الرابطة العقدية
–قراءة في ضوء تاريخ المذاهب الفقهية-


يمثل الفقه نظام تدين يظهر في صورة سلوك للمجتمع والفرد, وهو نظام جامع للأخلاق والاعتقادات, ويغلب عليه الاستقرار؛ لاستقرار أمور الناس في المدد البعيدة وتشابه أحوالهم فيها, ولما كان الفقه بهذه المنزلة من حال الناس كان متأثرا بالبيئة الاجتماعية والسياسية وغير ذلك, أما على مستوى الفرد فيتأثر باعتقاده وباختصاصه المتمثل باهتمامه, كأن تكون له نزعة حديثية مثلا فيظهر في طبيعة اختياراته, ومن هذا الباب تأثر الفقه وتأثيره بالعلوم الأخرى, وتميز هذه المكونات أمر مهم في دراسة الفقه في سياقاته الاجتماعية والسياقات الشخصية لدى أفراد العلماء.
مرّ العلم بمراحل متعددة لكل مرحلة منها خصائص تميزها عن غيرها, فأول مراحل العلم ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث امتاز بالتلقي المباشر وبقرب المأخذ, وقد مثل الوحي المرجع له والأصل الذي يبدأ به, وقد حمل العلم في هذه المرحلة في طياته أصول المصادر الشرعية, ومثل هذا يقال في عهد الصحابة رضي الله عنهم فهو امتداد لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وقد امتاز الصحابة رضي الله عنهم بميزات متعددة, كقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتهم له, وباستعدادهم الفطري, وتفوقهم المعرفي, كل ذلك أهل في الكفاءة والقدرة على حسن التعامل مع النوازل والمستجدات, وفي هاتين المرحلتين كان الإسلام هو الاسم والوحي هو المصدر, وإن كان قد ظهر في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم شيء من الاختلاف, إلا أنه لم يؤثر بالنظام العام للمجتمع, وإنما حصل الخلاف بعد الافتراق وظهرت البدع كما وصف ذلك التابعي الكبير محمد بن سيرين –رحمه الله-, وقد خرج من رحم هذه الفتنة أشهر الفرق, وهما فرقة الخوارج والشيعة, ولما كان الخلاف هنا متعلقا بالمستوى العام للأمة حيث يتعلق بنظام حكمها, كان من الطبيعي أن يعمم وينتشر, وهذا بدوره يؤثر على نظام المجتمع الديني, مما يسبب انتشار الأفكار ويولد الجدل والانتصار للرأي بحق أو بباطل, ومن هنا تهيأت البيئة لنشوء الاختلاف وظهور الفرق المتعددة المختلفة, وإن كان من أثر لهذه الحركة على الواقع فهو ضعف الإيمان المتمثل بمنازعة الوحي وضعف التسليم له, وعلى أثر هذا ظهرت مجموعة من الفرق, ومن جانب آخر فقد استدعت هذه الحالة مزيد عمل لإظهار مذهب أهل السنة, وهنا بدأ يظهر بعدٌ تاريخي جديد, حيث أصبح مذهب أهل السنة قيمة تطلب وعلما على ما كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم, وفي الجانب الآخر كانت الأفكار المخالفة شاذةٌ لا تنتظم في منهج سلوكي أو فقهي, وهذا يعود إلى ضعف البدعة بحيث لم تنتشر في مجتمع كامل وإنما كما قدمت انحصرت في أفراد ومقالات, وقد كان من تطور العلم ظهور مدارس للفقه سواء ما كان منها في عهد الصحابة رضي الله عنهم؛ كمدرسة المدينة ومدرسة مكة ومدرسة الكوفة, أو ما كان في عهد التابعين؛ كمدرستي الحديث والرأي, ومن رحم هاتين المدرستين خرجت المذاهب الفقهية المتبوعة ومنها المذاهب الأربعة, وقد مثلت هذه المذاهب طريقة أهل السنة في البحث الفقهي ومنهج الاستدلال, وقد ذكر أهل العلم دخول بعض أهل البدع في هذه المذاهب كالمريسي في المذهب الحنفي وأتباع عمرو بن عبيد وقد ذكر ذلك الإمام أحمد –رحمه الله- وغيره, ومع هذا فلم تصطبغ هذه المذاهب بصبغة أهل البدع, إلا أن هذه الأمر لم يستمر طويلا خصوصا عندما ظهر البعد الكلامي وترسخت البدع وانتشرت في أوساط الناس وانتشرت الفرق حتى غلبت على بعض المجتمعات.

البعد العقدي في مذهب الحنابلة :
تقدم معنا أن مذهب أهل السنة أصبح قيمة تطلب وعلما على ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم, ومن تبعهم من الأئمة؛ كالأئمة الأربعة والسفيانين وابن المبارك وغيرهم, وإنما كان هذا بسبب مزاحمة هؤلاء الأئمة للبدع وأهلها, فعرفوا بذلك واشتهروا به, ومن هذا الباب ما جرى للإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن والفتنة التي جرت على يد المأمون وبعض خلفاء بني العباس في وقته, وقد كان لهذه المحنة أثر في شهرة الإمام أحمد وانتشار فقهه وعلمه, حتى أصبح رمزا للسنة وأهلها, وأصبح الانتساب إليه انتسابا إلى السنة, وما زالت الأئمة من أصحابه وأتباعه من أشهر الناقلين لمسائل الاعتقاد والمجادلين عنها, ومصنفاتهم في هذا مشهورة محفوظة, وقد بلغ الأمر إلى إطلاق اسم الحنابلة في مقابلة أصناف البدع, وعبر به عن أهل الحديث اعتبار بما تقدم, وكنوع من التعبير عن مفارقة البدع جعل الانتساب إلى الإمام أحمد وطريقه ملاذا, كما فعل أبو الحسن الأشعري رحمه الله عندما خلع ثوب الاعتزال ولبس ثوب الإمام أحمد وسار على طريقته, والمقصود هنا الإشارة إلى ذلك المقدار من الترابط بين مذهب أهل الحديث العقدي ومذهب الحنابلة, بما انعكس على سير المذهبين, وقد تقرر أن السنة تكون لمن أظهر مذهب السلف وعرف به, فيطلق الاسم الخاص في مقابل الاسم العام, يقول ابن تيمية –رحمه الله- :" وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة أهل السنة والصبر في المحنة, فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا, بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها ", ولذلك وجد التعبير في كتب العقائد باسم الحنابلة في كثير من مواضع الخلاف في مقابل الاشعرية أو المعتزلة وغيرهم.

الحنابلة و الاشعرية :
مثل تحول الأشعري رحمه الله من عقيدة الاعتزال إلى عقيدة أهل السنة نقطة فارقة في معتقد أهل السنة, حيث شهدت تلك المدة حالة من الاستعلاء الفكري الذي مارسته المعتزلة وفي المقابل حالة من الضعف لدى أهل السنة تمثل في ضعف الرد على المعتزلة والبحث عن أدوات فكرية جديدة, وقد أشار إلى هذا الإمام الخطابي رحمه الله في مقدمة كتابه " معالم السنن", والإمام هبة الله اللاكائي في مقدمة كتابه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة", وبالعودة إلى تحول الأشعري رحمه الله فقد مثل نقطة فارقة حيث سلك مسلكا متوسطا بين مدرسة الحديث ونزعتها النصية ومدرسة الاعتزال ونزعتها العقلية, وهذا التوسط الذي أبقى على المكون العقلي الذي طرحته المعتزلة في مقابل النص ساهم في قدر من التغيير في أوساط طائفة من أهل السنة, وقد ظهر هذا بعد الأشعري بصورة واضحة, وقد ساهم عداء الأشعري للمعتزلة وما أتى به من حجج عقلية وإعلانه السير على طريقة الإمام أحمد في انتشار هذا المذهب في أوساط كثير من أهل السنة, حتى أصبحت طريقة الأشعري هي الطريقة الشائعة في أوساط أهل العلم, وفي المقابل انحسر مذهب أهل السنة إل حد كبير, على أن ذلك التقارب الذي أسس له الأشعري مع الحنابلة انقطع بعد فتنة ابن القشيري.

أصحاب الأئمة ومقالات الفرق :
يعد الفقه من أهم المسالك الحافظة للتدين في كل مستوياته السلوكية منها والعقدية, وهذا يعود لطبيعة الفقه واعتماده على النص مع ضعف المعارضات الكلامية الواردة على عملية الاستدلال, فكان له أثر في بقاء النص حاضرا مما سهل الرجوع إليه والعمل به, وإذا استحضرنا السند التاريخي لهذه المذاهب علمنا أن الأصل فيها السلامة في المعتقد, إلا أن المقالات العقدية والنزعة العقلية أصبحت ثقافة مجتمع وهذا بدوره سهل دخول كثير من أتباع المذاهب في هذه المقالات, وهم متفاوتون في مقدار ذلك, والأصل في التفاوت ما يتعلق بتراث الأئمة حيث مثل تراثهم مرجعا مهما في أبواب الاعتقاد كما في الفقه, وكلما اتسع تراث الإمام في باب من أبواب العلم وجد أصحابه فيه حاجتهم, حيث يجنبهم مزالق الكلام ومضائق الفلسفة, وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية –رحمه الله-:" وأهل البدع في غير الحنابلة أكثر منهم في الحنابلة بوجوه كثيرة, لأن نصوص أحمد في تفاصيل السنن ونفي البدع أكثر من غيره بكثير "( الفتاوى, 20\186), إلا إن التنوع في أصناف المتبعين للأئمة قد ضعف جدا لحساب الفرق الكلامية حيث اتحدت المذاهب الفقهية والعقدية, وقد انعكست هذه الحالة على ظاهرة التحول بين أتباع المذاهب ذات العقيدة الواحدة حيث ظهر أثر الرابطة العقدية بصورة جلية, وبالعودة إلى الحنابلة فقد جرى بينهم من التنازع ما يجري مثله في سائر الناس, إلا إن ذلك التراث الذي تركه الإمام كان له أثر عظيم في ظهور الحق فيهم وتمسكهم به, مع اتفاقهم على الأصول الكلية وإنما حصل الخلاف بينهم في مسائل دقيقة جرى فيها بعضهم على طريقة ابن كلاب وطريقة الأشعري, وقد ظهر ذلك في صورة مقالات في الغالب دون محض النسبة لغير الإمام أحمد –رحمه الله-, وما زال هذا العقد المبارك إلى يومنا هذا هو الغالب على الحنابلة, وإن كان تراثهم في القديم والحديث لا يخلو من مخالفات في دقيق المسائل دون الكليات المورثة عن الإمام –رحمه الله-, وما زال لهم في كل مدة إمام من أئمة العلم يحيي مذهبهم وطريقتهم, فنسبتهم للإمام هي الثابتة من حالهم.

كتبه:
د. عصر محمد النصر
دكتوراة الحديث الشريف - جامعة اليرموك الأردنية

صفحة الدكتور على الفيسبوك:
www.facebook.com/asur.naser
صفحته على تويتر:
http://twitter.com/ibnmajjah77