بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد :
فهذا المجلس سيكون طويلا نوعا ما .. لكن حسبنا أنه يتحدث عن مذهب قد يكون هو أكثر المذاهب انتشارا وأولها زمانا ألا وهو المذهب الحنفي .
وسبب انتشار كل مذهب هو نقل التلاميذ وكثرة التصانيف لكن مع ذلك فقد كان للمذهب الحنفي دولا قامت به كالدولة العباسية وأيضا الدولة العثمانية .. ومازالت بعض الدول في زمننا هذا تأخذ بهذا المذهب كالعراق وباكستان والهند وتركيا وسوريا ولبنان وغيرها .
ونذكر بأشياء سبق الكلام عنها في المجالس السابقة أن المذهب ليس شرطا أن يكون هو رأي الإمام نفسه فهناك مذهب شخصي ومذهب اعتباري أو اصطلاحي كما سبق الكلام عنه .
:: الإمام أبو حنيفة ::
نسبه :
هو النعمان بن ثابت الكوفي , كان خزازا يبيع الخز , قيل إنه من الموالي وقيل بل من الأحرار .
مولده :
ولد الإمام في سنة 80 للهجرة وتوفي في بغداد سنة 150 للهجرة وقبره معروف فيها .
عصره :
يعد رحمه الله تعالى من أتباع التابعين , واختلف في رؤيته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايته عنهم لكن لم يثبت عند أهل التحقيق أن له رواية عنهم .
الشيوخ والتلاميذ:
روى أبو حنيفة عن جمع من كبار التابعين كعكرمة وعطاء وقتادة ونافع مولى ابن عمر ويحيى بن سعيد الأنصاري وحماد بن أبي سليمان وغيرهم .
من أشهر تلاميذه :
يعقوب الأنصاري الشهير بالقاضي أبي يوسف؛ وهو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الأنصاري , ولد سنة 113 من الهجرة في الكوفة وبها توفي سنة 182 للهجرة .
تولى القضاء أيام الدولة العباسية , وكان يختلف مع الإمام أبي حنيفة في بعض المسائل , ألف العديد من الكتب منها كتابه الشهير ( الخراج ) , سافر ورحل وكانت له مع الإمام ملازمة وحسن سيرة .
2 ) محمد بن الحسن الشيباني , ولد سنة 132 للهجرة بواسط وتوفي بالري سنة 189 للهجرة , يذكر أهل السير أن فيه مسحة من جمال وأن أبا حنيفة كان ينحيه عن وجهه حتى خرجت لحيته , أدرك الإمام في صغره ولازمه فترة قصيرة , ودرس على أبي يوسف , رحل كثيرا وله قدم السبق في نشر المذهب الحنفي , كما أنه خالف المذهب كثيرا خصوصا بعد تضلعه من العلم كما سيأتي .
3 ) زفر بن الهذيل ولم يعمر رحمه الله تعالى فقد توفي قبل أن يصل إلى الخمسين من عمره ولد سنة 110 وتوفي سنة 158 للهجرة , لكن مع قصر حياته فإنه أثبت لنفسه في الفقه الحنفي موضع قدم رحمه الله .
4 ) الحسن بن زياد اللؤلؤي ولد سنة 133 للهجرة وتوفي سنة 204 للهجرة .
رأي العلماء في أبي حنيفة :
حاز الإمام رحمه الله صفات عديدة , لكنه تميز بقوة الحجة ورجاحة العقل وذكائه ! يقول عنه الشافعي : قيل لمالك : هل رأيت أبا حنيفة ؟ قال: نعم . رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته !!
ويقول الشافعي كذلك رحمه الله : الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة .
قال عنه سفيان : كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه .
وقال الذهبي : عني بطلب الآثار , وارتحل في ذلك , وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه , فإليه المنتهى , والناس عليه عيال في ذلك .
وقال عنه ابن المبارك : أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها ؟!
حتى إنه رحمه الله ضرب بالسياط ليقبل بالقضاء فأبى !!
تروى عنه الأخبار الحسان والتي يظهر فيها حسن سمته وجمال منطقه ودقة فهمه ورجاحة عقله وطيبة نفسه وسلامة قلبه وصدق وعظه ونصحه وعبادته لربه تعالى !
أصول مذهبه وقواعده :
اتفق الأئمة جميعا على أصول ثلاثة :
الكتاب والسنة والإجماع واختلفوا فيما عداها ؛ فالإمام إذا عرضت عليه مسألة عرضها على كتاب الله تعالى فإن وجد لها حكما قال به وإن لم يجد عرضها على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان فيها أخذ به , وإن لم يجد نظر في قول من سبقه فإن حكي فيها قولا ( مجمع عليه ) أفتى به وإن وجد فيها خلافا أخذ بالقول الذي يراه صوابا من أقوال الصحابة وإن كان الخلاف دونهم من التابعين ومن بعدهم اجتهد كما اجتهدوا .
المهم أن تعرف أن الأئمة اتفقوا على أن قولهم إذا خالف كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع في الأمة فإن قولهم يطرح بل قال بعضهم اضربوا به عرض الحائط !
من الأصول التي أخذ بها الإمام رحمه الله :
القياس :
كما سبق وذكرنا أن الإمام رحمه الله من مدرسة الرأي وهذه المدرسة نشأت في العراق وقد كثر في زمانها وضع الحديث والكذب فيه فكانوا يشترطون شروطا لصحته مع قلة الآثار والأحاديث بالنسبة للحجاز فكان لزاما أن يقولوا بالقياس لتجدد الواقعات التي لابد لها من حكم .
والقياس في اللغة تقدير الشيء بما يماثله .
وفي الاصطلاح : إلحاق واقعة لا نص فيها بواقعة ورد فيها النص بشرط اتفاق علة الحكم .
* أبو حنيفة وخبر الآحاد :
يظن بعض طلبة العلم أن الإمام رحمه الله يرد خبر الواحد ولا يأخذ به وهذا غير صحيح بل الإمام اشترط شروطا للقول به وهي :
1) عدم مخالفة الراوي للخبر الذي يرويه , فإن خالفه فالعبرة بما رأى لا بما روى لأنه لا يخالف إلا وقد تبين له علة تقدح فيما رواه .
2 ) ألا يكون مما تعم به البلوى , وسبب ذلك أن ما عمت بلواه فإن أمره يشتهر وروايته آحادا تعتبر علة قادحة !
3 ) أن يكون راويه فقيها ولا يخالف قياسا .
فإن توفرت هذه الشروط فإنه يأخذ بخبر الآحاد ولو كان سنده ضعيفا بل ويقدمه على القياس , وإن خالف الحديث تلك الشروط فإنه يتركه ويذهب إلى غيره ولو كان حديثا صحيحا ! لكن ليعلم أننا نتحدث عن زمن الإمام الذي كثرت فيه الفتن ووضع الحديث , وإلا لا يعقل عن إمام من الأئمة أن يبلغه الحديث ويعلم صحته ثم يخالفه ولا يقول به !
من أصول مذهبه كذلك :
الاستحسان بل قد يقدم الاستحسان على القياس فتجد مثلا في كتب الحنفية : يحرم قياسا ويجوز استحسانا !
والاستحسان في اللغة رؤية الشيء حسنا أو طلب الشيء الحسن .
وليس معنى هذا التشهي ! إنما هو ترك الفقيه لحكم له دلاله ظاهرة لدلالة خفية لا تظهر إلا للفقيه .
ومن أشهر المسائل مسألة الاصطصناع : وهو القيام بعمل للآخرين وأخذ الأجرة بعد الانتهاء منه .
فالعوضان ( المال والعمل ) مؤجلان ؛ لذا رأى جمهور أهل العلم تحريمه لأنه من بيع الدين بالدين , فلابد من تقديم الثمن .
فترك الأحناف القياس استحسانا , فقالوا : إن هذه الصورة موجودة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نجد من ينكرها والإجماع العملي يخصص الإجماع الفقهي !
وبهذا القول قالت بعض المجامع الفقهية في عصرنا الحاضر .
ومن أصولهم الحيل ويسمونها المخارج من المضايق , وقد أخذ على المذهب الحنفي هذا الأصل لأنه تحايل لإسقاط حكم شرعي .
كتب المذهب :
لكل مذهب من المذاهب الفقهية كتب تحكي قول المذهب المعتمد أو الأقوال فيه سواء أكان ذلك لإمام المذهب أم لأصحابه والتابعين له .
وأظن أنه سبق الحديث عن نسبة الأقوال من كلام درة العلماء الشيخ بكر رحمه الله وإن لم يكن كذلك فاعلم أنه من الخطأ نسبة بعض الأقوال واعتبار أنها المعتمد في المذهب من كتب ليست هي المعتمدة فيه .
ألف أبو حنيفة إمام المذهب رحمه الله تعالى عدة كتب أشهرها : الفقه الأكبر وهو يتكلم عن العقيدة , والعالم والمتعلم ويتكلم عن آداب طلب العلم .