فهد السنيدي
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، تفضَّل علينا وأكرمنا؛ فهدانا للإسلام الصحيح، وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومَن كتَب عليه الضلالة فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
الحمد لله الذي أكمل للبشرية دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام شِرعة ومنهاجًا، فجعله خاتم الديانات وأكمل الرسالات.
والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمد عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، جاءَنا من عند الله بالإسلام أعظم نعمة، وأكرم منَّة، وأنزل عليه القرآن الكريم، هدًى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، فكان خير مَن أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح للأمَّة، فتركها بعد رحيله على محجَّة بيضاء، ليلها كنهارها، ولن يزيغ عنها إلاَّ خاسر أو هالك.
وإنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخيرَ الهدي ما جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام - مرسَلاً من عند الله، وشر الأمور قاطبةً ما أحدثه الناس في دينهم من بعده، وكل تلك المحدثات بدعة، وكل بدعة ضلالة سيؤول مصيرها إلى النار.
وبعد:
فمن المعروف أنه عندما افتقر الناس عبر التاريخ إلى الشرائع الحقَّة ضلُّوا وتاهتْ عقولهم؛ فقادتهم إلى ما كانوا عليه من عبادة الحجر والشجر، والجن والإنس والملائكة، وظهر بذلك مدى حاجة البشرية إلى شريعة غرَّاء تضمن الوصول إلى أنوار الهداية، وتُخرِج الإنسان من ظلمات الضلال التي تاهَ في مضاربها حينًا من الدهر، فلم يكن شيئًا مذكورًا.
وضلَّ حينها العقل، وانحرف الفكر، فليس ثمَّة مرشد يسمو بالنفس ويقودها إلى الغايات العليا، وانهارتْ حضارات بأَسْرِها لمَّا شَذَّ أبناؤها عن الفطرة السليمة، فبعث الله الأنبياء والمرسلين، فكانتْ دعوتهم رحمةً للعالمين، إلى أنْ جاءت الشريعة الإسلامية فكانت أمثل الشرائع في الأهداف، وأكملها في الغايات، وأتمَّها على الإطلاق.
وجاء أخيرًا دين الإسلام، جاء به النبيُّ المنتظَر، فحرَّر العقلَ من رقِّ الوثنية، وذل الخرافات، وعدوى التقليد، ووضع من الأحكام والقوانين ما أزاح به عن كاهل الأمَّة ضروبَ الفوضى والاستبداد، وانتظمتْ بذلك من جديد نواحي المجتمع والحياة.
ومن سنن الكون الفطرية التي ارتضاها الله - تعالى - وجرتْ فيها مقاديره الدنيوية: أن يختلف الناس، وتفترق توجُّهاتهم، وتتبايَن مذاهبهم وميولهم العقدية؛ ولذلك فقد ظهرتْ صراعات كثيرة على مرِّ التاريخ، كان الخير والشر فيها محورَي النزاع والصراع، وفي ذلك يقول - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118- 119]، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة))، قالوا: فمَن هي يا رسول الله؟ قال: ((مَن كان على ما أنا عليه وأصحابي))[1].
وتطبيقًا لسنن الكون تلك فإنه بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام – بسنوات، أخذتْ تظهر في تاريخ الأمَّة الإسلامية الكثير من الفِرَق والشِّيَع والجماعات، وبدأتْ معالمُ حديثِه الشريف تتحقَّق شيئًا فشيئًا، فافترقت الأمَّة، وحلَّ الشقاق في الصفِّ المسلم.
وبرزتْ إلى الساحة تنظيمات كثيرة انتسبتْ إلى الإسلام، وكلُّها زعمتْ أنها إلى الحق أقرب، وأخذتْ تحاول سحب بساط الاستحواذ لصالحها مِن تحت غيرها من الطوائف، وزادتْ فهاجمت الفِرَقَ الأخرى، ونادتْ الناس إلى اتباع مبادئها دون غيرها، وادَّعتْ أن أفكارها هي القريبة إلى درب النجاة وجادَّة الخلاص.
واستمرَّ ظهور الفِرَق والطوائف على مرِّ التاريخ الإسلامي وصولاً إلى وقتنا الراهن، فإذا بالساحة المعاصرة وقد امتلأتْ بالجماعات المذكورة في دول العالم المختلفة، ويأتي على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شجَّع على ذلك ضمان حرية المعتقدات الشخصية التي كفلها الدستور هناك، وكثرة أعداد المهاجرين إلى تلك البلاد، وتنوع ما أتوا به من أنسجة ثقافية تَمَّ إفرازها دون قيود أو شروط أو ضوابط.
وقد حمل هؤلاء القادمون الجدد فيما حملوه نحو تلك البلاد أبعادًا لغوية وعنصرية ودينية مختلفة، تركتْ بصماتها الواضحات فيما خلَّفتْه وراءها، من فِرَق وطوائف ظهرتْ وادَّعتْ صلتها الوثيقة بدين الإسلام.
وهنا يظهر لدينا الآن بعض التساؤلات:
ما واجب مسلم اليوم تجاه ما يُفرِزه فكر هذه الفِرَق الإسلامية؟ وما الموقف الذي يجب أن يسلكه؟ وما الذي يترتَّب عليه من تبعات في هذا الشأن؟
نجيب فنقول: إنه حتى يُسهِم المسلم في نصرة الدين، الذي خلا من ضلالات البِدَع وزيف الباطل، يجب عليه أن يحيط علمًا بما جاء به الإسلام الحق من أفكار صحيحة ومبادئ سليمة، وعليه أيضًا أن يحذر من معتقدات ما يظهر في الساحة الإسلامية من شِيَع وجماعات، وما تحمله بين طيَّات أفكارها من مزاعم باطلة، وما تخبئه ضد العقيدة من النيات والدسائس.
وعلى المسلم أيضًا الوقوف أمام الانحراف العقَدِيِّ بأشكاله المختلفة، والدفاع عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - عبر إذاعة الحق الواضح، وتوضيح عقيدة السلف الصالح من أهل السنَّة والجماعة، والذب عن دين الإسلام ضد ما يلقاه من هجمات شرسة يشنُّها أعداء الإسلام، بإعلانات صريحة تارة ومخفية تارة أخرى.
وممَّا يجب الاهتمام به تنوير الجاليات المسلمة في أمريكا بحقيقة ما يحيط بهم من الدعوات الإسلامية المزعومة، وإيضاح ما تحمله من مخاطر عقدية انساب وراءها بعض المسلمين؛ جهلاً بفحواها، واعتقادًا منهم بثبوتها وصحَّتها.
تجيب ما بين أيدينا الآن من فصول هذا الكتاب عن تساؤلات مهمة تبرز في ساحة الفكر المعاصر، تدور حول طبيعة ما ظهر في المجتمع الأمريكي من فِرَق نصبت الإسلام شعارًا لمبادئها، واختارتْه دين الهوية الذي ارتضتْه لتابعيها وأفرادها.
وقد أزاح الكتابُ النقابَ عن عقائد تلك الطوائف، وما تحمله بنات أفكارها ومبادئها من عِلَل وخَلَل، وما تركتْه بصماتها من تأثيرات في النواحي الفكرية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي الحديث، كما تطرَّق إلى استشعار الجوانب العلمية والسلوكية التي خلفتها مفرزات تلك الفِرَق، ومناقشة ادِّعاءاتهم واستدلالاتهم في ضوء الكتاب الكريم ومنهج السنَّة المطهَّرة.
قطرات من نهر فكر الإسلام:
قبل أن نخوض في حديثنا حول هويَّة الفِرَق الإسلامية الأمريكية يتحتم علينا أن نسلِّط بعض الأضواء السريعة حول دين الإسلام الصحيح، ونرشف في عجالة بعض القطرات من نمير مائه الصافي.
ونشدِّد هنا على استخدام مصطلح "الإسلام الصحيح"؛ لأننا سنرى لاحقًا أن الإسلام الذي زعمتْه تلك الفِرَق "غير صحيح"، بل هو في واقع الأمر أبعد ما يكون عن عين الحقيقة والصواب، وأقرب إلى كثيرٍ من الديانات الأخرى في الأصول والفروع.
لقد ارتضى الله - تعالى - أن يكون دين الإسلام خاتمة للديانات السماوية، وأرسل من أجله رسولنا محمدًا - عليه الصلاة والسلام - فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأرشد الناس إلى إفراد الله بالعبودية والألوهية وتوحيده في أسمائه وصفاته، وجادلهم بالتي هي أحسن، وغدا الإسلامُ الدينَ الكامل والنعمةَ التامة والسبيلَ الوحيد لنيل سعادة الدنيا والآخرة، والتخلُّص من شقاء الغضب الإلهي والعذاب المقيم في نار جهنم.
وكان ممَّا اختاره الله - تعالى - لأمة الإسلام أنْ جعلها أمَّة وسطًا؛ قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وعن ذلك يقول الطبري معلِّقًا على هذه الآية: "وأرى أن الله - تعالى - ذكرهم بأنهم وسَط لتوسُّطهم في الدين، فلا هم أهل غلوٍّ فيه غلو النصارى وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصيرٍ فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربِّهم، ولكنهم أهل توسُّط واعتدال، فوصَفهم الله بذلك؛ إذ كان أحبُّ الأمور إلى الله أوسطَها".
وبكلمـات أخـرى: فإن أمَّة الإسلام أمَّة شامة، اختارت الوسطية والاعتدال شعارًا لها، توسطتْ بها بين الجفاء والمغالاة، ونجتْ بذلك من ويلات الغلوِّ المذموم وهلاك التفريط الضار.
وقد صورتْ لنا الكثير من آيات الذكر الحكيم حال فِرَق النصارى وهي تفتري على المسيح وأمِّه - عليهما السلام - وما صدر عنهم من غلوٍّ في الدين وإفراط؛ كقولهم: إن المسيح هو الله، أو: هو ابن الله، أو: هو ثالث ثلاثة، وما كان منهم من اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وعبادتهم ببِدَع ما أنزل الله بها من سلطان، وزعمهم أنهم بها يعبدون الله ويتقرَّبون إليه زلفى، وهم في واقع الأمر أبعد ما يكون عنه.
وعلى الجانب الآخر لضفَّة نهر الضلال نرى اليهود وقد فرَّطوا في نعمة الله، فهم يعلمون الحق ولا يتَّبعونه، بل أخذوا يضربون بتعليمات أنبيائهم عُرْض الحائط؛ فأعرضوا عن العبادات، وزهدوا في الطاعات واستسهلوا فعل المنكرات، بل تجرَّؤوا فحاربوا أنبياءهم، وقتلوهم سفهًا بغير علم.
إذًا؛ فقد استمرَّت الحال على ما هي عليه من الجهل والظلام إلى أن بزغتْ شمس الإسلام الخالدة التي جاءتْ بالوسطيَّة، وها هي رسالته تدعو أتْباعها إلى توحيد الله وعبادته وفق ما شرعه لهم من أنواع العبادات والطاعات، وتأمر بالإيمان بجميع الرسل دون استثناء، وتعرف لهم مقامهم الرفيع الذي ضمنه لهم كتاب الله - تعالى - وسنَّة نبيِّه الكريم، فخالفوا بذلك معتقدات الديانات الأخرى كالنصارى واليهود.
وأصبح الإسلامُ بوسطيته السامية تلك وباعتداله الفريد الواديَ الذي ينساب فيه النهر ويجري بيسر وسهولة بين جبلَين أصمَّين لا روح فيهما ولا حياة، وغدا هذا الدين هدى واضحًا، بزغ نوره من بين ما أحاط به من الضلالات القديمة، واستحقَّ أن ينال بفخر صفةَ العدل والخيار والوسطيَّة.
ونتيجة لذلك كلِّه كان انتشار الإسلام وقبوله من أصحاب الفطرة السويَّة والذوق الرفيع أمرًا محتمًا لا شكَّ فيه، فمبادئه الإنسانية ودعوته التي تصلح لكل زمان ومكان، وآراؤه المثالية التي اتفقتْ مع العقل والفكر والمنطق - جعلتْ من هذا الدين منارة تشعُّ ليقصدها من تطلع إلى دين يتَّفق مع متطلَّبات الإنسانية التي تُلائِم الطباع السليمة والنفوس الصحيحة.
وانتشر الدين على يد النبي المنتظَر وأصحابه الذين اقتفوا أثره ونهجوا نهجه القويم، وعمَّتْ مشاعر الإخاء بين المسلمين، وهم يستظلُّون في تلك الظلال الدينية الوارفة.
وكان على رأس تعليمات الدين الجديد التقيُّد بدين الجماعة والتزام الصف والنهي عن الفرقة، ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وتحقيقًا لذلك فقد التزم المسلمون مع الجماعة، وخالفوا الأممَ السابقة التي بغى بعضها على بعض، وتفرَّقوا واستحقوا لذلك الهلاك المبين، وكان هدف المؤمنين تطبيق الأوامر الإلهية الصريحة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31- 32]، {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
إذًا؛ فأمْر الله - عز وجل - للمؤمنين بالتزام الجماعة والبعد عن الاختلاف واضح لا غبار عليه، وزاد - تعالى - فحذَّر المؤمنين حين أخبرهم أن سبب هلاك مَن كان قبلهم المراء والخصومات والجدال في دين الله.
وممَّا حمله الإسلام من معاني كمال الشريعة نرى عدم السماح لأحدٍ بالإحداث في هذا الدين، ووردتْ في ذلك الكثير من الآيات؛ منها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3].
بالإضافة إلى ذلك نجد التحذيرَ من الهوى والمنع من الانقياد له واضحًا وصريحًا في نص الآيات: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23]، وسبب ذلك واضح ومعلوم؛ فكم كان للأهواء الشخصية من دَور واضح ساعد في عمليتي الابتداع والإحداث!
ولحق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى، وبعد الرحيل فهم الصحابة والتابعون ومَن تبعهم بإحسان فقهَ تلك المعاني الخالدات، فساروا وفق تعليمات المعلم الكريم، وحققوها بكل دقَّة، ولم يحيدوا عن الجادة، وها هو مثلاً ابن مسعود يقول: "عليكم بالطريق، فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن خالفتموه يمينًا أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا"، وها هو معاذ يوافقه الرأي ويقول: "أيها الناس، عليكم بالعلم قبل أن يُرفَع، وإياكم والبِدَع والتبدُّع، وعليكم بأمركم العتيق".
ما الإسلام؟
قبل أن نخوض في حديثنا عن حقيقة تلكم الفِرَق الإسلامية الأمريكية المعاصرة، يجب علينا معرفة ملخَّص العقيدة الإسلامية السليمة التي يمثِّلها منهج السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، ونهدف بذلك إلى إثبات خطأ مزاعم تلك الفِرَق، ونبرهن على أن منهجها التفكيري والعقَدِي الذي سنراه لاحقًا بعيدٌ عن جادة الصواب، ويميل إلى الإفراط في جوانب عديدة والتفريط في جوانب أخرى، وذلك خلافًا لما تزعمه رجالات هذه الفِرَق ومنظِّروها من قربهم من الإسلام، وتقيُّدهم بمعانيه.
تعني لفظة "الإسلام": الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له وحده بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وتتَّصل الأحكام الاعتقادية في الشريعة الإسلامية بأصول الإيمان، وهي أركان ستة تضمُّ: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
كما أمر الشارعُ الكريم بالتزام أحكام السلوك التي تأمر بالفضيلة والمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ووضع أحكامًا أخرى تنظِّم العلاقة بين المرء وخالقه، عبر تأدية ما فرضه عليه من العبادات، وأحكامًا خاصة تنظم علاقات الناس فيما بينهم، وعُرِفتْ بأحكام المعاملات.
وقد جعل الله دينَه هذا مبنيًّا على خمسة أركان: أولها: الشهادة بتوحيده وبنبوَّة نبيِّه محمد - عليه الصلاة والسلام - وثانيها: أداء فريضة الصلاة، وثالثها: إيتاء الزكاة، ورابعها: صيام شهر رمضان، وآخرها الحج لِمَن استطاع إليه سبيلاً.
عقيدتنا في الألوهية:
يؤمن أهل السنة والجماعة بالله الواحد الخالق، موجِد العباد من العَدَم، والمتصرِّف بشؤونهم، وهو - تعالى - بائن من خلقه، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، فهو المتفرِّد بصفات الكمال والجلال، والمنزَّه عن كلِّ عيب أو نقص، صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
عقيدتنا في الملائكة:
"الملائكة" جمع "ملَك"، وهو لفظ مأخوذ من "الألوكة" التي تعني الرسالة.
تنصُّ عقيدة أهل السنة والجماعة على أن الملائكة خُلِقَتْ من نور، وهم عباد الله الذين خلَقَهم لعبادته طوال الوقت، دون أن يصيبهم بذلك التعب أو الملل أو الفتور.
ويتضمَّن ركن الإيمان هذا الإقرارَ بأن لله ملائكة وصَفهم بعباده المكرمين، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ولهؤلاء مهامُّ مختلفة؛ كحمل العرش، وحفظ أعمال العباد، والنفخ في الصور، وغيرها من الأعمال التي أوكلها الله إليهم، وأثبتها الكتاب والسنة.
عقيدتنا في الكتب السماوية:
ونؤمن أيضًا بأن الله - تعالى - أنزل على بعض أنبيائه كتبًا أوضحتْ شرعَ الله وما فرضه على عباده من ضروب الطاعات، وما نهاهم عنه من المحرمات، ومن تلك الكتب: "التوراة" التي أُنزِلتْ على موسى، و"الإنجيل" الذي أُنزِل على عيسى، وقد تعرَّضَا للتحريف والتبديل على يد أحبار القوم ورهبانهم، حين زيَّن لهم الشيطان عملهم، وسوَّلتْ لهم أنفسهم ذلك، حتى يخدموا أهدافًا خاصَّة تحقِّق مصالح شخصية وفوائد دنيوية.
و"القرآن" اسم خاصٌّ لكتاب الله الكريم، وهو آخِر كتب السماء الذي أنزله على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يصحُّ إطلاق هذا الاسم على غيره من الكتب.
ويؤمن أهل السنة والجماعة أيضًا بأن هذا القرآن هو كلام الله المعجِز بآياته، المتعبد بتلاوته، المحفوظ بوعد الله عن التحريف والنقص والزيادة والعبث.
ويؤمن أهل السنة والجماعة أيضًا بأن هذا القرآن هو كلام الله المعجِز بآياته، المتعبد بتلاوته، المحفوظ بوعد الله عن التحريف والنقص والزيادة والعبث.
عقيدتنا في النبوَّة والرسالة:
تعني لفظة "النبأ": الخبر ذا الفائدة العظيمة، و"النبيء" بالهمزة: مَن اصطفاه الله - تعالى - من خلقه ليخبر عنه، ويجوز فيه إثبات الهمز وتخفيفه، و"النبوة" في اللغة هي الشيء المرتفع.
وعقيدة المسلم في النبوة أنها اصطفاء من الله لِمَن شاء من عباده الذكور لإبلاغ رسالة الله، ويلزم هذا الاصطفاء عدم جواز أن تكون النبوَّة مكتسَبة، كما زعمتْ بعض الفِرَق والجماعات.
وفي عصمة الأنبياء كلام كثير، وخلاصة الأمر في عقيدة سلفنا بذلك أن أنبياء الله ورسله معصومون فيما يبلغونه عن الله، والأمَّة متَّفقة في هذا؛ ولذلك وجب الإيمان بجميع ما جاؤوا به من الشرائع، وعدَّ لذلك تكذيبهم كفرًا.
كما نتَّفق على عصمتهم من الكفر أو الشرك، قبل النبوة وبعدها، وكذلك عدم ارتكابهم لكبائر الذنوب أو الموبقات، أو ما يقدح بالمروءة من قول أو عمل.
وأخيرًا، فإننا نؤمن بختم النبوة والرسالة بسيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - ولا شريعة بعد شرعته، فهو العاقب ليس بعده نبي.
عقيدتنا في الغيبيات:
أوجب الشارعُ الإيمانَ بالمسائل الغيبية المثبَتة، والتسليم بما ورَد عنها من معلومات في الكتاب والسنَّة، دون الخوض في التفصيلات التي لم تردْ عنها، ومن ذلك ما يؤمن به أهل السنَّة والجماعة من حقائق البعث والنشور وما يلحق بهما من أحداث اليوم الآخر، وما سيكون من الجزاء، وأن هناك جنَّة للثواب وعَد الله بها عباده المتقين، وأن هناك نارًا للعقاب توعَّد بها مَن خالف تعليمات الرسالة، فاستحقَّ عليه الشقاء والعذاب.
إيماننا بالقدر خيره وشره:
ويسلِّم أهل السنة والجماعة أمورهم لله، يتحكَّم بها كما يشاء وفقًا لما قدره واختاره لهم؛ فيُسَرُّ المؤمن لما يصيبه من خير، فيشكر الله عليه، ويسأله المزيد من فضله وكرمه، ويصبر لما ينزل به من بلاءٍ أنزله الله ليمتحن به جَلَدَه وقوَّة ثباته، ولا يحزن ولا يجزع، ويكون أمره بذلك كله خيرًا، فهو إمَّا حامد شاكر، أو صابر محتسب.
وأركان الإسلام الخمسة ما هي إلا دعائم تقوم بها مصالح الناس، وتضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة، ومن المحال أن تكون مصدرًا لتكليف النفوس ما لا تطيقه، والله غني عن الخلق وعن عبادتهم له، وقد شرع من العبادات ما يزكي النفْس، ويرقى بها روحيًّا وماديًّا، ولم تكن الشريعة يومًا لتحرم على أبنائها الطيبات أو لتُحل لهم الخبائث.
وزاد الارتقاء والنماء في هذه الرسالة الخالدة، وجُعلت الأرض محرابًا كبيرًا للمؤمنين، وعُدَّ العمل فيها عبادةً وجهادًا، ما استُحضرت النية الصافية، والتُزمتْ حدود الله.
الشهادتان:
تُعَدُّ شهادة "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" دعامة العبادات الأولى، وهما ركن الإسلام الأوَّل الذي يقرُّ به المسلم بأن الله موجود، وأنه واحد لا شريك له، فعَّال لما يريد، بيده الملك وهو على كل شيء قدير، وهو المستحق الأوحد للعبادة، ثم يشهد بأنه - تعالى - أرسل إلينا رسوله محمدًا - عليه الصلاة والسلام - الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وكانت رسالته رحمة للعالمين وهداية وإصلاحًا.
الصلاة:
تعني "الصلاة" لغةً: "الدعاء".
واصطلاحًا: القيام بأركان مخصوصة، وأذكار معلومة، بشرائط محصورة، في أوقات معيَّنة.
وللصلاة في الإسلام شأن عظيم، فهي رباط روحي مباشر بين العبد وربه، يستحضر فيها المسلم عظمة الله في قيامه وركوعه وسجوده.
وقد عَظُمتْ أهمية الصلاة، فوصلتْ إلى درجة أصبحتْ فيها هذه العبادة أكثرَ الفروض ذكرًا في القرآن الكريم، وغدَت العَهْدَ الذي بين الإسلام والكفر، فمَن تركها كفَر لا محالة، وكانت أوَّل ما سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فإن صلحتْ حينها صلح سائر العمل؛ وذلك لأنها تنهى ملتزمها عن الفحشاء والمنكر.
الزكاة:
تحمل "الزكاة" في اللغة معاني النمو والزيادة والصلاح والطهارة.
وتعني في مصطلح أهل الفقه: الحصة المقرَّرة من المال، التي فرضَها الله - تعالى - لتدفع إلى مستحقِّيها.
والزكاة دعامة مهمة من دعائم التماسك والتوادِّ والتراحم، يتَّضح فيها خضوع العبد لربِّه بالاستجابة إلى أمره ودفع جزء من ماله الأثير في نفسه، وفي ذلك تعويد على البذل في نفْع المجتمع، والتخفيف من ألم الفقر والحرمان، وسلامة للمجتمع من آفات كثيرة وخطيرة.
ولأهمية الزكاة قرنها الله - تعالى - مع الصلاة في آيات كثيرة، كما جاءتْ لهجة الوعيد شديدة في الكتاب والسنة، ضد مَن استهان فأهدر هذا الحق وضيَّعه.
الصيام:
"الصوم" لغة: ترك الشيء والإمساك عنه.
وهو شرعًا: الإمساك عن المفطرات من طلوع الشمس إلى غروبها بنيَّة التقرُّب إلى الله، وقد اختار - تعالى - من الشهور "رمضان" فخصَّه بهذه العبادة الجليلة.
وهو ركنٌ له قدر عظيم من أركان الإسلام، تتربَّى فيه الإرادة والعزيمة، وتتهذَّب به النفوس، وتتحرَّر من سلطان العادة، ويشعر فيه الغني بألم ما يعانيه الفقير من الجوع؛ فيلين قلبه ويرقُّ له ممَّا يدفعه إلى المزيد من العطاء والإحسان.
حج بيت الله الحرام:
"الحج" لغة: القصد.
وفي الشرع: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص.
والحج مؤتمر عالمي فريد، يضمُّ في مناسكه جموعَ المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، لا فرق بين عربيهم وأعجميهم، وأبيضهم وأسودهم، فالكل في صعيد واحد، يجتمعون ويجيبون داعيَ الله، ويتشاورون في تهذيب شؤونهم، وإصلاح أوضاعهم، والنهوض ببلادهم، ويرجع بعدها المسلم إلى بلاده مغفورًا له كيوم ولدتْه أمه.
نختم حديثنا بذكر النظام الاجتماعي الفريد في الإسلام؛ لأن ما سنذكره لاحقًا من الفِرق، فرطتْ في الكثير من أمور هذا الجانب، وأهملتْ ما حرص عليه الشارع الحكيم من البناء الاجتماعي المحكَم، وسنرى بذلك محورًا آخر خالفتْ فيه تلك الجماعات السيرَ المثالي للأمور.
وعلى رأس قائمة الرعاية الاجتماعية التي كفلها الإسلام قراره بأن أكرم الناس عند الله أتقاهم، ولا فرق أمام الله بين عربي الأمة وأعجميها، ولا أبيض القوم وأسودهم، فالجميع سواسية كأسنان المشط.
إن ميزانًا رفيعًا كهذا أتى بسلمان من فارس، وبصهيب من الروم، وببلال من الحبشة، فوقَف بهم في صف واحد جنبًا إلى جنب مع أبي سفيان سيد سادات قريش، وزاد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ونادَى في القوم بترك دعوى الجاهلية والفخر بأنسابها، قائلاً: ((دعوها فإنها منتنة))[2].
الأمر الآخر الذي حثَّ عليه النظام المسلم هنا التشجيعُ على العمل والكسب الشريف، والإنفاق على العيال، كما حرص الإسلام على الإعلاء من شأن النفْس وعدم إراقة ماء الوجه أمام الآخرين، وذلك بمنع التسوُّل واستجداء الناس.
بداية نشأة الفرق الإسلامية في أمريكا:
عندما هاجَر الأوروبيون باتجاه الأراضي الأمريكية الجديدة، التي اكتَشَفها كريستوفر كولومبوس، عَمدوا إلى استثمار خيرات تلك البلاد ذات المساحات الشاسعة، وظهرتْ في حينها حاجة ماسَّة إلى استيراد القُوَى البشرية العاملة، لتساعدهم في إدارة تلك الأراضي، والتنقيب عن كنوزها ومحتوياتها.
في تلك الأثناء كانت إفريقيا محطَّ الأنظار لتحقيق هذا الهدف، فهي المصدر الرئيس المليء باليد العاملة الرخيصة، التي تَمَّ خطفها لاحقًا، وترحيلها بأعداد كبيرة عبر المحيط باتجاه العالم الجديد.
وممَّا شجع البِيض على الاستمرار في خطف هؤلاء العبيد ما اعتمدوا عليه من بعض نصوص التوراة المحرَّفة، التي أجازتْ لهم أَسْرَ السود واسترقاقهم، وصوَّرتْ تلك النصوصُ السودَ بأنهم قوم لا يتعدَّى دورهم صقل الخشب وجلب المياه.
كما كان لبابا الكنيسة دور واضح، أيَّد به المزيد من عمليات تجارة الرقيق؛ فقد بثَّ في القوم أفكارًا وأوهامًا، تزعم أن الإنسان ذا العرق الأسود يأتي في مرتبة دون الأبيض، وللأخير حقُّه الكامل في أسْره واسترقاقه، لاستخدامه كيفما شاء في أغراضه الشخصية، وزاد البابا فزعم كذلك أن الاسترقاق سيمدن السود ويطوِّرهم، وسينشر النصرانية بين صفوفهم، وفي ذلك الخير، والفائدة تعمُّ الجميع.
ونشطتْ بذلك عملية استيراد الزنوج من إفريقيا، وتنوعتْ جنسيات المخطوفين وثقافاتهم ودياناتهم، وقد كان في القوم القادمين عدد ليس بالقليل من المسلمين، الذين أسَّسوا بوصولهم إلى أمريكا نواة أولية لموجة الإسلام، التي ظهرتْ فيما بعد في تلك البلاد، وبدأتْ بذلك هوية الإسلام الجديدة، تبرز في الساحة لتكبر، ويزيد حضورها شيئًا فشيئًا.
واستمرَّت الحال على ما هي عليه من تتابع قدوم الرقيق، وتوالي دفعات العبيد الذين ضاقتْ أحوالهم ذرعًا، فما كان إلاَّ أنْ طفح كيلهم؛ فبدأتْ تظهر العديد من ردود الأفعال؛ احتجاجًا على تلك الأحوال والظروف الطاحنة، التي ما عاد السود يطيقونها، وبرزتْ على استحياء بعض الحركات والجمعيات، التي أخذتْ تُظهِر نوعًا من التمرُّد ورفض الوضع الراهن.
كان من أوائل ما ظهر من تلك الثورات: (الجمعية العالمية لترقي الزنوج)، التي تأسستْ على يد "ماركوس غارفي" سنة (1916م)، وكانت دوافع هذه الجمعية في بدايات تأسيسها اجتماعية وسياسية صرفة، فقد كان على رأس اهتماماتها قيام السود بثورة يُبدون فيها اعتراضهم على أوضاع معيشتهم السيئة، وما يلقونه من البِيض من سوء معاملة، ولم يكن للمحور الديني في جمعية "غارفي" تلك حيِّز من نصيب أو اهتمام.
بعد ذلك بفترة وجيزة استشعر "غارفي" أهمية دعم عنصر الدين لأفكار حركته الوليدة، فاعتنق النصرانية؛ ممَّا أعطى حركته صبغة جديدة، أشعلت الحماسة الدينية لدى السود، ورسم ديانته الجديدة، وفق ما أملى عليه هواه وما استشفَّه من الظروف المحيطة به.
زعم "غارفي" في تلك الأثناء بأن للسود إلهًا أسود خاصًّا بهم، وهو مخالف لإله البِيض، وكانت دعوته علنية إلى عبادة المسيح الأسود، وتطوَّر الأمر فانتشرتْ بين أفراد الحركة في ذلك الوقت تماثيلُ العذراء وابنها، وقد ظهرا ببشرة سوداء تضفي عليهم الطابع الإفريقي المميز.
ووفقًا لمجريات الأمور، وما أحدثتْه دعوة "غارفي" من فتنة ومشكلات عِرقية في صفوف المجتمع الأمريكي، فقد ارتأت الحكومة الأمريكية إبعاده إلى خارج البلاد، وغادَر أمريكا بالفعل في سنة (1925م)، ممَّا أسهم في الاندثار التدريجي للحركة، واستمرَّ الرجل يناضل لتحقيق أهدافه في المنفى إلى أن مات سنة (1940م).
وقد عاصرت حركة "ماركوس غارفي" تلك العديدُ من الحركات الزنجية الأخرى، التي حاولت تحقيق الهدف نفسه وإيجاد تغيير جذري في واقع السود المؤلم، وكُتِب لبعض تلك الجمعيات النجاح والانتشار، كما كُتِب لبعضها الآخر الفشل والأفول.
فرقة معبد العلوم المورية:
من أوائل ما ظهر في الساحة الأمريكية من الفِرَق التي تزعم صلتها بالإسلام، ما يُعرَف بحركة (معبد العلوم المورية)، وقد أسَّسها "تيموثي درو" الذي وُلِد لأبوين أسودين، في كارولينا الشمالية سنة (1886م)، ونشأ مع أبويه في إحدى مزارع البِيض؛ إذ كانت أسرته من عبيد ذلك السيد الأبيض.
وقد عانَى "درو" كثيرًا من سوء معاملة سيِّده له، فنشأ وقد امتلأ قلبه بالحقد والحنق والغيظ، ورأى الشاب أن يتسلَّح بالعلم والمعرفة، فواظَب على حضور دروس الكتاب المقدس في الكنيسة، فنمَتْ لديه ثقافة أولية لا بأس بها.
وتهيَّأ الفتى للهروب وهو في العشرين من عمره، فغادر مزرعة سيده إلى غير رجعة، وكانت قبلته حينها مدينة نيويورك التي رحَّبت به، كما فعلت مع الكثير من المهاجرين الجدد الذين قصدوها من أنحاء العالم المختلفة.
وما هي إلا فترة وجيزة في أحياء نيويورك، حتى أَلِف "درو" عالمه الجديد، وأعجبه خلوَّه من مظاهر الاسترقاق واستنزاف العبيد، وتعرَّف في هذه الأثناء على بعض المسلمين الذين قصدوا البلاد قادمين من روسيا والهند وإفريقيا.
وبدافع الفضول تقرَّب "درو" من هؤلاء المسلمين، وسرعان ما أَلِف تعاليم الإسلام وأُعجِب بها، وهي تنادي بالعدل بين الناس ومساواتهم أمام الشرع والقانون، وبعدم معاملتهم على أساس اللون أو العِرق أو اللغة.
وشعر الشاب في قرارة نفسه، بقناعته في أن تجربة الإسلام قادرة على حلِّ ما نزل بساحة السود من مشكلات ومعضلات، لكنه في الوقت نفسه اعتقد بأنه لا بُدَّ من إدخال بعض التعديلات الجذرية على هذا الدين؛ حتى يتحقق بها ما صبت إليه نفسه وحلم به من أهداف وطموحات على المدى القريب والبعيد.
واقتنع "درو" في تلك الأثناء بأن انضمامه إلى هذا الدين الجديد يكفل له غطاء فكريًّا سيمنحه قوَّة يستطيع أن يواجه من خلالها العدو الأبيض، الذي يكنُّ له كل مشاعر الحقد والكراهية، كما شعر بأن اعتناق الإسلام سيُكسب السود هوية مستقلَّة، تخالف هويتهم القديمة التي تحمل شعورهم بالدونية والذل والمهانة، وستُسهِم هذه الهوية الجديدة بلا شكٍّ في مواجهة النزعة العرقية والمشكلات الجدلية، التي تدور أحداثها مع الرجل الأبيض دون توقف.
جهود "نوبل درو" في نشر دعوته الجديدة:
بعد أن نضجت أفكاره الجديدة أخذ "درو" ينشط في حي الزنوج، فلاقَى تربة خصبة بدأ يبثُّ فيها خطبه وأفكاره التي لاقَتْ قبولاً سريعًا وواسعًا، وسرعان ما بدأ يلتفُّ حوله الكثير من الأتباع الذين بدأت الشوارع تضيق بهم شيئًا فشيئًا.
وتشجع "درو" فأنشأ في سنة (1913م)، معبدًا خاصًّا بالفرقة الوليدة، أطلق عليه اسم (معبد المورية العلمي)، وتجرَّأ بعد ذلك بفترة وجيزة فادَّعى النبوَّة، وأصبح حينها يُعرَف باسم (النبي نوبل درو علي).
كان المجتمع الزنجي في تلك الأثناء متعطشًا إلى دعوات كتلك التي قادها "درو"، فالمعاناة التي يلقاها السود ما تزال قائمة، وبدا في دعوة "درو" تلك بصيص أمل يقوم بإصلاح جذري لتلك المشكلات؛ وعليه فسرعان ما انتشرتْ عدوى الدعوة سريعًا في مجتمع الزنوج في المدن الأمريكية الأخرى، وتَمَّ أيضًا افتتاح فروع جديدة للمعبد في كبريات تلك المدن.
كان في رأس قائمة تعليمات (معبد المورية العلمي) الجديد ما غرسه "درو" في نفوس أتباعه من مشاعر الفخر والثقة والاعتداد بالنفس، بالإضافة إلى تعصُّبهم العرقي الشديد وإظهار مشاعر الحقد والعداء تجاه العنصر الأبيض، مع التقليل من شأن ثقافته وحضارته.
إضافةً إلى ذلك؛ فقد دعا "نوبل درو" في خطبه وكتاباته اللاحقة إلى إيجاد كيان مستقلٍّ يستطيع الشعب الأسود أن يعيش فيه ليطوِّر من إمكاناته البشرية اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وشجَّع أعوانه على الاعتزاز بالانتماء إلى قوميتهم الزنجية، وعدَّ ذلك من أولويات الأمور، وعن ذلك يقول: "قبل أن تفتِّش لك عن إله تعبده، عليك أن تنتمي إلى قومية ما".
ورفَض "نوبل درو" ما علِق بأتباعه من ألقاب سابقة سيئة كالأسود والعبد، وأصرَّ على التحرُّر من لقب (زنجي) البغيض، ودعا أعضاء فرقته إلى أن يعدُّوا أنفسهم من المسلمين الآسيويين؛ إذ زعم أن أصولهم مغربية، وحثَّهم على ارتداء طربوش أحمر تشبُّهًا بزيِّ المغاربة، وزعم أن ملك المغرب منحهم إجازة لنشر الإسلام في أمريكا.
وبذلك أعلن "درو" بصراحةٍ عنصريةَ سلوك أفراد الطائفة، وما تحمله من دعوة عدائية نحو الجنس الأبيض، وامتازت الجماعة بهذا السلوك الاجتماعي ذي الخواص العنصرية الواضحة.
وأعطى "درو" كذلك أتباعه هويَّة خاصة مزيَّنة بشعار الهلال والنجمة، وكتب فيها: "أنا أمريكي مسلم متمسِّك بالشريعة الإلهية وتعليمات القرآن المقدَّس المكي، الذي يحمل مبادئ المحبة والصدق والسلم والحرية والعدالة"، وحملت كل هوية إلى الأسفل منها عبارة "النبي نوبل درو علي" وتوقيعه الخاص.
تطوَّرت الأحداث فيما بعد، وزادت أعداد المنتمين إلى هذا المعبد الجديد بصورة ملحوظة، ووصلت إلى عشرات الألوف، ونما حضورهم تدريجيًّا في المجتمع الأمريكي، واستمرَّت الحال كما هي عليه من نموِّ أفكار الحركة وتزايد أنشطتها المختلفة، إلى أن أُلقِي القبض على "درو" حينما لحقت به تهمة قتل أحد قادة حركته، فزُجَّ به في السجن انتظارًا للمحاكمة.
ويرسل "درو" من سجنه رسالتَه الأخيرة، مناديًا فيها أبناء طائفته: "إلى رؤساء جميع المعابد، السلام عليكم، أنا نبيكم، أكتب إليكم رسالة تحذير، وأطلب منكم الحكمة في تصرُّفاتكم، إنني رجل مقبوض عليه فداءً لكم ولعقيدتنا، وهو خير لكلِّ مَن لم يزل يؤمن بي وبأبي الإله، لقد خلصتكم جميعًا من الخطايا، وستفوزون جميعًا حتى أنا، واعتصموا وآمنوا، وسيكون جزاؤكم عظيمًا، واذكروا شريعتي، وتحابُّوا ولا تنصروا أجنبيًّا على حساب إخوانكم"، وختم حديثه بتوقيعه: سلام النبي نوبل درو عليَّ.
وأطلق سراح "درو" من سجنه قبل تقديمه إلى المحاكمة، إلاَّ أنه توفي خارج السجن في ظروف غامضة لم تُعرَف في حينها، فانقسمت الفرقة بعد رحيل مؤسسها إلى جماعات صغيرة أخذت تذوب شيئًا فشيئًا، حتى ضعفت ولم تَعُدْ بعد قوة تُذكَر في مجتمع السود الأمريكي.
تحليل معتقدات الفرقة المورية وأفكارهم:
لا يخفى على أحدٍ ما تحمله فرقة (معبد العلوم المورية) من أفكار ومعتقدات باطلة، لا تَمُتُّ إلى عقيدة الإسلام الصحيح بصِلَة، فعقيدتهم في جوهرها مختلفة تمامًا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، رغم اشتراكهم معها في بعض الجزئيات الصغيرة، التي لا تشفع للحركة في غلوِّها وتفريطها في البعد عن نهج الإسلام القويم.
أقوالهم في الألوهية:
بادئ ذي بدء تنصُّ معتقدات المورية على أن الله - تعالى - أزلي أبدي لا نهاية له أو بداية، وله أن يحلَّ في أيِّ مكان يشاؤه، وفي أي جسد يختاره؛ وعليه فالله - جل وعلا - في نظرهم لا ينفصل عن العالم، والعالم كذلك لا ينفصل عن الله.
وتذكر كتب فرقة المورية أيضًا بأن للإله علاقة بمخلوقاته عبر ما يسمُّونه بالوسائط أو الأرواح السبعة، وهنا يزعمون أن الله - سبحانه - لم يخلق الموجودات من عدم، بل نفخ الثالوث، فنتج عن ذلك أرواح سبعة، خلقوا بقوَّتهم المطلقة جميعَ المخلوقات، والله - تعالى - في نظرهم لم يخلق الخلق ولا يقوم على تدبير شؤونهم ولا يرزقهم، والأرواح هي مَن تفعل ذلك.
يتَّضح لنا بدراسة هذا الخطاب مدى تأثر الفرقة المورية بالديانة النصرانية، فهناك العديد من القواسم المشتركة الأخرى بينهما، نذكر منها: إيمان الطرفَين بعقيدة الخطيئة، وفكرة وجود المخلص من ذنوب الأتباع وخطاياهم، كما يشير "درو" بكلِّ صراحة إلى إيمانه بفكرة وجود ابن للإله، وزعمه في مكان آخر بأنه هو ابن الله.
ويتَّضح تأثُّر المورية كذلك بأقوال فلاسفة اليونان وغلاة الصوفية، ويظهر ذلك في معرض حديثهم حول الإنسان، فهو في نظرهم أزلي مثل الإله، ولا بداية له ولا نهاية، وسيبقى حيًّا لا يموت، وجاء في بعض كتاباتهم: "والإنسان روح وجزء من الله، أُعطِي نفسًا لكي يتصرَّف في عالم النفوس، وأُعطي جسمًا من لحم كي يتصرَّف في عالم التجليات، فالإنسان فكرة من أفكار الله، وكل أفكار الله أزلية، والإنسان بذرة تحمل في داخلها صفات الله".
إلى أن قال: "والإنسان الروحي متَّحد مع الله، وما دام الله حيًّا لا يموت فالإنسان إذًا حي لا يموت، وسيصل إلى الكمال المبارك والاتحاد بالله".
عقيدتهم في النبوة والرسالة:
أمَّا النبوَّة عند طائفة المورية، فهي صفة مكتسَبة - على حد زعمهم - وليست هبة من الله يهبها لِمَن يصطفيه من عباده، ويستطيع أيُّ إنسان - في نظرهم - أن يصبح نبيًّا ببذل بعض الجهد والتميز.
وزاد "درو" على تلك الترَّهات، وأضاف إلى قائمة الأنبياء والمرسلين مَن ليس منهم؛ مثل: بوذا، وكونفوشيوس، وزرادشت، وناناك، ولم يُنكر نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه رفض فكرة أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين.
ونصب "درو" نفسه هو الآخر نبيًّا، بل زعم أنه خاتم الرسل، وعُرف حينها باسم (النبي نوبل درو علي)، وقد استند إلى بعض نصوص الإنجيل التي تروي أن يوحنا المعمدان كان يبشِّر الأمة بقدوم المسيح، ويهيِّئهم لتلقِّي التعاليم السماوية الجديدة، وشبَّه نفسه هنا بالمسيح، وشبَّه معاوِنه "ماركوس غارفي" بالمعمدان، وزعم أن "غارفي" هذا جاء إلى أمم الأرض مبشرًا وممهدًا لقدوم خاتم الرسل ونبي آخر الزمان "درو"، الذي سيحمل تعليمات الإسلام الإلهية الصحيحة.
إيمانهم بتناسخ الأرواح:
استقت المورية جانبًا كبيرًا من معتقدات طائفتَي الزرادشتية والبرهمية، ويتضح ذلك في يقينهم بتناسخ الأرواح، فهم يؤمنون بانتقال النفس الناطقة بين أبدان الإنسان، وترتَّب على ذلك اعتقادهم بتتابع النبوَّة، وانتقال الروح بين أجساد الأنبياء تباعًا.
ووفقًا لتلك المعتقدات فكل نبي ينسخ مَن سبقه، وستنتقل روحه بذلك من جسده إلى جسد مَن سيليه من الأنبياء، ويزعمون أن أوَّل مَن تناسخت فيه روح عيسى - عليه السلام - هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم انتقلت الروح بعد ذلك من نبي لآخر، حتى تجسدت أخيرًا في شخص "درو"، فأصبح نبي السود الذي بُعث إلى زنوج أمريكا.
ويكمل الموريون قصتهم تلك، ويزعمون أن روح زعيمهم انتقلت بعد وفاته إلى القادة من بعده، ويزيدون أنهم في انتظار بعثه وقيامه من قبره، كما وعدهم بذلك قبل أن يموت.
علاقتهم بالقرآن والسنة:
لم تنكر فرقة المورية إيمانها بالقرآن الكريم، وأطلقوا عليه اسم (القرآن المقدس المكي)، ولم يَرِد في نصوصها ما يذمُّه أو ينقص من قدره، إلاَّ أنها في الوقت ذاته لم تعده مرجعًا من مراجعها الموثوق بها، فلم يَرد عن زعماء الطائفة أنهم استقوا من القرآن شَرعًا لهم أو منهجًا، وبذلك غدتْ علاقتهم بالقرآن الكريم هزيلة وسطحية.
وقد وضع "نوبل درو" لطائفته كتابًا خاصًّا بهم أسماه (القرآن المقدس لمعبد المورية العلمية في أمريكا)، ونُشر للمرة الأولى سنة (1927م)، ومَن يدقق فيه يلاحظ أنه مأخوذ عن أحد الأناجيل المحرَّفة، مع وجود إضافات طفيفة لا تغير جوهر المادة المنقولة، وأضاف إليه "درو" مقدمة وخاتمة.
كما يلاحظ عدم تطرُّق كتب المورية إلى ذكر السنة النبوية المطهَّرة، وإهمال مصدر التشريع هذا الذي يعده أهلُ السنة والجماعة المنهلَ الثاني من منابع التشريع؛ ويرجع ذلك إلى جهل الموريين المطبق بالسيرة النبوية الشريفة والسنة المطهرة، وإلى اكتفائهم بما ورد في كتاباتهم وخطب زعمائهم لدعم أفكارهم ومعتقداتهم.
رأيهم في الملائكة والبعث:
للمورية أقوال عديدة متضاربة فيما يخصُّ عقيدتهم في الملائكة، فهم يزعمون تارة أن الملَك ما هو إلا فكرة من أفكار الله التي تجلَّت في لحم إنسي، ويزعمون تارة أخرى أن بعض الملائكة من الآسيويين ذوي البشرة السوداء، يقومون بحماية الحرم المكي من دخول الكفار، وزاد "نوبل درو" في مزاعمه فمنح أبناء طائفته من الموريين الأمريكيين لقب "الملائكة".
ولإيمان المورية بأبدية الإنسان وأزليته، فقد أنكرت يقينها بالبعث أو الحشر أو القيامة، ولأن الإنسانَ جزءٌ من الله فإنه لن يعاني من سكرات الموت، وليس ثمَّة ثواب أو عقاب بعد الموت، فالموت سيُبلِي الجسد فحسب، وستبقى روح الإنسان حيَّة لا تموت؛ لأنها جزء لا يتجزَّأ من الله.
فقه العبادات لدى المورية:
لطائفة (معبد العلوم المورية) صلاتهم الخاصة بهم؛ فالموري يستقبل مكة في جهة الشرق قائمًا ثلاث مرات في اليوم، يقرأ فيها بسورة الفاتحة المترجمة إلى الإنجليزية، وليس في صلاتهم العجيبة تلك ركوع أو سجود أو جلوس.
ومن الملاحَظ أيضًا، أن مواقيت صلوات المورية توافق الأوقات التي نُهي المسلمون عن أداء الصلاة بها؛ وهي: عند طلوع الشمس، وعند استوائها، وغروبها، وتؤدَّى هذه الصلاة في معابد تلك الفرقة بصورة فردية، وأخيرًا فليس لدى المورية صلاة جمعة ولا جماعة.
أمَّا الزكاة عند فرقة المورية فهي صورة مصغَّرة لما يُعرف بالضريبة، وليس للفقراء أو المساكين نصيب منها، ولا تزيد على أن تكون مبلغًا معينًا يدفعه الأتباع لصالح رؤساء المعابد، وهي واجبة على الجميع بما فيهم معدموهم وفقراؤهم، كما لا يَرد في تعاليم المورية أيُّ ذكر أو حديث عن باقي الصدقات.
ولا تعرف المورية شيئًا عن صيام شهر رمضان، ولم يَصمه زعيمهم كذلك، ولم يَرد ذكر الحج أو العمرة في كتاباتهم، ولم يثبت أداؤهم لتلك الفرائض، أو مشاركتهم للمسلمين باحتفالهم بعيدَي الفطر والأضحى في كل عام.
أخيرًا: فإنه ثمَّة قواسم مشتركة بين المورية وبعض الديانات الأخرى؛ ومن ذلك مشابهتها للبوذية الهندوسية في تحريم أكل اللحوم والبَيض، واتفاقها مع النصرانية على تحريم تعدد الزوجات.
ما يُذكَر للفرقة المورية من حسنات:
تتَّفق (فرقة معبد العلوم المورية) مع الدين الإسلامي في جزئيات يسيرة، وليس لنا أن ننكر أن لها مثل غيرها من الفرق بعض المعالم الإيجابية، وعلى الباحث المنصف إظهار الحقيقة الكاملة من جميع جوانبها، وممَّا يُذكر لهذه الفرقة من الحسنات: الاهتمام بحسن الخلق، ومجاملة الآخرين من السود، والحث على إلقاء السلام، وتبادل عبارات التحية.
ومن الأمور الأخرى المحمودة التي دعتْ إليها تعليمات "درو": الاهتمام بنظافة البدن، وتحريم شرب الخمور وتعاطي المخدرات والتدخين، وإقرارهم بأن الزواج الصحيح يجب أن يُعقد على يد شيخ المسجد، وتشجيع الزوج على بذل الجهد لصالح أسرته وأولاده، وحث الزوجة على طاعة زوجها، والقيام بشأنه وشأن أولاده في مملكتها الخاصة في المنزل، والحد من ظاهرة الطلاق، وأخيرًا؛ ما دعا إليه "درو" من الفصل بين مجالس الرجال والنساء أثناء اجتماعات الفرقة.
فرقتا الفرضية والإليجية:
بعد موت "نوبل درو" لم يعد هناك مَن يتابع أمر طائفته من بعده؛ فانقسمت فرقة (معبد العلوم المورية) إلى جماعات صغيرة، وتقلَّص نشاط أعضائها بصورة واضحة، ولم يعد لها وجود قوي لدى مجتمع السود الأمريكيين، إلاَّ أن فلولها لم تزل بعدُ في بعض المدن الأمريكية، وإن أخذت أنشطتها تضمر شيئًا فشيئًا.
لقد ترك رحيل "درو" في أتباعه بعض الفراغ الروحي الذي كان لا بُدَّ من ملئه، فظهرت في تلك الأثناء وبالتحديد في أواخر عشرينيات القرن الماضي جماعات جديدة سارَتْ على نهج المورية في احتواء السود والعناية بآمالهم وآلامهم.
وقد دعمت الظروفُ الاقتصادية السيئة التي عاشتها الولايات المتحدة في تلك الحقبة ظهورَ تلك الفِرَق الجديدة، وأثَّرت هذه الأوضاع سلبًا بوضوح في معاملة البِيض للسود، فزاد اضطهادهم، وساءت معاملتهم، وتفشَّت البطالة بين صفوفهم، وعمَّ الجوع والجهل والمرض بين أبنائهم، فامتلأت النفوس بالحقد والغيظ من جديد بعد أن كادت تبرد في عهد "نوبل درو".
استمرَّت الحال على ما هي عليه حتى عام (1930م)، حين تسلَّم الداعية "فرض محمد" وهو من الأتباع السابقين لطائفة العلوم المورية، ومن بعده خليفته "إليجا محمد" زعامةَ المسلمين الأمريكيين، فتمَّ تأسيس ما عُرف باسم حركة (أمة الإسلام) التي استقتْ عن المورية قدرًا كبيرًا من المعتقدات والأفكار.
رجالات الفرقتين:
تُنسَب فرقة الفرضية إلى "والاس فرض" الذي غيَّر اسمه لاحقًا فأصبح "فرض محمد"، وقد كان رجلاً غامضًا لم تُعرَف تفاصيل هويته أو ظروف نشأته، وكثيرًا ما كان يزعم أنه قدم من مكة، وهناك مَن يعتقد أنه ذو أصول هندية تكشفها ملامحه الواضحة.
وعلى أية حال فقد كان "فرض محمد" أحد الموريين القدماء، إلا أنه انفصل لاحقًا عن المعهد، ليؤسس فرقته المستقلة التي نُسبت إليه فصارت تعرف بالفرقة الفرضية.
أمَّا مؤسس الفرقة الإليجية فهو "إليجا بول" المولود في جورجيا سنة (1897م)، وقد نشأ في أسرة من العبيد فعانى مثل غيره من طفولة بئيسة ولَّدت في أعماقه حقدًا دفينًا وعداء مكتومًا، فجرته الأيام نحو الرجل الأبيض.
هاجَر "إليجا بول" لاحقًا إلى ديترويت، وهناك انضمَّ إلى (حركة المعبد المورية)، وبقي بها حتى وفاة زعيمها "نوبل درو"، فالتحق بعدها بالحركة الفرضية، وانضمَّ إلى حزب "والاس فرض" الوليد.
الأسلوب الدعوي لحركة الفرضية:
اتبع "فرض محمد" في دعوته أساليب عديدة تشبه ما ابتدعته الفرق الباطنية الإسماعيلية؛ فنصب شباكه بتلك الوسائل حول المساكين والسذج، ومن ذلك: اعتماده على الرفق واللين في تبليغ دعوته، وتزيين مذهبه في عيون الآخرين عبر التمويه والتشويق، وزعزعة ما لديهم من عقائد سابقة، وإجبارهم على التكتُّم وحِفظ الأمر في إطار من السرية التامة.
وقد اتبع "فرض محمد" منهج الباطنية في تأويل تفسير آيات القرآن الكريم وفقًا لما يخدم مصلحة أفكاره ومعتقداته الشخصية، كما دعم آراءه الخاصة بفقرات تَمَّ استقاؤها من العهد الجديد.
حرص "فرض" على الظهور أمام الآخرين بصورة الإنسان اللطيف الصبور، واهتمَّ بتقديم الصدقات إلى محتاجيها من المساكين، وسرعان ما ألِفه لفيف من السود، فتبعوه وانضموا إلى حركته، وراقَهم هجومُه اللاذع على البِيض، ونعتُه لهم بالشياطين، وغرسُه لفكرة أن الإنسان الأسود هو أساس البشر، ومنه انحدرت باقي السلالات.
كانت همة "فرض" عالية في تحقيق أهدافه، وكان مصرًّا على أهمية إعلاء الجنس الأسود، وعده المصدر الأوحد لمعاني الخير في هذه الدنيا، واستمرَّ عداء فرقته للبِيض واضحًا كما كان الحال عليه في زمن "نوبل درو"، وطغتْ بين السود مشاعر العنصرية وما تحمله من ازدرائهم للعِرق الأبيض وتجاهلهم له، واقتصر قبول الأعضاء في نوادي الطائفة على الزنوج فحسب.
وزاد عدد الأتباع الجدد تدريجيًّا، حتى قرَّر "فرض محمد" استئجار مبنى يتَّسع لهم، وتَمَّ ذلك بالفعل في سنة (1931م)، وأطلق على هذا المكان اسم "معبد الإسلام"، وتَمَّ لاحقًا تأسيس مدرسة عُرفت باسم "جامعة الإسلام"، التي اهتمَّت بتدريس الدين والعلوم المختلفة وتعاليم "فرض محمد".
وكان من اهتمامات قادة الجماعة تدريب الشباب على حماية المجتمع والمعبد والمؤسسات الأخرى، فتمَّ لهذا الغرض تأسيس ما عُرف بميليشيا "ثمرة الإسلام"، كما ظهر اهتمامهم واضحًا في تعليم الفتيات وتثقيفهن، وإعداد الأمهات الصالحات، وأُنشِئت لذلك منظمة "تدريب البنات المسلمات".
ولبعض الوقت جرت الرياح بما تشتهي سفن الحركة، وازدهرت أنشطتها لاحقًا، فتَمَّ إنشاء ما عُرف باسم "معبد الإسلام الثاني" في شيكاغو، وأوكلت أمور إدارته إلى "إليجا بول" الذي غيَّر اسمه إلى "إليجا محمد"، وأصبح بذلك الساعد الأيمن لزعيم الجماعة.
إلا أن بعض الأحداث توالت لاحقًا، فنكست من رايات الحركة؛ فقد ارتكب أحد قادة الجماعة جريمة قتل، ضجَّ لها الشارع الأمريكي العام، فطلبت السلطات من "فرض" مغادرة ديترويت، وتَمَّ إغلاق معابد الحركة في هذه المدينة.
ويتَّجه "فرض" نحو شيكاغو ملتمسًا عون مساعده "إليجا" الذي آوَاه وأخفاه عن أعين الشرطة التي اتهمت الأخير بالتستُّر على المجرم، وفي ظروف غامضة اختفى "فرض محمد" تمامًا، وتسلم من بعده زمامَ الأمور خليفتُه "إليجا محمد" الذي لم يحسن إدارة شؤون الجماعة، فبدأت بالتدهور، ونتيجة لذلك حلَّ الشقاق بين صفوف أفرادها، وأخذ الأعضاء ينسحبون شيئًا فشيئًا، وخيَّمت عليهم سحائب الجمود والتفكك.
تتابع الأحداث في تاريخ الجماعة:
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية نادَى "إليجا محمد" فيمَن بقي له من أتباع بضرورة مقاطعة تلك الحرب، وعدم مساعدة الجيش الأمريكي الأبيض فيها، وتمرَّد هو وأتباعه، ورفضوا تأدية الخدمة العسكرية، فصدر في حقه حكم بالسجن، وإغلاق ما عُرف بمعبد الإسلام الثاني.
وفي السجن عاد إلى "إليجا" نشاطُه القديم، وأخذ يبثُّ من جديد معتقداته وآراءه في زملاء الحبس، ولاقى ذلك بعض الرواج، وكان ممَّن آمَن بهذه الأفكار "مالكوم ليتل" الذي عانَى الكثير من سوء معاملة البِيض له ولأسرته، والذي غيَّر اسمه لاحقًا فصار يُعرَف باسم "مالكوم إكس".
كان "مالكوم إكس" هذا خطيبًا مفوهًا، استغلَّ طاقته وقدرته الخطابية تلك حينما غادَر السجن، فاستخدم قوة عبارته في استقطاب عدد كبير من السود نحو حركة الإليجية، وأصبح "مالكوم" حينها رجل الحركة الثاني بعد "إليجا محمد"، وعادت الروح فدبَّت من جديد في أوصال الحركة، وعاد ما كان من سابق النشاط، وأنشئ الكثير من المعابد الجديدة التي أُطلِق عليها في هذه المرحلة اسم (معابد محمد للإسلام).
حرص "إليجا محمد" لاحقًا على الاتِّصال بالدول الإسلامية، فزار تركيا وباكستان ومصر والسودان، وقصد مكة بعدها لأداء العمرة، وأرسل كذلك معاونه "مالكوم" فزار مكة والقاهرة، ممَّا أثبت لحركة الإليجية حضورًا خارجيًّا قويًّا، أعطاها المزيد من الشهرة والقبول، ووصل الأمر إلى أن منح "إليجا محمد" نفسَه ألقابًا؛ مثل: (ممثل المسلمين في أمريكا) و(الرئيس الروحي لأمة الإسلام بالغرب)، وزعم أنه أهل لذلك دون وجود منافس له.
وفي أوائل الستينيات، قامت العديد من الثورات والمظاهرات التي نظَّمها السود مطالِبين بحقوقهم المدنية وتحسين أوضاع معيشتهم، واستغلَّ "مالكوم إكس" براعته الخطابية، فتبنَّى الكثير من تلك الأنشطة، وكثر ظهوره في وسائل الإعلام، الأمر الذي أعطى الحركة مزيدًا من القبول والاستحسان، فازداد أعداد مَن انضمَّ إليها، ومُنح "مالكوم" لقب النائب الأول لأمة الإسلام تقديرًا لما بذله من الجهود.
وزاد من شهرة الحركة ما كان من انضمام الملاكم العالمي "محمد علي كلاي" الذي أعلن إسلامه وانضمامه إلى طائفة الإليجية في عام (1963م)، وقد أسهم "كلاي" بدفع جزء كبير من دخله المرتفع لدعم مشروعات الحركة ونشاطاتها، وساعَد ذلك في نمو القاعدة الجماهيرية لهذه الحركة.
دبَّت لاحقًا روح شديدة من الغيرة في نفس "إليجا محمد"، وهو يرى نجم "مالكوم" يسطع بقوة، وخاف أن يؤثر ذلك في انخفاض أسهمه وإقالته من منصبه، فأصدر الأول قرارًا يفصل فيه الأخير ويعفيه من مناصبه، فأعلن "مالكوم" انسحابه التام من جماعة الإليجية.
بعد هذه الأحداث أسس "مالكوم" منظمة (مسجد المسلمين) سنة (1964م)، وقام بإدارة شؤونها، وسافر بعدها إلى مكة لأداء مناسك الحج، وأعجبه تآلف المسلمين هناك رغم تباين صورهم وألوانهم، وشرح الله صدره فدخل في الإسلام الصحيح، وعاد بعدها إلى أمريكا، ليدعو قومَه إلى تصحيح معتقداتهم، واتباع روح الإسلام الحقيقي الخالية من الشرك والبِدَع والخرافات، ولم يُعجب ذلك المعلم القديم "إليجا محمد"، فقد خاف أن يسحب "مالكوم" البساط من تحت أقدامه، فأرسل إلى "مالكوم" مَن يقتله أثناء إلقائه محاضرة أمام الناس في المسرح.
وفي عام (1975م)، مات "إليجا محمد" في شيكاغو، بعد صراع طويل مع المرض، فانقسمت الطائفة من بعده قسمين؛ تبع القسمُ الأول منهما ابنَه "والاس محمد" الذي عُرف فيما بعد باسم "وارث الدين محمد"، وتبع القسمُ الآخر زوجَ ابنته "لويس فرح خان"، ولكل منهما خاصته وأتباعه.
معتقداتهم وأفكارهم:
يقول "إليجا محمد" وهو يتحدث عن الخطوط العريضة لمبادئ الإسلام من وجهة نظره الشخصية: "إن مبادئ الإيمان في الإسلام أن تؤمنوا بإله واحد، وبرسله، وكتبه، وحسابه، وبعثه لأصحاب العقول الميتة، وأن تقيموا الصلاة، وتنفقوا في سبيل الحق، وتصوموا رمضان، وتحجوا".
الألوهية في نظرهم:
تزعم أفكار فرقة الفرضية أن الإنسان الأسود إله في اعتقاده، وهو الأول والأخير، وصانع العالم ومالكه، كما يذكرون بأن الله رجل أسود اكتملت به درجات العلم والمعرفة، وهم بهذه الترَّهات يؤمنون بنظرية الحلول، فالله عندهم يحل بأجساد السود بصورة عامة، وله أن يتجسد في جسم "فرض" بصفة خاصة.
يقول "إليجا محمد": "إن كثيرًا من المسلمين السنيين لا يؤمنون بظهور الله في شخص سيدنا "فرض محمد"، وأنه قد جاء بالحق الذي كان خفيًّا على علماء الدين في بلادهم، وبالرغم من أن القرآن المقدس عندهم، فهم لا يعرفون معانيه إلا قليلاً منهم".
ويقول في مقام آخر: "الله رجل، ولا يجوز الاعتقاد بأنه غير رجل؛ حتى لا نجعله كائنًا أدنى مرتبة من الإنسان، الله يعني آلهة، وهذه اللفظة تشمل كل المسلمين ومن بينهم السود، وأنتم تذهبون هنا وهناك تبحثون عن إله لكي تسلموا إليه أموركم وتعبدوه، أنتم ذلك الإله، إن الله فينا جميعًا، وكل شخص هو إله، وجميعنا آلهة".
ويزيد "إليجا محمد" وهو يفلسف عقيدة الجماعة في شؤون الألوهية؛ فيَزعم بأن الإله ليس أزليًّا أبديًّا، بل يموت كما يموت أيُّ إنسان عادي، وتبقى بعد زواله الأعمالُ والحكمةُ، ويقرُّ بأن إله هذا الزمان جاء من مكة في عام (1930م) واسمه "فرض محمد".
وصفة الثنائية من المميزات الأخرى للإله في نظر "إليجا"؛ إذ ثَمَّة إله للشر وهو إله البِيض، وآخر للخير والعدالة وهو إله السود، الذي انتصر على الأول وبدأ يسيطر الآن على العالم.
ومن زعمهم أيضًا أن الإله الإليجي خلق نفسه في الظلام، وفي وسط ذلك الظلام تلألأت ذَرَّة حية، أخذت تدور وتَخلق نفسها، فأنتجت فيما بعد للإله عقلاً لكي يفكر به ويخلق الخلق.
عقيدتهم في الرسل والأنبياء:
لم تنكر عقيدةُ "فرض محمد" وجودَ الرسل والأنبياء الذين ورَد ذكرهم في الكتب السماوية، إلاَّ أنه لم يعترف بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، بل ادَّعى - إضافة إلى ذلك - أن علمه ومعرفته - عليه الصلاة والسلام - ناقصان، ومن ثَمَّ فإنه لا يجوز الاعتماد على سنته، وتَمَّ بذلك إسقاطها من مصادر تشريعاتهم.
من جهة أخرى نرى "إليجا محمد" يقسم الأنبياء بطريقته الخاصة وفقًا لأهواء معتقداته وآرائه، فزعم أن منهم مَن أُرسل إلى البِيض فقط؛ مثل موسى وعيسى - عليهما السلام - وادَّعى أن الأخير كان خاتم أنبياء الجنس الأبيض.
ومن مزاعم الإليجية أيضًا أن الله خصَّ بعض الأنبياء فأرسلهم إلى السود فقط؛ مثل يعقوب - عليه السلام - وأخيرًا فقد كانت رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - إلى العرب فحسب، كما جاء في افتراءاتهم.
وفي بداية نشأة الفرقة ادعى "إليجا محمد" النبوَّة، ونراه في مقام آخر يزعم أنه المسيح تارة أو المهدي المنتظر تارة أخرى، وجعل نفسه آخر الأنبياء المرسَلين إلى عالم السود، وعن ذلك قال: "أنا آخر الأنبياء، ولا رسول بعدي، أنا الأخير، وبعدي سيأتي الإله نفسه".
كما أنكر "إليجا محمد" فكرةَ رفع عيسى - عليه السلام - وأشبه بذلك القاديانية التي تزعم أنه - عليه السلام - قُتِل، فنراه يقول في معرض حديثه في ذلك: "عيسى الذي قُتِل هنا قبل ألفي سنة كان نبيًّا فقط، عاد إلى التراب، ولن يعود حيًّا".
ونراه أيضًا ينكر معجزة ولادة السيد المسيح التي أقرَّها القرآن الكريم؛ فقد رمى السيدة مريم بالبهتان والزور، وزعم أن المسيح ابن زنا، وأن أباه هو يوسف النجار، الذي اتَّفق مع مريم على إخفاء وقت ولادة عيسى؛ تهربًا من إقامة حد الزنا عليهما - والعياذ بالله - ومن المعلوم تشابه تلك الافتراءات مع ما جاء في التلمود.
وجاء في ادِّعاءات "إليجا" الأخرى أن إلهه "فرض" هو المسيح الذي ظهر بأسماء عديدة؛ منها: عيسى المسيح وابن الإنسان، ونراه في مقام آخر يدلي بتصريح جديد حول نبي الله يعقوب - عليه السلام - فيعدُّه عالمًا من علماء السود الذي بلغ رتبة إله العصر، وجعله خالقًا للجنس الأبيض.
وممَّا يظهر أخيرًا في مذهب الإليجية من تضارب صريح في الأقوال: ما نراه من خلطهم بين مفهومَي الألوهية والنبوَّة، فالأنبياء آلهة في نظرهم، ونراهم يقرُّون بألوهية "فرض" تارة، وبنبوته تارة أخرى.
عقيدتهم في الملائكة والكتب السماوية:
الملائكة في نظر "إليجا" رجال سود اللون، خَلَقوا أنفسَهم وتجسَّدوا بعدها في صورة إنسية، وهي كائنات تحمل بعضًا من صفات الآلهة، فتعيش وتموت لاحقًا ولا خلود لها.
ولم تنكر الإليجية إيمانها بكتب الرسل السابقة، إلا أنهم زعموا أن تلك الكتب ليست منزَّلة من عند الله، فالزنوج هم مَن كتبوها بيد علمائهم الذين يقدرون مستقبل هذه الأمَّة، فيضعونه فيما يعرف بأم الكتاب.
وقد خط "إليجا محمد" مجموعةً من الخطب والمقالات، وعدَّ كلامه هذا وحيًا إلهيًّا جُمِع فأصبح كتابًا مقدسًا يفوق القرآن الكريم أهمية وبلاغة، وقد جَعل كتابه المقدس هذا نورًا وهدى، كما كانت التوراة من قبله هدًى لبني إسرائيل، وأطلق عليه اسم كتاب "الرسالة إلى السود في أمريكا".
ومن مزاعم "إليجا" الأخرى في هذا الباب زعمه بأن القرآن الكريم كتاب خاص بالعرب فحسب، كما كانت من قبله التوراة خاصة باليهود، وكان الإنجيل خاصًّا بالنصارى، وقد جاء بالقرآن نبي العرب محمد - عليه الصلاة والسلام - الذي أُرسِل إليهم دون غيرهم من الأمم.
أمَّا السود في أمريكا فهم على حدِّ زعم "إليجا محمد" بحاجة إلى كتاب آخر مختلف تمامًا عن قرآن العرب هذا، وفي ذلك يقول متحدثًا عن كتابه: "لا بُدَّ أن يكون لنا كتاب جديد لتَحولنا إلى العالم الجديد، كتاب لا عين رأَت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال أحدنا".
ويقول أيضًا: "ويتحتَّم على الكتاب المقدس والقرآن المقدس، أن يخليا الطريق لكتابنا المقدس الذي لم يره أحد إلا الله".
من ناحية أخرى نرى "إليجا" متخبطًا في أقواله؛ فيخالف شيئًا من تصريحاته السابقة، فيزعم أن القرآن موجه في أصله إلى شخصه هو وإلى سود أمريكا، وعن ذلك يقول: "معظم تعاليم القرآن المقدس موجهة إلى آخر الرسل "إليجا محمد" لكي يخبر هو بعلمه حقيقة بعث الذين ماتت عقولهم، والقرآن موجَّه غالبًا إلى الأمريكي المسمى بالزنجي".
معتقداتهم في البعث والقيامة:
ولفرقة الفرضية أيضًا معتقداتهم الشاذة فيما يخصُّ علوم الغيبيات؛ فالبعث عندهم هو اليقظة العقلية، والخروج من دائرة الجهل والوهم إلى نور العلم والمعرفة، والقيام بأشياء مؤدبة تعمل في صالح أعضاء الطائفة.
أمَّا القيامة فهي اليقظة الروحية لِمَن نام من السود في قبور الأوهام، فيفيقون بعد أن أماتتهم أكاذيب الشيطان، وأبعدتهم عن معرفة الحق الإلهي، ولا قيام لجثث القبور، فالقبر سيقضي على كلِّ شيء لا محالة.
ولا يزيد الحساب في معتقدات الإليجية على أن يكون إبادة لأمريكا، وتحطيمًا لحضارة الرجل الأبيض، ينتقم فيه الإله منهم معاقبةً لهم على ما اقترفوه من ذنوب استرقاق السود وغيره من الفواحش.
وعليه؛ فإن "فرض محمد" سيخلق في الآخرة أرضًا جديدة، وسماء جديدة، وحكومة جديدة، يحترق فيها عالم البِيض الأشرار، وسيستقرُّ سلطان السود في العالم الذي ستسوده روح العدالة والسعادة والأمن والسلام، وسينتفي الموت والمرض فيمَن تبقَّى من أهل الأرض.
يقول "إليجا محمد" معلقًا على هذه الجزئية: "بعد فناء الرجل الأبيض يدوم السلام والسعادة، وتنتهي الحروب والجدال، وتتحوَّل الأرض إلى خضرة وجمال، وستكون جنة الصالحين خالدة، ولا مكان فيها للمرض واللعان والسباب، وذلك لِمَن اتَّخذ الإسلام دينًا، واتَّبع ما أوحي إلي".
وللفرضية كذلك اعتقادهم الخاص بشؤون الجنة والنار، وزعموا أن "فرض" أخرج السود من جهنم، وأعادهم إلى الجنة لما بُعث فيهم رسولاً، وتصور معتقداتُ "إليجا" الجنةَ والنار، بأنهما حالتان إنسانيتان ترمزان إلى أحوال الناس في الأرض، فالجنة هي الراحة والأمان والاطمئنان في ظلِّ إله الخير، وبالمقابل فإن النار هي خضوع السود لحياة الشقاء على يد الرجل الأبيض.
أداؤهم لعباداتهم:
يلاحظ الدارس أن صلاة الإليجية ما هي إلا مزيج تَمَّ استقاؤه من العديد من الديانات المختلفة، وتؤدَّى هذه الصلاة في معابدهم خمس مرات في اليوم، يتوضَّأ لها المصلي بالمضمضة وغسل اليدين إلى المرفقين وغسل القدمين، ثم تبدأ الصلاة التي يتمُّ فيها التوجُّه نحو مكة وقراءة الفاتحة.
وتشابه صلاة الإليجية ما كان من صلاة المورية، في خلوِّها من الركوع والسجود والجلوس، واكتفاء المصلي بالوقوف دون حراك؛ استسلامًا لإرادة الله على حدِّ زعمهم، ويتَّجهون بصلواتهم تلك إلى السيد "فرض" الذي تجسَّد الإله في جسده، وفي ذلك يقول "إليجا محمد": "يصلي المصلي باسم الله، فيقف في نور الله الذي ظهر في صورة السيد (فرض محمد)".
وعلى أيَّة حال فلم يحافظ الإليجيون على صلاتهم تلك، ووصَل استخفافهم بها وعدم اهتمامهم بأدائها إلى حد قال فيه "إليجا محمد": "إن تعليم مبدأ فصل السود عن البِيض أهم من أداء الصلاة".
ولصلاة الجنازة عند الإليجيين طقوس خاصة تشبه ما يفعله النصارى؛ فهم يجتمعون حول التابوت في غرف مستودع الجثث، ويقوم واعظ بإلقاء خطبة على الحضور، يذكر فيها ما للميت من حسنات، ثم يتمُّ توزيع الحلوى في نهاية المجلس، وتشبه الإليجيةُ الفرقةَ السابقة في عدم تأدية أفرادها لصلاة الجمعة أو الجماعة.
تختلف الزكاة لدى المذهب الإليجي جملةً وتفصيلاً عمَّا هي عليه لدى مذهب مسلمي أهل السنة والجماعة؛ فزكاة الإليجية تعني: قيام أفراد الطائفة بدفع مبلغ معيَّن إلى رؤساء الجماعة، وليس للضعيف أو المسكين نصيب منها، وأشبهت هذه التعليمات نظامَ الكنيسة، وألزم "إليجا محمد" أتباعَه بدفع عُشر دخلهم السنوي، أمَّا الزكاة والصدقة بمفهوميهما الصحيح في العقيدة السليمة فلم ترد على ألسنة القوم، وتجاهلوها كليةً.
أمر "إليجا محمد" أبناء الطائفة فصاموا شهر ديسمبر بدلاً عن شهر رمضان، وكان صيامهم هذا امتناعًا تامًّا عن الأكل والجماع يومين أو ثلاثة، إضافة إلى التوقف عن تناول أكل اللحوم طوال شهر الصيام هذا، وتبدأ مراسم الصيام قبل طلوع الشمس لا عند أذان الفجر، وأنكر على المسلمين طريقة صيامهم، وزعم أن صيامهم هذا ليس بحقيقي.
وعارَض "إليجا" في قائمة عقائده فكرةَ أن يكون القرآن قد نزل في ليلة القدر، وادَّعى أنه نزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - خلال ثلاث وعشرين سنة، كما رفض أن يحتفل مع أهل السنة والجماعة في عيدَي الفطر والأضحى.
استخفَّ "إليجا محمد" بزيارة بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج، وعدَّ سفره لأداء العمرة حجًّا، أمَّا الحج الحقيقي لدى الإليجية فيعني: زيارة قصر "إليجا" في شيكاغو للانتفاع بما يُملي عليهم من تعليمات وتوجيهات دينية ونصائح أخلاقية.
والإليجيون بطقوسهم تلك يزعمون أنهم حقَّقوا مقاصد الحج التي ذكرها القرآن في قوله - تعالى -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، فحجهم هذا إلى قصر "إليجا" يفي بالغرض، ويضمن لهم ذكر الله، وتحقق تلك المنافع، فلا داعي إذًا لتكبد المشاق وقطع المسافات البعيدة، والسفر إلى بيت الله الحرام في مكة.
تحتفل جماعة الإليجية سنويًّا بيوم المخلص؛ وهو يوم ميلاد "فرض محمد"، ويقصدون شيكاغو لهذا الهدف، ويتبادلون الهدايا بهذه المناسبة السعيدة، ويَعقدون بعد يوم المخلص هذا مؤتمرَهم السنوي الذي تستمرُّ الاحتفالات به ثلاثة أيام، ويخصِّصون له بِزَّات ذات ألوان محددة يلتزم الجميع بارتدائها.
ما يذكر لفرقة الإليجية من حسنات:
قبل أن نختم حديثنا حول فرقة الإليجية الأولى، يجب علينا إظهارًا للحق الاعتراف بالمظاهر الإيجابية التي وردتْ في تعليمات "إليجا محمد"، والتي وافقت إلى حدٍّ كبير شيئًا من تعليمات الإسلام الصحيحة، ومن ذلك تحريمه أكل لحم الخنزير؛ إذ عده سُمًّا قذرًا يكرهه الله، إلاَّ أنه أخطأ فزعم بأن الخنزير مثل الرجل الأبيض قذر وبشع وطماع ويفتقر إلى الحياء، وقد خالَف "إليجا" تعليمات المورية السابقة، فسمح لأتباعه بتناول اللحوم الأخرى والأسماك.
وحرمت تعليمات الإليجية أيضًا اللعبَ بالقمار وتناول الخمور والمخدرات، ومُنِع الأعضاء من ارتياد أماكن اللهو والمقاهي العامة، كما ذمت الإفراط في تناول الطعام، وحثَّت على الاكتفاء بتناول وجبة طعام واحدة في اليوم، وكرهت التخمة والسمنة، بل فرض "إليجا" غرامة على السمين من أفراد الجماعة، وحُجته في ذلك أن البِطنة تُنتِج الخمول وتبلد الحس، وهذا يعيق بلوغ غايات الإليجية وأهدافها السامية.
وقد نجحت تعليماتُ الإليجية الصارمة في إعطاء صبغة اجتماعية ناجحة فيما يخصُّ حجاب المرأة واهتمامها ببيتها، فقد فرضت هذه التعليمات حشمةَ المرأة وألزمتها باللباس الساتر، ومنعتها عن إظهار الزينة لغير المحارم، ونصحتها بعدم تقليد النساء البِيض.
وشجَّعت تعليماتهم أيضًا على التزام المرأة بشأن زوجها وتقديم فروض الطاعة له والاهتمام بأمور بيتها، وحثَّتها على الاقتصاد المنزلي وحسن التدبير، فحفظت لها بذلك مملكة البيت والحياء، وألزمت الزوج بالمقابل بالعمل، وكسب الرزق من المصادر الشريفة، والإنفاق على زوجه وصون شرفها وكرامتها.
فرقة البلاليين:
ولد "والاس إليجا محمد" سنة (1933م)، ونشأ في شيكاغو، وتلقَّى علومه في جامعة الإسلام التي أسسها والده، وعمل مدرسًا للغة العربية وواعظًا في مدارس فرقة الإليجية، وحُكِم عليه لاحقًا بالسجن لرفضه أداء الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي؛ اعتقادًا منه بعدم جواز مساعدة الرجل الأبيض.
وبعد قضاء حكمه في السجن سافر "والاس" إلى مكة حاجًّا سنة (1967م)، وهناك شاهَد تعاليم الإسلام وهي تطبَّق على نحوٍ سليم، فشرح الله صدره للإسلام الصحيح، وعاد بعدها إلى أمريكا، وأعلن بصراحة انسلاخه عن حركة أبيه، وزاد فاتَّهم والده باختلاس أموال الطائفة، وانضمَّ إلى جماعة (ترينيداد) المسلمة ذات الأفكار القاديانية، وغيَّر اسمه إلى "وارث الدين محمد".
وتمرُّ الأيام، فإذا الفتى يواجه ظروفًا اقتصادية ونفسية سيئة، تدفعه إلى العودة إلى حظيرته السابقة والرجوع إلى الإليجية ثانية، والتخلِّي عن التعاليم الجديدة التي اكتسبها في مكة، فتمرَّد على الإسلام وعاد إلى حوزة أبيه "إليجا محمد".
تتابع مجرى الأحداث:
تسلم "وارث الدين" هذا مقاليدَ قيادة الطائفة الإليجية بعد موت أبيه سنة (1975م)، فقام بترسيخ الأمور وتثبيت زمامها؛ فعَزل مَن شكَّ بولائهم له، وعيَّن المقربين الذين أعلنوا له ولاءهم المطلق، وأضاف إلى نفسه بعض الألقاب الجديدة التي لم تُستخدم قبل الآن؛ كالإمام الأعلى، ومجدِّد القرن، وبايَعه معظم رؤساء المعابد، وتخلَّى عنه كل من "لويس فرح خان" و"سايلس محمد"، اللذان أسَّسا فرقتين مستقلتين عن فرقة "وارث الدين".
اختار "وارث الدين" أن يُطلق اسم (البلالي) على أتباعه من السود أو الزنوج، وذلك نسبةً إلى بلال الحبشي - رضِي الله عنه - وغيَّر اسم جريدة الحركة الرسمية، وصارت تُعرف باسم "أخبار البلاليين".
وفي عام (1976م)، تَمَّ تغيير اسم الجماعة ليُصبح (مجتمع الإسلام العالمي في الغرب)، وسرعان ما تغيَّر هذا الاسم بعدها ثانية إلى (البعثة الأمريكية المسلمة)، وأطلق على دار العبادة الأكبر في شيكاغو اسم (مسجد محمد) نسبة بالطبع إلى "إليجا محمد".
نبذة عن عبادتهم:
تُعَدُّ سنة (1975م) محطة مهمة، شهدت انقلابًا كبيرًا في تغيُّر مجريات الأحداث في تاريخ الفِرَق الإسلامية الأمريكية؛ فلأوَّل مرَّة في تاريخ الحركة الإليجية الثانية يفرض رئيسُها أداءَ الصلوات الخمس على الطريقة الإسلامية الصحيحة، كما أقرَّ كذلك بوجوب صلاة الجمعة، وتَمَّ تغيير اسم (المعبد) الذي كان مستخدمًا في عهد الإليجية الأولى، واستخدموا أخيرًا اسم "المساجد".
وبدأ الدعاة الذين أرسلتهم بعض الدول الإسلامية يتوافدون ويؤمُّون الناس في صلاتهم بتلك المساجد، وكان الحظ الأوفر من هؤلاء الدعاة من خرِّيجي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكانت تلك محاور مهمة بدأت بتقريب أبناء الطائفة إلى جادة الحق والصواب.
إلاَّ أنه كان من المؤسِف ما ورد ذكره على لسان الشهود العيان من عدم التزام زعيم البلاليين بأداء هذه الصلوات، فكثيرًا ما أضاعها حتى لا يقطع محاضراته التي كان يخاطب بها أبناء الفرقة، بل لقد ثبت عنه أنه قال: "أوقات العمل أهم من الصلاة"، حين ردَّ على سؤال صحفي له حول موضوع الصلاة.
وترتَّب على ذلك فتور همَّة الأتباع عن الاستمرار في تأدية الصلوات الخمس، فكان منهم أن اختزلوها لاحقًا، واكتفوا بأداء صلاة الجمعة، وصلاة الظهر في يوم الأحد وصلاة المغرب يوم الثلاثاء؛ لأن هذه الأوقات المختارة كانت تتوافق مع موعد اجتماعاتهم الدورية.
وقد حذا البلاليون نهج سابقيهم من الإليجية الأولى في طريقة أداء صلاة الجنازة؛ فقد اختاروا أن يتبعوا الطقوس النصرانية، ولم يوافقوا على أداء هذه الصلاة وفقًا لتعليمات الإسلام الصحيحة.
وقد كان لوارث الدين فلسفته الخاصة في تأويل أفعال الوضوء، وله كلام طويل في ذلك؛ فنراه مثلاً يزعم أن فم الإنسان يرمز إلى شهواته، فشُرعت المضمضة لتغسل تلك الشهوات، أمَّا الأنف فهو مستقرٌّ للأهواء الفاسدة التي ستزيلها عملية الاستنشاق، وزاد فزعَم أن مسح الشعر يؤدِّي إلى طهارة عواطف المتوضئ.
وفي سنة (1975م) أيضًا، دعا "وارث الدين" إلى صيام شهر رمضان المبارك وفقًا للتعليمات الإسلامية الحقيقية، وزاد أيضًا فدعا إلى الاحتفال بعيد الفطر المبارك، إلا أنه فرَض على أتباعه صيام يوم تخليدًا لذكرى والده "إليجا محمد"، وعن ذلك يقول: "أطلب منكم أن تصوموا في شهر ديسمبر يوم عشية عيد ميلاد المسيح، وعشية العام الجديد؛ احتفالاً بذكرى الخدمة الجليلة التي قدمها سيدنا "إليجا محمد" للإسلام"، وبذلك يستمرُّ برنامج الابتداع الذي سلكته هذه الفرقة أسوة بغيرها من الفرق الضالة.
لم يرد ذكر الزكاة والصدقة في مقالات "والاس" أو خطبه، ومن ذلك يظهر تفريطهم الواضح في هذه الشريعة المهمة، وأنه لا قيمة لمثل هذه المسائل في نظر البلاليين، وينطبق الأمر نفسه كذلك على شعيرتَي الحج والعمرة، فبالرغم من قصد "والاس" مكة حاجًّا، إلاَّ أنه لم يشجع أعوانه على أداء هذا النسك.
تغيرات مهمة في تاريخ البلاليين:
وفي عام (1976م) ابتدع "والاس" عيدًا إسلاميًّا جديدًا فرض الاحتفال به؛ وهو يوم الاستقلال الأمريكي، وأطلق عليه اسم (اليوم الوطني للعالم الجديد في أمة الإسلام)، وظهر بعد ذلك نوع واضح من التحوُّر الاجتماعي؛ فقد اتَّبع "وارث الدين" هذا سياسة جديدة في تعامله مع البِيض، ورأى أن مصالحه تقتضي التخلِّي عن إظهار العداء لهم، ولم يعد يصفهم بالشياطين كما كان دأب والده، وما هي إلا فترة وجيزة حتى سُمِح للبِيض بالانضمام إلى صفوف الجماعة، وأصبح من المألوف مشاهدتهم جنبًا إلى جنب مع السود أثناء اجتماعات الطائفة.
ولأول مرة في تاريخ هذه الجماعات تتحسن العلاقة مع الدوائر الحكومية، وتقلُّ حالات التصادم بين العرقَين الأسود والأبيض بصورة ملحوظة، وبدا ارتياح واضح يَسُود الأجواء الأمريكية العامة، وظهر أخيرًا العلَم الأمريكي إلى جانب علَم الطائفة البلالية.
نجح "والاس" فيما بعدُ في تسليط أضواء العالم الإسلامي نحو فرقته النامية، فتَمَّ توجيه عدَّة دعوات إليه لأداء مناسك الحج، وتوجَّه بالفعل سنة (1977م) إلى مكة، ونزل مع طائفة من أتباعه ضيفًا على رابطة العالم الإسلامي، وبالرغم من تلبية مثل هذه الدعوات إلاَّ أن "والاس" لم يشجع أعوانه على أداء مناسك فريضة الحج، وبذلك لم تُعِر البلالية اهتمامها بهذه الفريضة.
وأرسلت لاحقًا العديد من الدول الإسلامية إلى مساجد جماعة البلاليين دعاةً يؤمُّون الناس لأداء صلاتهم، ونجح "وارث الدين" في تمثيليته التي أراد منها خطف بعض الأضواء، فإذا به يغدو لاحقًا الممثل المطلق للإسلام في أمريكا، وإذا بالعالم الإسلامي يقبل جماعته ويعترف بها.
ولم تجرِ الرياح طويلاً بما اشتهَتْه سفينة البلاليين؛ فقد بدأت معتقداتهم وآراؤهم الشاذة تتَّضح شيئًا فشيئًا، وأخذ الزبَد يذهب جفاء، وخاصَّة عندما ظهرت الحقيقة عندما بدأ "والاس" يتنكَّر للمعتقدات الإسلامية شيئًا فشيئًا، محاولاً خطب ودِّ الثقافة الأمريكية على حساب الإسلام، فأعاد الكثيرُ من أتباع الطائفة التفكيرَ في انضمامهم إليها بعد أن بزغت لهم شمس الحقيقة في قلوبهم، فتراجع بصورة ملحوظة أعداد الأعضاء، وانسحب الكثير منها تباعًا.
أفكارهم ومعتقداتهم:
يتوافق أساس عقيدة البلاليين مع معتقدات الإليجية، التي وضعها "إليجا محمد" واستقاها من العقيدة النصرانية والمذاهب الباطنية والفلسفية التي انتشرت في ذلك الوقت.
وبالتدقيق في سير أمور البلاليين فإننا نلاحظ أنهم ساروا على درب أسيادهم الإليجيين السابقين، فالأصل إذًا واحد، والفروقات طفيفة في بعض المسائل الفرعية.
ما يتعلق بالألوهية لدى البلاليين:
وافَق البلاليون آراءَ الإليجية حين زعموا ألوهية الرجل الأسود، وعن ذلك يقول "والاس محمد" مخاطبًا أبناء جلدته من السود: "تعني كلمة الله: القوة والطاقة والسيادة، وبهذا المنطلق أنتم آلهة أجسامكم المادية، كما أنكم آلهة الأرض المادية، بل أنتم الإله في هذا الكون".
كما يقدِّس البلاليون شخص "فرض"، ويرون أن الله تجسَّد في هذه الشخصية، وأن المذكور هذا هو الذي سيحاسِب البِيض على شرورهم التي ارتكبوها في حق السود، وسيسحق أيضًا ذات يوم حضارةَ الرجل الأبيض وسيقضي عليه.
كما تتَّفق مزاعم "والاس" مع مزاعم والده من قبله؛ فهو يؤمن مثله بنظرية الحلول، وعليه فإن لله - تعالى - أن يحلَّ بجسد الإنسان، إلا أن "والاس" زعم بأن ذلك قد يحدث مع البِيض أيضًا، وخالَف والدَه الذي قال: إن الحلول مسموح به في عالم السود فحسب.
وزاد "والاس" فيما يتعلق بهذه الجزئية؛ فنصَّ على أن الله كائن في كلِّ الموجودات، فقال: "إن الإله هو القوة الطبيعية في السموات والأرض، وتلك القوة كامنة الآن في جسدي وأجسادكم وفي الأرض والشمس والقمر والماء والهواء وفي كل شيء".
ومن العقائد المشترَكة أيضًا بين البلاليين والفرق الباطنية: ما نراه من اتفاقهم على أن الله لم يخلق العالم خلقًا مباشرًا، فهو تعالى - بزعمهم - خلق المواد الخام الأولية؛ أي: إن دوره كان في بداية الخلق فقط، ثم أثرت لاحقًا قوى الطبيعة في تلك المادة الخام، فنشأ عنها بعد ذلك هذه المخلوقات من حولنا، ويضرب لذلك مثلاً فيقول: "ليس الشيطان من خلق الله، وإنما هو من خلق الجان، ولم يُخلق لكي يكون شيطانًا".
ومن أفكار والاس الشاذة الأخرى إيمانه بفكرة الاتحاد، ويعني بها: تحوُّل عقل الإنسان إلى عقل الله في حال بلوغه رتبة الكمال، وزعَم أن العقل الإلهي هذا في متناول أي فرد، وبخاصة مَن يقرأ القرآن ويتحلى بأخلاقه.
معتقداتهم في النبوة:
يوضح "والاس" معتقَد فرقته في موضوع النبوة عبر تصريحه بكلام عجيب؛ فهو لم ينكر نبوة الأنبياء السابقين، واعترف بأنه مؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين، إلاَّ أنه تجرَّأ فتطاول عليهم فوصفهم بما لا يليق بمقامهم؛ إذ زعم بأن النبوة تعني: القدرة على الإنباء عن المستقبل، وهي بذلك كلمة تشير إلى نقصان العلم، كما أن النبي في نظره عاجز عن معرفة الطريق بكامله، إنما يرى بعضه فقط.
ومن مزاعم "والاس" الأخرى ما يظهر في قوله: "لا نتنبأ في هذا اليوم وهذا الزمان؛ لأن العقل الإلهي يرى الطريق كله، وإن المعرفة والعلم الذي أكرمكم به العقل الإلهي - أيها الإخوة والأخوات - سوف يجعلكم أعظم من الأنبياء".
كما نراه قد انتقص من قدر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فزعم أنه لم يأتِ بالنور المحمدي كاملاً.
من ناحية أخرى، فإن عقيدة "والاس" تتفق مع والده في شأن المسيح، فهو بزعمهما ابن ليوسف النجار الذي أقام علاقة غير شرعية مع مريم، ونشأ عنها حمل حرام كان عيسى نتاجه.
ووفقًا لمعتقداته أيضًا، فقد قَتل المسيحَ أهلُ زمانه وصلبوه ودفنوه في الأرض، ولن ينزل من السماء، وزاد في زعمه الباطل فقال: "إن حقيقة عيسى هي الجسد الحي من الصالحين، وإنما عيسى الموعود هو أنا وأنتم، وليس عيسى جسدًا من شحم ولحم، بل هو مجتمَع يعيش كجسد واحد، وإن منظمة مجتمع الإسلام في الغرب هي ذلك المسيح المتجسِّد الذي ينتظر العالم ظهوره، وإنكم جزء من هذا الجسد الإلهي العظيم".
وبقيت معتقدات "والاس" فيما يخصُّ السيد المسيح كما هي، حتى تراجع عنها فغيَّرها فيما بعد، فقال: "إننا نعد عودة عيسى الثانية هي ظهور النبي محمد - صلى الله عليه وسلم".
حديثهم فيما يخصُّ حقائق الآخرة والغيبيات:
أطلق "والاس" اسم البعث الأول على زمان والده، أمَّا زمانه هو فقد أسماه بالبعث الثاني الذي أتى بالنور الكامل فنَقل البلاليين من ظلام الجهل إلى أنوار العلم، وفي ذلك يقول: "نحن كنَّا أمواتًا في قبر الكتاب المقدس، لكن الحق الإلهي على لسان السيد "إليجا محمد" بعثنا من العدم إلى سطح الأرض، وقد تعلمنا أشياء كثيرة من إلهنا "فرض" وتعاليم السيد (إليجا محمد)".
وقال مشيرًا إلى عهده: "والبعث الثاني أتى بالنور الكامل؛ إذ ينعدم نور الشمس والقمر، ويظهر نور الله الصافي".
أمَّا ما يخصُّ عقيدة البلاليين في مفهوم الجنة فقد أوضح "والاس" ذلك بقوله: "إن حياتي جنة، وستكون حياتكم جنة إن آمنتم بما أُعلِّمكم عن الإله، ونيل الجنة في استطاعتكم وأنتم أحياء، والجنة شيء تدخلونه في حياتكم لكي تبقوا على قيد الحياة بعد وفاة أجسادكم".
وقال في موضع آخر: "الجنة شيء تدخلونه خلال حياتكم، والجنة هي أن تؤمنوا بتعاليم الإله (فرض)".
تمثِّل الملائكة في نظر "والاس" القوى الطبيعية الخفية التي تشكِّل حقيقة الأشياء، ويزعم أن الإنسان حين يترقَّى بالمعرفة يصبح أعلى درجة من الملائكة؛ وذلك لأنه يعرف قوى الكون ويسيطر عليها.
أمَّا الجن في نظر البلاليين فهي أشخاص ذات طبيعة نارية، ليس في رأسهم عقل سليم، ويرمز الجان في أقوال أخرى لهم إلى الرجل الأبيض الذي يعلم أسرار الحضارة المادية، وعينه بذلك محجوبة عن الأسرار الإلهية التي يطلع عليها الإنسان الأسود.
مزاعمهم حول الكتب السماوية:
تؤمن فرقة البلاليين بالكتب السماوية بما فيها القرآن الكريم، إلاَّ أنهم يزعمون أنهم ليسوا بحاجة إلى ما ورد فيها من تعليمات وإرشادات؛ لأنهم يتلقون الهداية بصورة مباشرة من الله عن طريق زعيمهم "وارث الدين" الذي أضاف فقال: "إن الكتب السماوية شموس أضاءت العالم، ونحن لسنا بحاجة إلى الشمس أو القمر؛ لأن الله سيكون النور، وسنراه وجهًا لوجه، ولن نبحث عن النور في الكتب السماوية، بل سنذهب إلى الله مباشرة، والكتب السماوية لا تهديني، وإنما أهتدي برؤيتي للصورة الإلهية التي كانت نورًا، فأزالت الظلمات من صفحات الكتب السماوية، وأصبح الله نور السموات والأرض معي".
ما يُذكر لهم من حسنات:
يُذكر للفرقة البلالية بعض الحسنات التي امتازت بها على غيرها من الفرق السابقة؛ ومن ذلك الاهتمام بصيام شهر رمضان والاحتفال بعيد الفطر، وإعداد معابد الفرقة وتهيئتها لأداء الصلاة على الطريقة الشرعية السليمة، والحض على الالتزام بمحاسن الأخلاق، والتزام الأدب والذوق العام، وتشجيع النساء على التزام الزي المحتشم.
فرقة السايلسية:
وُلِد "سايلس محمد" في تكساس، وبها نشأ، وانتقل لاحقًا إلى كاليفورنيا، فقد انضمَّ إلى طائفة الإليجية بعد أن اقتنع بما فيها من شعارات براقة لفتت انتباهه، وأظهر لاحقًا نشاطًا واضحًا في خدمة الجماعة، ممَّا جعله يُعيَّن مديرًا لتوزيع جريدة "محمد يتكلم" التابعة للحركة.
وفي عام (1977م) انسحب "سايلس" من الإليجية إثر خلافات حادَّة نشأت بينه وبين "وارث الدين" عقب وفاة والده "إليجا محمد"، وغادر إلى شيكاغو، وهناك أصيب "سايلس" بحمى حب الزعامة التي استشرت بين أعداد كبيرة من زعماء السود في تلك الآونة.
وهاجم "سايلس محمد" أسلوبَ "والاس محمد"، واتهمه بأنه هدم حركة أبيه، وزعم حينها أنه الابن الروحي لإليجا، وزاد فادَّعى النبوة بعدها، ودعا أبناء فرقة الإليجية إلى اتباع تعليمات "إليجا" الحقة، وحثهم على قلب ظهر المجنّ، والانقلاب على "والاس"، فآمنت به أعداد كثيرة راقها زعمه وكلامه.
وفي عام (1978م)، انتقلت الطائفة السايلسية إلى كاليفورنيا، وعادت لها أنشطة ميليشيا (ثمرة الإسلام) التابعة لذكور الإليجية، و(منظمة تدريب البنات المسلمات).
ما أضافته السايلسية:
لم تختلف عقائد "سايلس محمد" كثيرًا عن عقائد "إليجا"، فدعوة الأول قامت على أنقاض دعوة الآخر، إلا أنه أضاف بعض الفروع التي تخدم أفكار نبوته المزعومة.
فقد زعم "سايلس" أن "إليجا محمد" هو النبي موسى كليم الله المذكور في القرآن الكريم، وله رأي شاذ خص به قصة موسى - عليه السلام - وفي ذلك يقول: "نحن نعتقد بأن الإله قد ظهر في صورة "فرض محمد"، وأن هذا الإله قد تكلم مع "إليجا محمد" وجهًا لوجه، كما نعتقد أن "إليجا محمد" كان هو موسى، ونحن لا نؤمن بوجود موسى في مصر، بل نؤمن بأن القصة النبوية عن موسى التي سُجِّلت في القرآن والكتاب المقدس، إنما كانت رمزًا لتاريخ السود في أمريكا".
ويوضح "سايلس" رأيَه الشخصي في مريم ويوسف النجار وابنهما عيسى، ويزعم أن هذه الأسرة علامة ترمز إلى زيارة الرب لأمريكا، وإشارات خفية تدلُّ على تاريخ مستقبل السود في أمريكا، ويزيد في أفكاره العجيبة تلك ويقول: "إن تلقيح يوسف لمريم يماثل تلقيح الرب لرسولنا، وكان "إليجا محمد" أمنا الروحية، والولد الروحي أتباعه".
أمَّا الجنة من منظور "سايلس" فهي حالة ذهنية تقوم بين الرجل والمرأة في حال تقيدهم بالأعمال الصالحة، وأنكر أن تكون الجنة مكانًا ماديًّا ملموسًا، أمَّا النار فهي حالة السوء التي تظهر بين الرجل والمرأة في حال ارتكابهم للمنكرات.
وأخيرًا؛ فقد أنكر "سايلس" أن يكون آدم أبًا البشر، وزعم أن اصطلاح (آدم وحواء) المذكور في الكتاب المقدس، ما هو إلا رمز لما يكون من العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة.
فرقة الفرحخانية:
أسس فرقة الفرحخانية المدعو "لويس والكوت"، الذي ينحدر من أسرة تعود أصولها إلى جزر الكاريبي، ونشأ مغنيًا وعازفًا معروفًا في نيويورك، وفي عام (1956م) تأثر بأقوال "مالكوم إكس" وخطبه التي كان يذيعها في معبد "محمد للإسلام"، في أكبر أحياء السود بالمدينة، فانضمَّ إلى أعضاء الطائفة الإليجية، وغدا معروفًا باسم "لويس إكس".
أصبح "لويس إكس" فيما بعد عضوًا مقربًا من "مالكوم إكس"، فعيَّنه الأخير مشرفًا على منظمة (ثمرة الإسلام) التابعة لمعبد الإليجية، وتدرج في مهامه لاحقًا حتى غدا المسؤول العام عن معابد الإليجية، وأصبح بعدها يظهر في المحافل الخاصة بالفرقة.
بعد أن قام "إليجا محمد" بعزل "مالكوم إكس" كما علمنا سابقًا، تم تعيين "لويس" لاحقًا في منصب الوزير الوطني الأول، وتغيَّر اسمه ثانية فعُرِف باسم "فرحخان"، وسطع نجمه وزادت شعبيته؛ ممَّا ساعده في بناء ثروة طائلة، عُرِف بعدها بالبذخ والترف.
وبعد موت "إليجا محمد" وتسليم ابنه "والاس" منصبَ قيادة الطائفة، قام بعزل "فرحخان" من مناصبه؛ ممَّا أدَّى إلى انسحابه من الفرقة تمامًا سنة (1977م)، فغادر إلى نيويورك، وفتح بها معابد جديدة، وأخذ ينادي بالعودة إلى تعاليم "إليجا محمد" من جديد، فالتفَّ حوله الكثير من السود هناك، وعاد نجمه فسطع ثانية، واستقرَّ أخيرًا في شيكاغو، ودُعِي إلى إلقاء المحاضرات في بعض الجامعات الأمريكية، وقام لاحقًا بتأسيس جريدة "النداء الأخير".
عقيدتهم ومزاعمهم:
خالَف "فرحخان" سابقيه فلم يدعِ النبوة كما فعل هؤلاء من قبله، واكتفى بالنداء إلى العودة إلى تعليمات الإليجية الصافية دون أية إضافات أو مصالح شخصية، وكان في رأس قائمة اهتماماته إعادة بناء (منظمة أمة الإسلام) التي أنشأها "إليجا محمد"، فاستجاب له الكثير من البلاليين والسايلسيين، وانضمَّ إليه حتى أبناء "إليجا محمد" وزوجته.
أقرَّ "فرحخان" تعليمات "إليجا محمد" بالكامل، وكان حريصًا على تذكير أتباعه بتعاليم الإليجية بصورة مستمرَّة عبر طباعتها في الصفحة الأخيرة لجريدة "النداء الأخير".
وأضافت الفرحخانية إلى ما قرَّره "إليجا محمد" بعض الزيادات الطفيفة؛ منها مثلاً تأليه "إليجا"، وادعاؤهم في مقام آخر بأن "إليجا" هو نفسه المسيح الذي رُفع إلى السماء في مقام محمود إلى اليمين من الإله، وقد أعطاه الرب بزعمهم، السلطةَ التامَّة للتصرُّف بطاقات الطبيعة، فهو مع الإله، وعودته وشيكة، وسوف يُبعث حيًّا قريبًا، وقال معلقًا على ذلك: "إذا لم يُبعث "إليجا" حيا، فلا أمل فينا أن نُبعث أحياء من موتنا الذهني والروحي والسياسي والاجتماعي".
أمَّا ما يخصُّ شخصه هو فقد زعم "فرحخان" أنه "بطرس" أحد حواريي المسيح، وأن "إليجا محمد" يتكلم ويخاطب الناس بوساطته، ونراه عن ذلك يقول: "إن (إليجا محمد) قال لي: إن نفس القوة التي معي ستكون معك، بل إن اثنين سيساندانك: أنا والله، فاسأل الله باسمي وهو سوف يعطيك، وإذا كنتَ وفيًّا فسوف أنزل التعاليم الجديدة بواسطتك".
فرقة النوبية (أنصار الله):
تنسب الفرقة النوبية إلى "دوايت يورك"، الذي ولد في نيويورك سنة (1945م)، ودخل السجن بتهمة تعاطي المخدرات، وفيه تعرَّف على بعض مسلمي المذهب الإليجي، كما خالَط بعض اليهود والهندوس، فنشأ لدى الشاب مزيج من ثقافات مجتمعة لتلك الديانات، وعندما أُفرج عنه ذهب إلى معبد الإليجية، وأشهر إسلامه هناك، وسمى نفسه باسم "عيسى عبدالله".
وفي عام (1967م) أسس "عيسى عبدالله" جمعية (أنصار الصوفية الخالصة)، ولاقت قبولاً واسعًا بين الشباب السود الذين كانوا يضيقون ذرعًا بمشاكل الزنوج واستبداد البيض لهم في تلك الحقبة التي شهدت كذلك أوضاعًا سياسية سيئة، وكسادًا اقتصاديًّا ملحوظًا.
أحداث هامة في تاريخ الجماعة:
اتَّخذت جمعية (أنصار الصوفية الخالصة) المذكورة شعارَ الهلال ونجمة داود رمزًا لها، وتغير اسمها لاحقًا عِدَّة مرات فصار (جمعية النوبيين)، ثم عدل إلى (الرابطة النوبية الإسلامية العبرانية)، وعيَّن "عيسى" نفسه إمامًا للحضارة الأولى التي أنشأها الرجل الأسود على ضفاف نهر النيل في إفريقيا، وزعم أن النوبيين في صعيد مصر وشمال السودان هم ورثة ذلك التراث الأسود، وهم أصل السود في هذا العالم.
وفي عام (1973م)، قصد "عيسى عبدالله" مكة حاجًّا، ثم سافر منها إلى أم درمان بالسودان، فزار قبر المهدي، والتقى بأسرته هناك، وعند عودته إلى أمريكا غيَّر اسمه ثانية فصار يُدعى بالإمام "عيسى المهدي"، وزعم حينها أنه من أحفاد الإمام المهدي، وأقرَّ على أتباعه ارتداء الزي الإسلامي الشبيه بالرداء السوداني والعمامة، مع الحجاب الخاص بالنساء.
وفي تلك الأثناء أَوْلَى "عيسى المهدي" تعلُّم العربية اهتمامًا خاصًّا، كما أضاف إلى الشهادتين عبارة (وأشهد أن محمدًا المهدي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم)، وبنى لأتباعه معبدًا يشبه في تصميمه ضريحَ المهدي في السودان، وأسقط فيما بعد نجمة داود من شعار الجماعة، واكتفى بشعار الطائفة المهدية.
وفي عام (1979م) أعلن "عيسى عبدالله" أنه مجدد القرن، وزعم أن بعض أقوال المهدي تؤيد ذلك صراحة وتَذكره شخصيًّا لنيل هذه الصفة، وفي عام (1980م)، أظهر "عيسى عبدالله" المزيد من الجرأة، وبخاصة عندما استسهل سير الأحداث، ولم يجد مَن يردعه أو يرد على أكاذيبه، فادعى أنه المسيح المنتظر، واستخفَّ قومَه فأطاعوه، وأذاعوا بأن المخلص قد وصل أخيرًا، وتَمَّ توزيع المنشورات التي تبشِّر الناس بذلك، بل وتَمَّ تأسيس مجلة حملت اسم "مخلصنا قد رجع".
معتقدات النوبيين وأفكارهم:
حاوَل "عيسى عبدالله" كثيرًا الجمعَ بين الهوية الإسلامية من جهة، وقوميته السوداء العرقية والثقافة الأمريكية العصرية من جهة أخرى، فنشأ عن ذلك نسيج عجيب من الأفكار والمعتقدات التي لم يُكتَب لها النجاح، فكانت زَبدًا سرعان ما ذهب جُفاءً.
وثمَّة تناقضات عجيبة في مبادئ فرقة النوبية ومعتقداتها؛ فنرى القليل منها يتَّفق تارة مع الإسلام الصحيح فيما يتعلق بفقه بعض العبادات، وفي الوقت نفسه فإن لها من المنشورات ما يخالف أسسَ الدين السليم ويضرب بها عرض الحائط، ويتَّضح ذلك بالتدقيق في أقوالهم وتحليلها بإنصاف وموضوعية.
أقوالهم الخاصة بالألوهية:
تتَّفق النوبية إلى حدٍّ ما مع مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته، إلا أنهم ضلوا وساروا على نهج من ابتدع فكرة وحدة الوجود، ولهم من الكلام خلاصة تَمَّ أخذها عن الفلاسفة القدماء وبعض الفرق الأخرى؛ كالبراهمانية والرواقية وفلاسفة الأفلاطونية وغلاة المتصوفين.
تزعم النوبية أن الله هو مجموع ما في الكون، ولا يمكن زيادة شيء على الكل ولا نقصان شيء منه، وأن الله لم يقف عند حد خلق الكون، بل ترك جوهر ذاته في كل ذرة من ذرات مخلوقاته، وبدونه لا يوجد شيء، وهو والطبيعة حقيقة واحدة، ويعدونه - تعالى - صورة هذا العالم المخلوق.
وقد أضافت النوبية إلى الله - تعالى - صفات لا تليق بجلاله؛ فقد زعموا أنه - سبحانه - ينبض ويتذبذب ليبني ويشكل، ومن نبضاته تلك خرج الفلك المادي، وتكونت السموات والأرض وباقي العناصر، وانخفضت لاحقًا قوة النبض تلك وقلت سرعته، فنشأ عن ذلك تكون السكون والزمان.
كما تزعم الفرقة النوبية أن لله يدًا كيد الإنسان، ولم يخلق الله المخلوقات بيده تلك فقط، بل ساعده في عملية الخلق هذه بعض الجن والملائكة، ومن أقوال "عيسى عبدالله" في هذا الجانب: كان الله هو البدء ولم يكن معه أحد، ثم خلق الله العدَم، وجاش صدى "كن فيكون"، وشق نورُ الخضر أعظم الملائكة الظلامَ وصار جزأين: أحدهما انحدر منه الشخصيات النبيلة مثل الملائكة وأرواح الأنبياء والمسيح وأصحاب الميمنة، وآخرهما رديء انحدر منه الجان".
ويؤمن "عيسى عبدالله" أيضًا بمبدأي الحلولية والاتحاد، وتدلُّ أقواله في ذلك على تشبُّع أفكاره بالمعتقدات الوثنية كالزرادشتية والبوذية؛ ومن ذلك ما خاطَب به قومه من السود قائلاً: "إن الله نفخ فيكم نسمة حياة، وهذا هو النور، والنور حياة الإنسان، ويأتي النور من الكلمة، والكلمة هي الله، إذًا فأنتم أيها النوبيون فيكم الله، وقد نفخ فيكم نسمة الحياة"، وتابع قائلاً: "الأفلاك سبعة، أدناها هو الفلك المادي، وأعلاها هو الفلك الذي يتَّحد فيه أحدنا بالله الخالق - سبحانه وتعالى".
أقوال النوبية في شأن النبوة:
لمفهوم النبوة عند الفرقة النوبية أفكار خاصة ومعتقدات شاذة؛ فالنبي هو مَن يأتي بكتاب جديد، والأمي هو الذي يأتي بكتاب جديد ويشرح الكتاب السابق، أمَّا الرسول فله رسالة خاصة تتمثَّل في شرح الكتاب السابق فحسب، وهم بذلك يضعون النبي في مرتبة أعلى من مرتبة الرسول.
وعلى أية حال فالنبي أيضًا في نظر النوبية ناقص المعرفة، ولذلك فإن الفرقة ليست بحاجة إلى الأنبياء؛ لأن ألوان العلم والمعرفة قد أشرقت عليها، وأعضاؤها بذلك في مرتبة أعلى من هؤلاء الأنبياء.
وتعتقد الطائفة النوبية بأن جميع الأنبياء كانوا من السود النوبيين، ويزعمون أن عيسى - عليه السلام - كان ابنًا لجبريل، ويقصُّون قصة طويلة عن تمثل جبريل في صورة جسد حتى يتمكَّن من مريم، ويبتدعون طريقة حمل مريم بابنها المسيح، ونشأته فيما بعد، ورحلاته الطويلة عبر البلاد لتعليم الناس وشفائهم، إلى أن تسلم شهادة روح الله، ثم تحوَّل بعدها جسدُه إلى روح الهرم الأعظم بمصر.
وقد أنكر "عيسى عبدالله" أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأنبياء؛ فالأنبياء في نظرهم سواسية، وجميعهم أُرسلوا لأداء واجبات متماثلة، وتفضيل واحد منهم على غيره ذنب عظيم.
عقيدتهم في الكتب السماوية:
في موقف النوبية من الإيمان بالكتب السماوية الشيء الكثير من الافتراءات؛ فهم يؤمنون بها على صورتها الحالية التي هي عليها الآن، ويزعمون أن التوراة والإنجيل لم تتعرَّضا لأيِّ تبديل أو تحريف، ويقول "عيسى عبدالله" في ذلك: "كل كلمة في القرآن من الله، وهي حق مبين، وكذلك التوراة والإنجيل والزبور"، ويستند في مزاعمه هذه إلى قوله - تعالى -: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34].
كما كثر استناد "عيسى عبدالله" إلى أقوال التوراة والإنجيل المحرَّفين لتفسير آيات القرآن الكريم، وحجته في ذلك أنه يفسر كلام الله بكلام الله، وزاد فادَّعى أن سفر الرؤيا في العهد الجديد هو عين إنجيل عيسى - عليه السلام.
عقيدتهم في أمور الغيبيات:
تعتقد أفكار الفرقة النوبية أن نار الآخرة غير أزلية، وهي مرحلة مؤقَّتة لتطهير النفس التي أضاعتْ فرصتها في الدنيا، أمَّا الجنة فهي مرحلة لا بُدَّ من المرور بها للعودة إلى الله.
ويزعم "عيسى عبدالله" في مقام آخر أن جهنم ما هي إلا مستشفى روحي تستطب فيها النفوس التي أصابتها الأمراض الروحية، وهي الفرصة الثانية لتطهير النفوس، وعند شفاء الإنسان ممَّا أصيب به من مرض روحي، سيبدأ سيره نحو الإله.
ومن معتقدات النوبية الأخرى في هذا الجانب: أن الله لن يحاسِب الإنسان على ما اقترفه من أعمال دنيوية، بل إن ذنوبه هي التي ستفعل ذلك، ويقول "عيسى" في ذلك: "سوف تحاسبكم ذنوبكم، ولا تحاسَبون من أجلها".
يظهر بوضوح تأثُّر النوبية بالفلسفة اليونانية، عبر تصوُّرهم الخاص لموضوع خلق الإنسان، وتظهر أيضًا نزعتهم العرقية فيما ينصُّون عليه؛ فالرجل الأسود روح من الله وله نفس حية، وللمرأة السوداء نفس حية كذلك، إلا أنه لا روح لها.
ويُكمل النوبيون مزاعمهم تلك ويذكرون بأن أرواح البِيض سواء كانوا رجالاً أو نساء ذات مصدر شيطاني، ولا نفس حية في أجسادهم؛ وعليه فلا حساب على البِيض بعد الموت، ولا جنة لهم، إنما مصيرهم الرمي في الهاوية إلى الأبد.
ويعتقد "عيسى عبدالله" أن الله لم يَخلق آدم خلقًا مباشرًا، بل قام بذلك أحد الملائكة، وبالتحديد في مكان التقاء نهرَي النيل في إفريقيا الحالية، ونتج عن ذلك رجل ذو جسد أسود اللون، نفخ الله فيه نوره الحقيقي، وتشكَّل جسد حواء من بقايا خلق آدم هذا، أمَّا تركيب ذريتهما الجسدية فهي مزيج من الصفات الذكورية والأنوثية التي أُضِيفت إليها روح الله.
أمَّا خلق الإنسان الأبيض في مزاعم الفرقة النوبية فقد بدأ في عهد نوح - عليه السلام - ويزعمون أن كنعان بن حام أصابته لعنة نوح - عليه السلام - فأصيب بالبرص هو وذريته من بعده، وأطلقوا على ذريته البيض تلك اسم (الجنس الأموري)، فأصبح كنعان بذلك جد البيض.
ويقصون حول افتراءاتهم تلك أقصوصة أسطورية مليئة بالكذب والافتراء على نبي الله نوح - عليه السلام - فيتهمونه بالسكر والتعرِّي أمام أبنائه - والعياذ بالله - وصولاً إلى لعنه لابنه حام، وغضبه عليه وعلى ذريته من البِيض المغضوب عليهم ذوي الأرواح الشيطانية الخبيثة، ومصيرهم يوم القيامة الخلود الأبدي في الهاوية، ولا بعث لهم ولا حساب في ذلك اليوم.
ترى النوبية أن الملائكة خُلقت من نور، وأعظمهم الخضر الذي وُلِد بلا أب أو أم، واستقرَّ في الفلك الرابع، وأمره الله فصار الواسطة بين عالمي السماء والأرض، وهو الملك الوحيد الذي له القدرة على أن يتمثَّل في صورة بشرية، لنقل رسائل الله إلى بني البشر.
تأثر الفرقة النوبية بالعقيدة اليهودية:
يظهر تأثر النوبية بالديانة اليهودية في جوانب عِدَّة؛ فمن ذلك تقديسهم ليوم السبت، واجتماعهم فيه لقراءة نصوص التوراة المحرَّفة، وبلَغ إعلاؤهم لهذا اليوم درجةً توعد بها "عيسى عبدالله" بالعقاب الشديد لِمَن ارتكب ذنبًا من أتباعه فيه.
ومن تأثُّرهم أيضًا بالعقيدة اليهودية ما نراه من استخدام نجمة داود في شعارات الجماعة الخاصة.
وتنصُّ بعض الدراسات المتخصِّصة على أنه من الراجح أن يكون "عيسى عبدالله" قد باع ضميره لبعض الجهات اليهودية الأمريكية التي استحوذت على فكره، وجعلت منه واجهة شريفة تخفي السمَّ في الدسم، وتبثُّ عبرها تلك المنظمات اليهودية أهدافَها الخبيثة مغلَّفة بطابع ذي قشرة إسلامية.
أداء النوبية لعباداتهم:
لا تتطرَّق كتابات النوبية إلى الحديث كثيرًا عن الصلاة وطريقة أدائها وأوقاتها، وهذا يدلُّ على إهمال هذه الفرقة لهذه الشريعة المهمة التي لم يُلقِ لها النوبيون بالاً، وقد أشبهت طريقةُ من يصلي منهم أداءَ سابقيهم، من الصلاة في الوضع القائم دون ركوع أو سجود.
وزاد بعض أبناء النوبية، فاعتمد قراءةَ الإنجيل بدلاً عن القرآن أثناء أداء تلك الصلاة، كما عُرف عن أبناء الطائفة عدم أدائهم لصلاة الجمعة أو صلاة الجنائز.
كما يلاحَظ إهمالُ الحركة النوبية لذكر شعائر الإسلام الأخرى، وهذا يدلُّ صراحة على جهلهم بها من ناحية، وعلى تجاهلهم لها من ناحية أخرى، ومن ذلك إهمال صيام شهر رمضان، وعدم الاحتفال بعيدَي الفطر والأضحى، وعدم إخراجهم للزكاة والصدقات، واستخفافهم بقصد بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة.
كما ألغى "عيسى عبدالله" أحاديثَ السنة النبوية من فكر الجماعة، زاعمًا بأن تسعة وتسعين بالمائة من الأحاديث لا تزيد على أن تكون ضعيفة أو موضوعة، وزاد فطعن في روايات البخاري ومسلم، وزعم أنها ليست بصحيحة، وورد عنه قوله: "إن خالف أيُّ حديث نبوي أمرًا من أوامر الكتب المقدسة، فالحديث باطل".
من مبتدعات النوبية الأخرى:
أشبهت النوبيةُ الفرقَ السابقة في الكثير من مظاهر الإفراط والتفريط، لكن "عيسى عبدالله" زاد واستحدث بعض الإضافات الجديدة التي امتازت بها فرقته، ومن ذلك: أنه قام بتحريم أكل ما حَرَّمته التوراة على بني إسرائيل، وحجَّته في ذلك أن هذا التحريم إلهي، خوطب به الجميع وليس بني إسرائيل فحسب.
كما حرَّمت تعاليم النوبية كذلك استخدامَ آنية الطعام ذات اللون الأخضر؛ لأنها على حدِّ زعمهم خاصة بطعام أهل الجنة، كما حرمت أكل لحوم الإبل وزعمت بنجاستها، ومنعت استخدام النساء لبعض أنواع الأقمشة.
وقد أباح "عيسى عبدالله" بعضَ الأمور التي يجمع على تحريمها أهل السنة والجماعة؛ ومن ذلك سماحه بإتيان المرأة في دبرها، وعدَّ إجماع المسلمين على تحريم ذلك أمرًا فيه تحيُّز وضلال، وزعم أن الممنوع هو إتيان المرأة في قبلها من دبرها، وليس الممنوع هو وطأَها في الدبر، وفهِم أحاديثَ الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الباب فهمًا خاطئًا فأوَّلها وحوَّر معانيها نتيجة لجهله بالسنة النبوية الشريفة، ولضعفه الواضح في فقه اللغة العربية.
ومن المستحدثات التي فرضها "عيسى عبدالله" على أفراد جماعته: القيام بالتسوُّل واستجداء الآخرين، وجمع الأموال وتقديمها إليه شخصيًّا يتصرَّف بها كما يشاء.
ومن تعليماته الغريبة الأخرى ما أوجده من نظام سكن أفراد الفرقة، فقد أسَّس مهجعًا خاصًّا بالرجال، وآخر منفصلاً للنساء، وخصَّص في المركز غرفة يتمُّ بها لقاء الأزواج من أفراد الجماعة بعد إذن سابق منه، وكثيرًا ما كان يمنع الفرد من حقه هذا، إن لم يجمع المبلغ الكافي من التبرعات.
وتَمَّ فرض بعض الأعمال الجماعية التي تقوم بها النساء في مهجعهن كالطبخ والغسيل والحياكة، وعمومًا فقد دلت أفكار "عيسى عبدالله" على أن نظرته نحو المرأة نظرة دونية، فقد زعم أن لها نفسًا حية من غير روح، وهي بذلك جاهلة بالعالم الروحاني، وإن لم تنفذ إرادة الله فقد سلمت نفسها للشيطان.
أخيرًا:
فقد ورد في تعليمات النوبية تحريمُ الخمر ولعب القمار وأكل الخنزير، كما شجعت المرأة على التزام الحشمة ولبس الحجاب، وهذه الأمور من المحمود القليل الذي يذكر لتلك الجماعة.


خاتمة المطاف:
ونصل أخيرًا إلى خاتمة حديثنا حول ما ظهر في الساحة الأمريكية المعاصرة من فِرق أعلنت أمام الملأ هويتها الإسلامية، وزعمت صلتها بهذا الدين، واتخذت منه غطاء لها تخفي به عيوبَ معتقداتها، وتبثُّ من تحته نظرياتها وأفكارها الباطلة.
وممَّا يُؤسَف ويحزُّ في النفس ما حقَّقته هذه الفِرق من النجاح في خداع الكثير من المسلمين، فقد صدق بعضهم نظرية انتمائها للإسلام، فنراهم يقدمون لها الدعم بأشكاله المختلفة، وكثيرًا ما تراجع العالم الإسلامي عن تأييده ذلك عندما تحقق من عدم صحة نصوص تلك الفِرق ومزاعمها.
ونختم حديثنا فنقول: إن الإسلام الحقيقي دين الفطرة السليمة والذوق الرفيع، وهو دين العقل والمنطق، وبذلك فإن تعاليمه تُغاير تمامًا مزاعمَ فرق هذه الدراسة، التي غابت عن ساحتها عناصر النجاح الفريدة تلك.
والإسلام أيضًا دين الوسطية التي لا تفسح مجالاً للإفراط والتفريط، وهو بذلك يمتاز عن غيره من المذاهب والديانات التي غَلَت أحيانًا فزادت في الأمر ما ليس فيه، وأهملت أحيانًا أخرى فأهملت وقصرت، وهو ما حدث مع الفرق الإسلامية المدروسة.
والآن، وبعد إيضاح الحقيقة الغائبة وراء ستار هذه الفرق والجماعات، يتحتم على العالم الإسلامي إعادة ترتيب الأوراق والملفات، والنظر بعين التروِّي والحكمة في العلاقة مع الطرف الآخر، وتحكيم الشرع والعقل في ميزان معاملة الآخرين.
فعلى المسلمين مثلاً تكثيف جهودهم وتعميق صِلاتهم واتصالاتهم؛ بغية إظهار حقيقة الإسلام الصحيح، ويسهم في ذلك: إمداد الدول ذات الأقليات المسلمة بذوي الكفاءة من الدعاة المؤهلين والمدربين، وتأسيس مدارس إسلامية تعلم الأجيال الجديدة، وتساعد في تقويم فكرهم والعودة بهم إلى الفطرة.
وحبذا أن يتمَّ استخدام التقنية الحديثة في تطوير أداء أهدافنا السامية، ومن ذلك استخدام بث القنوات الفضائية الحديثة لعرض برامج صادقة عن رسالة الإسلام، ومنها الاهتمام بطباعة المراجع الأصيلة والمطبوعات الشرعية والصحف والمجلات الموجَّهة، والبرامج الإذاعية، والشبكة العالمية (الإنترنت) عبر تأسيس مواقع إسلامية حقيقية، تقف حاجزًا منيعًا أمام زحف أعداء الإسلام.
وتقع على عاتق مراكز الدراسات والبحوث مسؤولية كشف حقيقة الفِرق الإسلامية المزعومة، وبيان عقيدتها، وإيضاح ذلك لعموم المسلمين؛ حتى لا تزيد أعداد الذين انطَلَتْ عليهم الحيلة، فصدقوا ما كان من ادعاءات الكذب والضلال.
ويعدُّ موسم الحج من الفرص الذهبية التي يجب الإفادة منها؛ لاستقبال وفود الحجيج الذين قدموا من البلدان الإسلامية النائية، إذ يتمُّ احتضانهم وإيواؤهم بغية تلقينهم مبادئ الإسلام الصحيحة، فيعودون إلى بلدانهم سفراء صحَّحوا ما لديهم من أفكار خاطئة ومعتقدات بالية، وصاروا بذلك إلى جادة الحق أقرب.
ولسفارات دول العالم الإسلامي في الغرب مهمة كبيرة في مجال الدعوة إلى الإسلام الصحيح، فبإمكان القائمين عليها تنظيم المؤتمرات والندوات التي توضح عبرها سِمات الإسلام السليم وخصائص رسالته، وحبذا أن يتمَّ تقديم دعوة حضور إلى أبناء الفرق التي درسناها؛ لعل ذلك يُسهِم في تصحيح ما وقعوا به من الخطأ، وتقويم ما كان من الاعوجاج، فيعودون إلى درب الإسلام، لتبدأ حياتهم به من جديد.
والحمد لله رب العالمين.


ـــــــــــــــ ــــــــ
[1] رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه.
[2] متفق عليه.