ملخص السؤال:سائل يَسأل عن مَشروعية الوعظ عند تأخُّر الجنازة، وهل هذا مِن البدَع أو لا؟ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.كنتُ في أحد المساجد وكان هناك مُتوفى سيُصَلَّى عليه، لكن تأخرت الجنازةُ بعض الوقت، فقام شخصٌ بوعظ الناس وتذكيرهم بالموت حتى تأتيَ الجنازة، فهل هذا الفعلُ يَدْخُل في البدعة أو لا؟
وجزاكم الله خيرًا

الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:فمما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله مِن أوجب الواجبات الشرعية والقصد الحسَن، والرغبةُ الصادقة في نفْعِ الناس تَدفع الدعاة إلى اللهِ إلى البحث عن الطريقة المُثلى للنُّصح، واستغلال المواقف والأحداث التي تكون مظنَّة لاستجابة النُّصح، ومِن أعظم المواقف التي تلمُّ بالإنسان، وتَجعله أقرب للاستجابة الموت الذي هو في حدِّ ذاته موعظة بليغة، فإنْ تَيَسَّر وجودُ داعية حسن الأسلوب والمنطق، وحرص على وعظ الناس في ذلك الموقف، إن تَيَسَّر وقتٌ في المسجد، أو على القبر، أو في الطريق للتشيع، أو غير ذلك، وتذكير الناس وتخويفهم وإرشادهم الاستعداد للموت - فيُرجى له أجرُ نفع الناس.ومَن تأمَّل السنَّة المُشرَّفة أدْرَكَ صوابَ ما نَذْكُره، وأنه موافق لهديِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولمقاصد الشريعة الغراء التي جاءتْ بمراعاة مصالح المكلفين، لا سيما في الدعوة إلى الله؛ ففي الصحيحين عن عليٍّ، قال: كنا في جنازةٍ في بقيع الغرقَدِ، فأتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقَعَدَ وقَعَدْنا حولَه، ومعه مِخْصَرَةٌ، فنَكَّسَ فجَعَل يَنْكُتُ بمِخصَرَتِه، ثم قال: ((ما منكم مِن أحدٍ، ما مِن نفس منفوسةٍ، إلا وقد كتَب اللهُ مكانَها مِن الجنة والنار، وإلا وقد كُتِبت شقيةً أو سعيدة))، قال: فقال رجلٌ: يا رسول الله، أفلا نَمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: ((مَن كان مِن أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان مِن أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة))، فقال: ((اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ، أما أهلُ السعادة فيُيَسَّرون لعمَل أهلِ السعادة، وأما أهلُ الشقاوة فيُيَسَّرُون لعمل أهل الشقاوة))، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10].وروى الإمامُ أحمدُ عن البراء بن عازب، قال: خرَجنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجلٍ مِن الأنصار، فانتهينا إلى القبرِ ولَمَّا يُلْحَدْ، فجَلَسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجَلَسْنا حولَهُ، كأنَّ على رؤُوسنا الطيرَ، وفي يدِه عودٌ يَنْكُت في الأرض، فرَفَعَ رأسه، فقال: ((استعيذوا باللهِ مِن عذابِ القبر مرتين، أو ثلاثًا))، ثم قال: ((إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كان في انقطاعٍ مِن الدنيا، وإقبالٍ مِن الآخرة، نَزَلَ إليه ملائكةٌ مِن السماء بيضُ الوجوه، كأنَّ وُجوههم الشمسُ، معهم كفنٌ مِن أكفانِ الجنة، وحَنوطٌ مِن حَنوطِ الجنة، حتى يَجْلِسوا منه مد البصر، ثم يَجيء ملكُ الموتِ عليه السلام حتى يجلسَ...)) الحديثَ.فمَن نظَر في تلك النصوصِ وعرَف المناط الذي يتعلَّق به الحكم، وعلم أيضًا أنَّ كل حكمٍ تعلق بعين معينة لا يختصُّ بها، وهو ما يُعرف بتخريج المناط، ثم يحقق المناط في غيره من الحوادث - مَن فَعَل هذا لم يتردَّد أو يتوقَّف طرفة عين في الحكم بمشروعية ذلك الفعل، ولقلَّ غلوُّه وتسرُّعه في الحكم بالبدعية، ولا يُظن أن هذا مِن القياسِ الذي قد يدخله النِّزاع، وإنما هو احتجاجٌ بنفس النصِّ؛ ولكن بعد بذل الوسع والاجتهاد، ومَن تأمل الحديثين السابقين، وكان على إلمام تام بقواعد أصول الفقه علم أن العلة الغائية فيهما: هو إبلاغُ الناس بعض الأحكام الشرعية التي تتناسَب مع حدث الموت، وتوظيف هذا المشهد المهيب دعويًّا، وإذا قررنا هذا شُرع لدعاة الأمة أن يعملوا تلك الحكمة فيما يجابهون مِن مواقف متنوعة، يستوي في هذا حال تشييع الجنازة، أو زيارة المرضى، أو العرس، ما دام يغلب على ظنه تحقيق تلك المصلحة العليا، وهي مصلحة البلاغ كلما تيسَّر الأمر، بشرط ألا يشق على الناس أو يمللهم.والحاصلُ أن وعظَ الناس وتذكيرهم أمرٌ مَطلوب شرعًا؛ كما قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125]، وكما قال تعالى: ﴿ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، ولم يُقَيِّدْ ذلك أو يُخَصِّصه بوقتٍ دون وقتٍ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعِظ الناس في أنديتهم وأماكن اجتماعهم، كما هو معلومٌ مِن سيرته، ومَن عَلِم "تحقيق المناط" و "تنقيح المناط" و "تخريج المناط" التي هي جماع الاجتهاد لم يتوقفْ في هذا، لا سيما لو انضمَّ إليه معرفة أنَّ الخاص الذي يراد به الخاص نادرٌ في الشريعة الإسلامية، وهذا هو القياسُ الصحيح طردًا وعكسًا، وهو الميزانُ المستقيمُ، فالقياس الصحيحُ هو العدل الذي أنزل الله به الكتابَ، وأرسل به الرسلَ، وهو التسويةُ بين المتماثلين والتفريق بين المتخالفين؛ سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول، أو بصيغة قياس التمثيل.قال الحافظُ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 228) في معرضِ شرحه لحديث: "إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَتَخَوَّلنا بالموعظة في الأيام، كراهية السآمة علينا"، قال الخطابيُّ: "المراد أنه كان يراعي الأوقات في تعليمهم ووعظهم، ولا يفعله كل يوم خشيةَ المَلَل، والتخوُّل: التعهُّد".ولا شك أنَّ وقتَ انتظار الناس في المسجد لإحضار الجنازة وقتٌ مناسبٌ للموعظة، تكون النفوسُ فيه مُهَيَّأة للتأثُّر بالموعظة، لكونها تتفكَّر في ذلك الموقف العظيم الذي تحمل فيه على الرقاب، ثم يُهال عليها التراب، بل لا يكاد تجد وقتًا أَهْيَأَ للقبول مِن ذلك الوقت، ومِن ثَم وعَظَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه عند القبر، ولكن مع مُراعاة ألا يتخذ ذلك عادةً وهديًا؛ حتى لا تخطلَ بما شرعتْ له الخطبة كالجمعة مثلًا.
والله أسأل أن يختمَ بالصالحات أعمالنا