصحابة ﭫ صمدوا معه ﷺ.
    وقد تفطن المشركون بأن النبي ﷺ حَيٌّ لَمْ يُقْتَل فتكاثروا عليه يريدون قتله.
    وكان حول النبي ﷺ تسعة من الصحابة سبعة من الأنصار، واثنان من المهاجرين، فلما اقترب منه المشركون قال: «من يردهم عنا وله الجنة، أو: هو رفيقي في الجنة»، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِل، ثم رهقوه أيضا فقال: «من يردهم عنا وله الجنة، أو: هو رفيقي في الجنة»، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتل، فلم يزل كذلك حتى قُتِل السبعة من الأنصار.
    وأخذ النبي ﷺ يدعوا أصحابه للعودة إلى القتال.
    وكان طلحة بن عبيد الله ﭬ ممن ثبت مع النبي ﷺ، ودافع عنه حتى شُلَّت يده ﭬ كان يقي بها النبي ﷺ.
    وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص ﭬ، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تخطئ، فنثل له النبي ﷺ كنانته، وجعل يقول له: «ارم فداك أبي وأمي».
    وممن ثبت مع النبي ﷺ يدافع عنه أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري ﭬ، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد الرمي كسر يومئذ قوسين أو ثلاثًا من شدة الرمي، وكان الرجل يمر معه جعبة من النبل فيقول له النبي ﷺ: انثزها لأبي طلحة، وكان النبي ﷺ يُشْرِف برأسه لينظر إلى القوم، فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
    وكان يتترس مع النبي ﷺ بتُرس واحد، فكان كلما رمى رمية رفع النبي ﷺ بصره ينظر إلى أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله ﷺ بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم.
    ورغم استبسال الصحابة ﭫ في الدفاع عن النبي ﷺ، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلى النبي ﷺ، فجُرِح وجهه ﷺ، وكُسِرَت رَبَاعِيَّتُهُ.
    فَلَمَّا حدث هذا للنبي ﷺ وكاد المشركون أن يقتلوه، أنزل الله تعالى جبريل وميكائيل عليهما السلام يدافعان عن النبي ﷺ ويمنعانه من المشركين.
    فعن سعد بن أبي وقاص ﭬ قال: لقد رأيت يوم أُحُدٍ عن يمين رسول الله ﷺ وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قَبْلُ ولا بَعْدُ، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام.
    وفي تلك المعمعة كان هناك رجل له هدف آخر غير الذي جاء من أجله الطرفان، فهو لا يشغله من ينتصر، المسلمون أم المشركون، إنما كل الذي يشغله هو التحرر من الرِّق، وأن ينفك من قيود العبودية.
    وهذا الرجل هو وحشي ﭬ الذي أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه.
    ولنتركه يقص علينا تفاصيل ما حدث بنفسه ﭬ.
    يقول وحشي ﭬ: إن حمزة قَتَل طُعَيْمَة بن عدي ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مُطْعِم: إن قتلتَ حمزة بعمي فأنت حُرٌّ، قال: فلما أن خرج الناس خرجت مع الناس إلى القتال فلما أن اصطفوا للقتال مكنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فوضعتها في أسفل بطنه حتى خرجت من بين وركيه.
    وقال النبي ﷺ: «رأيت الملائكة تُغَسِّل حمزة بن عبد المطلب».
    وقُتِل من المسلمين في هذه المعركة سبعون قتيلًا؛ منهم أربعة وستون من الأنصار، وستة من المهاجرين.
    وقُتِل من المشركين اثنان وعشرون رجلًا.
    وبعد انتهاء القتال وانصراف كل فريق إلى معسكره وقد تأكد بعض الصحابة أن النبي ﷺ قد قُتِل، إذ بالنبي ﷺ يطلع عليهم، ففرح به الصحابة ﭫ حتى كأنهم لم يصبهم شيء، فأقبل النبي ﷺ نحوهم وهو يقول: «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله»، ويقول مرة أخرى: «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا».
    وجعل النبي ﷺ يقول: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا بنبيه»، وهو حينئذ يشير إلى رَبَاعِيَّتِه.
    كما أخذ النبي ﷺ يَسْلُتُ عن نفسه الدم ويقول: «كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم وكسروا رَبَاعِيَّتَه وهو يدعوهم إلى الله»، فأنزل الله عز وجل: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ [آل عمران: 128].
    ثم أراد النبي ﷺ أن يصعد على صخرة ليجلس عليها فلم يستطع من شدة ما فيه من إصابات وإرهاق شديد، فأقعد النبي ﷺ تحته طلحة ﭬ ثم صعد حتى استوى على الصخرة، فقال النبي ﷺ: «أوجب طلحة»؛ أي: وجبت له الجنة.
    ثم أخذت فاطمة ڤ تغسل الدم عن وجه أبيها ﷺ وعليُّ بن أبي طالب ﭬ يسكب عليه الماء، فلما رأت فاطمة ڤ أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا ثم ألصقته بالجُرح فاستمسك الدم.
    ثم أنزل الله عز وجل النعاس على المسلمين تهدئة لروعهم، وراحة لأجسادهم من عناء القتال. يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ﴾ [آل عمران: 154].
    عن أبي طلحة الأنصاري ﭬ قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أُحُد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا يسقط وآخذه ويسقط فآخذه.
    وبعد ذلك أشرف أبو سفيان بن حرب ونادى على المسلمين فقال: أفي القوم محمد؟ قال رسول الله ﷺ: «لا تجيبوه»، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ - يعني أبا بكر- قال رسول الله ﷺ: «لا تجيبوه»، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم قال أبو سفيان: أما هؤلاء لو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي ﷺ: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل»، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي ﷺ: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا، ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مُثْلًا [تمثيلًا بالقتلى]، ولم يكن ذاك عن رأينا، ثم أدركته حَمِيَّةُ الجاهلية فقال: أما إنه قد كان ذاك ولم نكرهه.
    ثم أمر النبي ﷺ بدفن شهداء أُحُد، وَقَلَّتِ الثيابُ وكثرت القتلى فكان الرجل والرجلان والثلاثة يُكَفَّنُون في الثوب الواحد، ثم يُدْفَنُون في قبر واحد، فكان رسول الله ﷺ يسأل عنهم أيهم أكثر قرآنًا فيقدمه في اللحد، وقال ﷺ: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر ﷺ بدفنهم في دمائهم، ولم يُغَسَّلُوا، ولم يُصَلِّ النبي ﷺ على أَحَدٍ من الشهداء غير حمزة ﭬ.
    ولما انصرف العدو من المَيدان قال النبي ﷺ: «استووا حتى أُثني على ربي»، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال ﷺ: «اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسالك الأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق آمين».
    وقال النبي ﷺ: «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية»؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128]، فتاب الله عليهم بعد ذلك فَحَسُن إسلامهم.
    وبعد عودة النبي ﷺ إلى المدينة أراد أن يطارد المشركين حتى لا يُفَكِّروا في العودة مرة أخرى ومداهمة المدينة، فأرسل مناديًا ينادي في الناس بطلب العدو وأن لا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ إلا أَحَدًا حَضَرَ أُحُدًا، وكان ذلك في اليوم التالي لغزوة أحد فخرج مع النبي ﷺ كل من شهد أُحُدًا، سوى جابر بن عبد الله ﭭ خرج وهو لم يشهد أُحُدًا، حيث تخلف عن أُحُد لأن أباه خَلَّفه على أخواته.
    فسار جيش المسلمين حتى بلغ مكانًا اسمه حمراء الأسد وهو على بُعْدِ حوالي عشرين كيلو جنوب المدينة المنورة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فَلَمْ يلق أَحَدًا من المشركين، ووجدهم قد رجعوا إلى مكة، فأقام بها الإثنين، والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثامن والعشرون
    سرية الرجيع
    في صفر من السنة الرابعة للهجرة بعث رسول الله ﷺ عشرة نفر يتحسسون الأعداء حول المدينة، وَأَمَّرَ عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري ﭬ فانطلقوا، حتى إذا كانوا بالهَدَأَة -وهو بين عُسْفَانَ ومكة- وصل خبرهم لِحَيٍّ من هُذَيْل يقال لهم: بنو لَحْيَان، فنفروا لهم قريبًا من مئتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى مكان عالٍ، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدًا، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصمًا في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خُبيب الأنصاري، وابن دَثِنَة، ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة -يريد القتلى- وجرَّرُوه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى، فقتلوه، فانطلقوا بخُبيب وابن دَثِنَة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خُبَيْبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خُبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، تقول بنت الحارث بن عامر: أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابنًا لي وأنا غافلة حين أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قِطْفِ عنب في يده وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزقه خُبيبًا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لَطَوَّلْتُهَا، اللهم أحصهم عددًا، ثم قال:
    مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

    عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لله مَصْرَعِي

    وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

    يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع



    فقتله عقبة بن الحارث، واستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب عندما قال: اللهم أخبر نبيك عنا فَأَخْبَرَ الله عز وجل نَبِيَّهُ بهم، وَأَخْبَرَ النبي ﷺ أصحابه خبرهم وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدِّثُوا أنه قُتِل ليأتوا بشيء منه يُعْرَف، وكان قد قَتَل رَجُلًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله تعالى على عاصم مثل السحابة من النحل فحمته من رسولهم، فلم يقدر على أن يقطع من لحمه شيئًا.
    وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا، تَنَجُّسًا -أي: خشية تنجسه منهم-؛ فكان عمر بن الخطاب ﭬ يقول حين بلغه أن النحل منعه: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته.
    وأما زيد بن الدَّثِنَة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أميه مع مولى له يقال له: نِسْطَاس، إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نِسطاس.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس التاسع والعشرون
    سرية بئر معونة
    جاء ناس مِنْ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ إلى النبي ﷺ فقالوا: ابعث معنا رجالًا يعلمونا القرآن والسُّنَّة.
    فبعث النبي ﷺ إليهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم القراء في زمانهم، وأَمَّرَ عليهم حرام بن مِلْحَان، فساروا حتى كانوا ببئر مَعُونَةَ - على بعد 160 كيلو من المدينة - غدر بهم عامر بن الطفيل، حيث ذهب إليه حرام بن مِلْحَان ﭬ ومعه رجلان، كان أحدهما أعرج، فقال لهما حرام: كونا قريبًا حتى آتيهم فإن آمَنُوني كنتم آمنين، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فذهب إليه فقال: أتُأَمِّنُوني أُبَلِّغْ رسالة رسول الله ﷺ؟ فجعل يُحَدِّثُهُم، وأومئوا إلى رجل فأتاه مِنْ خلفه فطعنه، فأمسك حرام بن ملحان ﭬ بالدم فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: فزت ورب الكعبة، ثم اجتمعوا عليهم فقتلوهم جميعًا غير الرجل الأعرج الذي كان مع حرام بن ملحان صعد على رأس جبل، وعمرو بن أمية الضمري أُسِرَ ثم خلا عامر بن الطفيل سبيله لما أعلمه أنه من مُضَر.
    وكان عامر بن الطفيل هذا يَكِنُّ عداء شديدًا للنبي ﷺ حيث كان قد أرسل قبل ذلك إلى النبي ﷺ يُخَيِّرُه بين ثلاث خصال، فقال له: يكون لك أهل السهل [أي: أهل الوادي] ولي أهل المدر [أي: أهل الحَضَر]، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف.
    فقد كان يحقد على النبي ﷺ ويرى أنه أخذ مكانةً لابد أن يُشْرِكَهُ فيها.
    وسأل عامر بن الطفيل عمرو بن أمية عن أحد القتلى فقال له: من هذا؟ فقال عمرو بن أمية: هذا عامر بن فُهَيرة، فقال عامر بن الطفيل: لقد رأيته بعد ما قُتِلَ رُفِعَ إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وُضِعَ.
    فأتى النبيَّ ﷺ خَبَرُهُم فنعاهم فقال: «إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا»، فأنزل الله تعالى لنبيه ﷺ في الذين قُتِلوا في بئر معونة قرآنًا قرأه الصحابة حتى نُسِخ بَعْدُ: «بَلِّغُوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه».
    فَظَلَّ النبي ﷺ شهرًا يدعو على رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، ويقول: «عُصَيَّةُ عَصَتِ اللهَ ورسولهَ».
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثلاثون
    غزوة بني النضير
    كان سبب غزو بني النضير ومحاصرتهم وإجلائهم عن المدينة أنه لما قُتِل أصحاب بئر معونة، من أصحاب رسول الله ﷺ، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قَتَل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله ﷺ وأمان لم يَعْلَم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «لقد قتلت رجلين لأَدِيَنَّهُمَا»، وكان بين بني النضير وبني عامر حِلْفٌ وعهد، فخرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير يستعينهم في دِيَةِ ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير على أميال من المدينة [الميل: 1600مترًا].
    فلما أتاهم رسول الله ﷺ يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، وكان رسول الله ﷺ جالسًا إلى جنب جدار من بيوتهم، قالوا: فَمَنْ رجل يصعد على هذا البيت فَيُلْقِي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانْتُدِبَ لذلك أحدهم وهو عمرو بن جُحَاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليُلْقِي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ﷺ في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليٌّ، فأتى رسول الله ﷺ الْخَبَرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة.
    فلما تأخر النبي ﷺ قام أصحابه في طلبه، فلقوا رجلًا مُقبلًا من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلًا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله ﷺ بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: 2]، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُم ْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ ﴾ [الحشر: 14]، فأمر رسول الله ﷺ بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: 5].
    وكان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أُبِيِّ بن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي نوفل، وسُويد، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنَّا لن نُسْلِمَكُم، إن قُوتِلْتم قاتلنا معكم، وإن أُخْرِجْتُم خرجنا معكم.
    فانتظر بنو النضير نَصْرَ هؤلاء القوم الذي وعدوهم إياه فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُم ْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ (12) لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (13) ﴾ [الحشر: 2].
    فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخَلَّفوا ما لم يستطيعوا حمله من الأموال، ونزلت في بني النضير سورة الحشر.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الحادي والثلاثون
    غزوة بني المصطلق
    بنو المصطلق فرع من قبيلة خُزاعة اليمانية، وكانوا يسكنون قُدَيْدًا وَعُسْفَانَ على الطريق من المدينة إلى مكة، فقُديد تبعد عن مكة 120 كيلو مترًا، وعسفان تبعد 80 كيلو مترًا، وكانت هضبة المُشَلَّل التي كانت بها (مَنَاة) في قُدَيد.
    وكان أول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن جيش قريش في غزوة أحد.
    وبعد غزوة أحد تجرأت بنو المصطلق على المسلمين، كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة، ولعل بني المصطلق كانت تخشى انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أن يبقى الطريقُ التجاري مفتوحًا أمام قريش لا يهدده أَحَدٌ لِمَا في ذلك من مصالح لها محققة؛ فكانت بزعامة الحارث بن أبي ضرار تتهيأ لمحاربة المسلمين بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين.
    فبلغ رسول الله ﷺ أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع رسول الله ﷺ بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: (المُريسيع) مِنْ ناحية قُدَيد، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقُتِل مَنْ قُتِل منهم.
    ولما انتصر المسلمون في تلك المعركة وظهروا على عدوهم اغتاظ المنافقون غيظًا شديدًا وظهر حقدهم الذي كان دفينًا، فهذا عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول لم يستطع كتم غيظه، فقال لأصحابه وهو راجعون من الغزوة إلى المدينة: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، فأتى زيد بن أرقم ﭬ النبيَّ ﷺ فأخبره بذلك، فأرسل النبي ﷺ إلى عبد الله بن أُبَيِّ فسأله فحلف أنه ما قال ذلك، فقال الناس: كذب زيد على رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى: ﴿إذا جاءك المنافقون﴾ [المنافقون: 1]، ثم دعاهم النبي ﷺ ليستغفر لهم، فلووا رءوسهم.
    وأراد المنافقون أيضًا الوقيعة بين الصحابة والتفريق بينهم، فاستغلوا موقفًا، حيث ضرب رَجُلٌ من المهاجرين رجلًا مِنَ الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله ﷺ، فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟»، قالوا: يا رسول الله ضرب رجل من المهاجرين رجلًا مِنَ الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة»، فسمع بذلك عبد الله بن أُبَيٍّ، فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ﷺ: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».
    فلما سمع ابنه عبد الله بأن أباه قال هذا، قال لابن سلول: والله لا تنقلب حتى تُقِرُّ أنك الذليل ورسول الله العزيز، ففعل.
    وتزوج رسول الله ﷺ جويرية بنت الحارث بن المصطلق، فتسامع الناس أن رسول الله ﷺ قد تزوج جويرية، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي والأسرى، فأعتقوهم، وقالوا: أصهار رسول الله ﷺ، قالت عائشة ﭬ: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها؛ أُعْتِقَ في سببها مائة أهل بيت من بني المصطلق.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثاني والثلاثون
    حادثة الإفك
    لَمْ يكتف عبد الله بن أُبَيِّ بما فعله حين الرجوع من غزوة بني المصطلق من محاولة تأليب المسلمين بعضهم على بعض، وبما قاله في حق النبي ﷺ حتى فعل أمرًا عظيمًا وافترى على أم المؤمنين عائشة ڤ، وافترى عليها كذبًا.
    ولنترك عائشة ڤ تحكي لنا تفاصيل ما حدث، تقول أم المؤمنين عائشة ڤ: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله ﷺ معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجتُ مع رسول الله ﷺ بعد ما أُنزل الحجاب، فكنت أُحْمَل في هودجي وأُنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته واقتربنا من المدينة مشيت حتى جاوزت الجيش، ولمست صدري فإذا عِقْد لي قد انقطع، فرجعت أبحث عن عقدي، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فاحتملوا هودجي فرحَّلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتوجهت إلى منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيزجعون إليَّ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السُّلَمي مِنْ وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش في الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول.
    قال عروة: لَمْ يُسَمَّ من أهل الإفك أيضًا إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أُثَاثَةَ وحَمْنَة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم.
    وكانت عائشة تكره أنْ يُسَبَّ عندها حسان وتقول إنه الذي قال:
    فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي

    لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ


    قالت عائشة رضي الله عنها: فقدمنا المدينة فمرضت حين قدمت شهرًا، والناس يتكلمون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، والذي يَرِيبني في مرضي أني لا أعرف مِنْ رسول الله ﷺ اللُّطفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي؛ إنما يدخل عليَّ رسول الله ﷺ فَيُسَلِّم ثم يقول: «كيف تيكم؟» ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين اقتربت من الشفاء مع أم مِسْطَح لقضاء الحاجة، وكنا لا نخرج إلا ليلًا، فانطلقت أنا وأم مِسْطَح، وَأُمُّهَا خالة أبي بكر الصديق، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فَتَعَثَّرَتْ أم مسطح، فقالت: تَعِسَ مِسْطَح، فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: أولم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله ﷺ فَسَلَّم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويَّ، قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قِبَلِهِمَا، قالت: فأذن لي رسول الله ﷺ، فقلت لأمي: يا أُمَّتَاه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله لَقَلَّمَا كانت امرأة قط عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كَثَّرْنَ عليها، قالت: فقلت: سبحان الله أَوَ لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حيث لم ينزل الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله لَمْ يُضَيِّقِ الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تَصْدُقُكَ، قالت: فدعا رسولُ الله ﷺ بَرِيرَة، فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟»، قالت له بَرِيرَة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرًا قط أنكره، غير أنها جارية حديثة السن تنام وهي تلعب بعجين أهلها، قالت: فقام رسول الله ﷺ من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبَيٍّ وهو على المنبر، فقال: «يا معشر المسلمين من يعذرني [أي: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني؟] من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي»، قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحَميَّة، فقال لسعد: كذبت لَعَمْرُ اللهِ لا تقتله ولا تَقُدِرُ على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقْتَل، فقام أُسَيْدُ بن حُضَيْر وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لَعَمْرُ الله لَنَقْتُلَنَّهُ ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت عائشة: فثار الحيَّانِ الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله ﷺ يُخَفِّضَهُم حتى سكتوا وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاسْتَأْذَنتْ عَليَّ امرأة من الأنصار، فَأَذِنْتُ لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله ﷺ علينا فسلم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يُوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله ﷺ حين جلس، ثم قال: «أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه»، قالت عائشة: فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قَلُصَ دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله ﷺ عني فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله ﷺ فيما قال قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرًا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُنِّي، فوالله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف حين قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18]، ثم تحولْتُ واضطجعْتُ على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله مُنَزِّلٌ في شأني وحيًا يُتْلى، لَشَأْني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يَرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله ﷺ مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنْزِلَ عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء [الحُمَّى الشَّديدة] حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجُمَان [حَبَّات الفضة]، وهو في يوم شات مِنْ ثِقَلِ القول الذي أُنْزِل عليه، قالت: فَسُرِّيَ عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عائشة أما الله فقد برأك»، قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه فإني لا أَحْمَد إلا اللهَ عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ [النور: 11]، العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق وكان يُنْفِق على مِسْطح بن أُثَاثَة لقرابته منه وفقره: والله لا أُنْفِق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]، قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مِسْطَح النفقة التي كان يُنْفِقُ عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، قالت عائشة: وكان رسول الله ﷺ سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت، فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني [أي: مكانتها تقترب من مكانتي] من أزواج النبي ﷺ فعصمها الله بالورع، قالت: وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الثالث والثلاثون
    غزوة الأحزاب
    لما علمت قريش أنها لن تستطيع محاربة المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهودُ بذلك، وأن قوتهم لا تحاكي قوة المسلمين، اتفقوا على جمع المجموع لمحاربة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم في محاولة منهم للقضاء على الإسلام والمسلمين.
    وكان بداية الأمر أنْ خرج وفد من اليهود إلى مكة فيهم سلَّام بن أبي الحُقِيق وَحُيَيُّ بن أخطب النضريان، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غَطَفَان الكبيرة على حرب المسلمين، فكان تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير.
    وفي شوال من السنة الخامسة للهجرة خرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غَطَفَان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، وبني مُرَّة وقائدها الحارث بن عوف، وخرجت أشجع وقائدها مِسْعَرُ بن رُخَيْلَةَ.
    فلما سمع بهم رسول الله ﷺ، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه.
    فكان النبي ﷺ يعمل وهو يقول، تسلية لهم لِيُهَوِّنَ عليهم ما هم فيه من شدةٍ وبلاءٍ وجوع:
    اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ

    فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه ْ


    فيقولون مجيبين له:
    نُحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدا

    عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدا


    ويقول أيضًا ﷺ:
    اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدِينَا

    وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

    فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

    وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

    إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

    وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا


    ثم يرفع صوته ﷺ ويقول: أبينا أبينا، ويمد صوته بآخرها.
    وأثناء عمل المسلمين في الحفر عَرَضَت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله ﷺ وأخذ الْمِعْوَلَ، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: «تمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فتكسَّر ثلث الحجر، وسلمان الفارسي قائم ينظر فبرق مع ضربة رسول الله ﷺ برقة، ثم ضرب الثانية، وقال: «تمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فتكسَّر الثلث الآخر، فبرقت برقة، فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة، وقال: «تمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فتكسَّر الثلث الباقي، وخرج رسول الله ﷺ فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟! قال له رسول الله ﷺ: «يا سلمان رأيتَ ذلك؟»، فقال سلمان: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: «فإني حين ضربتُ الضربة الأولى، رُفِعَت لي مدائنُ كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة، حتى رأيتها بعينيَّ»، فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويُغَنِّمَنَا ديارهم، وَيُخَرِّبَ بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله ﷺ بذلك، «ثم ضربتُ الضربة الثانية فَرُفِعَتْ لي مدائنُ قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعينيَّ»، قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويُغَنِّمَنَا ديارهم، ويُخَرِّبَ بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله ﷺ بذلك، «ثم ضربتُ الثالثة، فَرُفِعَتْ لي مدائنُ الحبشة، وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعينيَّ».
    ويحكي لنا جابر ﭬ معجزة عجيبة للنبي ﷺ في هذا الموقف.
    يقول جابر ﭬ: لَمَّا حُفِرَ الخندق رأيت بالنبي ﷺ جوعًا شديدًا، فذهبتُ إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله ﷺ جوعًا شديدًا، فَأَخْرَجَتْ إليَّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة سمينة فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، ثم وَلَّيْتُ إلى رسول الله ﷺ فقالت: لا تفضحني برسول الله ﷺ وبمن معه – أي: لِقِلَّةِ الطعام – قال جابر: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنَّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي ﷺ بجميع أهل الخندق، ودعاهم إلى طعام جابر، وقال رسول الله ﷺ لجابر: «لا تُنْزِلَنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبِزَنَّ عجينكم حتى أجيء»، فجئت وجاء رسول الله ﷺ يتقدم الناس، حتى جئتُ امرأتي، فلامته امرأته، فقال لها جابر: قد فعلتُ الذي قُلْتِ.
    قال جابر: فَأَخْرَجْتُ له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى بُرْمَتِنَا فبصق وبارك، ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معي، ولا تنزلوها»، وهم ألف، فأقسم جابر بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانصرفوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا كما هي، وإن عجيننا ليُخْبَزُ كما هو.
    لقد جاءت هذه المعجزة للنبي ﷺ في وقتها، فإن النبي ﷺ والصحابة ﭫ كانوا في أشد الحاجة إلى الطعام حتى يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر ثم مواجهة المشركين بعد ذلك، حيث كانوا قد أوشكوا على الهلاك من شدة الجوع وعدم وجود الطعام.
    فقد لبثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون طعامًا، حتى إن النبي ﷺ كان يربط على بطنه حجرًا من شدة الجوع.
    وحتى أكلوا الطعام المنتن الكريه الطعم والرائحة لما أوشكوا على الهلاك.
    وظل النبي ﷺ يعمل ويحمل التراب على كتفه الشريف حتى غطى التراب بطنه ﷺ.
    يقول البراء ﭬ: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله ﷺ رأيته ينقل من تراب الخندق حتى غطى عني الغبار جلدة بطنه.
    وظل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون معه ﷺ وينقلون التراب على أكتافهم حتى فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين.
    ثم أمر النبي ﷺ بالنساء والأطفال فَوُضِعُوا في الحصون.
    ثم ظهرت جموع المشركين، الذين تحزبوا لمحاربة الله ورسوله، والصد عن سبيل الله.
    فالتفوا حول المدينة وحاصروها من كل مكان، فلما رأت يهود بني قريظة ذلك، تيقنوا أن المسلمين -بأي حال- لن يفلتوا من هذه القوة الهائلة وأنهم سيُقضى عليهم لا محالة، فعزموا على نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم.
    وفعلا نقض يهود بني قريظة العهد، وأصبحوا على استعداد لمعاونة الأحزاب على المسلمين.
    ووصل الخبر للنبي ﷺ وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتدت المصيبة عليهم.
    وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف.
    وفي ذلك يقول الله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم} أي: الأحزاب، {ومن أسفل منكم} أي: بنو قريظة، {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} من شدة الخوف والفزع، {وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] الظنون السيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)} [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاء واختبار للمسلمين، ليتبين الخبيث من الطيب. وحدث ما أراده الله عز وجل.
    فأما المؤمنون فسُرعان ما تنبهوا وظهر إيمانهم وثقتهم بالله عز وجل، وقالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله} من الابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر، {وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [الأحزاب: 22].
    وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب: 12].
    وقالوا: {يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا}، واستأذنوا النبي ﷺ فقالوا: {إن بيوتنا عورة} ففضحهم الله -عز وجل-، وقال: {وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} [الأحزاب: 13].
    ثم أرسل النبي ﷺ الزبير بن العوام - رضي الله عنه - إلى بني قريظة ليتأكد من صحة هذا الخبر.
    فذهب الزبير فوجدهم قد نقضوا العهد.
    أما المشركون فقد فُجِئُوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارى، لا يستطيعون اقتحامه.
    ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك أمطرهم المسلمون بوابل من السهام فردوهم.
    ولم تنقطع هجمات المشركين على الخندق في محاولات شرسة لاقتحامه، حتى إن النبي ﷺ وأصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتى غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صد المشركين عن الخندق؛ فدعا رسول الله ﷺ على المشركين، وقال: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
    ثم استمر النبي ﷺ في دعائه على المشركين والأحزاب، فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم».
    فاستجاب الله عز وجل دعاء نبيه ﷺ عليهم، فأرسل عليهم ريحًا شديدًا فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأرسل الله تعالى الملائكة فزلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف.
    وفي ذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9)} [الأحزاب: 9].
    فلم تتحمل الأحزابُ جنودَ الله عز وجل، ولم يستطيعوا مواجهتها، فأسرعوا بالتجهز للرحيل.
    عن حذيفة بن اليمان ﭭ قال: لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة باردة، فقال رسول الله ﷺ: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يُجِبْهُ أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يجبه أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يجبه أحد، فقال: «قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم»، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تُذَعِّرْهُمْ [تُهَيِّجْهم] عليَّ»، قال حذيفة: فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام دافئ حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يُدَفِّئُ ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كَبِدِ القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله ﷺ: «ولا تذعرهم عليَّ»، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، قال حذيفة: يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا عصبة يوقدون النار، وقد صب الله عليهم من البرد مثل الذي صب علينا، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجون.
    قال حذيفة: فألبسني رسول الله ﷺ عباءة كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نومان!».
    وبذلك تفرقت جموع الأحزاب وهزمهم الله عز وجل وحده: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25)} [الأحزاب: 25].
    وانفك الحصار الذي دام أربعًا وعشرين ليلة، بفضل من الله عز وجل.
    ولذا كان النبي ﷺ يقول: «لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
    وقال النبي ﷺ لما أجلى الله الأحزاب: «الآن نغزوهم، ولا يغزوننا نحن نسير إليهم».
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    الدرس الرابع والثلاثون
    غزوة بني قريظة
    لما رجع رسول الله ﷺ من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وَضَعْتَ السلاح؟ والله ما وضعته، اخرج إليهم، قال النبي ﷺ: «فأين»، فأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي ﷺ إليهم؛ جزاء لهم على خيانتهم يوم الأحزاب، ونقضهم العهد مع المسلمين.
    وسارع ﷺ في الخروج، وحَثَّ الصحابة على سرعة اللحاق به، حتى قال لهم ﷺ: «لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لَمْ يُرِدْ منا ذلك، فَذُكِرَ ذلك للنبي ﷺ فلم يُعَنِّفْ وَاحِدًا منهم.
    وخرج جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة مع النبي ﷺ إلى بني قريظة.
    ووصل النبي ﷺ والمسلمون إلى بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبي ﷺ إليهم فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي ﷺ خمسًا وعشرين ليلة حتى جَهَدَهُم الحصارُ، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُيَيُّ بن أخطب النضري دخل مع بني قريظة في حصنهم بعد انصراف الأحزاب.
    فلما أيقنوا بأن النبي ﷺ غَيْرُ منصرف عنهم أعلنوا استسلامهم، فلما استسلموا حَكَّمَ النبي ﷺ فيهم سعد بن معاذ ﭬ، ورضي أهلُ قريظة بحكمه.
    فأرسل النبي ﷺ إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد، قال النبي ﷺ للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» فقال له رسول الله ﷺ: «هؤلاء نزلوا على حكمك»، فقال سعد: تَقْتِلُ مُقَاتِلَتَهُمْ ، وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ [أي: صغارهم، فلا يُقتلون]، وأن تَقْسِمَ أموالهم، فقال النبي ﷺ: «قَضَيْتَ بحكم الله».
    فميَّز النبي ﷺ بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذ حكم سعد ﭬ؛ فكانوا ينظرون فَمَنْ نبت شَعْرُ عانته قُتِلَ، ومن لم ينبت لم يُقْتَلْ.
    فحبسهم رسول الله ﷺ بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله ﷺ إلى سوق المدينة، فحفر بها خنادق، ثم بعث إليهم، فَضَرَبَ أعناقهم في تلك الخنادق، وفيهم عدو الله حُيَيُّ بن أخطب النضري، وكعب بن أسد القرظي، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذْهَبُ بهم إلى رسول الله ﷺ: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال كعب: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا يَنْزِعُ، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل، فقتلهم جميعًا رسول الله ﷺ.
    وفي ذلك يقول الله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم} أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب المسلمين، {من أهل الكتاب من صياصيهم} أي: من حصونهم، {وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (27)} [الأحزاب: 26، 27].

    المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة:
    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم تقتل من نسائهم -تعني بني قريظة- إلا امرأة، إنها لعندي تحدث: تضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسيوف، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته، قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها، فما أنسى عجبا منها: أنها تضحك ظهرا وبطنا وقد علمت أنها تقتل.
    وهي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته.
    فكان هذا آخر عهد لليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة الذين نالوا جزاء خيانتهم العظمى، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} [البقرة: 100].
    ثم أسلم بعض بني قريظة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فبقوا بالمدينة.
    عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم، وأولادهم، وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود المدينة.
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •