تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 16 من 16

الموضوع: اقرار المشركين للربوبية بحث علمي

  1. #1

    افتراضي اقرار المشركين للربوبية بحث علمي

    إقرار المشركين للربوبية
    إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونشهد أن لا إلــــــــه إلا هو وأن محمداً عبده ورسوله
    وبعد فهذا بحث عقدي مهم عن مسألة إقرار المشركين للربوية اختصرتها من رسالتي في المسألة للفائدة.
    فنقول إن إقرار مشركي العرب للربوبية ذكره جمع من أهل العلم من علماء السلف والخلف ([1]) وهو المنصوص في القرآن والسنة، وإذا عرف الإنسان ما كان المشركون يقرون به يعلم علم اليقن ما أنكروه، ومن ثمّ تأتي هذه المسألة وفائدتها، فنذكر من القرآن والسنة وأقوال السلف والخلف ما ينسف مما ذكره أهل الأهواء بإذن الله تعالى، ونبدأ بما جاء في القرآن من إقرارهم للربوبية، ثم ما جاء في السنة النبوية، ثم ما جاء في أشعار الجاهلية، ثم أقوال العلماء من السلف والخلف ولكثرة النصوص القرآنية والنبوية لهذه المسألة أردنا أن نجعلها في مباحث أربعة:


    المبحث الأول: إثبات إقرار المشركين للربوبية وذكر ما قرره القرآن من صور ذلك.

    الصورة الأولى من إقرارهم بالله

    الصورة الأولى : جاء في القرآن الكريم أنهم إذا سئلوا مَن خلق السموات والأرض وغيرهما من المظاهر الكونية؟ أنهم يقولون:الله، وهذا كثير في القرآن نقتصر طرفاً منه.
    1- قال تعالى: {{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}} [المؤمنون:84-89].
    قال أبو جعفر ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك: لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق، إن كنتم تعلمون من مالكها؟ ثم أعلمه أنهم سيقرون بأنها لله ملكا، دون سائر الأشياء غيره..اهـ
    قال: (فأنى تسحرون) يقولون: فمن أي وجه تصرفون عن التصديق بآيات الله، والإقرار بأخباره وأخبار رسوله، والإيمان بأن الله القادر على كل ما يشاء، وعلى بعثكم أحياء بعد مماتكم، مع علمكم بما تقولون من عظيم سلطانه وقدرته؟!.اهــ([2]).

    وقال ابن كثير: يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون شيئا، ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] .اهــ .([3]).
    وقال الرازي فخر الدين: اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان، وذلك لأن القوم كانوا مقرين بالله تعالى فقالوا نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى..اهـ.([4]).
    2- وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون. الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون }[العنكبوت:61-63].
    قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله، من خلق السموات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر لعباده، يجريان دائبين لمصالح خلق الله، ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله الله. (فأنى يؤفكون) يقول جل ثناؤه: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فأنى يؤفكون) : أي يعدلون.اهـ.([5]).
    وقال القرطبي: قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء) أي من السحاب مطرا. (فأحيا به الأرض من بعد موتها) أي جدبها وقحط أهلها. (ليقولن الله) أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الإعادة.اهـ.([6]).
    وقال الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين -الذين يعبدون معه غيره -معترفون أنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، ...فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك".اهـ([7]).

    3- وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [لقمان:25].
    قال القرطبي: قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره.اهـ.([8]).



    [1] يقول شيخ الإسلام :..لم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم.اهـ. درء تعارض (9/378).

    [2] تفسير الطبري (19/ 63- 65).

    [3] تفسير ابن كثير (5/ 488- 489 ط طيبة).

    [4] تفسير الكبير المسمى" مفاتيح الغيب"(23/ 290ط إحياء التراث العربي – بيروت).

    [5] تفسير الطبري (20/ 58- 59).

    [6] تفسير القرطبي (13/ 361 ط دار الكتب المصرية – القاهرة).

    [7] التفسير (6/ 294).

    [8] التفسير (14/ 75).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  2. #2

    افتراضي


    الصورة الثانية من إقرارهم بالله من القرآن
    وفي صورة أخرى وهي الثانية يذكر القرآن إقرارهم للربوبية بل والعبودية، وذلك في محل دعائهم عند عجز أصنامهم- وهي عاجزة عقلاً وشرعاً- التى كانوا يعبدونها ويشركون بالله في عبادتها، وهذا لا يأتي إلا بعد اليأس من الحياة والخوف للنفس وفي ذلك يقول القرآن:
    1- {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}[اللقمان:32].
    قال أبو جعفر: وقوله: (دعوا الله مخلصين له الدين) يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره. قوله: (فلما نجاهم إلى البر) مما كانوا يخافونه في البحر من الغرق والهلاك إلى البر. (فمنهم مقتصد) يقول: فمنهم مقتصد في قوله وإقراره بربه، وهو مع ذلك مضمر الكفر به.اهـ .([1])
    2- وقال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا }[الإسراء: 67].
    قال ابن الجوزي في تفسيره: وإذا مسكم الضر في البحر يعني: خوف الغرق ضل من تدعون أي: يضل من يدعون من الآلهة، إلا الله تعالى. ويقال: ضل بمعنى غاب، يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب، والمعنى: أنكم أخلصتم الدعاء لله، ونسيتم الأنداد.اهــ.)[2](.
    وقال القرطبي: المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل.اهـ.([3]).
    3- وقال تعالى : {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون} (الأنعام: 40-41) يقول الإمام الطبري: يقول تعالى ذكره، مكذبا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم، أيها المشركون بالله الآلهة والأنداد، إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة، بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم، بل تدعون هناك ربكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره.. اهــ ([4]).
    بل يقرر القرآن حدثاً مهماً وهو أنه لما أنكر المشركون التوحيدَ وأنفوا من الانقيادِ واستنكفوا عن الطاعة لله ورسوله ورأى - رسول الله صلى الله عليه وسلم- منهم إدباراً، دعا ربه أن يُسلط عليهم سنين كسنين يوسف، وأجاب رب العالمين دعاءه، وأصاب المشركين القحطُ، والجوع، حتى أتت السماء بدخانٍ مبين، قال تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون}[الدخان: 10-12].
    فدعاؤهم هذا – ربنا اكشف عنا..- دليل إقرارهم بأنه لا يكشف العذاب والمصائب أحدٌ سواه، وأنه – تعالى- هو المستقل بهذا الأمر، وقد جاء تفسير الآية في البخاري ([5]) ومسلم ([6])عن ابن مسعودٍ قال:"‹‹إن قريشا لما غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه، قال: " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، قالوا: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} [الدخان: 12] فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا، فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10] إلى قوله جل ذكره {إنا منتقمون} [الدخان: 16] ››.
    وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم ،وجاء في الصحيح(4809)أيضاً أنهم دعوا لأنفسهم كذلك ففيه:قال: فدعوا: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون..}".
    الصورة الثالثة من إقرارهم الله
    ومرة ثالثة يصور القرآن كيفية إيمانهم للربوبية وبأنهم كانوا يقسمون ما آتاهم الله من فضله من النعم أنصاباً يجعلون لله نصيباً وللأوثان نصيباً أخر وإذا حصل النقص في نصيب الأصنام يزاد من نصيب الله - زعموا- دون العكس وذلك لما في عقيدتهم من أن الله غني لا يحتاج إلى زيادة بخلاف الأصنام، وهذا إقرار لله تعالى، ومجده،
    يقول الله تعالى:
    1- {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون }[الأنعام: 136].
    قال البخاري:«جعلوا لله مِن ثمراتهم ومالِهم نصيباً، وللشيطان والأوثان نصيباً»([7]). و هذا المعنى روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما كما عند ابن جرير وغيره.
    2- وقال تعالى{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون }[النحل:56].
    قال الطبري: يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون من عبدة الأوثان، لما لا يعلمون منه ضرا ولا نفعا نصيبا. يقول: حظا وجزاء مما رزقناهم من الأموال، إشراكاً منهم له الذي يعلمون أنه خلقهم، وهو الذي ينفعهم ويضرهم دون غيره.
    كالذي حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) قال: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم نصيبا مما رزقناهم.اهـ.([8]).
    ثم أخرج بسندٍ حسنٍ عن قتادة، في قوله (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم)قال:وهم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم نصيبا مما رزقناهم، وجزءا من أموالهم يجعلونه لأوثانهم.([9]).
    وبسند صحيح عن ابن زيد، قال في قوله (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم): جعلوا لآلهتهم التي ليس لها نصيب ولا شيء، جعلوا لها نصيباً، مما قال الله من الحرث والأنعام، يسمون عليها أسماءها ويذبحون لها.([10]).


    [1] التفسير (20/ 156).

    [2] زاد المسير في علم التفسير(3/ 38).

    [3] التفسير (10/ 291).

    [4] تفسير الطبري (11/ 353- 354).

    [5] صحيح البحاري الرقم (4822).

    [6] صحيح مسلم الرقم (2798).

    [7] صحيح البخاري (بعد حديث: 4626).

    [8] تفسير الطبري(17/ 226)،والأثر الذي أسنده هنا عن مجاهد لا يصح، وقد ثبت عنه نحو هذا القول بأسانيد أخرى ثابتة ، كما في الصورة الخامسة.

    [9] المرجع السابق. قال السيوطي:وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.فذكره.

    [10] المرجع السابق.
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  3. #3

    افتراضي

    الصورة الرابعة من إقرارهم بالله
    ومرة رابعة يذكر القرآن أنهم كانوا يحلفون بالله تعالى حَلفاً مؤكداً وذلك في آيات عدة منها:
    1- قوله تعالى:{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون}[الأنعام:109].
    قا القرطبي: قوله تعالى:" وأقسموا" أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله فقوله:" جهد أيمانهم" أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، كما أخبر عنهم بقوله تعالى:" ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى". وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله..اهـ.([1]).
    2- وقال تعالى:{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا}[فاطر:42].
    قال الإمام البغوي:{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} يعني: كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، وأقسموا بالله وقالوا لو أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم، وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد كذبوه..اهــ.([2]).


    [1] تفسير القرطبي المسمى "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 62).

    [2] تفسير البغوي المسمى" معالم التنزيل" (6/ 426).
    تنبه: ولا يعارض حَلفهم بالله حلفهم باللات والعزي كما كان وقتئذٍ ؛ لأن القسم المؤكد وجهد الأيمان لم يكن إلا بالله، وقد ثبت قسمهم باللأت والعزي في أحاديث كما في صحيح مسلم (2797).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  4. #4

    افتراضي

    الصورة الخامسة من إقرارهم بالله
    ومرة خامسة يثبت لهم القرآن الإيمان مع الشرك وهذا أوكد الأدلة لما ذكرناه من الفرق بين الإيماني الجزئي وبين المطلق فيصح إثبات الإيمان الجزئي لهم مع الشرك ولا يكون هذا تناقضاً كما قال صاحب الرسالة، يقول تعالى:{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }[يوسف:106].
    فهذه الآية الكريمة أثبتت لهم الإيمان مع الشرك وأن إيمانهم لا يكون إلا مع الشرك وجاء تفسيرها عن كثير من السلف الصالح من الصحابة وغيرهم فأخرج الطبري([1]) وابن أبي حاتم([2]) وحسنه الحافظ ([3])عن ابن عباس: (وما يؤمن أكثرهم بالله) الآية، قال: من إيمانهم، إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله. وهم مشركون.
    وأخرج الطبري ([4])بسندٍ صحيح عن عكرمة في قوله تعالى{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} قال يسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره.
    وأخرج أيضاً ([5])من طرق عن مجاهد وصححه الحافظ([6]){وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}، إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا.، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره.
    وأخرج في تفسيره([7]) أيضاً بسندٍ حسنٍ عن قتادة، قوله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) ، في إيمانهم هذا. إنك لست تلقى أحدا منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشرك في عبادته.
    وأخرج عن عطاء([8]) وصححه الحافظ([9])في قوله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) ، قال: يعلمون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يشركون به.
    وأخرج الطبري([10]) وابن أبي حاتم([11]) بسندٍ صحيحٍ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: (وما يؤمن أكثرهم بالله) ، الآية، قال: ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به.
    ألا ترى كيف قال إبراهيم: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) [سورة الشعراء: 75-77] ؟ قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون. قال: فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به. ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول:"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"؟ المشركون كانوا يقولون هذا.اهـ.
    وأخرج أبو حاتم في "تفسيره"([12]) بسندٍ حسنٍ عن النضر بن عربي الباهلي، في قوله: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال: فمن إيمانهم أن يقال لهم من ربكم فيقولون: الله ومن يدبر السموات والأرض؟ فيقولون الله. ومن يرسل عليهم المطر فيقولون الله ومن ينبت الأرض؟ فيقولون الله، ثم هم بعد ذلك مشركون فيقولون: إن لله ولدا ويقولون: ثالث ثلاثة"اهـ.
    فهذا الآثار عن الصحابة والتابعين تدل دلالة واضحة أن المشركين كانوا يؤمنون بالله إيماناً مخلوطاً بالشرك، وقد ذكر الصحابة في تفسيرهم هذا عدة أمور تدل ما قلناه من إيمان المشركين بالمظاهر الكونية من خلق السموات والأرض وإنزال المطر وإنبات الأرض، وغير ذلك من الدلائل وهذا يدل ضعف قول المردود عليه وبطلانه.

    الصورة السادسة من إقرار المشركين للربوبية
    وفي كلام ابن زيد دليل زائد عما ذكرنا من قبل من صور إيمانهم بالله وهي الصورة السادية وهي استدلاله لقوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم.
    1- قال تعالى"{قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}[الشعراء:75-77].
    وفي هذه الآية ما يقطع إيمان المشركين للربوبية بل والعبودية؛ فإن الخليل إبراهيم قد تبرأ من عبادة ما يعبده قومه وآباؤهم الأقدمون وذكر أنهم- المعبودات - أعداء له واستثنى معبوده الجليل، ولو لم يكن هؤلاء المشركون يعبدون الله لما كان لاستثنائه معنىً؛ لأن ماهية الاسثناء هي إخراج ما لولاه لدخل في الكلام السابق، فلو لم يستثن ربَّ العالمين لدخل فيما يعبده المشركون الذي يتبرؤه الخليل - عليه السلام-، لكن تبرأ الخليل عن كل معبود يعبده هؤلاء إلا رب العالمين الذي كان من ضمن ما يعبده هؤلاء.قال أبو جعفر ابن جرير:ومعنى الكلام: أفرأيتم كل معبود لكم ولآبائكم، فإني منه بريء لا أعبده، إلا رب العالمين.اهــ.([13]).
    وقد سبق كلام ابن زيد ومثل هذه الآية:
    2- قوله تعالى:{وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} [الزخرف:26-28].
    أخرج الطبري([14]) بسندٍ حسنٍ عن قتادة، قوله: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه..) الآية، قال:..كانوا يقولون: إن الله ربنا (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) فلم يبرأ من ربه.
    ومعنى قول قتادة –رحمه الله تعالى – إنهم كانوا يعتقدون ربوبية الله تعالى وأنه خالق السوات والأرض ، لذا فلم يتبرأ إبراهيمُ – عليه السلام- جميع ما يعبده هؤلاء إذ يكون من ضمن معبودهم ربه وخالقه فلم يتبرأ من ربه. وهذا فقه سلفي جليل.
    3- وقال تعالى:{وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا }[الكهف:16].
    وروي عن عطاء الخراساني وكان من أولياء الله الصالحين في قوله: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله}، قال: كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. قال السيوطي أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.([15]).


    [1] التفسير (16/ 286 الرقم: 19954)

    [2] تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2207 ط مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية).

    [3] الفتح الباري (13/495).

    [4] تفسير الطبري (16/ 286).

    [5] المرجع السابق (16/ 287).

    [6] الفتح الباري (13/494).

    [7] تفسير الطبري (16/288).

    [8] المرجع السابق(16/289)

    [9] الفتح الباري (13/494).

    [10] تفسير الطبري (16/289).

    [11] تفسير ابن أبي حاتم(7/2208).

    [12] تفسير ابن أبي حاتم (7/2208).

    [13] تفسير الطبري (19/ 363).

    [14] المرجع السابق(21/ 589).

    [15] الدرر المنثور للإمام السيوطي (5/ 371)، ولم نقف على سنده حتى نتأكد من صحته وعدمه؛ لأن هذه التفسير ما زال بعضها مخطوطاً وبعضها مفقوداً والقسم المطبوع الذي أمامي لا يتضمن السورة .
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  5. #5

    افتراضي

    الصورة السابعة من إقرارهم بالله
    الصورة السابعة مما ذكره القرآن ويدل إيمان المشركين بالربوبية ما جاء في القرآن من إيمانهم بمشيئة الله تعالى.
    1- يقول تعالى:{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}[الأنعام:148].
    قال أبو جعفر في توصيف مقالتهم هذه:لو أراد الله منا الإيمان به، وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة، وتحليل ما حرم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا، ما جعلنا لله شريكا، ... لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك، حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل: إما بأن يضطرنا إلى الإيمان وترك الشرك به، وإلى القول بتحليل ما حرمنا وأما بأن يلطف بنا بتوفيقه، فنصير إلى الإقرار بوحدانيته، وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام، وإلى تحليل ما حرمنا، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام، واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد، وأراد ما نحرم من الحروث والأنعام، فلم يحل بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك.اهــ.([1])
    2- وقال تعالى أيضاً في سورة النحل :{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين }[النحل:35].
    وهذا احتجاج منهم بالقدر الكوني وهي شبهة جبرية كما سماها الرازي([2])؛ لكن الله تعالى أبطل قولهم هذا واحتجاهم بالمشيئة فأرسل لهم الرسل تترى التى تنهاهم عن هذه الرذائل والشركيات،
    وإلى هذا أشار بقوله تعالى"{فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} يقول ابن كثير([3]): أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يعيره عليكم ولم ينكره، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة رسولا.. اهــ
    وفي الآية وسابقتها اقرار منهم المشيئة له تعالى وهي فرع عن إثبات التصرف المطلق له.ومثل هذه الآيات قوله تعالى في سورة ياسين:
    3- قال تعالى:{وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين}[يـسن:47].والله أعلم.

    الصورة الثامنة من إقرارهم بالله
    الصورة الثامنة أن الله أخبر أن مِن الناس مَن يتحذ من دونه انداداً يحبونهم كحب الله وهذا دليل قوي على إيمانهم للربوبية بل والعبودية ؛ لإن الحب من خصائص الألوهية قال تعالى:{ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله}[البقرة:165].
    وقد جاء في تفسير هذه الآية قولان لأهل العلم منهم: من قال يحبون هذه الأنداد – الأصنام- كحبهم لله تعالى، وقال بعضهم: يحبوب هذه الأنداد كحب المؤمنين لربهم والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم. وقال البغوي –رحمه الله-:قوله تعالى: ومن الناس، يعني: المشركين، من يتخذ من دون الله أندادا، أي: أصناما يعبدونها. يحبونهم كحب الله، أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة..اهـ.([4]).
    وتفسير الزجاج – رحمه الله - هو الذي يدل عليه السياق ورجحه الرازي وغيره ولم أر من الصحابة والتابعين من فسر الآية به بل جميعهم في القول الأول .


    [1] تفسير الطبري (12/ 208).

    [2] مفاتيح الغيب (20/ 203).

    [3] تفسير ابن كثير (4/ 570).

    [4] معالم التنزيل (1/ 196).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  6. #6

    افتراضي

    الصورة التاسعة من إقرار المشركين لله
    الصورة التاسعة أن المشركين صرحوا سببَ عبادتهم للأصنام والأوثان، وعدم إخلاصهم لله في العبادة، فذكروا أنهم جعلوا هذه الأصنام بمثابة الوسائط بينهم وبين الله، وهذه الصورة من أوضح الأدلة لما نحن فيه، وتدل أن عبادهم للأصنام لم تكن على وجه الاستقلال، بل اعتقدوا أن عبادتها تقربهم إلى الله تعالى.
    فمقصودهم هو الله لكنهم ضلوا عن الطريق حيث سلوكوا طريقاً باطلاً، ظنوا من خلاله يطيعون الله تعالى ويتقربون إليه، فمشكلتهم في السبب الذي جعلوه سبباً، والحامل على هذه الوسيلة الباطلة هي ما قاله ابن عطية:"..إن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته.اهـ.([1]).
    يقول تعالى في بيان هذه الصورة:
    1- {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار }[الزمر:3].
    قال الإمام الطبري: يقول تعالى ذكره: والذين اتخذوا من دون الله أولياء يتولونهم، ويعبدونهم من دون الله، يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زلفى، قربة ومنزلة، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا، وهي فيما ذكر في قراءة أبي:"ما نعبدكم"، وفي قراءة عبد الله:" (قالوا ما نعبدهم)..اهــ([2])
    ثم روى الطبري([3]) بسندٍ حسنٍ عن قتادة، قوله: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا، إلا ليشفعوا لنا عند الله.اهـ
    وبسند صحيحٍ عن ابن زيد قال: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) قال: قالوا هم شفعاؤنا عند الله، وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة للأوثان، والزلفى: القرب.اهـ.([4]).
    "وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له"أفاده ابن كثير في تفسيره([5]).
    وقوله تعالى:{إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار}يقول إن الله لا يهدي من هو كاذب في دعواه أن هذه الأصنام شفعاء عند الله وإنها تقرب إليه، كافر بربه إذ كان يعبد من دون الله أنداداً، وهذا سبب الكفر.
    قال الإمام ابن الجوزي: قوله تعالى:{إن الله لا يهدي} أي: لا يرشد من هو كاذب في قوله: إن الآلهه تشفع كفار أي: كافر باتخاذها آلهة...اهــ.([6]).
    وهذا الشبهة الشركية هي نفس شبهة عباد القبور والأولياء زاعمين أن فعلهم هذا توسلٌ مع أن فعل المشركين هذا هو توسلٌ أيضاً، لكنه جاء باسم التزلف والشفاعة وهذا جاء باسم التوسل والاستغاثة،وهذه العقيدة فهي نفس عقيدة المشركين، والأسماء لا تغير الحقائق.
    وقد ترى بعضهم يقول تعليلاً لما فعل المشركون -منهم صاحب الرسالة- إنهم عبدوا هذه الأصنام بدليل قولهم" ما نعبدهم" وهذا الكلام ضرب من الخيال وعدم الفهم للشرع ؛لأن ما قاموا به من التوسل والوسائط بينهم وبين الله هي العبادة نفسها فإنهم – خذلهم الله- تقربوا الأصنام إليه – تعالى - بصنوف من القربات من الدعاء والنذور، ونحروا لهم، ولهثوا بأسمائهم، طلباً للغاية المنشوذة، وهي أن تكون هذه الأصنام – وهي تماثيل رجالٍ صالحين- شفعاء بينهم وبين الله تعالى، فهذا الاعتقاد هو العبادة.
    يقول الشهرستاني:القو لما عكفوا على التوجه إليها؛ كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها. وعن هذا كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب.اهــ وسيأتي كلامه.
    فمن فعل مثل فعلهم، من النذور للقبور أو الشيوخ، واستغاث بالأولياء، أو بأحد من رسله، فهو كمن استثغاث بودٍ، وسواع، ولا فرق؛ لأن هؤلاء لم يعتقوا الأصنام من حيث إنها أحجار أو أخشاب وإنما أنها تماثيل للملائكة والصالحين.
    يقول الرازي في "تفسيره":إن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها.اهـ([7]).
    ويقول في"تفسير سورة نوح":إنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3].اهـ. ([8]).
    ويقول الشاطبي في" الاعتصام": ..وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم، فقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله، إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونهم ويتبركون بهم، ثم عبدت، فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد، وهو الضلال المبين.اهـ.([9]).

    [1] تفسير ابن عطية المسمى" المحرر والوجيز" (4/ 518).

    [2] تفسير الطبري (21/ 251).

    [3] تفسير الطبري (21/ 251).

    [4] تفسير الطبري (21/ 252).

    [5] تفسير ابن كثير (7/ 85).

    [6] زاد المسير في علم التفسير (4/8).

    [7] مفاتيح الغيب أو تفسير الكبير (26/ 421).

    [8] تفسير الكبير (30/ 657).

    [9] الاعتصام للشاطبي (1/ 182 ت:سليم الهلالي).

    [10] تفسير الطبري جامع البيان (15/ 46).

    [11] تفسير الطبري (11/ 547)، وفي حديث ابن عباس أن الشريك لا يملك شئياً وإنما هو ملك لله كما يأتي إن شاء الله.

    [12] وقال السيوطي في الدرر المنثور(5/ 541):أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات...اهـ وهذه الرواية والتي بعدها يرويها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو مرسل فإنه لم يسمع عن ابن عباس شيئاً كما ذكره الحفاظ، لكن احتج هذه الرواية – وهي في الأصل نسخة- كثيرة من أهل العلم قال الحافظ في" العجاب في بيان الأسباب" له (1/ 207):عليّ صدوق، ولم يلق ابن عباس، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وأبو حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة" اهـ.وراجع الفتح الباري (كتاب التفسير 8/ 438 تفسير سورة الحج).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  7. #7

    افتراضي

    الصورة العاشرة من إقرارهم بالله
    الصورة العاشرة أن القرآن قرر في مواضع كثيرة جداً لفظ" المشركين" وما في معناه، وهذا اللفظ بمفرده يدل دلالة واضحة أن المشركين أشركوا في العبادة بين الله وبين آلهتم من الأوثان والأصنام، ولو لم يكونوا عارفين بالله تعالى أو بعبارة أدق معترفين بوجوده واستحقاقه للعبادة لما عبدوه ولا ذكروه، فإنهم –خذلهم الله- عبدوا الله تعالى، لكن عبادة مخلوطة بالشرك ،
    ولا يوجد من يعتقد آلهة متعددة كل منهم تام لذاته، فإن هذا لم يقل أحد من الملل كما ذكره الإمام عز بن عبد السلام([1]) فلفظ "الشرك" واضح في عبادة الله مع الإشراك فيها غيره ، فهم عدلوا به شيئاً من خلقه مع أنهم يرون أن هذا الشريك هو نفسه مِلكٌ لله، وما ملَك،كما سيأتي في حديث ابن عباس عند مسلم، فلا هم عبدوا الله وحده ولا هم عبدوا غيره استقلالاً بل جمعوا بين الله وبين غيره في العبادة، فعبدوا معه غيره.
    وهذا معنى الشرك وهو اتخاذ مع الله شريكاً سواء كان إنساً أو جناً أو جماداً، يقول أبو جعفرٍ ابن جرير في قوله تعالى{يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}[آل عمران:114]:يعني بقوله جل وعز:"يؤمنون بالله واليوم الآخر"، يصدقون بالله وبالبعث بعد الممات، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم;وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله، ويعبدون معه غيره، ويكذبون بالبعث بعد الممات، وينكرون المجازاة على الأعمال والثواب والعقاب.اهـ.([2]).
    وقال في قوله تعالى"{ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}[الأنعام: 88 ].،: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره، فعبدوا معه غيره "لحبط عنهم"، يقول: لبطل فذهب عنهم أجر أعمالهم التي كانوا يعملون، لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا.اهـ.([3]).
    وقال في قوله تعالى{أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون}[العنكبوت:4]:يقول تعالى ذكره: أم حسب الذين يشركون بالله فيعبدون معه غيره، وهم المعنيون بقوله: (الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) يقول: أن يعجزونا فيفوتونا بأنفسهم، فلا نقدر عليهم فننتقم منهم لشركهم بالله.اهــ.([4]).
    وقال في قوله تعالى(وهو العزيز الحكيم}[العنكبوت:42]. يقول: والله العزيز في انتقامه ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره فاتقوا أيها المشركون به، عقابه بالإيمان به قبل نزوله بكم..اهــ.([5]).
    وقال في قوله تعالى {أم لهم إله غير الله}[الطور: 43] يقول جل ثناؤه: أم لهم معبود يستحق عليهم العبادة غير الله، فيجوز لهم عبادته، يقول: ليس لهم إله غير الله الذي له العبادة من جميع خلقه (سبحان الله عما يشركون) يقول: تنزيها لله عن شركهم وعبادتهم معه غيره.اهـ .([6]).
    وأخرج الطبري ([7])بسندٍ صحيح عن ابن زيد في قوله تعالى:"ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله" قال، هؤلاء المشركون. أندادهم: آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم هم آلهتهم.اهـ.
    فلهذا لم يكونوا ينكرون الله تعالى بل ينكرون التوحيد وترك الإشراك كما قال تعالى:{ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }[عافر:12]
    فانظر قوله " وإن يشرك به تؤمنوا" فهذا دليل أنه لا إشكال عندهم في إشراك العبادة بين الله وبين الأوثان، كمَن أشرك مالاً بين شخصين وقال: لا يطعى زيدٌ دون عمرو، فهذا لا ينكر قسمة زيد، ولا هو، وإنما ينكر توحده بالعطية، وكذلك الكفار إنما يريدون أن يُذكر مع الله غيره كما قال تعالى:{وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون}[الزمر:45]. يقول الطبري:وإذا ذكر الآلهة التي يدعونها من دون الله مع الله، فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، إذ الذين لا يؤمنون بالآخرة يستبشرون بذلك ويفرحون.اهـ.
    وكانت الأصنام عندهم بمثابة الملحق غير المستقل كما قال تعالى:{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم }[سبأ:27].فقوله تعالى " الحقتم به" دليل أنهم لم يعبدوا الأصنام على وجه الاستقلال .
    وذكر القرآن أنهم كانوا على عقيدة تامة أن هذه الأصنام لا ترى ولا تسمع ولا تنفع ولا تضر، لكن لما طال عليهم الأمد ورأوا أن آباءهم يعكفون عندها ظنوا ما وجدوا من آبائهم آلهة فاقتدوا بهم قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ . قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ . أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ . قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:69-74].
    يقول الإمام الطبري:فكان جوابهم إياه: لا ما يسمعوننا إذا دعوناهم، ولا ينفعوننا ولا يضرون، يدل على أنهم بذلك أجابوه. قولهم: (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وذلك رجوع عن مجحود، كقول القائل: ما كان كذا بل كذا وكذا، ومعنى قولهم: (وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وجدنا من قبلنا ولا يضرون، يدل على أنهم بذلك أجابوه، قولهم من آبائنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها، فنحن نفعل ذلك اقتداء بهم، واتباعا لمنهاجهم.اهـ.([8]).
    ولو كانوا يرون أن من شأن الأصنام الخلقُ والإيجاد والتصرف لما سأل سبحانه ما جاء في قوله:{قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا }[فاطر: 40]، تقريراً لعدم صلاحية هذه الأصنام للعبادة وأنه هو المتفرد بهذه الأمور فذكر سبحانه أنه لا جواب عندهم من هذه الأمور ؛ لأنهم لا يعتقدون لأصناهم هذه الأوصاف.

    وقوله تعالى "بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا" قال الطبري:وذلك قول بعضهم لبعض (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) خداعا من بعضهم لبعض وغرورا، وإنما تزلفهم آلهتهم من النار، وتقصيهم من الله ورحمته.".([9]).
    فهذا الغرور الذي هو عبادة الأصنام من أجل أنها واسطة بينهم وبين الله هو الذي أرسل الله لإبطاله الرسل وأنزل لإزاحة الكتب.
    وهذه الصورة قد قررها القرآن في غير موضع وأوضح أنهم جعلوا مع الله غيره، فكلمة "مع" تدل على المشاركة وليس التفرد بعبادة الأصنام.
    1- يقول تعالى:{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }[الأنعام: 19].
    2- وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }[الحجر: 96]،وقال تعالى:{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}[ق:26].
    والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً وأخرج البخاري([10]) وأبو داود([11])واللفظ له عن ابن عباس، قال: " لما نزلت التي في الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق}[الفرقان: 68] قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلها آخر، وأتينا الفواحش، فأنزل الله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70]...›››".


    [1] أمالي عز بن عبد السلام نقلاً من فتاوى الحديثية للهيتمي (ص: 188). وسيأتي إن شاء الله.

    [2] تفسير الطبير (7/ 130) .

    [3] المرجع السابق (11/ 514).

    [4] المرجع السابق (19/ 10).

    [5] المرجع السابق (20/ 39).

    [6] المرجع السابق (22/ 484).

    [7] المرجع السابق (3/ 280).

    [8] المرجع السابق (19/362).

    [9] تفسير الطبري (20/ 481).

    [10] صحيح البخاري الرقم (4810)

    [11] سنن أبي داود الرقم (4273).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  8. #8

    افتراضي

    انتهى ما أردنا من نقل إقرار المشركين للربوبية من القرآن ونذكر بعدها ما وجدنا من الأحاديث النبوية إن شاء الله، وهو المبحث الثاني.
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  9. #9

    افتراضي

    المبحث الثاني: إثبات إقرار المشركين للربوبية وذكر بعض ما جاء في السنة النبوية من ذلك.
    وما ذكرنا من القرآن الكريم من إقرار المشركين للربوبية والعبودية - إلا أنهم أفردوا له بالربوبية دون العبودية- قد جاء في السنة أيضاً ما يدل عليه، والسنة هي التى تبين القرآن، وهي دلائله؛ وإن كان ما في القرآن لإقامة الحجة يكفي وتحقيق المحجة يفى، إلا أن السنة تمثل الواقع التطبيقي لما ذكره القرآن ونذكر ما وقفنا عليه ومنها:
    1- جاء في السنة الشريفة أن الكفار كان لهم أعمال تعبدية من عتاق وصلة وصدقة فأخرج البخاري([1])ومسلم([2]) عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام، أخبره أنه قال: يا رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية، من صلة، وعتاقة، وصدقة، هل لي فيها من أجر؟ قال حكيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما سلف من خير» وفي رواية لمسلم" قلت: فوالله، لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله".
    قال ابن بطال: قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: أن كل مشرك أسلم أنه يكتب له أجر كل خير عمله قبل إسلامه، ولا يكتب عليه بشىء من سيئاته، لأن الإسلام يهدم ما قبله من الشرك، وإنما كتب له الخير، لأنه إنما أراد به وجه الله، لأنهم كانوا مقرين بالله إلا أن علمهم كان مردودا عليهم لو ماتوا على شركهم..اهـ.([3]).
    وقد أول بعض العلماء هذا الحديث وما في معناه وليس من شأننا هنا الحوار معهم فإننا نتكلم عن الكفار وكونهم يعبدون الله ويتقربون إليه بأنواع من القربات وهذا الحديث واضح فيه أما هل يؤجر أو لا.. فهذا له محل آخر، ومن المستحيل أن يسأل حكيم ما فعل في الجاهلة للأصنام والأثان أو أشرك مع الله غيره فيه أن يؤجر منه بل إنما سأل عن قربات خالصة عملها قبل الإسلام.
    وهذا الحديث وما يأتي بعده -إن شاء الله- رد على قوله،" إنما يقولون ذلك عند المناقشة والمحاججة..." لأن حكيماً إنما عمل هذه الأمور قبل الرسالة لقوله" أتحنث بها في الجاهلية" والجاهلية هي ما قبل الإسلام ، وحكيم – رضي الله عنه- عاش قبل الإسلام ستين سنة وبعده كذلك، وهذا من سخائه المعروف فإنه كان سخياً في الإسلام وفي الجاهلة جاء في "صحيح مسلم"([4]) أنه أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير".
    2- ومن أعمالهم النذور فكانوا ينذرون لله في أفضل الأمكان كمسجد الحرام كما جاء في البخاري ([5]) في باب" باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانا في الجاهلية ثم أسلم" ومسلم ([6]) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوف نذرك فاعتكف ليلة».وهذا واضح في عبادتهم قبل الإسلام.
    3- وكان من عباداتهم الصيام فكانوا يصومون يوم عاشوراء كما أخرج البخاري ([7])، ومسلم ([8]) عن عائشة رضي الله عنها،: أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاء فليصمه ومن شاء أفطر».
    4- وكان من عباداتهم الطواف فكانوا يطوفون بالبيت عرياناً كما أخرج البخاري([9]) ومسلم ([10])عن عروة.
    5- وكانوا يقفون المزدلفة كما اخرج البخاري([11])ومسلم ([12]) عن عائشة رضي الله عنها: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها» فذلك قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199].
    6- وكانوا يلبون كما جاء في صحيح مسلم ([13]) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلكم، قد قد» فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.
    وفي هذا الحديث أن المشركين كانوا يلبون ويقرون أن الله- سبحانه- لا شريك له في ذلك وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول عند قولهم"لا شريك لك": قد قد. قال النووي – رحمه الله -: ومعناه أنهم كانوا يقولون هذه الجملة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اقتصروا على قولكم لبيك لا شريك لك .اهـ .([14])
    لكن – وللأسف- لم يقتصروا على قولهم بل زادوا زيادة تبطل ما سبق من قولهم "لا شريك لك" وهي قولهم:"إلا شريكاً.." وهذا الشريك في عقيدة المشركين لا يملك شيئاً، بل هو مملوك لله " إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك،" وهذا من أعجب الأمور إذ كيف يكون شريكاً مع أنه لا يملك وأن الله هو المالك؟!!، نعم لا يملك وأن الله – تعالى- هو المالك، لكن اعتقدوا أنه مجرد واسطة بين الله وبين الخلق، فالشراكة هي من حيث اعتقادهم أنه يقربهم إلى الله، وأنه بمنزلة الشافع الموصل إليه –سبحانه-، وهذه الاعتقاد يصحبه عمل وهو طلب النصر والعون منه والتوكل عليه وطلب الحوائج منه وغير ذلك من أنواع العبادة التى لا تليق إلا لله، وقد ابتلي هذا أيضاً كثير من الجهال المنتسبين إلى الإسلام، وقد سبق بسط هذا في تفسير قوله تعالى" ما نعبدهم إلا لقربونا إلى الله".
    قال الإمام ابن أثير:وفي حديث تلبية الجاهلية «لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك» يعنون بالشريك الصنم، يريدون أن الصنم وما يملكه ويختص به من الآلات التي تكون عنده وحوله والنذور التي كانوا يتقربون بها إليه ملك لله تعالى، فذلك معنى قولهم: تملكه وما ملك.اهــ. ([15]).
    وهذا الحديث يبطل ما توهب به المتوهمون من أن الكفار اعتقدوا أن للأصنام والأوثان تأثيراً والتصرفاً وأنهم عبدوا الأصنام على وجه الإستقلال.
    7- وكذلك كانوا يكتبون في رسائلهم "بسمك اللهم" كما حصل في صلح الحديبية جاء في البخاري([16]) ومسلم ([17]) عن أنسٍ وفيه أنه جاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم»، قال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.
    وهذا الحديث يشحص واقعاً تاريخياً وأن سهيلاً أبى "صلح الحديبية" أن يكتب الكاتب - وهو علي رضي الله عنه – "بسم الله الرحمن الرحيم" وهذا وإن أبى" الرحمن الرحيم" إلا أنه كان يرى أن يُكتب اسمُ الله، لكن لما كانت هذه الصيغة مخالفة لما عنده من الصيغ المعروفة أنذاك أبى، وفي صحيح مسلم أنه لم يعرف هذه الصيغة ففيه "ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم.." فأنكر سيهل – في جاهليته - " الرحمن الرحيم" لعدم معرفته هو ، أو أنكر لأجل الحمية الجاهلية كما ذكره الإمام العني في "عمدة القاري" حيث قال:إنما أنكر سهيل البسملة لأنهم كانوا يكتبون في الجاهلية: باسمك أللهم، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، في بدء الإسلام يكتب كذلك، وهو معنى قوله: (ولكن أكتب باسمك اللهم) كما كنت تكتب،
    فلما نزلت: {بسم الله مجريها}[هود: 11]. كتب {بسم الله} ولما نزل: {ادعوا الرحمن}[الإسراء: 71] . كتب {بسم الله الرحمن الرحيم}[النمل: 30]. ولما نزل {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} (النمل: 30) . كتب كذلك فأدركتهم حمية الجاهلية.اهــ.([18]).
    وذكر تاج الدين السبكي أنهم لم يضعوا له – تعالى- هذا الإسم وسيأتي كلامه في أقوال العلماء، وقريباً من جواب العيني كان جواب الإمام الطبري في "التفسير" حيث قال –رحمه الله-:وقد زعم بعض أهل الغباء([19]) أن العرب كانت لا تعرف "الرحمن"، ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) [سورة الفرقان: 60] ، إنكارا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو: لا ، وكأنه لم يتل من كتاب الله قول الله (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) - يعني محمدا - (كما يعرفون أبناءهم) [سورة البقرة: 146] وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون!
    فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته، واستحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
    ألا ضرَبتْ تلك الفتاة هجينها ... ألا قضبَ الرحمن ربي يمينها
    وقال سلامة بن جَندل السِّعدي:
    عجلتم علينا عجْلَتَينَا عليكم ... وما يشإ الرحمن يعقد ويطلق .اهــ.([20]).


    [1] صحيح البخاري (2220)

    [2] صحيح مسلم الرقم (123)

    [3] شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/437).

    [4] الرقم(123).

    [5] البخاري (2032).

    [6] مسلم (1656).

    [7] البخاري (1893).

    [8] مسلم (1125).

    [9] الرقم (1665)

    [10] الرقم (1219)

    [11] الرقم(4520)

    [12] الرقم(1219)

    [13] الرقم (1185)

    [14] شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 90 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت).

    [15] " النهاية في غريب الحديث"(2/ 467).

    [16] البخاري(2731)

    [17] مسلم(1784)

    [18] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/ 12-13 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت)

    [19] قوله "أهل الغباء" هكذا يقال كل من أنكر هذه المسألة .

    [20] تفسير الطبري (1/ 131).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  10. #10

    افتراضي

    1- وجاء في السنة أن أبا جهل قال " اللهم إن كان هذا هو الحق – يريد به ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة- فأنزل علينا حجارة من السماء، فأخرج البخاري([1]) ومسلم ([2])عن أنس بن مالك، يقول: " قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 34] إلى آخر الآية".
    فأقر أبو جهل – عدو الله- أن يكون له ربٌ، قادر أن ينزل على الناس حجارة من السماء ويأتي بعذاب أليم وطلب ذلك باسمه – تعالى- فقال:" اللهم.." وهذا واضح في المقصود، وكان لائقاً أن نورد هذا في شواهد القرآن لإقرار المشركين للربوبية لكن ذكرناه هنا لبيان الخبر للآية .
    2- وجاء في السنة أنهم كانوا يحلفون بالله وقد ذكرنا من القرآن ويشهد له ما جاء في قصة إسلام أبي ذرٍ الغفاري – رضي الله عنه- الطويلة وأنه كان يصلى قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
    يقول":وقد صليت، يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله.."
    وفيه أنه سئل أين توجه ؟ فقال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء –يعنى كأني كساء-، حتى تعلوني الشمس..".
    وفيه أيضاً لما قص له أخوه النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- وما لاقاه من قومه وما رموه به من السحر والكهن والشعر حلف أبو ذرٍ بالله، وقال:"والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون".أخرجه مسلم بطوله([3])،عن عبد الله بن صامت.
    وأخرج البخاري نحوه ([4]) عن ابن عباس دون ذكر الصلاة، وفيه أن أخاه أقسم بالله أيضاً." قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار، فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلت ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر..".
    وأسلم أبو ذر قريباً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أنه لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له النبي – صلى الله عليه وسلم- :"إني قد وُجِهتُ إلى أرضٍ ذات نخلٍ لا أراها إلا يثربَ" أخرجه مسلم. وفي الخبر أنه أسلم في قدومه هذا فإنه قال لما رجع إلى أخيه"فأتيتُ أنيساً فقال: ما صنعتَ؟ قلتُ: صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدقتُ، قال: ما بي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت..".
    وذكرتُ هذا لأن بعضاً قد يظن أنّ أبا ذرٍ جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- مسلماً، وقد يقول قائل :إنه كان حنيفياً ويضعف هذا أنه جاء في الخبر أنه أتى في طريقه كاهناً خيّر بينه وبين أخيه فيدل أنه كان متلبساً بأمور الجاهلية.
    3- واخرج الطبراني في الكبير ([5]) والأوسط([6])، وأبو يعلى([7])والبخاري في التاريخ كما ذكره الحافظ في"الإصابة"([8])عن عقيل بن أبي طالب، قال: قالت قريش لأبي طالب: إن ابن أخيك هذا قد آذانا ... فذكر القصة، فقال: يا عقيل، ائتني بمحمد. قال: فجئت به في الظهيرة، فقال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم فانته عن أذاهم، فقال: أترون هذه الشمس ؟ فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك. فقال أبو طالب: واللَّه ما كذب ابن أخي قط.
    قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"([9]):رواه الطبراني في الأوسط والكبير..وأبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.اهـ.
    وأبو طالب مات في آخر أنفاسه وهو يقول "هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك» فنزلت: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113]. ونزلت: {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56].أخرجه البخاري([10])ومسلم([11]) عن سعيد بن مسيب عن أبيه.
    4- وكان المشركون يرون أن ما ماتَ من الحيوانات أنه من ذبح الله له وهذا اعتراف منهم بالله وأنه يحيي ويميت، فأخرج الإمام أبو داود ([12]) والترمذي ([13])وقال حسن غريب،والنَسائي( [14])،وابن ماجه([15])، بألفاظ متقاربة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] قال: " خاصمهم المشركون، فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ".
    وجاء عند ابي داود ([16]) من طريق عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا.. فذكره . وذكر اليهود في هذه الرواية منكر. ([17]).
    5- وأخرج الإمام ابن ماجه في" سننه"([18]) عن ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال «في النار» قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.".وصححه البوصري([19])، والألباني([20]).
    6- وأخرج الطبراني في معجمه الكبير([21]) من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم ويقري الضيف ويفي بالذمة قال: "ولم يدرك الإسلام" قال: لا فلما وليت قال: "علي بالشيخ" قال: "يكون ذلك في عقبك فلن يذلوا أبدًا، ولن يفتروا". صححه الحاكم ([22])وقال الهيثمي([23]): رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون. ووفقه السخاوي في الأجوبة المرضية([24]).


    [1] صحيح البخاري (4648).

    [2] صحيح مسلم (2796).

    [3] مسلم (2473).

    [4] البخاري (4/ 184).

    [5] معجم الكبير،(17/191-192).

    [6] معجم الأوسط،(8/252-253 الرقم:8553).

    [7] مسند أبي يعلي الموصلي،(الرقم: 6804).

    [8] الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر (7/197).

    [9] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 15).

    [10] البخاري (3884).

    [11] مسلم (24).

    [12] سنن أبي داود (الرقم 2818)،

    [13] سنن الترمذي (3069).

    [14] سنن النسائي (4437).

    [15] سنن ابن ماجة (3173).

    [16] سنن أبي داود (2819)

    [17] وتكلم عنها الحافظ ابن كثير وردها من وجوه ثلاثة: أحدها: أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا.الثاني:أ ن الآية من الأنعام وهي مكية.الثالث: أن حديث ابن عباس جاء من طرق عدة لم يقع ذكر اليهود في شيء منها إلا هذا، راجع "تفسير القرآن العظيم "(3/ 328 ط دار طيبة للنشر والتوزيع)،وحكم العلامة الألباني أيضاً ذكر اليهود بالنكارة.

    [18] سنن ابن ماجه (1573).

    [19] مصباح الزجاج(2/ 43).

    [20] سلسلة الآحاديث الصحيحة (الرقم: 18).

    [21] (6/276 الرقم: 6213).

    [22] مستدرك الحاكم (3/ 706 الرقم : 6560).

    [23] مجمع الزوائد و منبع الفوائد (1/ 119)

    [24] الأجوبة المرضية لما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية (2/ 733- 734).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  11. #11

    افتراضي

    1-وأخرج مسلم في "صحيحه"([1])،عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على الفطرة» ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من النار» فنظروا فإذا هو راعي معزى.
    قال الشيخ صالح آل شيخ: فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال: " الله أكبر": على الفطرة، أفاد فائدة وهي أن هذا القول وما يدل عليه من توحيد الربوبية، هو في الفطر مستقر، ولذا لم يحكم بنجاته من النار وإسلامه إلا بقوله: " أشهد أن لا إله إلا الله"، شهادة متضمنة نفي كل معبود سوى الله، وهو توحيد الألوهية، ودلالة هذا ظاهرة .اهــ.([2]).
    2- وأخرج الإمام أحمد([3]) والنسائي في الكبرى ([4])والطبراني ([5])عن سلمة بن يزيد الجعفي، قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا: يا رسول الله، إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم، وتقري الضيف، وتفعل، وتفعل هلكت في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال: " لا " قال: قلنا: فإنها كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئا؟([6])، قال: " الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام ، فيعفو الله عنها ". وقال الهيثمي([7]) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، والطبراني في الكبير بنحوه.
    3- وري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي عن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: «يا حصين كم تعبد اليوم إلها»؟ قال أبي: سبعة ستة في الأرض وواحدا في السماء. قال: «فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك»؟ قال: الذي في السماء..." الحديث، قال الترمذي: حسن غريب.([8]).


    [1] مسلم (382).

    [2] هذه مفاهيمنا (ص: 119)، وكتاب "هذه مفاهيمنا" كتاب كبير القدر عظيم النفع، وفيه من التحقيقات العلمية والفوائد العقدية ما يفوق الوصفَ، ألفه الشيخ صالح آل شيخ رداً على كتابٍ كتبه أحد كبار الصوفية وهو محمد علوي مالكي، أسماه " مفاهيم يجب أن تصحح" فأوضح الشيخ صالح مفاهيم أهل السنة بهذا الكتاب الجليل.

    [3] مسند أحمد (الرقم: 15923).

    [4] سنن النسائي الكبرى (الرقم:11585)

    [5] المعجم الكبير (7/ 39 الرقم: 6319).

    [6] قوله:"وأدت أختا لنا .." لا يظهر مناسبة؛ إذ الوأد جرم، فكيف ينفعها في الآخرة؟!! نعم جاء عند النسائي والطبراني" فإنها وأدت أختا لها في الجاهلية لم تبلغ الحنث؟" فلم يذكر فيها النفع، فهذا أقرب إلى المقصود، اللهم إلا أن يكون المشركون يروى الوأد نافعاً في الآخرة وهو ممكن، لكنه مخالف للتعليل القرآن بالخوف من الإملاق، وقد يجمع،والله أعلم.

    [7] مجمع الزوائد (1/ 119).

    [8] رواه الترمذي(3483)،وجاء في بعض النسخ المطبوعة " حديث غريب.." وليس فيها التحسين، وقد اخترتُ إثباته لما وجدتُ نقل الأئمة له كالإمام المزي في الأطراف، وجامع المسانيد لابن كثير.والحديث ضعفه الألباني وغيره.
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  12. #12

    افتراضي

    المبحث الثالث:ما جاء في أشعار الجاهلية من إقرارهم بالله سبحانه.
    وجاء في أشعار الجاهلية ما يدل على إيمانهم بالله تعالى ومعرفتهم به وقد اخترنا بعض أقوالهم وخاصة ما جاء في الأحاديث والكتب المشهورة كالمعلقات.
    ومن أشعارهم ما جاء من شعر أمية ابن أبي صلت فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستنشد من بعض الصحابة كما جاء في صحيح مسلم ([1]) عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم، قال: «هيه» فأنشدته بيتا، فقال: «هيه» ثم أنشدته بيتا، فقال: «هيه» حتى أنشدته مائة بيت.
    ومن شعر ابن أبي صلت:([2])
    الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّى ومسّانا
    ربّ الحنيفة لم تنفد خزائنها ... مملوءة طبق الافاق سلطانا
    ألا نبيّ لنا يأتى فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس محيانا
    بينا يربّوننا اباؤنا هلكوا ... وبينما نقتنى الأولاد أفنانا
    وقد علمنا لو أنّ العلم ينفعنا ... أن سوف يلحق أخرانا بأولانا.
    وأخرج البخاري في باب"أيام الجاهلية"([3])ومسلم ([4])،عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد:
    [البحر الطويل]
    ألا كل شيء ما خلا الله باطل ...
    وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ".
    وهذا البيت للبيد بن عامر كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ،وهو من فحول الشعراء أدرك الجاهلية والإسلام.

    وقال الإمام العيني في "عمدة القاري"([5]):وقال أكثر أهل العلم بالأخبار:لم يقل شعرا منذ أسلم"اهـ.
    وإيراد الإمام البخاري في "أيام الجاهلية" دليل أنه لم يقل هذا في الإسلام وهو واضح، وما زاده بعض الناس في الحديث من قولهم: " وكل نعيم لا محالة زائل" فليس من إنشاد النبي صلى الله عليه وسلم لشعر لبيد ولم يزد على ما في الحديث كما جاء في رواية مسلم " ما زاد على ذلك"([6]).
    وفي معلقات أمرؤ القيس:([7])
    فقالتْ: يَمينَ الله ما لكَ حيلَةٌ ... وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي.
    وفي معلقة طرفة ابن عبد:([8])
    فلوْ شَاءَ رَبِّي كنتُ قيسَ بن خالِدٍ ... ولوْ شَاءَ رَبِّي كنتُ عمرو بن مَرْثَدِ
    وفي معلقة زهير ابن أبي سُلمى:([9])
    فَلا تَكْتُمُنّ اللهَ مَا فِي نفوسِكُم ... لِيَخْفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ
    يُؤخَّر فيُوضَع فِي كِتَابٍ فَيُدّخَر ... لِيَومِ الْحسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنقَمِ
    وفي هذه الكلام أن الرجل كان يؤمن بالبعث والحساب والميزان وأن الله مطلع للسرائر ولا يخفى منه شيء ومهما حاول المرء من أن يحفى من أمره شيئاً فإن الله يعلمه. وقد ادعى بعض المشتشرقين أن الرواة الإسلاميين بدلوا بعض الكلمات في بعض فقال: كان قول زهير:" فلا تكتمن اللات.." وهذه دعوى بلا دليل، ويضعفها كذلك ما بعده من ذكره ليوم الحساب والادخار وهذا لا يتأتى من اللات ولا يرون البعث والحساب، مما يدل أن الرجل كان له عقيدة أعمق من عقيدة قومه وجيرانه.
    وفي معلقة لبيد بن ربيعة([10])
    فَاقْنَع بِما قَسَمَ الْمَليكُ فَإِنَّما ... قَسَمَ الخَلائِقَ بَينَنا عَلّامُها
    وفي معلقة الحارث بن حلزة([11])
    فَهَدَاهُمْ بِالأَسْوَدَينِ وَأَمْرُ الله ... بِلْغٌ تَشْقَى بِهِ الأَشْقِيَاءُ
    وَفَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا عَلِمَ اللهُ ... وَمَا إِنْ للحَائِنِينَ دِمَاءُ


    [1] صحيح مسلم (2255).

    [2] خزانة الأدب (1/ 248).

    [3] صحيح البحاري (3841)

    [4] مسلم (2256)

    [5] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 294).

    [6] صحيح مسلم (2256)

    [7] شرح المعلقات السبع للزوزني (ص: 49).

    [8] المرجع السابق (ص: 114).

    [9] المرجع السابق(ص: 142).

    [10] المرجع السابق (ص: 200).

    [11] المرجع السابق (ص: 279).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  13. #13

    افتراضي

    والمبحث الرابع ما جاء في أقوال العلماء من السلف والخلف ونذكره في موضوع مستقل خوف الإطالة لكن نضع رابطه هنا حتى لا يفقده الطالب إن شاء الله.
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  14. #14

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد احمد على المدني مشاهدة المشاركة
    الصورة التاسعة من إقرار المشركين لله
    (تعذر اكمال الصورة التاسعة فنقلنا بقية الكلام إلى أدناه)
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  15. #15

    افتراضي

    يقول الشهرستاني: القوم لما عكفوا على التوجه إليها؛ كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها. وعن هذا كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب.اهــ وسيأتي كلامه.
    فمن فعل مثل فعلهم، من النذور للقبور أو الشيوخ، واستغاث بالأولياء، أو بأحد من رسله، فهو كمن استثغاث بودٍ، وسواع، ولا فرق؛ لأن هؤلاء لم يعتقوا الأصنام من حيث إنها أحجار أو أخشاب وإنما أنها تماثيل للملائكة والصالحين.
    يقول الرازي في "تفسيره":إن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها.اهـ([1]).
    ويقول في"تفسير سورة نوح":إنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3].اهـ. ([2]).
    ويقول الشاطبي في" الاعتصام": ..وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم، فقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله، إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونهم ويتبركون بهم، ثم عبدت، فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد، وهو الضلال المبين.اهـ.([3]).
    وعلى كلٍ فهذه الآية الكريمة رسمت طرائق المشركين مع معاملتهم للأصنام وكيفيتها والمقصودَ من عبادتها، وفي الآية أنهم عبدوا الأصنام للوصول إلى مرضات الله تعالى لكن بطريقية خاطئية وسبيل مظلوم ، وفي معناها:
    1- قوله تعالى:{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }[يونس:18].
    قال ابن جرير: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك، يا محمد صفتهم، من دون الله الذي لا يضرهم شيئا ولا ينفعهم، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله.اهـ([4]).
    وأخرج بسندٍ حسن عن السدي: في قوله:"وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء"[الأنعام:94 ]، قال: فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأن هذه الآلهة شركاء لله.([5]).
    والضلال كل الضلال أن يقاس شفاعة الخالق بشفاعة المخلوق، فجميع أهل الكفر من اليهود والنصاري والمشركين ظنوا أن شفاعة الله مثل شفاعة المخلوق فكما أن للشافع من الناس أن يشفع لآخر من الملك والسلطان لحق عنده يرجو السلطان من امتثال قوله حظاً أو مخافة فواته إن أبى ذلك ظنوا أن تكون شفاعة الله تعالى كذلك وهذا باطل.
    فشفاعة الله تعالى مخالفة لشفاعة المخلوق من كون شفاعة الله تعالى لا تكون إلا من بعد إذنه بخلاف شفاعة المخلوق فإنه له أن يشفع من دون إذنٍ.قال تعالى:{له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}[البقرة: 255].
    وكذلك شفاعة الله لا تكون إلا لمن ارتضى من عباده، فلا يشفع عند الله إلا لمن رضي له قولاً واتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد والإخلاص تعالى:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء الآية 28].أخرج الطبري(18/ 255) والبيهقي(1/ 272) عن ابن عباس، في قوله تعالى (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال: العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله([6]).
    وأخرج الطبري(18/ 429)،والبيهقي(1/ 272)أيضاً عن ابن عباس، في قوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) يقول:الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله.


    [1] مفاتيح الغيب أو تفسير الكبير (26/ 421).

    [2] تفسير الكبير (30/ 657).

    [3] الاعتصام للشاطبي (1/ 182 ت:سليم الهلالي).

    [4] تفسير الطبري جامع البيان (15/ 46).

    [5] تفسير الطبري (11/ 547)، وفي حديث ابن عباس أن الشريك لا يملك شئياً وإنما هو ملك لله كما يأتي إن شاء الله.

    [6] وقال السيوطي في الدرر المنثور(5/ 541):أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات...اهـ وهذه الرواية والتي بعدها يرويها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو مرسل فإنه لم يسمع عن ابن عباس شيئاً كما ذكره الحفاظ، لكن احتج هذه الرواية – وهي في الأصل نسخة- كثيرة من أهل العلم قال الحافظ في" العجاب في بيان الأسباب" له (1/ 207):عليّ صدوق، ولم يلق ابن عباس، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وأبو حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة" اهـ.وراجع الفتح الباري (كتاب التفسير 8/ 438 تفسير سورة الحج).
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

  16. #16

    افتراضي

    اقوال العلماء في المسألة هنا (http://majles.alukah.net/t152172/#post817578)
    رفقاً أهل السنة بأهل السنة

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •