اعلم علمني الله وإياك , أن الاستغاثة هي طلب الغوث , أي الانقاذ من الشدة والهلاك , وهذا إنما يكون وقت الاضطرار , فهي وإن كانت من جنس الدعاء , دعاء المسألة , إلا أنها أخص من حيث إبداء العجز وإظهار الحاجة والافتقار إلى الباري عز وجل , وهذا هو لبّ العبادة ومخها ,فإنها كمال الحب مع كمال الذل , قال الله تعالى : "وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " , وقال تعالى :" أمّن يجيبُ المضطر إذا دعاه ويكشف السُّوء" , والدعاء بقسميه عبادة بنص الكتاب العزيز والسنة المطهرة , ولا تكون العبادة إلا لله , قال تعالى :" وقال ربكم ادعوني استجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " , وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الدعاء هو العبادة " , ثم قرأ : "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " , رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة , فمن دعا غير الله فقد عبده , كما أن من استغاث بغيره فقد عبده من باب أولى , فإنه إذا كان الدعاء وهو أعم , عبادة , فكيف بهذا النوع منه وهو أخص ؟ , أما إن قال قائل إني لا أعتبره عبادة , فالجواب أنه لا عبرة بقولك , إذ الحجة في تسمية الشرع لا في تسمية غيره , وليس هذا مما يلجأ فيه العرف , وفي كتاب الله تعالى دليل على أن ما يعتبره الناس لا ينفعهم في المعاذير إذا خالف الشرع , فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله كما في سورة التوبة , قال تعالى :" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله " , فسره بما في حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -وهو اتباعهم في التحليل والتحريم , والمتخذون لم يكونوا يعتبرونهم كذلك , وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .
وقد ذهب بعضهم إلى أن الاستغاثة بالمخلوقات من جنس التوسل , وحيث كان التوسل بالنبي جائزاً عنده , فالاستغاثة مثله , وهذا لا يصح , فإن جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم غير مسلم , وأقل مايقال فيه إنه مختلف فيه , وظواهر نصوص القرآن والسنة بضميمة تفسير السلف وعملهم تأباه , ثم رعاية مبدأ سدّ الذرائع , قال الله تعالى :"وابتغوا إليه الوسيلة ", وقال تعالى :"أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة " , فإن الوسيلة هي مايتوصل به إلى تحصيل المقصود , والمراد الذي يتوصل إليه هنا هو مرضاة الله , بفعل الطاعات , من الواجات والمندوبات , والأصل فيها جملة وتفصيلاً المنع .
والجار والمجرور في الآيتين متعلق بالفعل قبله فيفيد الحصر , وليس متعلقاً بالوسيلة بعده , أي تقربوا إليه وحده , ففي ذلك إحالة على القربات المعروفة في الدين , وكما أمر بالتقرب إليه وحده ,أخبر أن هذا شأن عباده الصالحين الصالحين الذين يدعوهم المشركون , ومع هذا قال بعضهم بالتوسل بالنبي ثم لم يقفوا عند هذا وحده , بعد أن وجدوا في حديث الأعمى الذي رواه الترمذي , وهو حسن , ما يقوي شبهتهم , بل ألحقوا به التوسل بالأولياء وغيرهم , وهذا كقياسهم على التبرك بفضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وشعره وغير ذلك التبرك بغيره , وهو خلاف الصواب لعدم فعل السلف .
ثم إنهم لم يقتصروا على هذا التوسل الذي زعموه جائزاً , بل طردوه وجعلوا الاستغاثة وغيرها من جنسه , وما هي منه بسبيل , ثم أطلقوا على بعض الناس اسم الغوث والمغيث , ووصلوا إلى درجة اعتبار بعض الناس يتصرفون في الكون , ولو لم يكونوا يعتقدون فيهم ذلك ما سألوهم أموراً لا قدرة لهم عليها وهم أحياء , فكيف وهم أموات ؟ , وهذه الأسماء كالغوث والمغيث ليست معانيها إلا لله , فإنه هو غياث المستغيثين .
وليعلم أن التوسل والاستغاثة متغايران لا مترادفان خلاف الأصل , حتى إن بعض علماء العربية أنكره رأساً , واللغة في هذا المقام هي الفيصل ,إن لم يكن ثمة حقيقة شرعية للكلمتين ,ولأن الاستغاثة كما تقدم من جملة الدعاء , بل هي أخص فلا يجوز صرفها للمخلوق حسب التفصيل المذكور , وقد جاء النهي عن ذلك في الحديث :" وإنما يستغاث بالله " , وهذه صيغة حصر .
ولم يعرف عن الأولين التوسل بذات النبي , بل بطباعتهم له , وبدعائه لهم , ولذلك توسلوا بدعاء عمه العباس -رضي الله عنه - بعد وفاته , وأخيراً فإن المنع من الاستغاثة ليس من باب سدّ الذرائع , كما اعتبره بعضهم ,ثم ذهب يرد ذلك بقوله إن من منعها بهذه الحجة كم منع من غرس شجرة العنب بحجة أنه يصنع منها الخمر , والصواب أنها ممنوعة لذاتها لأنها ما تقدم عبادة والأصل فيها المنع , بخلاف التوسل , فإنه لحماية حمى التوحيد كما في نهيه عن قرن اسمه باسم الله في ذكر المشيئة .
والله أعلم