تعالوا بنا نتعلم الإنصاف ... نماذج مشرقة فهل نكررها ؟؟
جهد جمع الفاضل : ابو بكر المقدسي
من منتدى أنا مسلم
جزاه الله عنا خير الجزاء وأجزلهُ واوفاه.
======================
بسم الله الرحمن الرحيم
( 1 )
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسولنا الهادي الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
وبعد فإن سلوك الإنصاف أمرٌ عزيزٌ ، ولا يتهيأ إلا من أعطي قوة على محاربة الهوى ، وقمع حظوظ النفس ، وإعطاء كل شيء حقه ، وإنزال الناس منازلهم ، ولهذا لا يستطيعه أي أحدٍ ، ولا يقدر على التجمل بهذا السلوك من لم يكن عنده استعداد داخلي له .
والإنصاف مأخوذ من النصف ، فكأن المنصف أعطى نصفاً لما يعتقد ، ونصفاً لما يعتقد غيره ، ولهذا لم يصعب عليه الانحياز إلى أيٍّ منهما نظراً لأنه في المنتصف ، بخلاف صاحب النظرة المخالفة فإنه يصعب عليه تقبل رأي غيره ، أو الإذعان بصواب الآخرين وخطأ نفسه ومن يرى رأيهم ، لأنه وضع نفسه على مسافة بعيدة لا تقبل التقاءً ولا تراجعاً ، وهذا أول مراحل الخطأ لأنه يظن نفسه صاحب الحق المطلق ، ومن سواه هم أصحاب الخطأ المطلق .
قال ابن منظور في لسان العرب : 9/33 : (( والإنصاف : إعطاء الحق ، وقد انتصف منه وأنصف الرجل صاحبه إنصافاً ، وقد أعطاه النصفة . ابن الأعرابي : أنصف إذا أخذ الحق وأعطى الحق ، والنِّصفة : اسم الإنصاف وتفسيره ؛ أن تعطيه من نفسك النصف أي : تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك ، ويقال : انتصفت من فلان ، أخذت حقي كاملاً حتى صرت أنا وهو على النِّصف سواء )) .
والدعوة إلى الإنصاف ، والحث على سلوكه مبدأ قرآني ، ودعت إليه السنة المطهرة ،
قال تعالى : ) ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأطراف النهار ( .
قال الطبري : 4/51 : القول في تأويل قوله تعالى : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل ) يعني بقوله جل ثناؤه : ليسوا سواء ، ليس فريقاً أهل الكتاب أهل الإيمان منهم والكفر سواء ، يعني بذلك متساوين ، يقول : ليسوا متعادلين ، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد ، والخير والشر ، وإنما قيل : ليسوا سواء لأنَّ فيه ذكر صليت من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ، ثم أخبر جلَّ ثناؤه عن حال صليت عنده المؤمنة منهما والكافرة ، فقال : ليسوا سواء ، أي ليس هؤلاء سواء المؤمنون منهم والكافرون ، ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم وأثنى عليهم بعد ما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونخب الجنان ومحالفة الذل والصغار وملازمة الفاقة والمسكنة وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة فقال من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون .
وهناك آيات أخرى تدعو لهذا السلوك ، ووضوحها يغني عن نقل تفسيرها ، ومنها :
قول الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [المائدة: 8]، وقال في الآية قبلها: ) وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( [المائدة: 2]، وقال: )وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى( [الأنعام: 152]، )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( [النحل: 90]
أما في السنة فقد روي مرفوعاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه :(( ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه من الخيلاء ، وثلاث منجيات : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفاقة ، ومخافة الله في السر والعلانية )) رواه الطبراني في "الأوسط" : 5 / 328 رقم (5452) وحسنه الألباني في صحيح الجامع .
وهناك آثار وردت فيها كلمة الإنصاف لكن يشوبها الضعف ، ومنها ما ذكره المتقي الهندي في كنز العمال 15/347 ، عن أبي جعفر مرسلا وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أسد الأعمال ثلاثة ذكر الله على كل حال والإنصاف من نفسك ومؤاساة الأخ في المال )) ، وعزاه لابن المبارك وهناد والحكيم - عن أبي جعفر حل - عن علي موقوفا . وضعفه الألباني في السلسة الضعيفة : 1665 .
وروى البخاري معلقاً في صحيحه :1/ص19( طبعة البغا ) عن عَمَّار أنه قال : ثَلَاثٌ من جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ من نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ من الْإِقْتَارِ.ور اه موصولاً : ابن أبي شيبة في مصنفه : 6 / 172 رقم ( 30440 ) وغيره كما بين ابن حجر في تغليق التعليق : 2 / 36 -37 ، وروى البزار والطبراني هذا الأثر مرفوعاً ، لكن الأصوب وقفه .
وهناك آثار وأخبار كثيرة عن السلف رضي الله عنهم في هذا المعنى ، واستقصاؤها يطول الموضوع .
والمقصود أن سلوك الإنصاف والدعوة إليه مبدأ قرآني كما ورد الحث عليه في غير ما آية ، وحثت السنة المطهرة عليه وجعلته من المنجيات ، وكذا ورد عن السلف من صحابة وغيرهم امتداح لهذا الخلق ، بل هو من مكملات الإيمان كما ورد في كلام عمار رضي الله عنه ولهذا فليس غريباً أن نجد التطبيق العملي لهذا لمبدأ من الصحابة أنفسهم .
ففي صحيح البخاري 5/ 2278: َعَنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه قال : ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ ، فقالت : لَا تَسُبُّهُ فإنه كان يُنَافِحُ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية مسلم في صحيحه : 4/1933 ، رقم (2487) عن هِشَامٍ عن أبيه أَنَّ حَسَّانَ بن ثَابِتٍ كان مِمَّنْ كَثَّرَ على عَائِشَةَ فَسَبَبْتُهُ ، فقالت : يا بن أُخْتِي دَعْهُ فإنه كان يُنَافِحُ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
فهذا حسان ابن ثابت كان ممن خاض في الإفك ، ومع ذلك لم تسمح السيدة عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة بن الزبير أن يسبه بسبب منافحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وموقف آخر من مواقف الإنصاف وهو صادر عن عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وكان عمار في جيش معاوية ، وفي مقابله كانت السيدة عائشة ، فماذا كان موقفه ؟؟
روى البخاري في صحيح : 6/ 2600 رقم ( 6687 ) عن أبي مَرْيَمَ عبد اللَّهِ بن زِيَادٍ الْأَسَدِيُّ قال : لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إلى الْبَصْرَةِ بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ وَحَسَنَ بن عَلِيٍّ ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ ، فَكَانَ الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ في أَعْلَاهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ من الْحَسَنِ ، فَاجْتَمَعْنَا إليه فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يقول : إِنَّ عَائِشَةَ قد سَارَتْ إلى الْبَصْرَةِ ، ووالله إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم في الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ، ِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ .
فانظر إلى هذا الأنصاف بالرغم من وجود حرب بينهم ، ومع ذلك لم يدفعه هذا للتأليب بالحق والباطل ، وتكفير كل من عداه وحاربه ، ولهذا قال ابن حجر في فتح الباري : 13/58 : ومراد عمار بذلك : أن الصواب في تلك القصة كان مع علي ، وأن عائشة مع ذلك لم تخرج بذلك عن الإسلام ، ولا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق .
رحم الله عماراً فقد كان صادق اللهجة ، وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب . كما ذكر ذلك ابن هبيرة ونقله عنه ابن حجر في الفتح : 13 / 59 .
والنماذج منه ذا القبيل كثيرة ، لكنني آثرت أن أنقل هذين الأنموذجين لأنهما يمثلان قمة الإنصاف ؛ ففي الأنموذج الأول : السيدة عائشة تنصف حسان بن ثابت بالرغم من أنه وقع في عرضها ، وهذا أمرٌ عظيم ، ويصعب على الإنسان أن ينسى أو يُسامح في مثل هذه المواقف ، فكيف بالإنصاف ؟؟!!
أما الأنموذج الثاني فهو ممن وقعت بينهم حروب ، ووقوف السيدة عائشة في مواجهة جند علي رضي الله عن الجميع ، مع ما لها رضي الله عنها من مكانة في قلوب المسلمين ، ومع هذا ما كان من عمار إلا الإنصاف وعدم اهتبال الفرص للإسقاط وبيان أنها على غير هدى .
فليكف إذاً عن التكفير أناس يرون كل من ناوأهم أو انتقدهم ، أو بين لهم خطأهم خارج عن الملة ، ويجتهدون في تلفيق الأحكام له ، فليس هذا من منهج من سلف .
=======================
( 2 )
الجزء الثاني: عن الإنصاف ومجالاته ، مع ذكر التطبيقات العملية من سير السلف ومواقفهم .
مجالات الإنصاف
أولاً : الإنصاف مع النفس ، أو الانتصاف من النفس ، وقد يُشكل على بعض من يقرأ هذا كيف يكون الإنصاف مع النفس ؟؟ وما رسخ في الأذهان يقود إلى أن هذا الخلق مرتبط بالغير ؟؟
فأقول إن الإنصاف مع النفس يكون بإنزالها منزلة الغير ، والنظر إلى ما صدر عنها هل هو مقبول أم مردود ؟؟ أو النظر إلى ما يقوله وينتقده الآخرون ، والتجرد عند النظر إليه لمعرفة أحقٌ هو أم لا ؟؟
وبناءً على هذا يمكننا القول أن الإنصاف مع النفس يكون من خلال أمرين ؛ أولهما : قبول الحق وعدم رده من أي إنسان صدر عنه ، والثاني : التراجع عن الخطأ في حال التأكد منه .
1 _ أما فيما يتعلق بالأمر الأول وهو قبول الحق ، فهذا أمرٌ يدل على إنصاف ، وانقياد للحق ، وتواضع في النفس ، وهذه أخلاق المتقين التي دعا إليها سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام ، لأن عدم قبول الحق نوع من الكبر ، والكبر متعارض مع خُلق الإنصاف ، وقد روى مسلم في صحيحه :1/93 : عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من كان في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ من كِبْرٍ ، قال رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ، قال : إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ ؛ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَغَمْطُ الناس " .
وغمط الناس : احتقارهم ، وبطر الحق : رده وعدم القبول به .
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 122 : "والكبر ببطر الحق وهو التكبر عليه والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ومن هنا قال بعض السلف التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به وإن كان صغيرا فمن قبل الحق ممن جاء به سواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كان يحبه أو لا يحبه فهو متواضع ومن أبي قبول الحق تعاظما عليه فهو متكبر " . وهذا القول الذي عزاه ابن رجب عن بعض السلف
فهو مروي عن الفضيل بن عياض فقد روى ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول : ص118 رقم 88 عن إبراهيم بن الأشعث قال : سألت الفضيل عن التواضع فقال : التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ، ولو سمعته من صبي قبلته منه ، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه .
وعدم قبول الحق له صور ، وأهمها الرد الصريح والمباشر للحق ، والإعلان عن عدم الامتثال له ، ومن الصور أن يكثر المرء في اللجاجة والمراء وهو يعلم أن المقابل له تكلم بالحق ، وبالصواب نطق ، فوجد التسليم له صعباً فيتمادى في المراء دون وجه حق ، وهذا من رد الحق أيضاً ونجده يحصل ، ومن صور رد الحق أن يتأوله تأولاً بعيداً ويحمله على أضعف الوجوه ، فراراً من التسليم ، فيضيف هنا إلى رد الحق تحريفه ، علم أم لم يعلم .
وهذه وجوه من وجوه رد الحق نراها وقد يفعلها بعضنا ، ولكن السعيد من وُفِّق إلى معرفة الحق والتزامه والعمل به .
ومن أسباب رد الحق الاعتداد بالنفس ، واحتقار القائل به ، ولهذا ذكر الفضيل بن عياض ما ذكر في ضرورة قبول الحق من أي قائل به ولو كان صبياً صغيراً ، وفي هذا قتل لحظوظ النفس ، وقسراً لها على تقبل الحق من أي قائل به .فهذا هو الأمر الأول وهو قبول الحق من أي قائل .
2 – أما الأمر الثاني فهو الرجوع إلى الحق إن صدر من غيره ، أو التراجع عن الخطأ إن حصل فهو أمرٌ مطلوب ، ودعا إليه الشرع أيضاً ، وبإمكاننا القول إن النصوص الحاثة على هذا الخلق هي نصوص امتداح التراجع والتوبة إجمالاً ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " كل بني آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين التَّوابون " فهو وإن كان وارداً في الخطأ الناجم عن المعصية والسلوك إلا أنه ليس ثمة ما يمنع من حمله على كل خطأ حتى ولو كان خطأً علمياً ، وهذا ما أراه .
ومما يصلح أن يكون شاهداً على هذا الأمر رواية قتال مانعي الزكاة ورجوع عمر إلى رأي أبي بكر بعد أن تبين له سداده ، وفي هذا يقول ملا علي قاري في مرقاة المفاتيح : 4/249 : ( قال عمر : فوالله ما هو - أي الشأن - ألا رأيت ، أي علمت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال ، وفتح قلبه بالإلهام غيرة على أحكام الإسلام ، فعرفت أنه أي رأي أبي بكر أو القتال هو الحق . وهذا إنصاف منه رضي الله عنه ورجوع إلى الحق عند ظهوره .
ومن الأمثلة على هذا ما رواه الخطيب في تاريخ بغداد : 10 / 308 قال : حدثنا محمد بن العباس حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد أخبرنا الحسين بن الحسن المروزي من حفظه قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن وهو على القضاء ، فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله ، قال : فسألته عن مسألة فغلط فيها ، فقلت : أصلحك الله ، القول في هذه المسألة كذا وكذا ، إلا أني لم أرد هذه إنما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها ، فاطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال : إذا أرجع وأنا صاغر ، إذا أرجع وأنا صاغر ، لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل . وهذا الخبر مروي كذلك في الحلية لأبي نعيم ، والطيوريات للسلفي ، وأخبارالقضاة لوكيع ، والأمالي الشجرية ، وهو يبين فضيلة التراجع عن الخطأ والرجوع إلى الحق ، ولعمري فإن هذا لا يستطيعه إلا آحاد الرجال الذين آثروا الحق على كل وشيجة ، ولو كانت النفس .
ثانياً : الإنصاف مع الآخرين ،أما الإنصاف مع الآخرين فهو يتنوع أيضاً ويتفرَّع ، فمنه الإنصاف مع من نرتضي ونحب ، والإنصاف مع الخصوم .
1 – الإنصاف مع من نرتضي ونحب ، وهذا أيضاً قد يُشكل فهمه على بعض الناس ، لأنهم إنما فهموا الإنصاف لا تكون إلا مع الخلاف ، وهذا حقٌ ولكنه مع الموافقة والمحبة يكون أشد ، لأن النفس كما تميل إلى الانتصار للذات ، تميل مع من توافق وتحب إلى المحاباة ، وبهذا يكون الإنصاف مع من نرتضي ونحب بعدم موافقتهم على جور أو ظلم ، ورائدنا في هذا الفهم وهذا التصنيف قوا النبي صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فقالوا يا رسول الله ننصره مظلوماً ولكن ... أن تأخذ بيده وتبين له خطأه .
إذاً هكذا ينبغي أن يكون تصرف الإنسان مع من يحب أن ينتصر لهم ، وإن أخطأوا ألا يُجاريهم على خطئهم ، ويبين لهم الصواب ، وإن كان خطؤهم شنيعاً أن يبينه للآخرين لئلا يغتر به آخرون ، ولقد طبق المحدِّثون رحم الله أمواتهم وبارك في أحيائهم هذا الميزان بأدق تفاصيله ، فجرحوا الأب والابن والأخ والقرابة إن احتاج الأمر إلى بيان في ظاهرة فريدة في التاريخ تبين مدى تقديمهم الحق على أية رابطة .
فقد روى ابن حبان في المجروحين 2/15 قال : سئل علي بن المديني عن أبيه فقال اسألوا غيري ؟ فقال : سألناك ، فأطرق ثم رفع رأسه وقال : هذا هو الدين أبي ضعيف .
وروى ابن عدي في الكامل : 4/265 : سمعت علي بن عبد الله الداهري يقول سمعت أحمد بن محمد بن عمرو بن عيسى كركر يقول سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول سمعت أبا داود السجستاني يقول : ابني عبد الله هذا كذاب .
وروى مسلم في مقدمة الصحيح : 1/27 : قال : حدثني الفضل بن سهل حدثنا وليد بن صالح قال : قال عبيد الله بن عمرو : قال زيد - يعني بن أبي أنيسة - : لا تأخذوا عن أخي .
وبأوضح من هذا روى ابن عدي في الكامل : 7/186 قال : ثنا احمد بن الحسين الصوفي حدثني هارون بن سفيان المستملي حدثني عبد الله بن جعفر الرقي حدثني عبيد الله بن عمرو قال : قال لي زيد بن أبى أنيسة : لا تكتب عن أخي يحيى فإنه كذاب .
وفي سؤالات أبي عبيد 1/318 : سمعت أبا داود يقول : قال شعبة لو حابيت أحدا حابيت هشاماً بن حسان - وكان قريبه - .
الكامل : 7/112 : سمعت يزيد بن هارون يقول كنية هشام بن حسان أبو عبد الله ثنا احمد بن محمد بن شبيب ثنا أحمد بن أسد ثنا شعيب بن حرب سمعت شعبة يقول : لو حابيت أحداً حابيت هشام بن حسان ، كان ختني ولكن لم يكن يحفظ .
وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال ( ترجمة حسين بن أبي السري العسقلاني) : قال أبو عروبة الحراني هو خال أمي وهو كذاب .
فهذه نماذج كما يرى الناظر صدرت عن أهل الحديث خالية من المحاباة وتقديم رابطة القرابة ، وهذه قمة الإنصاف ، وهي تجعلنا نطمئن إلى أحكام هؤلاء الأعلام ونقداتهم .
2 – الإنصاف مع الخصوم ، وهادينا في هذا الصنف هو قول الله تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ) ، أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل معهم ، والإنصاف مع الخصوم أمرٌ عزيز كما ذكر الذهبي في ترجمة أبي بكر بن العربي ، حيث رد على منتقدي أبي بكر الذين تحايدوا الإنصاف ، وسعدوا بوقوعه في الخلل والزلل فسارعوا إلى نقده فقال : (سير أعلام النبلاء ج20/ص202- 203 ) :قرأت بخط ابن مسدي في معجمه : أخبرنا أحمد بن محمد بن مفرج النباتي سمعت ابن الجد الحافظ غيره يقولون حضر فقهاء إشبيلية أبو بكر ابن المرجى وفلان وفلان وحضر معهم ابن العربي فتذاكروا حديث المغفر ، فقال ابن المرجى : لا يعرف إلا من حديث مالك عن الزهري ، فقال ابن العربي : قد رويته من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك !! فقالوا أفدنا هذا ؟ فوعدهم ولم يخرج لهم شيئاً ، وفي ذلك يقول خلف بن خير الأديب :
يا أهل حمص ومن بها أوصيكم ......... بالبر والتقوى وصية مشفق
فخذوا عن العربي أسمار الدجى ..........وخذوا الرواية عن إمام متق
إن الفتى حلو الكلام مهذب ............إن لم يجد خبرا صحيحا يخلق
قلت ( الذهبي ) : هذه حكاية ساذجة لا تدل على تعمد ، ولعل القاضي رحمه الله وهم وسرى ذهنه إلى حديث آخر ، والشاعر يخلق الإفك ، ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له ، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم وأحفظ بكثير ، وقد أصاب في أشياء وأجاد ، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة والإنصاف عزيز .
إذاً عدم الإنصاف هو مظنة ما يقع بين الخصوم ، ولهذا لما يقع الإنصاف من الخصم اشدد يدك به ، وخذه غير ناظر إلى أي أمر آخر ، وبخاصة إذا كان متعلقاً بالكفر والإيمان .
ومن ذلك أيضاً ما حصل للعلامة ابن القطان الفاسيصاحب الكتاب الأعجوبة ( بيان الوهم والإيهام ): قال المراكشي ( الذيل والتكملة : 8 /2 /433 ): (( قرئ على أبي الحسن ابن القطان يوما في مدة العادل ... حديثٌ من أعلام النبوة فتكلم عليه أبو الحسن بما حضره فيمضمنه ، ثم ختم الخوض فيه بأن قال : هذا من صفاء باطن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـوشف جوهره في كلام نحو هذا ، فنسب إليه القول باكتساب النبوات ،وجرت في ذلك طائفة من ثالبيه والطاعنين عليه وكتبوا رسمين ، استدعوا في أحد هما شهادة الشهود بمقابلتهتلك ، واستدعوا في الآخر فتاوى أهل العلم في قائل تلك المقالة ، وأطالوا في ذلكوأعرضوا ، ونسبه معظم الفرووعيين ؟ إلى البدعة وكفره آخرون منهم ، وأجمع المتألبونعليه أنه لا يتم لهم الغرض من هذا العمل إلا بفتيا أبي الحجاج المكلاتي (ت626هـ/1229م) وقال :هو لا شك عدوه المناصب له ، وسيغتنم هذه الواقعة للظفر به ، والنيل منه ، فتوجهوا بالرسمين إليه سائلين حكم الله فيه ، واثقين منه بأنه يوجب قتله ، أو معاقبته المعاقبة الشديدة ، فلما نظر فيهما لم يتوقف عن تمزيقهماوإعدامه ما البتة ، وأنحى على الساعين في ذلك بأشد اللوم وبالغ في توبيخهم وتقريعهمونال منهم أقبح منال ، ثم قال : يا سيئي النظر وقليلي العقل ! تعمدون إلى أجلشيوخكم ، وأشهر علمائكم ، وقد علمتم صيته في الآفاق بأنه وقف حياته ، واشتهر طول عمرهفي خدمة السنة وعلوم الشريعة حتى صار من أئمتها والسابقين في ميدان المعرفة بها ،وخوضه أبداً إنما هو مع جلة حملتها ، وعظماء نقلتها من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى عصرنا هذا ، وتتعرضون له بمثل هذا السعي القبيح !! فما الذي تفعلون غداًأو بعد غدٍ معي أو مع أمثالي ممن لا يعمر مجالسه أبداً إلا بالنظر مع القدريةوالشيعة والرافضة والمعتزلة والكرامية والإباضية والإمامية والإبراهيمية ، وغيرهم منالفلاسفة وأهل الأهواء والبدع الحائدين عن مذاهب أهل السنة ، ولا يشتغل ألا في ضرببعض أقوالهم ببعض ؟؟!! اذهبوا خيَّب الله سعيكم ، وأراح الإسلام والمسلمين منكم(( .
فانظر إلى هذا الأنصاف من أبي الحجاج المكلاتي مع خصم هو من ألد خصومه ، وبماذا شهد له ، ولم تمنعه الخصومة من الانتصار للحق ، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ، ورحم كذلك أبا الحسن ابن القطان فقد كان من العلماء المبرزين .
هذه بعض مجالات الإنصاف أحببت أن أضعها بين أيدي إخواني ، راغباً أن نستفيد منها ، ونتخلق بخلق من ورد ذكره ، سائلاً الله أن ينفع به كاتبه ، وقارئه .