♦ ملخص السؤال:
استشارة عن رجلٍ كبيرٍ في السن تزوَّج امرأةً وأنجب منها عددًا مِن الأطفال، لكنَّ أولاده الآخرين يتهمون المرأة بأن أطفالها ليسوا من هذا الأب، وتسأل عن حكم الشرع في ذلك.

♦ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رجلٌ كبيرٌ في السِّنِّ تزوَّجَ امرأةً كبيرةً في السن مِن غير بلده، وأنجبتْ له أولادًا، وبعد المولودِ الثالثِ بدأ الناسُ يتحدثون عنها، ويقولون: الأولادُ ليسوا مِن هذا الرجل المُسِنِّ، وحصلتْ مشاكل كثيرة بسبب هذا الأمر، وتحدثت ابنة ذلك الرجل (أختهم مِن أُمٍّ أخرى) بأنهم ليسوا إخوتها!


تُوفِّي ذلك الرجلُ عن عمر يُناهِزُ مائة عامٍ، وقلَّت الزيارات وحصلتْ قطيعة بين الإخوة مِن الأب وبينهم بسبب هذا الأمر، والآن هؤلاء الأطفال كبروا وإحدى زوجات إخوتهم ترفُض أن تكشفَ بناتها لهم؛ خوفًا مِن ألا يكونوا من المحارم، فما الحل؟ وكيف نعرف الحقيقةَ ونقطع هذا الشك؟ خصوصًا أن هذا الأمر أدى إلى قطيعة الرحِم كما سلَف، والناس ما زالوا يتحدثون وهي صامتةٌ ولا تُعلِّق عليهم.


الجواب


الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فمِن الأمورِ المُقرَّرة في الفقه الإسلامي أن الرجلَ إذا كانتْ له زوجة ثم أتتْ بولدٍ لحقه الولدُ، وصار ولدًا له، ويجري بينهما التوارثُ وغيره مِن أحكام الولادة؛ سواء كان الولدُ يُشبه أباه أم لا، فالولدُ إنما يلحق بالأبِ بعد ثبوت العقد، وقد ذكرتِ أيتها الابنة الكريمة أن تلك المرأة قد أنجبت الأطفال حال زواجها، والزوجُ لم ينفِ عن نفسه نسب أولئك الأطفال حتى فارَق الحياة، والولدُ إنما يلحق بالأب بعد وقوع النكاح الصحيح أو الفاسد بشرط إمكان الوطء، كما قال جمهور الفقهاء، أو بمجرد العقد كما هو مذهب الحنفية.


وتأمَّلي رعاك الله هذا الحديثَ المتفقَ على صحته؛ فعن عائشةَ قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمعة في غلامٍ، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عُتبة بن أبي وَقَّاص، عهد إليَّ أنه ابنه، انظر إلى شبهِه، وقال عبدُ بن زَمعة: هذا أخي يا رسول الله، وُلِدَ على فراش أبي مِن وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهًا بيِّنًا بعتبة، فقال: ((هو لك يا عبد بن زَمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة))، قالت: فلم يَرَ سودةَ قطّ، والفراشُ: زوجة الرجل كما في القاموس.


فليس للزاني حقٌّ في النسَب، ولا ينتفي نسَبُ الأبناء عن الزوج إلا باللعان الشرعيِّ لصاحب الفراش، فإذا مات الزوجُ لم يَعُد اللعان ممكنًا، بل حتى لو كان حيًّا فبعضُ أهل العلم قد اشترطوا تعجيل اللعان بعد العلم لنفي الحمل أو الولد؛ هذا إن كان هناك زنًا أصلًا أو قامت البينةُ عليه، أو اعترفت الزوجة، أو شَهِدَ عليها أربعة عدول أنهم رأوها متلبسة وهي تمارس الزنا.


أما اتِّهام الناس هكذا دون بينةٍ أو دليلٍ أو اعترافٍ كما يفهم مِن رسالتك أيتها الابنة الكريمة فمِن كبائر الذنوبِ، فإنَّ قذْفَ المحصنات المؤمنات مِن الكبائر التي توعد الله عليها باللعنِ في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23]، فعِرْضُ المسلمةِ حمًى محرَّمٌ كحرمة دمِه، لا يجوز استباحتُه ولا الخوض فيه بأدنى ملابسة وبالظنون، وقد قال الله سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه لَم يعملوه ولم يفعلوه، وهذا هو البهتُ البَيِّنُ أن يُحكى أو يُنقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيبِ والتنقص لهم؛ قاله ابنُ كثير في "تفسيره" (6/ 480).


وفي الصحيحين وغيرهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحُرمة يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، ومَن نفى نسب شخص عن أبيه يكون قاذفًا لأمه بالزِّنا، ويجب عليه إثبات ما قال، وإلا جُلِدَ ثمانين جلدة، والقذفُ كما قال أهل العلم: أن يرمي محصنًا بزنًا أو بنَفْيِه نسبَه.


والذي يظهر مِن كلامك: أن ذلك الشك الآثم مبنيٌّ على ظن أن الرجل الكبير لا يُنجب، وهذا ظن خاطئ علميًّا وواقعًا ومشاهَدةً، فما قرأناه في الأبحاث الطبية المتخصصة سواء الغربية أو العربية أن الرجلَ كلما تقدَّم في العمر انخفضتْ مستوياتُ هرمون الذكورة تستوستيرون testosterone تدريجيًّا، وأنه قد تنخفض بمقدار الثلث بين ٣٠ و٨٠ سنة؛ لانخفاض عدد خلايا (ليدغ) المسؤولة عن إفراز الهرمون من الخصيتين، ولكنه لا ينعدم كما هو الحال في الهرمون الأنثوي (Oestrogen) الأستروجين، فإنه يتوقف إفرازه عند الأنثى عند بلوغها الإياس.


أما الرجال الذين تجاوزوا الـ80 من العمر، فإنهم يحافظون على القدرة في الإخصاب والإنجاب، والكثير من الرجال المسنين الذين تعدوا 60 أو حتى 80 عامًا لا يزالون قادرين على الإخصاب، مع إمكانية حصول الحمل والولادة، هذا أمر مشاهدٌ وواقع في كثير من المجتمعات.


فالحلُّ في تلك المشكلة بسيط للغاية، وهو تحكيمُ الشرع الحنيف بالعمل بموجب الأدلة الشرعية التي سبق ذِكرُها، فعليهم أن يكفوا عن قذف المرأة، وعليهم أن يستحلوها مما بدر منهم تجاهها، ويصِلوا إخوانهم من والدهم، فلا عذر لأحدٍ أمام الله تعالى في قطع رحمه التي أمَر اللهُ بصِلَتها.


هذا، ونسأل الله أن يُصلحَ أحوال المسلمين




رابط الموضوع: http://www.alukah.net/fatawa_counsel...#ixzz49be9n3Kq