تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 14 من 23 الأولىالأولى ... 4567891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 261 إلى 280 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #261
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1597 الى صـ 1604
    الحلقة (261)




    وروى الحاكم ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت له: يا ابن أختي! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها [ ص: 1597 ] فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة - حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! يومي هذا لعائشة ، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا الآية.

    وكذلك رواه أبو داود ، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: « لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لها بيوم سودة ».

    ولا يخفى أن قبوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك من سودة إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام.

    وقول بعض المفسرين في هذه القصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عزم على طلاق سودة - باطل وسوء فهم من القصة، إذ لم يرو عزمه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد، غاية ما روي في السنن أن سودة خشيت الفراق لكبرها وتوهمته، وجلي أن للنساء في باب الغيرة أوهاما منوعة، فتقدمت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول ليلتها لعائشة ، فقبل منها.

    وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه - صلى الله عليه وسلم - بعث إليها بطلاقها، ثم ناشدته فراجعها - فهو (زيادة عن إرساله وغرابته كما قاله) فيه نكارة لا تخفى.

    لطيفة:

    حكى الزمخشري هنا أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم، وامرأته من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوما، ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين. انتهى.

    [ ص: 1598 ] قلت: عمران المذكور ممن خرج له البخاري في صحيحه، ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته؟ فقالت: أوجز أم أطنب؟ فقيل: أوجزي، فقالت: ما قدمت له طعاما بالنهار، وما مهدت له فراشا بالليل، تعني أنه كان صواما قواما، رحمه الله تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما [129]

    ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء أي: تساووا بينهن في جميع الوجوه، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن، في شأن من الشؤون، فإنه - وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة - فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وغيره.

    ولو حرصتم أي: على إقامة العدل، وبالغتم في ذلك؛ لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب.

    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم! هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب، رواه الإمام أحمد وأهل السنن.

    فلا تميلوا كل الميل أي: إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل إليها، وقال المهايمي : [ ص: 1599 ] فلا تميلوا، أي: عن امرأة كل الميل فتتركوا المستطاع من القسط.

    فتذروها أي: التي ملتم عنها كالمعلقة بين السماء والأرض، لا تكون في إحدى الجهتين، لا ذات زوج ولا مطلقة.

    وروى أبو داود الطيالسي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شدقيه ساقط .

    كذا رأيته في (ابن كثير) شدقيه، بشين معجمة ثم دال.

    ورواية أصحاب السنن المنقولة: وشقه (بمعجمة ثم قاف) ساقط، وفي رواية: مائل.

    وإن تصلحوا أي: نفوسكم بالتسوية والقسمة والعدل فيما تملكون وتتقوا الحيف والجور فإن الله كان غفورا رحيما فيغفر لكم ما سلف من ميلكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما [130]

    وإن يتفرقا أي: الزوج والمرأة بالطلاق، بأن لم يتفق الصلح بينهما، فاختاروا الفرقة [ ص: 1600 ] يغن الله كلا أي: منهما، أي: يجعله مستغنيا عن الآخر من سعته أي: غناه وجوده وقدرته، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه، وتسلية لهما بعد الطلاق.

    وكان الله واسعا أي: واسع الفضل حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا [131]

    ولله ما في السماوات وما في الأرض جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته أي: كيف لا يكون واسعا وله ما فيهما من الخلائق والأرزاق وغيرهما؟ فله أن يعطي ما شاء منهما لمن شاء من عبيده، وعلى هذا فهي متعلقة بما قبلها، أو أتى بها تمهيدا لما بعدها من العمل بوصيته؛ إعلاما بأنه مالك ما في السماوات والأرض والحاكم فيهما، ولهذا قال: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي: من الأمم السابقة - والكتاب اسم جنس يتناول الكتب السماوية - وإياكم معطوف على (الذين).

    أن اتقوا الله أي: وصينا كلا منكم ومنهم بالتقوى، وهي عبادته وحده، لا شريك له، والمعنى: أن وصيته قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، ولستم بها مخصوصين؛ لأنهم بالتقوى يسعدون عنده.

    وإن تكفروا أي: بالله فإن لله ما في السماوات وما في الأرض أي: فهو مالك الملك كله، لا يضره كفركم؛ لغناه المطلق، فما الوصية إلا لفلاحكم؛ رحمة بكم، كما في الآية الأخرى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [إبراهيم: 8] وقال تعالى: [ ص: 1601 ] فكفروا وتولوا واستغنى الله [التغابن: 6].

    وكان الله غنيا عن عباده حميدا أي: محمودا في ذاته، حمدوه أو لم يحمدوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [132]

    ولله ما في السماوات وما في الأرض ذكره ثالثا، إما لتقرير كونه تعالى غنيا حميدا؛ فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا، وإما تمهيدا للاحقه "من" الشرطية، وهو بيان كونه تعالى قادرا على جميع المقدورات، أي: له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا، فهو قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه - أيها الناس - فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات؛ لتقرير ثلاثة أمور في سياقها، كما بينا.

    قال الرازي : إذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة، فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكر مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة؛ لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال.

    وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات، وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله - تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالا على أسرار شريفة ومطالب جليلة، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى.

    ولما كان [ ص: 1602 ] الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده - لا جرم كان في غاية الحسن والكمال. انتهى.

    وكفى بالله وكيلا أي: ربا حافظا توكل بالقيام بجميع ما خلق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [133]

    إن يشأ يذهبكم أي: يفنكم ويستأصلكم بالمرة أيها الناس ويأت بآخرين أي: ويوجد دفعة مكانكم قوما آخرين من البشر، أو خلقا آخرين مكان الإنس، يعني أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم بالبالغة بإفنائكم، لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

    وكان الله على ذلك أي: إهلاككم بالمرة وتخليق غيركم قديرا بليغ القدرة، كما قال تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد: 38] وقال تعالى: إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [إبراهيم: 19] ففيه [ ص: 1603 ] تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر به، قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره!
    القول في تأويل قوله تعالى:

    من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا [134]

    من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يجاهد للغنيمة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة أي: فما له يطلب أخسهما، فليطلبهما، أو الأشرف منهما، كما قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب [البقرة: 200 - 202] وقال تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نـزد له في حرثه [الشورى: 20] الآية، وقال تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [الإسراء: 18] الآية.

    قال بعضهم: عني بالآية مشركو العرب، فإنهم كانوا يقرون بالله تعالى خالقهم، ولا يقرون بالبعث يوم القيامة، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها.

    وكان الله سميعا بصيرا فلا يخفى عليه خافية، ويجازي كلا بحسب قصده.
    [ ص: 1604 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [135]

    يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط أي: مقتضى إيمانكم المبالغة والاجتهاد في القيام بالعدل والاستقامة؛ إذ به انتظام أمر الدارين الموجب لثوابهما، ومن أشده القيام بالشهادة على وجهها، فكونوا: شهداء لله أي: مقيمين للشهادة بالحق، مؤدين لها لوجهه تعالى ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق عليها ولا تكتموه أو على الوالدين أي: الأصول والأقربين أي: الأولاد والإخوة وغيرهم، فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.

    إن يكن أي: من تشهدون عليه غنيا يبتغى في العادة رضاه ويتقى سخطه أو فقيرا يترحم عليه غالبا، أو يخاف من الشهادة عليه أن يلجأ الأمر إلى أن يعطى ما يكفيه فالله أولى بهما أي: من المشهود عليه، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها؛ لأنه أنظر لعباده من كل ناظر.

    فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي: إرادة العدول عن أمر الله الذي هو مصلح أموركم، وأمور المشهود عليهم، لو نظرتم ونظروا إليه.

    قال ابن كثير : أي: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في شؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة: 8].



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #262
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1605 الى صـ 1612
    الحلقة (262)





    ومن هذا قول [ ص: 1605 ] عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله! لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

    وإن تلووا أي: تحرفوا ألسنتكم عن الشهادة على وجهها أو تعرضوا أي: عنها بكتمها فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيجازيكم على ذلك. قال تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة: 283].
    تنبيه:

    قال بعض مفسري الزيدية: لهذه الآية ثمرات هي أحكام:

    الأول: وجوب العدل [ ص: 1606 ] على القضاة والولاة ، وأن لا يعدل عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب من غنى أو فقر أو قرابة، بل يستوي عنده الدنيء والشريف والقريب والبعيد.

    ويروى أن عمر أقام حدا على ولد له، فذاكره في حق القرابة، فقال: إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم عليك الحدود .

    الحكم الثاني: أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ولا يكتمه؛ لقوله تعالى: ولو على أنفسكم والمراد بالشهادة على النفس الإقرار، وهذا ظاهر.

    وقيل المعنى: ولو كانت الشهادة وبالا ومضرة على أنفسكم وآبائكم بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم.

    وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل، هل يجب عليه الشهادة أم لا ؟ فقيل: يجب لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره.

    وعن الشافعية والمتكلمين - وصحح للمذهب - أنه لا يجب؛ لأن الشهادة أمر بمعروف، وشرطه أن لا يؤدي إلى منكر، ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن لمضرته، لا بمجرد الخشية.

    وقد قال المؤيد بالله في "الإفادة": على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله؛ لأن الذي يخشاه مظنون، ولعله غير كائن، يؤول على أن مراده مجوز لا أنه قد ظن حصول المضرة، وهذا يجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه.

    قال في "شرح الإبانة": يجوز إذا كان قتله إعزازا للدين، كالنهي عن المنكر، أما لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه، وعن ابن عباس : ذلك من الكبائر.

    الحكم الثالث: يتعلق بقوله تعالى: شهداء لله أي: تشهدون لوجه الله كما أمركم، وفي هذا دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز؛ لأنه لم يقمها لله، وقد استثنى أهل الفقه صورا جوزوا أخذ الأجرة على تأدية الشهادة، منها: إذا طلب إلى موضع؛ لأن الخروج غير واجب عليه، ومنها: إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق، فإن شهادته غير لازمة. انتهى.
    [ ص: 1607 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نـزل على رسوله والكتاب الذي أنـزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا [136]

    يا أيها الذين آمنوا آمنوا أي: اثبتوا على إيمانكم بالله ورسوله والكتاب الذي نـزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني القرآن والكتاب الذي أنـزل من قبل على الرسل، بمعنى الكتب ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا أي: خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد، أما الكفر بالله فظاهر، وأما بالملائكة؛ فلأنهم المقربون إليه، وأما بالكتب؛ فلأنها الهادية إليه، وأما بالرسل؛ فلأنهم الداعون، وأما باليوم الآخر؛ فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه، فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقي والضرر الحقيقي فهو الضلال البعيد، ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنه، وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه، وبالرسل كفر بأتم مظاهره، وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله.

    ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين، وبكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة، وبالرسل إلى تقليد الآباء، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح، وكل ذلك ضلال بعيد، أفاده المهايمي .

    ولما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [137]

    إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا في الآية وجوه:

    الأول: أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد [ ص: 1608 ] منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله؛ لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة، ونصحت توبتهم - لم يقبل منهم ولم يغفر لهم؛ لأن ذلك مقبول، حيث هو بذل للطاقة واستفراغ الوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وإنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع، ثم يتوب ثم يرجع، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على الفسق، فكذا هنا.

    الثاني: قال بعضهم: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل، ثم آمنوا بعد عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليسوا مؤمنين بموسى ، ثم كافرين بالعجل، ثم مؤمنين بالعود، ثم كافرين بعيسى ، بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل.

    والجواب: أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم للموجودين وقت البعثة، أما لو أريد جنس ونوع باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم فلا إيراد، والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم.

    الثالث: قال آخرون: المراد المنافقون، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم، وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون، والكفر الثاني هو أنهم: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون [البقرة: 14].

    وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين، [ ص: 1609 ] وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا، قال تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [البقرة: 221].

    قال القفال رحمه الله: وليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم، كما قال: مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء قال: والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: بشر المنافقين

    الرابع: قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر تارة أخرى، على ما أخبر الله تعالى عنهم: آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون [آل عمران: 72].

    وقوله: ثم ازدادوا كفرا معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.

    نقل هذه الوجوه الزمخشري والرازي وغيرهما، وكلها مما يشمله لفظ الآية.
    تنبيه:

    في الآية مسائل:

    الأولى: قال في "الإكليل": استدل بها من قال: تقبل توبة المرتد ثلاثا، ولا تقبل في الرابعة.

    وقال بعض الزيدية في (تفسيره): دلت على أن توبة المرتد تقبل؛ لأنه تعالى أثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان.

    [ ص: 1610 ] وأقول: دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة، وأما معه فلا، كما لا يخفى.

    ثم قال: وعن إسحاق : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته، وهي رواية الشعبي، عن علي عليه السلام. انتهى.

    وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته، كما أسلفنا ذلك في آل عمران في قوله تعالى: كيف يهدي الله قوما [آل عمران: 86] الآية، وقوله بعدها: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا [آل عمران: 90]، وذكرنا ثمة أن هذه الآية كتلك الآية، وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه إسحاق وأحمد ، وأما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد، وإن تكررت، وبعد: فالمقام دقيق، والله أعلم.

    الثانية: دلت على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان ، فوجب أن يكون الإيمان نصا كذلك؛ لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت قبله الآخر، وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما [138]

    بشر المنافقين من باب التهكم بأن لهم عذابا أليما فإنهم آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن، ويدل على مقارنة إيمانهم للكفر ترجيحهم جانب الكفرة في المحبة إذ هم:
    [ ص: 1611 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا [139]

    الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي: يتخذونهم أنصارا مجاوزين موالاة المؤمنين أيبتغون عندهم العزة أي: أيطلبون بموالاتهم القوة والغلبة، وهذا إنكار لرأيهم وإبطال له، وبيان لخيبة رجائهم، ولذا علله بقوله: فإن العزة لله جميعا أي: له الغلبة والقوة، فلا نصرة لهم من الكفار، والنصرة والظفر كله من الله تعالى، وهذا كما قال تعالى في آية أخرى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون: 8].

    قال ابن كثير : والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله، والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

    ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن أبي ريحانة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكرما، فهو عاشرهم في النار تفرد به أحمد .

    وأبو ريحانة هذا هو أزدي واسمه (شمعون) بالمعجمة فيما قاله البخاري، وقال غيره: بالمهملة، والله أعلم.
    تنبيه:

    قال الحاكم: دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهي عن موالاة الكفار، قال: والمنهي عنه موالاتهم في الدين فقط، وقد ذكر المؤيد بالله - قدس الله روحه - معنى هذا، وهي: أن تحبه لما هو عليه، وهذا ظاهر، وهو يرجع إلى الرضا بالكفر، وما أحبه لأجله.

    [ ص: 1612 ] فأما الخلطة فليست موالاة، وقد جوز العلماء - رحمهم الله - نكاح الفاسقة، وكذلك الإحسان، فقد مدح الله من أطعم الأسارى، وجوز كثير منهم الوصية لأهل الذمة، وكذلك الاغتمام بغمه في أمر، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم، كذا في تفسير بعض الزيدية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا [140]

    وقد نـزل عليكم في الكتاب قال المفسرون: إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [الأنعام: 68] وهذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية، فامتنع المسلمون عن القعود معهم، ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية: وقد نـزل عليكم في الكتاب يعني في سورة الأنعام.

    أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها يعني يجحد بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وفيها دلالة على أن المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم وإن خوطب به خاصة - منزل على الأمة، وأن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم في الآيات، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #263
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1613 الى صـ 1620
    الحلقة (263)




    إنكم إذا مثلهم أي: إذا قعدتم معهم، دل على رضاكم بالكفر [ ص: 1613 ] بالآيات والاستهزاء بها، فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب، فاجتماعكم بهم ههنا سبب اجتماعكم في جهنم، كما قال: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا لأنهم لما شاركوهم في الكفر، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا - جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة.
    تنبيه:

    قال بعض مفسري الزيدية: اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راض، ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان، ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم.

    قال الحاكم : ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم، ولهم بذلك الثواب العظيم، وأما إذا خلا عما ذكرنا - وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم - فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أوجب المثل؛ لظاهر الآية.

    قال الحاكم : روي أن قوما أخذوا على شراب في عهد عمر بن عبد العزيز ، فأمر بضربهم الحد، فقيل: فيهم صائم، فتلا قوله تعالى: فلا تقعدوا معهم إلى قوله: إنكم إذا مثلهم وهذا أيضا ظاهر حديث: لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير وتنتقل .

    وقال أبو علي وأبو هاشم : إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك، وجاز له القعود، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان، وعدم تأثير ذلك.

    أقول: ما قالاه مخالف لظاهر الآية، فلا عبرة به.

    وقال القاضي والحاكم : أما لو كان له حق في تلك البقعة فله أن لا يفارق، كمن يحضر الجنائز مع النوح، أو الولائم، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه.

    [ ص: 1614 ] وعن الحسن : لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع، وقد كان خرج إلى جنازة خرجت النساء فيها فلم يرجع، ورجع ابن سيرين. انتهى.

    أقول: من له حق في البقعة فعليه أن يفارق كغيره؛ إذ ليس في مفارقته ضياع حقه، وعموم الآية يشمله، ولا تخصيص إلا بمخصص، والمسألة المقيس عليها غير ما نحن فيه، على ما فيها من الخلاف، كما حكى، ولا قياس مع النص، وقد حكى الحاكم أقوالا كلها ترجع إلى تخصيص الآية، ولا مستند فيها إلا الرأي والاحتمال، فلذا أعرضنا عنها.

    قال أبو علي : تحريم القعود في المجلس لما فيه من الإبهام، فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر، وإن قرب، وإما إذا خاضوا في حديث غيره جاز القعود بمفهوم الآية. ثم إن الآية محكمة عند الجمهور.

    وروي عن الكلبي أنها منسوخة بقوله تعالى: وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [الأنعام: 69] وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.

    قال الحاكم : دلت الآية على أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين كافر ؛ لأنه تعالى قال: إنكم إذا مثلهم ودلت على أن الرضا بالكفر كفر.

    وقال السمرقندي : في هذه الآية دليل على أن من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم فيكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر أن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.

    وروى ابن جرير ، عن الضحاك أنه قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة.

    وقال في "فتح البيان": وفي هذه الآية - باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب - دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء، [ ص: 1615 ] للدلالة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى (قال إمام مذهبنا): كذا و(قال فلان من أتباعه بكذا) أو إذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، مع أن الأئمة - الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم - برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم. انتهى.

    وفي "الإكليل": قال ابن الفرس : واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي والأهواء، وفي هذه الآية أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه. انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [141]

    الذين يتربصون بكم إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين، أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو هزيمة.

    فإن كان لكم فتح من الله أي: نصر وتأييد وظفر وغنيمة قالوا لكم: ألم نكن معكم أي: مظاهرين لكم، فلنا دخل في فتحكم، فليكن لنا شركة في غنيمتكم وإن كان للكافرين نصيب أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان - كما وقع يوم أحد - فإن الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة قالوا أي: الكفرة؛ توددا إليهم، ومصانعة لهم؛ ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم [ ص: 1616 ] لضعف إيمانهم ألم نستحوذ عليكم أي: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم، وتوانينا في مظاهرتهم حتى انتصرتم عليهم، وإلا لكنتم نهبة للنوائب، وتسمية (ظفر المسلمين) فتحا و(ما للكافرين) نصيبا; لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين.

    قال في "الانتصاف": وهذا من محاسن نكت القرآن، فإن الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار، واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما أيضا مطابق للواقع، والله أعلم.

    قال بعض الزيدية: في الآية دلالة على وجوب محبة نصرة المؤمنين وكراهة أن تكون اليد عليهم، وتحريم خذلانهم، وإن المنافق لا سهم له؛ لأن في الآية إشارة إلى أنهم طلبوا لما منعوا، فقالوا: ألم نكن معكم؟ ثم قال: يجوز التأليف من الغنيمة للمنافقين ، كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، حتى أعطى الواحد منهم مائة ناقة، والواحد من المسلمين الشاة أو البعير.

    فالله يحكم بينكم يوم القيامة أي: حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب، أي: فلا يغتر المنافقون بحقن دمائهم في الدنيا لتلفظهم بالشهادة؛ لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا ينفعهم ظواهرهم.

    وقوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا رد على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم إلى قوله: نادمين [المائدة: 52] أي: لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكلية، وإن حصل [ ص: 1617 ] لهم ظفر حينا ما، أفاده ابن كثير .

    وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولاحقها، وأن السياق في (المنافقين) وهو جيد، ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل (الكافرين) على يهود المدينة، ومن وقف مع عمومها قال: المراد بالسبيل الحجة، وتسميتها (سبيلا) لكونها موصلا للغلبة، أو المراد: ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: 30] قال: فلا يراد أنه قد يدال للكافرين.
    تنبيه:

    قد يستدل بهذه الآية على أن الكافر لا ينكح مؤمنة، وأنه لا يلي على مؤمنة في نكاح ولا سفر، وأن الكافر لا يشفع للمؤمن، وهذا قول الهادي في "الأحكام" والنفس الزكية والراضي بالله، وروي مثله عن الحسن والشعبي وأحمد .

    وقال في "المنتخب" والمؤيد بالله والحنفية والشافعية: له الشفعة؛ لعموم أدلة الشفعة، وبالقياس على رد المعيب فيما شرى من مسلم.

    ويستدل بأن المرتد تبين منه امرأته المسلمة ، والخلاف: هل بنفس الردة كما يقول الحنفية، أو بانقضاء العدة كما يقول المؤيد بالله والشافعية؟ وكذلك بيع العبد المسلم من الذمي أجازه الحنفية ومنعه المؤيد والشافعية، لكن على الأول يجبر على بيعه فلا يستخدمه، قيل: والأمة مجمع على تحريم بيعها من الكافر إذا كانت مسلمة.

    ولا خلاف أن الآية مخصوصة بأمور منها: الدين يثبت للكافر على المؤمن، ومنها: أنه ينفق المؤمن على أبويه الكافرين ونحو ذلك، وإذا خص العموم فقد اختلف الأصوليون: هل تبقى دلالته على الباقي حقيقة أم مجازا؟ انتهى.

    وزاد بعض المفسرين: إن الكافر لا يرث المسلم، وإن المسلم لا يقتل بالذمي.
    [ ص: 1618 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [142]

    إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم أي: يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة.

    وإذا قاموا إلى الصلاة أي: أتوها قاموا كسالى أي: متثاقلين كالمكره على الفعل.

    قال ابن كثير : هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها وهي الصلاة، إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها.

    كما روى ابن مردويه، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى انتهى.

    قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة، والكسل: التثاقل عن الشيء لمشقته، فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى [التوبة: 54].

    ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة يراءون الناس أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين، لا لإخلاص ومطاوعة أمر الله، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها – غالبا - كصلاة العشاء في وقت العتمة، وصلاة الصبح في [ ص: 1619 ] وقت الغلس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار وفي رواية: والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم .

    وروى الحافظ وأبو يعلى ، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو - فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل .

    وقوله: ولا يذكرون الله إلا قليلا فيه وجوه:

    الأول: معناه ولا يصلون إلا قليلا؛ لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا. وتأويل (الذكر) بالصلاة روي في غيرما آية عن السلف.

    الثاني: ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا قليلا؛ لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون.

    وقد روى الإمام مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك صلاة [ ص: 1620 ] المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي .

    الثالث: معناه: ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكرا قليلا في الندرة، على أن الذكر بمعناه المتبادر منه وعليه، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح، كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا [143]

    مذبذبين بين ذلك حال من فاعل (يراءون) أو منصوب على الذم و(ذلك) إشارة إلى الإيمان والكفر، المدلول عليهما بمعونة المقام، أو إلى (المؤمنين والكافرين) فيكون ما بعده تفسيرا له، أي: مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع، فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه.

    لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أي: لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين، وقال مجاهد: لا إلى هؤلاء يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ولا إلى هؤلاء يعني اليهود.

    ومن يضلل الله عن دينه وحجته فلن تجد له سبيلا أي: طريقا إلى الصواب والهدى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #264
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1621 الى صـ 1628
    الحلقة (264)







    روى الشيخان، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ ص: 1621 ] مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة (العائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع).
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا [144]

    يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا هذا نهي عن موالاة الكفرة، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 28]أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال ههنا: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا أي: حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم، وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين.

    قال الحاكم : وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه، لا المخالفة والإحسان.

    قال الزمخشري : وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.

    قال أبو السعود : وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: (أتجعلون.... إلخ) للمبالغة في إنكار ذلك، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته، فضلا عن صدور نفسه، كما في قوله عز وجل: أم تريدون أن تسألوا رسولكم [البقرة: 108].

    [ ص: 1622 ] لطيفة:

    روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن حجة ، وكذا قال غيره من أئمة التابعين.

    قال محمد بن يزيد : هو من (السليط) وهو دهن الزيت لإضاءته، أي: فإن الحجة من شأنها أن تكون نيرة، وفي "البصائر" إنما سمى الحجة سلطانا لما يلحق من الهجوم على القلوب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا [145]

    إن المنافقين في الدرك قرئ بسكون الراء وفتحها: الأسفل من النار أي: الطبق الذي في قعر جهنم، والدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وإنما عوقبوا بذلك؛ لأنهم أخبث الكفرة، إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعا للمسلمين.

    قال الرازي : وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين، ثم يخبرون الكفار بذلك، فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين - فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك.

    ونقل عن ابن الأنباري أنه قال: إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر: 46] وعن المنافقين بما في هذه الآية، فأيهما أشد عذابا؟

    فأجاب: بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان، والله أعلم.

    روى الترمذي ، عن الحسن قال: قال عتبة بن غزوان - على منبر البصرة - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما وما تفضي [ ص: 1623 ] إلى قرارها .

    وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد.

    وروى الترمذي ، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره .

    ولن تجد لهم نصيرا أي: ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما [146]

    إلا الذين تابوا أي: عن النفاق وأصلحوا أي: أعمالهم واعتصموا بالله أي: وثقوا به بترك موالاة الكفار وأخلصوا دينهم لله فلم يبق لهم فيه تردد، ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه، لا رياء الناس كما كانوا قبل.

    فأولئك مع المؤمنين إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة، أي: لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلا عن الأسفل، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق، أي: معهم في درجات الجنان، وقد بين ذلك بقوله سبحانه: وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ثوابا وافرا في الجنة، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم، وحذفت (الياء) في الخط هنا اتباعا لللفظ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: يوم يدع الداع [القمر: 6] و سندع الزبانية [العلق: 18]، و يوم يناد المناد [ق: 41] [ ص: 1624 ] ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، فجاء الرسم تابعا لللفظ، والقراء يقفون عليه دون ياء اتباعا للخط الكريم، إلا يعقوب والكسائي وحمزة فإنهم يقفون بالياء نظرا إلى الأصل، كذا في "الفتح".

    تنبيه:

    قال الزمخشري : فإن قلت: من المنافق؟ قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأما تسميته من ارتكب ما يفسق به بـ(المنافق) فللتغليظ، كقوله: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا.

    ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان .

    وقيل لحذيفة - رضي الله عنه -: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.

    وقيل لابن عمر : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال: كنا نعده من النفاق. انتهى كلامه.

    أقول: قول الزمخشري (فللتغليظ) يوجد مثله لثلة من شراح الحديث وغيرهم، وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي - صلى الله [ ص: 1625 ] عليه وسلم - وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى.

    وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت؛ لتنجو من معرة الخطر.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [147]

    ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم قال أبو السعود : هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم، لا شيء آخر، فيكون مقررا لما قبله من إثابتهم عند توبتهم.

    و(ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، أي: أي شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم؟ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك، وهو الغني المتعالي عن أمثال ذلك، وإنما هو أمر يقتضيه كفركم، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لا محالة.

    وتقديم (الشكر) على (الإيمان) لما أنه طريق موصل إليه، فإن الناظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما، ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به، وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه.

    وكان الله شاكرا عليما الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل، كما في "القاموس" ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في "الكافية الشافية":


    وهو الشكور فلن يضيع سعيهم لكن يضاعفه بلا حسبان ما للعباد عليه حق واجب
    هو أوجب الأجر العظيم الشان كلا ولا عمل لديه ضائع
    إن كان بالإخلاص والإحسان إن عذبوا فبعدله أو نعموا
    فبفضله والحمد للرحمن

    [ ص: 1626 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما [148]

    لا يحب الله الجهر بالسوء من القول أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول إلا من ظلم إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه، أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه، حتى إنه يجيب دعاءه، ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة.

    فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه فليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على النوع.

    فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما؛ فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له.

    ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق ، وابن إسحاق ، وهناد بن السري، عن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلا فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه.

    وفي رواية عنه: وهو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.

    وفي رواية: هو الضيف المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.

    قال ابن كثير : وقد روى الجماعة (سوى النسائي والترمذي ) عن عقبة بن عامر قال: قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف [ ص: 1627 ] الذي ينبغي لهم .

    وروى الإمام أحمد ، عن المقدام بن أبي كريمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله .

    وروى هو وأبو داود عنه أيضا سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه .

    ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة ، أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي جارا يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: ما لك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه. قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبدا. ورواه أبو داود في كتاب الأدب.

    وقال عبد الكريم بن مالك الجزري - في هذه الآية -: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41].

    وقال قطرب: معنى الآية: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول، من كفر أو نحوه، فهو مباح له.

    وسئل المرتضى عنها فقال: لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله إلا من ظلم، وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العقاب والضرب ليشتموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتبرءوا منه، ففعل ذلك عمار ، فخلوه وصلبوا صاحبه، فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وفي عمار [ ص: 1628 ] وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [النحل: 106] فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنة بالإيمان. انتهى.

    وكل هذا مما تشمله الآية بعمومها، وما نقله السمرقندي وغيره، عن الفراء في قوله تعالى: إلا من ظلم أن: " إلا " بمعنى (لا) يعني: ولا من ظلم - فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم ، عن الشريد بن سويد ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « لي الواجد يحل عرضه وعقوبته » وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.

    فوائد:

    قال بعض مفسري الزيدية: أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه، ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها لم يكفر ؛ لأنه مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ (الكفر) مع الظلم - فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار، ثم قال: والمحبة ههنا بمعنى الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى.

    أقول: هذه نزعة اعتزالية.

    ثم قال: وتسميته سوءا؛ لكونه يسوء المقول فيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال.

    ثم قال: وقول من قال (إلا) هنا بمعنى (الواو) أي: ومن ظلم، مثل:


    وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان


    فخلاف الظاهر. انتهى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #265
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1629 الى صـ 1636
    الحلقة (265)






    وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة، قال الشعبي : يعجبني الرجل إذا سيم [ ص: 1629 ] هونا دعته الأنفة إلى المكافأة، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فبلغ كلامه الحجاج فقال: لله دره! أي رجل بين جنبيه! وتمثل:


    ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه


    وقال أعرابي لابن عباس - رضي الله عنهما -: أتخاف علي جناحا إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل

    وقال المتنبي:


    من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم


    لطيفة:

    الاستثناء في قوله تعالى: إلا من ظلم إما متصل أو منقطع، فعلى الأول فيه وجهان:

    الأول: قول أبي عبيدة : هذا من باب حذف المضاف، أي: إلا جهر من ظلم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

    والثاني: قول الزجاج : المصدر ههنا بمعنى الفاعل، أي: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم، وعلى أنه منقطع فالمعنى: لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.

    [ ص: 1630 ] وقوله تعالى: وكان الله سميعا عليما فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون [إبراهيم: 42] ووعيد له أيضا بأن يتعدى في الجهر المأذون فيه، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك.

    ثم حث سبحانه على العفو بعدما جوز الجهر بالسوء وجعله محبوبا حثا على الأحب إليه والأفضل عنده، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [149]

    إن تبدوا خيرا أي: طاعة وبرا أو تخفوه أي: تعملوه سرا أو تعفوا أي: تتجاوزوا عن سوء أي: ظلم فإن الله كان عفوا قديرا أي: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة، فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، وإن كان على وجه الانتصار؛ حملا على مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العفو؛ لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى السياق: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم، فإن عفا المظلوم عنه ولم يدع على ظالمه ويتظلم منه - فإن الله عفو قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء؛ لأنه يعلم من مدح حالي الخير: السر والعلانية أن السوء ليس كذلك جهرا وإخفاء، فينبغي العفو عنه وتركه، وإنما عطف (العفو) بـ(أو) مع دخوله في الخير بقسميه للاعتداد به، والتنبيه على منزلته، وكونه من الخير بمكان مرتفع، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل: وملائكته ورسله وجبريل [البقرة: 98] لأن مثله يعطف بالواو لا بـ(أو) ولذا حمل الخير [ ص: 1631 ] على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية؛ لتغاير العفو، فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه، كذا في "العناية".

    قال ابن كثير : ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك .

    وفي الحديث الصحيح: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .

    وقال الرازي : اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله: إن تبدوا خيرا أو تخفوه إشارة إلى إيصال النفع إليهم.

    وقوله: أو تعفوا إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.

    ثم نزل في اليهود إلى أواخر السورة قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا [150]

    إن الذين يكفرون بالله ورسله قال ابن عباس : يعني كعبا وأصحابه ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي: في الإيمان ويقولون نؤمن ببعض من الرسل ونكفر ببعض منهم، كما قالوا: نؤمن بموسى والتوراة، ونكفر بما وراء ذلك، وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله، وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان؛ لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبي يأتي مصدقا لما معهم، ونصره، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى من حيث لا يحتسب؛ لأنهم لما تساووا في المعجزات والدعوة إلى الحق، والقيام بالخيرات في أنفسهم - كان الكفر بواحد منهم كفرا بالكل، بل وبالله [ ص: 1632 ] إذ يعتقدون فيه أنه صدق الكاذب بخلق المعجزات، كذا في "التبصير".

    ويريدون بقولهم ذلك: أن يتخذوا بين ذلك أي: بين الإيمان ببعض والكفر ببعض سبيلا دينا يسلكونه، مع أنه لا واسطة بينهم قطعا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [151]

    أولئك هم الكافرون حقا أي: الذين كفروا كفرا ثابتا لا ريب فيه، فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيا؛ إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه.

    وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا يهانون به، وهو عذاب جهنم، أي: كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبارهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - حيث حسدوه على ما أتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما [152]

    والذين آمنوا بالله ورسله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم يعني بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يؤمنون بكل نبي بعثه الله، ولا يفرقون بين أحد منهم - بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين - كما فعله الكفرة.

    أولئك سوف يؤتيهم أي: يعطيهم أجورهم [ ص: 1633 ] ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة وكان الله غفورا أي: لما فرط منهم رحيما مبالغا في الرحمة عليهم، بتضعيف حسناتهم.

    ثم بين تعالى ما جبل عليه اليهود من اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق بقوله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا [153]

    يسألك أهل الكتاب قال ابن عباس : كعب وأصحابه أن تنـزل عليهم كتابا من السماء أي: كما نزلت التوراة على موسى جملة في الألواح، مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعدما وضحت البراهين على نبوتك، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان، إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر، كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء: 90] الآيات.

    ولهذا قال تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك أي: مما سألوك فقالوا أرنا الله جهرة أي: رؤية ظاهرة فأخذتهم الصاعقة أي: النار النازلة من السماء بظلمهم أي: جراءتهم على الله وعتوهم وعنادهم؛ إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها، حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان، بحيث لا يفيد الإيمان معها، فلا يكادون يؤمنون إيمانا يفيدهم أصلا، ولا يبعد منهم الكفر - بعد رؤية الآيات، فإنهم رأوا آيات موسى .

    ثم اتخذوا العجل أي: إلها وعبدوه [ ص: 1634 ] من بعد ما جاءتهم البينات أي: الدلائل القاطعة على نفي الشرك، ثم تابوا عنه.

    فعفونا عن ذلك أي: تركناهم ولم نستأصلهم وآتينا موسى سلطانا مبينا أي حجة بينة وتسلطا ظاهرا على إهلاك من خالفه، وفي ذلك بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنصره، وإن بالغوا في العناد والإلحاد، ثم أشار إلى أنهم مع رؤيتهم الآيات لم ينقادوا لأوامر موسى ، كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [154]

    ورفعنا فوقهم الطور أي: الجبل ليتحملوا التكليف بميثاقهم أي: بسبب أخذ ميثاقهم؛ ليخافوا فلا ينقضوه.

    قال ابن كثير : وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء على ما جاءهم به موسى - عليه الصلاة والسلام- رفع الله على رءوسهم جبلا، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رءوسهم؛ خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة [الأعراف: 171] الآية.

    وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا أي: ادخلوا باب إيلياء مطأطئين - عند الدخول - رءوسكم، فخالفوا ما أمروا به، وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلا.

    وقلنا لهم لا تعدوا في السبت أي: وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم مادام مشروعا لهم.

    وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي: عهدا شديدا، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر [الأعراف: 163] [ ص: 1635 ] الآيات.

    ثم بين تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا [155]

    فبما نقضهم ميثاقهم (ما) مزيدة للتأكيد، أو نكرة تامة، و(نقضهم) بدل منها، والباء متعلقة بفعل محذوف، أي: فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم، أو على أعقابهم.

    وكفرهم بآيات الله أي: حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء - عليهم السلام - وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام.

    قال العلامة البقاعي : وهو أعظم من مطلق كفرهم؛ لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم؛ لأن الأنبياء سبب الإيمان، ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل رزية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه - قال تعالى: بغير حق أي: كبير ولا صغير أصلا، وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن - الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عمران؛ لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقا وصفة راسخة، بخلاف ما مضى فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض.

    ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال: وقولهم قلوبنا غلف جمع (أغلف) أي: هي مغشاة [ ص: 1636 ] بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه [فصلت: 5] أي: فلا ذنب لنا؛ لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ويشهدون له بالرسالة، وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله - عطفا على ما تقديره (وقد كذبوا) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفا - بل طبع الله عليها بكفرهم أي: ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة - بل الأمر بالعكس؛ حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم؛ لأنه خلقها أولا على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم - طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة، ولذا سبب عنه قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، أو: إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به؛ لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [156]

    وبكفرهم أي: بعيسى عليه السلام، وهو عطف على (قولهم) وإعادة الجار لطول ما بينهما، وقد جوز عطفه على (بكفرهم) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع، وقيل: هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله، وتكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم؛ حيث كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد - عليهم الصلاة والسلام - كذا في أبي السعود .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #266
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1637 الى صـ 1644
    الحلقة (266)





    [ ص: 1637 ] وقولهم على مريم بهتانا عظيما أي: مع قولهم الذي يجترئون به على مريم - عليها السلام - بعد ظهور كراماتها وإرهاصات ولدها ومعجزاته، يبهتونها به.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا [157]

    وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله

    قال أبو السعود : نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم ليس لمجرد كونه كذبا - بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي - عليه السلام - والاستهزاء به، فإن وصفهم له - عليه السلام - بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به - عليه السلام - كما في قوله تعالى: وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر [الحجر: 6] ولإنبائه عن ذكرهم له - عليه السلام - بالوجه القبيح، على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح، وقيل: هو نعت له - عليه الصلاة والسلام - من جهته تعالى؛ مدحا له، ورفعا لمحله، وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله، ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك.

    لطيفة:

    قال الراغب : سمي عيسى بالمسيح ؛ لأنه مسحت عنه القوة الذميمة من الجهل والشره والحرص وسائر الأخلاق الذميمة، كما أن الدجال مسحت عنه القوة المحمودة من العلم والعقل والحلم والأخلاق الحميدة. وقال شمر: لأنه مسح بالبركة، وهو قوله تعالى: وجعلني مباركا أين ما كنت [مريم: 31] أو لأن الله مسح عنه الذنوب.

    وذكر المجد في كتابه [ ص: 1638 ] "البصائر" في اشتقاقه ستة وخمسين قولا، وتطرق شارح القاموس لبعضها، فانظره.

    وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي: لا يصح لهم الفخر بقتله؛ لأنهم ما قتلوه، ولا متمسك لهم فيما يزعمونه من صلبهم إياه؛ لأنهم ما صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من ألقي عليه شبهه.

    وإن الذين اختلفوا فيه أي: في شأن عيسى لفي شك منه أي: من قتله، وسنبينه بعد.

    ما لهم به أي: بقتله من علم إلا اتباع الظن استثناء منقطع، أي: لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه وما قتلوه يقينا أي: قتلا يقينا، بمعنى متيقنين أنه عيسى - عليه السلام - بل فعلوه شاكين فيه، أو المعنى: انتفى قتله انتفاء يقينا، بمعنى انتفائه على سبيل القطع.

    قال البرهان البقاعي : وهو أولى لقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما [158]

    بل رفعه الله إليه رد وإنكار لقتله، وإثبات لرفعه، أي: اليقين إنما هو في رفعه إليه وكان الله عزيزا حكيما أي: لا يبعد رفعه على الله؛ لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده، وحكيم اقتضت حكمته رفعه، فلا بد أن يرفعه، وهي حفظه لتقوية دين محمد - صلى الله عليه وسلم - حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال، فيقتله، أفاده المهايمي .
    تنبيه:

    لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى، ولتبرئة ساحة مقام عيسى - عليه السلام - مما توهموه في ذلك، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين، ومعارك الفرقتين - أردت بسط الكلام في هذا المقام؛ انتهاجا للحق، وأخذا بناصر الصدق، ورد أباطيل المكذبين، وتزييف أقوال الملحدين.

    نورد أولا ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم، ثم بطلان المروي عندهم وتهافته بالحجج الدامغة، [ ص: 1639 ] ثم ما رواه أئمة سلفنا - رضي الله عنهم - في هذه القصة، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه، مع ذكر من رفض عقيدة الصلب من فرق النصارى، وذكر ما روي في إنجيل خامس يوافق عقيدة المسلمين، ويطابق هذه الآية، ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رضي الله عنه - في هذه الآية، وأبدع - على عادته قدس سره - فهذه المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب؛ إذ تفرعت إلى مباحث فائقة، وفوائد شائقة، فنقول وبالله التوفيق:

    ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم:

    جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه:

    2 - كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب.

    38 - أي: لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل (وهو الكنيسة) ليستمعوه.

    [ ص: 1640 ] 37 - وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون.

    كما ذكر لوقا قبل الفصل.

    3 - فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطي وهو أحد الاثني عشر.

    4 - فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يسلمه إليهم.

    5 - ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة.

    6 - فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع.

    7 - وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.

    8 - فأرسل بطرس ويوحنا قائلا: امضيا فأعدا لنا الفصح لنأكل.

    9 - فقالا له: أين تريد أن نعد.

    10 - فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء، فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله.

    [ ص: 1641 ] 11 - وقولا لرب البيت: المعلم يقول لك: أين المنزل الذي آكل فيه الفصح مع تلاميذي؟

    12 - فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة، فأعدا هناك.

    13 - فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفصح.

    14 - ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه.

    15 - فقال لهم: لقد اشتهيت شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم.

    16 - فإني أقول لكم: إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله.

    17 - ثم تناول كأسا وشكر وقال: خذوا فاقتسموا بينكم.

    18 - فإني أقول لكم: إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.

    19 - وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري.

    [ ص: 1642 ] 20 - وكذلك الكاس من بعد العشاء قائلا: هذه هي الكأس، العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم.

    21 - ومع ذلك فها! إن يد الذي يسلمني معي على المائدة.

    22 - وابن البشر ماض كما هو محدود، ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه.

    23 - فطفقوا يسألون بعضهم بعضا: من كان منهم مزمعا أن يفعل ذلك.

    24 - ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يحسب الأكبر.

    25 - فقال لهم: إن ملوك الأمم يسودونهم والمسلطين عليهم يدعون محسنين.

    26 - وأما أنتم فلستم كذلك، ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والذي يتقدم كالذي يخدم.

    28 - وأنتم الذين ثبتم معي في تجاربي.

    [ ص: 1643 ] 29 - فأنا أعد لكم الملكوت كما أعده لي أبي.

    30 - لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.

    31 - وقال يسوع: سمعان سمعان هو ذا الشيطان سأل أن يغربلكم مثل الحنطة.

    32 - لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فثبت إخوتك.

    33 - فقال له: أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت.

    34 - قال: إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني.

    39 - ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ.

    40 - فلما انتهى إلى المكان قال لهم: صلوا لئلا تدخلوا في تجربة.

    41 - ثم فصل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى.

    [ ص: 1644 ] 42 - قائلا: يا رب إن شئت فأجز عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك.

    43 - وتراءى له ملاك من السماء يشدده.

    44 - ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض.

    45 - ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياما من الحزن.

    46 - فقال لهم: ما بالكم نائمين، قوموا فصلوا؛ لئلا تدخلوا في تجربة.

    47 - وفيما هو يتكلم وإذا بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله.

    48 - فقال له يسوع: يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن البشر.

    49 - فلما رأى الذين حوله ما سيحدث قالوا له: أنضرب بالسيف.

    50 - وضرب أحدهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #267
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1645 الى صـ 1652
    الحلقة (267)




    [ ص: 1645 ] 51 - فأجاب يسوع وقال: قفوا لا تزيدوا، ثم لمس أذنه فأبرأه.

    52 - ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ: كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي.

    53 - إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا علي أيديكم، ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة.

    حينئذ تركه تلاميذه وهربوا.

    54 - فارتموا على يسوع فقبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة.

    وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين، وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهما التي أخذها رشوة على تسليمالمسيح .

    وكان بطرس يتبعه من بعيد...

    54 – فجلس داخلا مع الخدام لينظر الغاية. 55 - وأضرموا نارا في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم.

    56 - فرأته جارية جالسا عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت: إن هذا أيضا كان معه.

    [ ص: 1646 ] 57 - فكفر أمام الجميع وأنكره قائلا: إني لست أعرفه.

    58 - وبعد قليل رآه آخر فقال: أنت أيضا منهم، فأخذ بطرس يحلف: لا أعرف هذا الرجل ولست منهم.

    59 - وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلا: في الحقيقة هذا أيضا كان معه فإنه جليلي.

    60 - فقال بطرس: يا رجل لا أدري ما تقول.

    قال مفسروهم: إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلا: لأن المسيح قال: من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات.

    60 - وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك.

    61 - فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات.

    62 - فخرج بطرس وبكى بكاء مرا.

    63 - وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزءون به ويضربونه.

    [ ص: 1647 ] 64 - وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين: تنبأ من الذي ضربك.

    65 - وأشياء أخر كانوا يقولونها عليه مجدفين.

    66 - ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه، وأحضروه إلى محفلهم.

    67 - وقالوا: إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم: إن قلت لكم لا تؤمنون.

    68 - وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني.

    69 - ولكن - من الآن - يكون ابن البشر جالسا عن يمين قدرة الله.

    70 - فقال الجميع: أفأنت ابن الله، فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو.

    71 – فقالوا: ما حاجتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه.

    فأوثقوه، وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع لما رأى يسوع قد دين ندم ومضى، فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلا: لقد أخطأت بتسليمي دما زكيا، فقالوا له: ما علينا أنت أخبره، فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا: لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة؛ لأنها ثمن دم.

    [ ص: 1648 ] 1 - ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطس.

    2 - وطفقوا يشكونه قائلين: إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر، ويدعي أنه هو المسيح الملك.

    3 - فسأله بيلاطس قائلا: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه قائلا: أنت قلت.

    4 - فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع: إني لم أجد على هذا الرجل علة.

    5 - فلجوا وقالوا: إنه يهيج الشعب؛ إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئا من الجليل إلى ههنا.

    6 - فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي.

    7 - ولما علم أنه من إيالة هيرودس أرسله إلى هيرودس وكان في تلك الأيام في أورشليم.

    8 - فلما رأى هيرؤدس يسوع فرح جدا؛ لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، ويرجو أن يعاين آية يصنعها.

    [ ص: 1649 ] 9 - فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء.

    10 - وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة.

    11 - فازدراه هيرودس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوبا لامعا ورده إلى بيلاطس.

    12 - وتصادق هيرودس وبيلاطس في ذلك اليوم، وقد كانا من قبل متعاديين.

    13 - فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب.

    14 - وقال لهم: قد قدمتم إلي هذا الرجل كأنه يفتن الشعب، وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به.

    15 - ولا هيرودس أيضا؛ لأني أرسلتكم إليه وهو ذا لم يصنع به شيء من حكم الموت.

    16 - فأنا أؤدبه وأطلقه.

    17 - وكان لا بد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلا.

    [ ص: 1650 ] 18 - فصاحوا كلهم جملة قائلين: ارفع هذا وأطلق لنا برأبا.

    19 - كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل.

    20 - فناداهم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع.

    21 - فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه.

    22 - فقال لهم مرة ثالثة: وأي شر صنع هذا؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه.

    23 - فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم.

    24 - فحكم بيلاطس أن يجرى مطلبهم.

    25 - فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة، وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب.

    قال مفسروهم: ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضا، والجلادون كانوا ستين نفرا، وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد؛ خشية أن يطلقه بيلاطس، ونزعوا ثيابه وألبسوه لباسا [ ص: 1651 ] قرمزيا وضفروا إكليلا من شوك العوسج ووضعوه على رأسه، وأنشبوا في رأسه عنفا أشواكه الحادة، ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليلا من شعر في رأس الكهنة؛ تذكارا لإكليل المسيح الشوكي، ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين: السلام يا ملك اليهود، وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه، ولما هزءوا به نزعوا ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستاقوه ليصلب، وكان يتقدمه مبوق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود، وخشبة الصلب على منكبيه.

    32 - وانطلق معه بآخرين مجرمين ليقتلا.

    ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار.....

    وناولوه خلا مخلوطا بمرارة أو خمرا ممزوجا بعلقم بعد أن طلب الماء، فذاقه ولم يشرب.

    ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها، وكانت المسامير في راحة اليدين والرجلين - ضربوا جنبه بالحربة فنفذت من صدره، وفي الصليب محل يسند إليه رجليه، واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة: القميص والرداء والجبة، ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد، وجلسوا هناك يحرسونه؛ لئلا يسرقه أحد.

    وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين: قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار.

    [ ص: 1652 ] 36 - وكان الجند أيضا يهزءون به.

    37 - وقائلين: إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك.

    38 - وكان عنوان فوقه مكتوبا بالحروف اليونانية واللاتينية والعبرانية: هذا هو ملك اليهود.

    44 – ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة.

    45 - وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه.

    46 - ونادى يسوع بصوت عظيم قائلا: إيل إيل لم شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فكان أناس من القائمين يقولون: دعوا ننظر هل يأتي إيليا فيخلصه، ثم صرخ أيضا بصوت عال وأسلم الروح.

    47 - فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلا: في الحقيقة كان هذا الرجل صديقا.

    48 - وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر، لما عاينوا ما حدث - رجعوا وهم يقرعون صدورهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #268
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1653 الى صـ 1660
    الحلقة (268)






    [ ص: 1653 ] 49 - وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك.

    50 - وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق.

    51 - ولم يكن موافقا لرأيهم وعملهم.

    52 - فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه.

    53 - فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قبر منحوت لم يكن وضع فيه أحد.

    54 - وكان يوم التهيئة أي: الجمعة، وقد أخذ السبت يلوح .....

    وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له: قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حي: إني أقوم بعد ثلاثة أيام، فمر أن يحرسوا القبور حتى اليوم الثالث؛ لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلا ويقولوا للشعب: إنه قام من بين الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى، فأمر لهم بجنود يحرسون وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود.

    وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر.

    قال مفسروهم: إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الإنجيليين. انتهى.

    [ ص: 1654 ] وإذا بزلزلة عظيمة قد صارت؛ لأن ملك الرب انحدر من السماء، وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج، ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات.

    فقال للنسوة: لا تخفن، فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب، إنه ليس ههنا، فإنه قد قام.

    وقال لوقا:

    55 - كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل يتبعن، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده.

    56 - ثم رجعن وأعددن حنوطا وأطيابا، وفي السبت قررن على حسب الوصية.

    1 - وفي أول الأسبوع باكرا جدا أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه.

    2 - فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر.

    3 - فدخلن فلم يجدن جسد يسوع.

    4 - وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس براق.

    [ ص: 1655 ] 5 - وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟!

    6 - إنه ليس ههنا لكنه قام، اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل.

    7 - إذ قال: إنه ينبغي لابن البشر أن يسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث.

    فذكرن كلامه.

    ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله.

    وقلن لهم: قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه.

    10 - ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا.

    فكان عندهم هذا الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن.

    [ ص: 1656 ] 12 - فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجبا في نفسه مما كان.

    13 - وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عماوس بعيدة عن أورشليم ستين غلوة.

    14 - وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها.

    15 - وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما.

    16 - ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته.

    17 - فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين.

    18 - فأجاب أحدهما: أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام.

    19 - فقال لهما: وما هو؟ قالا له: ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلا نبيا ذا قوة في العمل والقول أمام الله والشعب كله.

    [ ص: 1657 ] 20 - وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.

    21 - واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك.

    22 - إلا أن نساء منا أدهشننا؛ لأنهن بكرن إلى القبر.

    23 - فلم يجدن جسده فأتين وقلن: إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا: إنه حي.

    24 - فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه.

    25 - فقال لهما: يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء.

    26 - أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده.

    27 - ثم أخذ يفسر لهما من موسى ومن جميع الأنبياء ما يختص به في الأسفار كلها.

    28 - فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد.

    29 - فألزماه قائلين: امكث معنا؛ لأن المساء مقبل، وقد مال النهار، فدخل ليمكث معهما.

    [ ص: 1658 ] 30 - ولما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما.

    31 - فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما.

    32 - فقال أحدهما للآخر: أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب.

    34 - وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين.

    وهم يقولون: لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسمعان.

    35 - فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز.

    36 - وبينما هم يتحدثون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم: السلام لكم، أنا هو لا تخافوا.

    37 - فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحا.

    [ ص: 1659 ] 38 - فقال لهم: ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم؟!

    39 - انظروا يدي ورجلي إني أنا هو جسوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي.

    40 - ثم أراهم يديه ورجليه.

    41 - وإذ كانوا غير مصدقين بعد من الفرح ومتعجبين قال: أعندكم ههنا طعام.

    42 - فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل.

    43 - فأخذ وأكل أمامهم.

    ثم أخذ الباقي وأعطاهم.

    وبعد مفاوضته معهم.

    50 - خرج بهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم.

    51 - وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء.

    [ ص: 1660 ] هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجا ببعض تفاسيرهم، وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح، وأشد انسجاما من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد، كما في "ذخيرة الألباب" من كتبهم.
    فصل

    في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة

    اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها، كما قال تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء: 157].

    قال البرهان البقاعي - رحمه الله - في "تفسيره" بعد (أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم، وقال: أحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده) ما نصه: فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد، وهو الأسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو، وأن الوقت كان ليلا، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكون في هذه الليلة، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره، وإن بطرس إنما تبعه من بعيد، وإن الذي دل عليه خنق نفسه، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد، وما يدري النسوة الملك من غيره، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها.... وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه - من ظنوه إياه، هو الذي دل عليه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #269
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1661 الى صـ 1668
    الحلقة (269)






    [ ص: 1661 ] قال بعض العلماء: إنه ألقي شبهه عليه، ويؤيد ذلك قولهم: إنه خنق نفسه، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه: فجزموا به، والله أعلم. انتهى.

    وقال العلامة خير الدين الآلوسي في "الجواب الفسيح": اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح - عليه السلام - مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم انبعث حيا بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد لحوارييه .... إلى آخر ما قاله - هو ما أجمع عليه النصارى.

    ويرد ذلك العقل والنقل، وإن صدقتهم اليهود في قتله، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية، على أن المقتول هو الشبه، وأن الحال عند صالبيه اشتبه، وأن المسيح رفعه الله تعالى قبل القتل إليه؛ لشرفه عنده ومكانته لديه، قال الله تعالى في بيان حال اليهود: وما قتلوه وما صلبوه الآية.

    وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أأنت المسيح ابن الله؟ فقال له: أنت قلت، ولم يجبه بأنه المسيح ، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم، ولم يور ولم يتلعثم، وهو محلف بالله، لا سيما وهو بزعمهم الإله، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه.

    وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله.

    28 - إن المسيح صعد قبل الصلب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا .

    29 - فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق.

    [ ص: 1662 ] 30 - وإذا موسى بن عمران وإيليا .

    31 - قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم.

    32 - وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا.

    وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به؛ إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه - عليه السلام - أن إيليا يأتي، فلما رفعوه على الخشبة - كما في الأناجيل - قالوا: دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه، فصاروا في شك يريدون تحقيقه، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره، ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم يجوز أن يكون طورا من أطوار روحه؛ لأنه - عليه السلام - لا يبعد أن يكون له قوة التطور، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن، لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك، كإحياء الموتى، وكثرة الخبز والحيتان، وإبراء الأكمه، والأبرص.

    وقال يوحنا التلميذ :

    1 - كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه.

    [ ص: 1663 ] 4 - فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟

    قالوا: يسوع (وقد خفي شخصه عنهم) قال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين، وقد أنكروا صورته.

    فانظر - أيها العاقل - كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضا على أن ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق.

    ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها، كدعواهم الألوهية مع قوله - عليه الصلاة والسلام – (عند صلبه بزعمهم): إلهي! إلهي! لم تركتني، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من إنجيل متى : يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس - أي: الموت - ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك، وقام يصلي، وقوله لرئيس الكهنة: إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه.

    وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا : إن الفريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطا ليقبضوا على المسيح (يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم) قال: أنا ماكث أيضا معكم زمانا، ثم [ ص: 1664 ] أنطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلا، قال اليهود في ذواتهم: فإلى أين؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن؟ قال مفسروهم أي: يصعد إلى السماء، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث.

    ثم نقل خير الدين نحوا مما أسلفناه عن أناجيلهم، وقال بعد ذلك: فأجل في تناقضها قداح فكرك، وفي تهافتها خيول ذهنك؛ لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلا ونقلا، كما قال تعالى: ولكن شبه لهم وليتبين لك عبوديته ورسالته - عليه السلام - فإن ذلك ظاهر من العبارات، ولنزدك في البيان وضوحا بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحا ومشروحا.

    منها: قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها، ولما جاءت النسوة عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد وجدنه فارغا، وقد قام منه المدفون، مع أن النصارى يزعمون - كما في أناجيلهم - أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام، كما بقي يونان - أي: يونس - في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر.

    ومنها: سؤاله اليهود مرتين من تطلبون؟ وهم يقولون: يسوع الناصري، فلم يعرفوه وهو يقول لهم: أنا.

    ومنها: أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده، فلو كان معلوما لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم.

    ومنها: أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له: أنا المسيح ، بل قال له: أنت قلت.

    [ ص: 1665 ] ومنها: إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله، وإنكاره كفر.

    ومنها: أنه لما سأله الوالي: أنت هو؟ لم يرد له جوابا، فلو كان هو لاعترف وأقر.

    ومنها: أنه لما كان أخذه ليلا، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح - عليه السلام - قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، ويحتمل أن المسيح ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى؛ وقاية للمسيح ، فألقى الله تعالى عليه الشبه، وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم، وهذا فدى نفسه لإلهه بزعم النصارى.

    ومنها: أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح.

    ومنها: قوله - عليه السلام - الذي تقدم آنفا: أنا ماكث معكم زمانا، ثم أنطلق إلى من أرسلني، فتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلا، فهذا صريح في أنهم سيطلبونه ولا يجدونه ولا ينالون منه شيئا؛ لأنه سيصعد إلى السماء، ومثله في الفصل الثاني عشر من "إنجيل يوحنا" ما لفظه: قال له الجموع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد، فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع من هو هذا ابن البشر؟

    قال لهم يسوع: إن النور معكم زمانا آخر يسيرا، امشوا ما دام لكم النور؛ لئلا يدرككم الظلام، ومن يمش في الظلام فلا يدر أين يذهب، آمنوا بالنور ما دام لكم النور، قال يسوع هذا، وذهب متواريا عنهم. انتهى.

    ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى: بل رفعه الله إليه [النساء: 158].

    منها: أن اليهود قالوا لعيسى: إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد.

    [ ص: 1666 ] أي: فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان، بل تبقى إلى قيام الساعة، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك، والمسلمون يقولون: إنه رفع حيا إلى السماء وهو الآن حي فيها، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية، ويتوفى ويدفن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حي إلى الأبد، يعني إلى قرب قيام الساعة، ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى، وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضا على أنه ليس بإله:

    أحدها: أنه قال: ابن البشر، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى؛ لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يده للإيمان بنبوته.

    ثانيها: لو كان إلها لما توارى منهم خائفا من قتلهم له؛ لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم، وعالم بزمن قدرتهم عليه، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته؟ وهو خالق الموت والحياة؟!

    ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه، ويرفعه إليه محفوظا مكرما، كما أجرى على يديه إحياء الموتى، وخلقه من غير أب، وأبرأ الأكمه والأبرص، لا سيما وهو بزعمهم إله العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب - على ما زعموا - لرب الأرباب، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب.


    عجبا للمسيح بين النصارى وإلى أي والد نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا
    إنهم بعد ضربه صلبوه فإذا كان ما يقولون حقا
    وصحيحا فأين كان أبوه؟ حين خلى ابنه رهين الأعادي
    أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟ فلئن كان راضيا بأذاهم
    فاحمدوهم لأنهم عذبوه ولئن كان ساخطا فاتركوه
    واعبدوهم لأنهم غلبوه


    وفي كتاب "الفاصل بين الحق والباطل" ما نصه: وفي الذي اتخذتموه شهيدا على صلبه من [ ص: 1667 ] كلام عاموص النبي أن الله تعالى قال على لسانه: ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل، والرابعة لا أقبلها، بيعهم الرجل الصالح - حجة عليكم لا لكم؛ لأنه لم يقل: بيعهم إياي، ولا قال: بيعهم إلها متساويا معي.

    ويجري تأويل ذلك على وجهين:

    إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه (الرجل الصالح) كما قال عاموص، وليس بالإله المعبود، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى - عليه السلام - كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى - عليه السلام - ووقوع الشبه على غيره، وذلك من وجوه:

    أحدها: يوجد في الإنجيل أن عيسى - عليه السلام - صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا بموسى بن عمران وإيليا قد ظهرا له، وجاءت سحابة فأظلتهم، فوقع النوم على الذين معه، فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك، وغيرتم الكلم عن مواضعه.

    وظهور الأنبياء - عليهم السلام - وتظليل السحابة، ووقوع النوم على التلاميذ - يكون حينئذ دليلا ظاهرا على الرفع إلى السماء وعدم الصلب، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات.

    وثانيها: ما في الإنجيل أيضا أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلا مضافا بمر، فذاقه ولم يشربه، فنادى: إلهي إلهي لم خذلتني؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه - عليه السلام - كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة، ويقول للتلاميذ: إني لي طعاما لستم تعرفونه، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوما وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟! هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء؟! أو كيف بالرب على ما تدعونه؟! فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره، وهو الذي شبه لكم.

    وثالثها: قوله: إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم [ ص: 1668 ] التسليم لأمر الله تعالى، وعيسى - عليه السلام - منزه عن ذلك، فيكون المصلوب غيره، لا سيما وأنتم تقولون: إن المسيح - عليه السلام - إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه، ويخلصه من الشيطان ورجسه، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون - عليهم السلام - لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه، ولم يهابوا مذاقه، مع أنهم عبيده، والمسيح بزعمكم ولد ورب، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره، وهو الذي شبه لكم.
    فصل

    فيما روي عن سلفنا الكرام - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #270
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1669 الى صـ 1676
    الحلقة (270)






    قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي - رحمه الله تعالى - في (تفسيره) هنا ما نصه: وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه - أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه، وخالفوه، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي الله عيسى - عليه السلام - لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه - عليهما السلام - ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب [ ص: 1669 ] امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى - عليه السلام - وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر نفرا.

    وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك، فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم عليه، أو خروجه إليهم - قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى - عليه السلام - سنة من النوم فرفع إلى السماء، وهو كذلك كما قال الله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية.

    فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك النفر ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه.

    وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال: إنه خاطبها، والله أعلم.

    وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات، والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين، ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي: رأوا شبهه فظنوا أنه إياه ولهذا قال: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ ص: 1670 ] يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ولهذا قال: وما قتلوه يقينا أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا أي: منيع الجناب لا يرام جنابه، ولا يضام من لاذ ببابه حكيما أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، والسلطان العظيم، والأمر القديم.

    قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: «لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال: هو أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.

    قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق:

    فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية.

    وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية.

    وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم».

    وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه النسائي ، عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، نحوه.

    وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة؟

    [ ص: 1671 ] وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليه صورهم الله - عز وجل - كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم: سحرتمونا، لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فخرج إليهم، وقال: أنا عيسى ، وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شبه لهم فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

    قال ابن كثير : وهذا سياق غريب جدا.

    ثم قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول، وهو ما حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم، ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه فتعاظموا ذلك وتكارهوه.

    فقال: ألا من رد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني، ولا أنا منه، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي الليلة التي استعنتكم عليها فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها؟! فقالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، [ ص: 1672 ] وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى نفسه.

    ثم قال: الحق، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا: هذا من أصحابه فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.

    فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.

    ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى - عليه السلام - فأبرأها الله من الجنون - جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ فقالتا عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خيرا، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه.

    ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحنى، فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه يصبح كل إنسان يحدث بلغة قوم، فلينذرهم وليدعهم.

    قال ابن كثير : سياق غريب جدا.

    وقال ابن جريج ، عن مجاهد : صلبوا رجلا شبه بعيسى ، ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حيا.
    [ ص: 1673 ] فصل

    في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة

    قال خير الدين في "الجواب الفسيح" قال النصارى: القول بإلقاء الشبه على عيسى - عليه السلام - قول يفضي إلى السفسطة، والدخول في الجهالات، وما لا يليق بالعقلاء؛ لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإنسان ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته، وكذلك سائر المعارف، لا يثق الإنسان بأحد منهم ولا يسكن إليه، ونحن نعلم بالضرورة أن الإنسان يقطع بأن ولده هو ولده، وأن كل واحد من معارفه هو، من غير شك ولا ريبة، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإنسان ووطنه إذا دخله، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه، بل إذا غمض الإنسان عينيه عن صديقه بين يديه لحظة، ثم فتحها، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه؛ لجواز إلقاء الشبه على غيره، وكل ذلك خلاف الضرورة، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلا، فلا يسمع.

    والجواب عنه من وجوه:

    أحدها: أن هذا تهويل ليس عليه تعويل، بل البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإنسان وجملة أجزاء العالم، وإن حكم الشيء حكم مثله، فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله؛ لتعذر خلقه في نفسه، فيلزم أن يكون خلق الإنسان مستحيلا، بل جملة العالم، وهو محال بالضرورة.

    وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم، فجميع صفات جسد عيسى - عليه السلام - لها أمثال في حيز الإمكان في العدم، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح، فيحصل الشبه قطعا، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن، لا بما هو خلاف الضرورة، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى - عليه السلام - وهو أعظم من الشبه، فإن جعل حيوان يشبه حيوانا، وإنسان يشبه إنسانا - أقرب من [ ص: 1674 ] جعل نبات يشبه حيوانا، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى، كما أجمعوا على قلب النار بردا وسلاما، وعلى قلب لون يد موسى - عليه السلام - وعلى انقلاب الماء خمرا وزيتا للأنبياء - عليهم السلام - وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة.

    على أن عيسى - عليه السلام - قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماء واحد، ونفخ جبريل في جيب مريم، فجعل شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة من خلقه، على أن إحياءه للموتى، وإبراءه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ليس بأهون من ذلك، على أن رد الشمس ليوشع بن نون، ومشي عيسى وحواريه على الماء، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل - ليس بأهون مما هنالك، وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه في العشاء السري - لم لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم؟! كما لا يخفى.

    وثانيها: أن الإنجيل ناطق بأن المسيح - عليه السلام - نشأ بين ظهراني اليهود، وحضر مرارا عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله، حتى إنهم (كما في الإنجيل) يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟ وإذا، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم.

    وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهما ليدلهم عليه، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلا من تلاميذه ليعرفهم شخصه؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به.

    وثالثها: أنه - كما تقدم في الأناجيل - أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شوهت صورته، وغيرت محاسنه وهيئته بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟! حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله؟ فلم يجبه، ولو كان هو لأجابه، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى [ ص: 1675 ] عليه السلام دون شبهه؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه

    رابعها: قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه عليهم، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته، وهذا دليل الشبه، ورفع عيسى عليه السلام، ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح - عليه السلام - كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.

    خامسها: قول متى في (الفصل الخامس والعشرين) من (إنجيله) ما لفظه: حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون في هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل، فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا، قال له يسوع: الحق أقول لك، إنك هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. انتهى.

    فقد شهد عليهم بالشك، بل خيرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم شك، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم، وصح قوله تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن

    سادسها: إن في (الفصل السابع والعشرين) من (إنجيل متى) ما لفظه: حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا، فقالوا: ما علمنا، أنت أبصر، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. انتهى.

    فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه، بل فيها اختلافات، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله: (هو هذا) ويدل على وقوع ذلك ويقربه ظهور ندمه بعد هذا، ولا سيما [ ص: 1676 ] وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى؛ وقاية للمسيح - عليه السلام - وادعى أنه هو، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه، وأخذوا بدله، كما أن يهوذا - مع أنه صديقه ورسوله - أخذ رشوة ودلهم عليه، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطانا على صورته وصلبوه، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه - كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم - صار فداء له، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه؛ لأنه لو كان نازلا لتقويته لقواه، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء، أو فدى نفسه له.

    وقال بعض الأفاضل: ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من "إنجيل لوقا" ما لفظه: إن المسيح صعد إلى جبل ليصلي، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة، ولباسه مضيئا لامعا.... إلخ.

    فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء، ووقوع النوم على أصحابه، وتغير وجهه وإضاءة لباسه إلا رفعه ....

    ورؤيتهم له بعد ذلك إنما هو من تطور روحه؛ لأنه - عليه السلام - كان له قوة التطور، وهذا من أحكام الروح والنفس.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #271
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1677 الى صـ 1684
    الحلقة (271)






    ولئن قلنا: إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام، غير أنا نتنزل ونقول: ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياسا ومبدأ لتقويته وإيناسا، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك، ويهوذا قوله قول فرد، وغير صالح للاحتجاج؛ للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك، فلم يبق في قول الفرقتين حجة [ ص: 1677 ] أن المصلوب هو المسيح - عليه السلام - لا شبهه، وأناجيلهم حالها معلوم لديك، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن لا يخفى عليك. انتهى.

    وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو: أن عيسى - عليه السلام - إذا كان لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه، ورفع هو إلى السماء، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده؟

    والجواب: أن عيسى - عليه السلام - لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناسا سيفترون عليه ويقولون بألوهيته، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبدا من عبيد الله، لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر، بخلاف ما لو أخبر بأنه لا يصلب، أو لم يصلب، وأن المصلوب شبهه، فإنه ربما كان ذلك مقويا لشبهة أولئك الجماعة، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل، إذ لو اعتقد أحد قبل إرسال نبينا - عليه الصلاة والسلام - بصلب عيسى لم يضره ذلك، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى أبان خطأ النصارى في الوجهين:

    أحدهما: اعتقاد أن عيسى إله.

    والآخر: اعتقاد أنه قد قتل وصلب.

    وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى، تولاه بالرسالة، واصطفاه، وحفظه من أيدي أعدائه وحماه، كذا في "منية الأذكياء في قصص الأنبياء".
    فصل

    في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب

    قال القرافي: اعلم أن النصارى قالوا: إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب، وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، والإنجيل أيضا مخبر عن الصلب، فإن جوزتم كذبهم وكذب ما يدعي أنه الإنجيل، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب - لزم المحال من وجوه:

    أحدها: أنه يتعذر عليكم - أيها المسلمون - جعل القرآن متواترا.

    وثانيها: أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية؛ [ ص: 1678 ] فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا.

    وثالثها: أن إنكار الأمور المتواترة جحد للضرورة فلا يسمع، فلو قال إنسان: الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب، لم يسمع ذلك منه، وعد خارجا عن دائرة العقلاء، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك مشكل.

    والجواب من وجوه:

    أحدها: أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها دون غيرها، كما هو مسلم عند كل دري (كذا) منصف.

    وها نحن نوضح ذلك - إن شاء الله تعالى - فنقول: إن التواتر له شروط:

    الشرط الأول: أن يكون المخبر عنه أمرا محسوسا، ويدل على اعتبار هذا الشرط أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة، كإخبار المعطلة عن عدم الصانع، والفلاسفة عن قدم العالم، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ، فلا يثق الإنسان بالخبر عن العقليات، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر، أما الأمور المحسوسة مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر.

    الشرط الثاني: استواء الطرفين والواسطة، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس، المخبر عنه - حصل العلم بخبرهم.

    وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمر المحسوس، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك - فلا بد أن يكون الغير المباشر عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه إن جاز الكذب عليه - وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه - فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم؛ لجواز فساد أصلهم [ ص: 1679 ] المعتمدين عليه، فيتعين أن يكون الأصل عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فهذا معنى قولنا: (استواء الطرفين) في كونهما عددا يستحيل تواطؤهما على الكذب شرط.

    فإن كان المخبر لنا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس، بل ينقل عن غيره أيضا - فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضا؛ لما تقدم، وفي هذه الصورة حصل طرفان وواسطة، فالطرفان المخبر لنا، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما، فيجب استواء الطرفين والواسطة، والوسائط تكثرت في كونهم عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فينقسم بهذا التحرير التواتر إلى طرف فقط، وإلى طرفين بلا وساطة، وإلى طرفين وواسطة، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط.

    فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول: الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة، وأما أنه عيسى - عليه السلام - نفسه أو غيره فهذا لا يفيده الحس البتة، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت، أو بأخبار الأنبياء - عليهم السلام - عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.

    والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات أنا لو وضعنا في إناء رطلا من الماء مثلا، وأريناه لإنسان، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلا آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإنسان، وقلنا له: هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله؟ فإنه إذا أنصف يقول: الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلا له فلا أعلم؛ لكون الحس لا يحيط بذلك، هذا في المائعات.

    وكذلك كف من تراب، أو أوراق الأشجار، أو أنواع الحبوب، كالحنطة مثلا، إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها.

    مطلب:

    وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري، والحيوان [ ص: 1680 ] الإنسي يختلف ذلك فيه - بحسب مقتنيه - اختلافا كثيرا، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعا من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك، ثم يتصل ذلك بالنطف في التوليد، مضافا إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك، فتشابهت أفراد نوعه، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة.

    فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى - عليه السلام - دون شبهه أو مثله - ليس مدركا بالحس، وإذا لم يكن مدركا بالحس جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى - عليه السلام - شبهه في غيره، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه، وهو اللائق بكريم آلائه، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه.

    وإذا جوز العقل مثل هذا - مع أن الحس لا مدخل له في ذلك - بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالما عن المعارض، مؤيدا بكل حجة، وسقط السؤال بالكلية.

    وثانيها: سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين، والتمييز بين الشبهين، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويدل على أنهم ليسوا كذلك أن الحواريين فروا عنه؛ لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم، لا يفيد علما بل هو ظن وتخمين لا عبرة به، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه أي: هم لا يتيقنون ذلك، بل يحزرون بالظن والتخمين.

    وأما من جهة الملة اليهودية فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة، وذلك في مجرى العادة يكون نفرا قليلا، كالاثنين أو الثلاثة، ونحوها يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة، وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا [ ص: 1681 ] علم بالصلب؛ فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد سقط اعتبارها في إفادة العلم؛ لجواز كذب الناقل، فلا يكون عدد التواتر حاصلا في نفس الأمر، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل عدلا عن عدل إلى موسى وعيسى - عليهما السلام - وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل فأولى أن يتعذر التواتر، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدا، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها؛ لقرب عهدها، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ، فضلا عن أصول الأديان، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد في غاية الضعف - كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل.

    وثالثها: أن نصوص الإنجيل مشعرة بعدم صلب عيسى - عليه السلام - بخصوصه، كما نقلنا بعضها آنفا.

    وقال في "تخجيل الأناجيل": فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أم آحادا؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروري؛ إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك فلا يحتج بهم في القطعيات.

    وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به، وهو المصلوب، وعلموا أنه هو ضرورة، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة - أكذبتهم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم؛ إذ قال لهم نقلتها الذين دونوها لهم وعليها معولهم: إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد، ولما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته، فقالت: هذا كان مع يسوع، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله، وخادعهم حتى تركوه، وذهب ولم يكد يذهب، [ ص: 1682 ] وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا، فهؤلاء أصحابه وأتباعه، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم.

    وأما أعداؤه اليهود - الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر - فلم يبلغوا عدد التواتر، بل كانوا آحادا وأفرادا؛ لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصا على خشبة ومعه لصان مصلوبان، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم.

    وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضا، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من "إنجيل لوقا" ما لفظه: فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم، وقالوا له: إن كنت أنت المسيح فقل لنا: فقال لهم: إن قلت لكم لم تؤمنوا لي، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني. انتهى.

    وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب؛ لأنهم لما لم يجدوه هو، ولم يعلموا محل المسيح، وكان ذلك من تلاميذه، واستحلوا قتله أيضا - أشاعوا أنه هو المسيح؛ ليترك الناس متابعته، ولئلا يتخذوا المسيح نبيا، وصمموا أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضا يعملون به كما عملوا بصاحبه، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراسا لئلا ينبش القبر ويرى أنه غير المسيح.

    ومما يزيد الأمر وضوحا قول "إنجيل متى" في (الإصحاح الثامن والعشرين): أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكا قد نزل من السماء برجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر، وجلس عنده، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود؟ كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم، صلبوا شخصا من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود والنصارى الآن على صلبه، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية.

    فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده، وهم اليهود، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر [ ص: 1683 ] في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة، مع أنه يفر منهم مرات كثيرة، ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله: أجز عني هذه الكاس، ويصرخ ويقول: إلهي! إلهي! لم تركتني؟ ويسلم روحه، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه، فيعطوه خلا بدله، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة، بل صار موقعا لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به، فكيف يكون مخلصا بنفسه؟!

    وأما النقل، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها، والدلالة على عدم المعرفة به، وعدم وجوده في قبره، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سليم قوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم

    وأما قول متى في (الإصحاح السابع والعشرين): فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من الأجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا للكثيرين - فهو قول بهت ومحال، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال؛ لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله، ولم يتفق إخفاء مثله، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب دل على كذب ما نقله عباد الصليب، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة - كما علمت سابقا - لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع؛ كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة؟! وتقوم الأموات من قبورها؟! ويدخلون المدينة ؟! ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك؟! وأيضا ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم؟ فهل كان استبشارا بمصابه؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه، أو كان جزعا على مماته؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته؟ فواعجبا لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات، ولم يعينوه حتى قضى ومات، وأحيى الرمم، وصرخ عند تسليم الروح [ ص: 1684 ] ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون؟ أبقوا في المدينة المقدسة؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون؟ وهل التأم الهيكل والصخور؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور؟

    فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك؛ لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفا من اليهود، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسدا وبغيا - قلنا: مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت علمها من حضر ومن غاب، من الأعداء والأحباب؛ لأنها آيات نهارية، ومعجزات تشتهر في البرية، ويتناقلها أهل البلدان، وتبقى مؤرخة بكل لسان، في سائر الملل بكل أرض وزمان، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال مما اخترعها وحررها أئمة الضلال؛ ليخدعوا بها ضعفاء العقول، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول. انتهى.

    وقال الإمام ابن حزم - رحمه الله – في كتابه "الملل" عند الكلام على النصارى: ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف (جمع كافة) من سائر الملحدين: أن قال قائلهم: قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح - عليه السلام - قد صلب وقتل، وجاء القرآن بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟!

    فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل - فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.

    فإن قلتم: اشتبه عليهم، فلم يتعمدوا نقل الباطل فقد جوزتم التلبيس على الكواف، فلعل كافتكم أيضا ملتبس عليها، فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.

    وقولوا لنا: كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟

    فإن قلتم: كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه وجب من قولكم "الإقرار" أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به، وفي هذا ما فيه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #272
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1685 الى صـ 1692
    الحلقة (272)




    وإن قلتم: كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب [ ص: 1685 ] الكواف، وفي هذا إبطال قول كافتكم، بل إبطال جميع الشرائع، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم، ووقعتم، وفي هذا ما فيه.

    قال أبو محمد - رضي الله عنه -: هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.

    فنقول وبالله التوفيق: إن صلب المسيح - عليه السلام - لم يقله قط كافة، ولا صح بالخبر قط؛ لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي: إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم، وعدم التقائهم، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا.

    وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه، وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفارا ولا يقطع على صحته إلا ببرهان، فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح - عليه السلام - فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه، فإن هنالك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين، مضمون منهم الكذب، وقبول الرشوة على قول الباطل.

    والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا؛ خوف العامة، وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح، وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار، وأنه أنزل إثر ذلك، وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار، ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب، ولا موقوفا لذلك، وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك، وإن مريم المجدلانية - وهي امرأة من العامة - لم تقدم على حضور موضع صلبه، بل كانت واقفة على بعد تنظر، هذا كله في نص الإنجيل عندهم، فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة، بل بخبر يشهد ظاهره [ ص: 1686 ] على أنه مكتوم متواطأ عليه.

    وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم، غيبا عن ذلك المشهد، هاربين بأرواحهم مستترين. وأن "شمعون الصفا" غرر ودخل دار "قيقان" الكاهن أيضا بضوء النهار فقال له: أنت من أصحابه ؟ فانتفى وجحد، وخرج هاربا عن الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق، فكيف أن ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى: ولكن شبه لهم إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل، وتواطؤوا عليه، هم شبهوا على من قلدهم، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه، وهم كاذبون في ذلك، عالمون أنهم كذبة، ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها؛ إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة، ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها، ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس، وفيمن يجالس، وفي حيث هو فلعله نائم، أو مشبه على حواسه، وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة.

    وقد شاهدنا نحن مثل ذلك، وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن، وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت، وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه، ثم لم يلبث شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا، وبويع بعد ذلك بالخلافة، ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه، ورأيته، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام.

    قال أبو محمد - رضي الله عنه -: وأما قوله: قد جوزتم التمويه على الكافة، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط، وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات، فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم حاكما على حواسهم ومحيلا لها، كخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.

    وأما ما لم يأت خبر عن [ ص: 1687 ] الله عز وجل بأنه شبه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك؛ لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة، وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن، إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل، فيلزم قبوله، وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك، ولا يجوز على الجماعة كلها.

    وقوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود أنه - عليه السلام - قتل وصلب، فهؤلاء شبه لهم القول، أي: أدخلوا في شبهة منه، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت، وشرطهم المدعون أنهم قتلوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه؛ تمويها على العامة التي شبه الخبر لها.

    ثم نقول لليهود النصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسألة: إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقا ووطء إماء، وهو حرام عندكم، وعن هارون - عليه السلام - أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه، وقد نزه الله تعالى الأنبياء - عليهم السلام - عن عبادة غيره، وعن الأمر بذلك، وعن كل معصية ورذيلة، فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى - عليه السلام - وسائر أنبيائهم - كان كل ما أمروهم به مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان - عليهما السلام - وسائر أنبيائهم، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه.

    وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه، وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس - رضي الله عنه - من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره، لا أنه خار بطبعه قط، وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل - عليه السلام - والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - الذي ذكرناه، وبالله تعالى التوفيق.

    [ ص: 1688 ] وأما قوله: كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية، قد حذر منها الأوائل كثيرا، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام، وذلك أنهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين: إما فرض بإنكار، وإما فرض بإقرار، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه، وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه، غاش لمن اغتر به.

    وإن الحقيقة ههنا أن يقول: هل يلزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح.

    وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك، لا بإقرار ولا بإنكار، وإنما كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري، ممكن صدق قائله، فقد قتل أنبياء كثيرة، وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك، وهو بمنزلة شيء مغيب في دار، فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد: ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء، ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح - صلى الله عليه وسلم - ولا بإنكاره، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه.

    فإن قالوا: قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول، قيل لهم وبالله التوفيق: الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه - عليه السلام - هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى، مفتر عليه، كافر به، فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقا أو كانوا كافة فما كان "يوحنا " و" متى " و" بولس " إلا كفارا كاذبين، وما كانوا قط من صالحي الحواريين.

    وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذبا فالكاذب لا يقوم بنقله حجة، فبطل التمويه المتقدم، والحمد لله رب العالمين.
    [ ص: 1689 ] فصل

    أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد، فطفق يرد على المسيحيين قولهم بتثليث الآلهة، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي، أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والإنجيل الموجودين، وأنهما لم يحرفا تحريفا جوهريا، واعتقد بصلب المسيح يقينا، وصار يناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة، أعني آية الصلب، زاعما أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبة الفعل لهم؛ توبيخا لتهكمهم وازدرائهم، ورد فعل الصلب إليه تعالى، وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتابا سماه "المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح".

    ولما كان مبحثه غريبا جدا أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته، وأعقبها بما فوق عليه من سهام ردود تهافته.

    قال في أول رسالته: إن التباس فهم آية الصلب هو غالبا في تقدير نائب الفاعل لفعل (شبه لهم) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدرا مأخوذا من الفعل السابق المذكور في الآية: وما قتلوه وما صلبوه وكان التقدير: شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه، والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين - انحلت المسألة تقريبا، وزالت كل صعوبة تأويل؛ حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلا، ولا صلب قهرا، أو مات جبرا، أو اضطرارا، بل هو من نفسه (على زعمه) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئا بقدرتهم ومجرد إرادتهم، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه.

    وأما إن قدر المسيح نائب الفاعل لـ(شبه) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي؛ لأنه لا وجه - لغويا - في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره، إذ لم يذكر صريحا ولا إشارة.

    ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى - ولا مرة - على ضلال [ ص: 1690 ] اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح، حال كونه نبههم مرارا على غير ضلالات عندهم.

    وذكر فيه أيضا: لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفي صلبه، وفيه أيضا: إن هذه الآية يصح تأويلها إيجابيا طبقا لما في الإنجيل، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك، التي نسبت صريحا لغير فاعلها الظاهر.

    وقال في الفصل العاشر: أما قولنا: إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة - فهو استناد على قوله: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال: 17]، وقوله: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم [الفتح: 10] فهنا الفاعل الظاهر حسا وفعلا إنما هو الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل.

    ثم قال: وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى، وأنه تعالى هو المبايع، فنقول: كذلك في آي الصلب وإخباره مرارا عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله.

    ثم قال: نقول أخيرا: إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماما وكمالا، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن، ولكل فحوى أسفار الميثاقين أو العهدين، [ ص: 1691 ] بكل بيان، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطا وضد الحقيقة والذوق اللغوي، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة، ولا سيما الإنجيل، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمدا مبلغ القرآن العظيم، الحاوي روح الصدق والحق، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف.

    ثم قال: إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين، ولا هو محرم قطعا الاختلاف في تفسير بعض آيات، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين، وليس ذلك محرما إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية.

    هذا خلاصة ما أورده في رسالته، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر، في تآليف بديعة، منها كتاب "السيوف البتارة" اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم، وأبعد من مظنة التشيع في شهادتهم على أنفسهم في أمر دينهم.

    قال رعاه الله: يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموما ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصا؛ فإنهم كانوا غالبا يرفضون حصول الصلب رفضا باتا؛ لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح ، ونقصا فاضحا، والبعض الآخر كان يجحده ارتكانا على الأدلة التاريخية، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة، منها: الساطرنيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربوكراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيو ن والبوليسيون؛ إذ كلهم اعتقدوا - مع كثيرين غيرهم - بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع أن المسيح سمر [ ص: 1692 ] فعلا، أو مات على الصليب حقيقة، حتى استخفوا بالصليب والصلب.

    وقال بعض المؤرخين الأفاضل: إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سببا في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين، ولكن هذه الطوائف المضطهدة المهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلا ونقلا، بخلاف أفكار مضطهديهم - فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى - عليه الصلاة والسلام – أنه لا يجوز أن يمتهن، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعا، وأن ألفاظ التوجع والتضجر - التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين - لم يتفوه بها ولا تصح نسبتها إليه.

    وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعا، وأنه - عليه الصلاة والسلام - لم تسلط عليه أيدي مضطهديه، بل رفع إلى السماء، ومن القائلين بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية وغير خاف - أنه حتى على فرض البنوة فقط - لا يمكن عقلا أن يتصور صلبه. انتهى.

    ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير ( الموسيو إدوار سيوس ) أحد أعضاء (الانستيتو دي فرنس) في باريس، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية) صحيفة (49): إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره، فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منهم الباسيليديون كانوا يعتقدون - بغاية السخافة - أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماما، وألقي شبه سيمون عليه، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين، ومنهم السيرنتيون فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين وقد صرح " إنجيل القديس برنابا" باسم الذي صلب بدل عيسى قال: إنه يهوذا. انتهى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #273
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1693 الى صـ 1700
    الحلقة (273)






    ولم يرد المؤرخ المترجم كلامه على هذا الإنجيل إلا بدعوى أنه كلام لا يعول [ ص: 1693 ] عليه، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جما غفيرا من طوائف النصارى - ذوات البال والأهمية - كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذا، وتفندها تفنيدا، وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجا؛ لإنكار القرآن ما أنكروه من الصلب وغيره.

    وبالجملة فإن أغلب الشعوب الشرقية - قبل الفتح الإسلامي -رفضت القتل والصلب، حتى قال ياسيليوس الباسليدي : إن نفس حادثة القيامة - المدعى بها بعد الصلب الموهوم - هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم، فهم أقرب الناس إلى العلم بحقيقتها، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم؛ لحصول الجوار وقرب المسافة، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب؟!

    وبذلك يتبين أن دعوى (صاحب جريدة شهادة الحق) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه - غير مسلمة، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب.

    وقد صرح القرآن بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود، والنصارى مع بعضهم بعضا، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرر أقوالهم، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم، فكان من مبادئهم - العاملين عليها في سياستهم العمومية - بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود؛ لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية، والضغط على شعائرهم الملية.

    يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير ( أرنست رنان ) العضو في (الأكاديمية الفرنساوية) المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893، معنونة بـ(اليهود تحت حكم الرومان) حيث قال:

    إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطي غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهريا، ويجعلون شعائرهم الملية شينا، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية، فكان من [ ص: 1694 ] ضغط الرومان، ومن تزلف اليهود إليهم، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب - أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي ، وكان الواحد منهم يخفي الاختتان بعملية شاقة جدا (ذكرها سلس المؤرخ الروماني الشهير) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيها وإعجابا بنفسه وبعوائد الرومان، وازدراء واحتقارا لبني جلدته وذوي ملته؛ فرحا بلقمة يلتقمها، أو مرتبة يتربع في دستها، وما زالت اليهود تترومن، حتى إن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية.

    وأخيرا آل الأمر - قبل وجود عيسى عليه السلام - إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه، بحيث إن القربانات كانت تعمل أمامه، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود، ووقع ذلك سيئ الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها. انتهى.

    وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود، فليس من المعقول أن الحكومة - وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود - تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية، خصوصا والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار، وهم يكرهونه أشد من ذلك، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى "حياة المسيح" حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غير التوراة، وكان ذلك - على زعمهم - ليستوجب قتله، حيث قال: إن حاكم فلسطين المسمى ( بونسيوس ) الملقب (بيلاطس) أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة.

    وبالإجمال كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم؛ لأنهم كانوا يجدونه قاسيا ذا أنفة وكبر، غير مكترث بهم، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا سحق أثر الشريعة الموسوية سحقا ومحوها محوا، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم [ ص: 1695 ] الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية، التي كانت نهاية فخر كل روماني في ذلك الحين، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية؛ لأنه كلما هم بجلب النافع العام، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية - قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم، فانشغب الأمر ودام الفشل.

    وأخيرا اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى - عليه الصلاة والسلام - حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه، وعيسى ضد اليهود، ويعيب التوراة كما يقولون، فكان ذلك عن رغبة الحاكم، وجل ما يتمنى، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله؟ مع أنه كان قادرا على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالا كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة فراقه ذلك، زيادة عن كراهته لليهود، فعمل على خلاصه من الصلب، كما يتضح من "إنجيل متى" 27 و 24 و"لوقا" 23 و 12و"يوحنا" 13 - 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة (كما هو مذكور في "إنجيل متى" 27 و 19): إياك وهذا البار؛ لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة.

    والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قصرها المطلة على أفنية هيكل سليمان - عليه السلام - فظهر لها بكماله الحقيقي، فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد أن بيلاطس كان محبا لعيسى - عليه السلام - حبا شديدا، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته. انتهى.

    [ ص: 1696 ] فيؤخذ من كلام (رنان) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ كان مضادا للصلب، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح - عليه السلام - وتبديله بآخر، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح، حتى إن ترتوليانوس أحد آباء الكنيسة النصرانية جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانيا في الباطن.

    وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلفه ( ملمن ): إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك أيضا إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين كـ(المسيوشارل بيكا) و(أرنست دي بونس) وغيرهما، فإن الأول قال: إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير؛ لتوافق اعتقادات قديمة، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم، وكانت اليهود تقدم أولادها قربانا للذبح؛ استجلابا لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه.

    ويقول: إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء بدل ذبح الآدمي قربانا بذبح الحيوان، وأطال المسيو (بيكار) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - مع هذه العوائد القديمة، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملا رمزا عن شيء عندهم اسمه (اللنجام) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما.

    وأما المسيو ( أرنست دي بونس الألماني ) فإنه قال في كتابه المسمى بـ"النصرانية الحقة" صحيفة 142 ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح - عليه الصلاة والسلام - لا من أصول النصرانية الأصلية.

    فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ - فضلا عن كونه لم يثبت مسألة الصلب [ ص: 1697 ] والقتل - يرجح نفي حصوله رجحانا لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى؛ لأنهم أبناء جلدتها، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية، فيؤخذ من كل ذلك:

    أولا: أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح - عليه الصلاة والسلام - وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها.

    ثانيا: وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم.

    وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيدا لا مزيد عليه، ومن ضمنها أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة، ومن المعلوم أن الحكم في ذلك الموضوع الرجم لا الصلب، فهذا مما يرتكن عليه مثل المسيو ( شارل بيكار ) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزا لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة، وهي مسألة الفدا. انتهى كلام صاحب السيوف البتارة.

    ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه، أعياه الرد من الطريقة التاريخية، فأخذ يرد عليها تشبثا بأسباب واهية، فعد كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول هرطوقيا، أي: مارقا من الدين، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية، وقال: إنه لا يمكنه أن يزيف شيئا منها ما دامت شاهدة - من أولها إلى آخرها - بحصول الصلب حقيقة، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق.

    فعاد صاحب "السيوف البتارة" وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه، تكملة للأول، فتوسع - جزاه الله خيرا - في هذا الموضوع ثم قال (في الكلام على الإنجيل) ما لفظه: أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير؛ إذ [ ص: 1698 ] لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة؟! ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل، مختلفة كل الاختلاف، متضاربة كل التضارب؟! ولا يدرى لماذا عدلوا عن "إنجيل برنابا" مثلا الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح : نبي، عبد، مخلوق، ليس بإله، وأنه لم يصلب، وفيه البشارة بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - مذكورا بلفظه (كذا) وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور: (وإني وإن كنت بريا، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي: إنه الله وابن الله - كره الله هذا القول، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزؤون، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس).

    وقد استشهد العلامة (سيل) الإنكليزي المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف بهذه الآية الإنجيلية، تفسيرا لقوله تعالى في سورة آل عمران: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [آل عمران: 54].

    وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة، حتى إن العالم الإنكليزي (تولاند) قال: وعلى النصرانية السلام بمجرد رؤيته هذا الإنجيل، ثم قال: قال العلامة ( هيردر ) وجماعة آخرون: إن الإنجيل الأصلي كان واحدا، إلا أنه لم يكتب، بل قاله المسيح مشافهة، ورواه الحواريون عنه للناس شفاهيا أيضا، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت، وكتب أخيرا منها أناجيل شتى، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية.

    [ ص: 1699 ] ثم قال مؤلف "السيوف البتارة": فوضح وضوحا تاما لذي بصيرة أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطا لا تقوم بعده أبدا، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم؛ لذهاب أصلها أدراج الرياح بثبوت التحريف والتغيير لها.

    ثم قال: وأما قوله (يعني المذبذب) بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة - فغريب؛ لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح، وهل الاقتصار في الرد من باحث على قوله (كفرة) يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح، وإذا جاز إطلاق (كفرة) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية - جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم، وتكون في ردك بكلمة (هراقطة - كفرة) أشبه بمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة (لا) فقط، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها.

    ثم قال: فقد برح الخفاء، وانكشف الغطاء، وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا، وذهبوا فيه كل مذهب، فلا تكاد تجد قولا لأحدهم في أي عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه، ولا اجتمع فيه رأيان، كان ذلك من باب التقليد والتسليم، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال: إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصور، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم (كما يقولون) وأساس معتقدهم، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى عليها ديننا في شيء، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين، كالإخبار عن [ ص: 1700 ] نوح وإبراهيم وموسى ، مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار - فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى - صلى الله عليه وسلم - صلب أو قتل، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحد منهم في كل عصر ومكان، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته، ولو حكمنا غير متدين في هذه المسألة، ونظر لأهميتها عند النصارى، مع عدم قدرتهم على إثباتها، ولفرعيتها عند المسلمين، مع إجماعهم على نفيها إجماعا لا مثيل له في العالم - لانبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر؛ ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين، من غير استناد على دليل نقلي صحيح، أو عقلي مسلم، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد، ناشدين الحقيقة، فانجلت لكثير منهم عن تدمير هذا البناء التقليدي، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم.

    ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء، وألوهية عيسى إلى غير ذلك - قد أبان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية، حيث قال: أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا، وقال في رسالته لأهل رومية: نحن نقوم بشبه موته، إلى أن قال: فدفنا معه بالمعمودية؛ لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بارتفاعه، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ... إلخ.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #274
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1701 الى صـ 1708
    الحلقة (274)




    فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب، كما جاء في إنجيل برنابا، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق، وأنت لاه عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال، وإنما أتينا بكلامه تنزلا معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية، فنقول: حتى على [ ص: 1701 ] فرض صحة ما روي عن بولس نفسه فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل، لا لحصولهما حقيقة.

    هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها: (الشرير فدية الصديق) لكان معناه - على مقتضى زعمك - أن عيسى شر بالإضافة لكل أحد، وهذا لا يجوز لا عقلا ولا شرعا، فوجب - أخذا من عبارة التوراة - أن يكون المصلوب شريرا فداء لصديق، هو عيسى - عليه الصلاة والسلام - كما جاء في إنجيل برنابا . انتهى ملخصا.

    ولن يعدم الحق أنصارا، والباطل خزيا وانكسارا.
    فصل

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - في كتابه "الفرقان" وهو من آخر مصنفاته، صنفه بقلعة دمشق، ما لفظه: (فإن قيل): فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم، وقال لهم: أنا المسيح، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته - فالشيطان ليس هو لحم وعظم، وهذا أثر المسامير، أو نحو هذا الكلام - فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله [المائدة: 47] وقال قبل هذا: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة: 46 - 47] وقال قبل هذا: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء [ ص: 1702 ] [المائدة: 43 - 44] وقال أيضا: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66] وقال أيضا: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين [المائدة: 68] وهذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لأهل الكتاب - الذين بعث إليهم - وهو من كان في وقتهم، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم.

    وكذلك قوله: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله [المائدة: 43] إخبار عن اليهود الموجودين، وأن عندهم التوراة فيها حكم الله، وكذلك قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه [المائدة: 47] هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل، ومن لا يؤمر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل قبل هذا: إنه قد قيل: ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدل، فإن التوراة انقطع تواترها، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله، ومنهم من قال: بل ذلك قليل، وقيل: لم يحرف أحد شيئا من حروف الكتب، وإنما حرفوا معانيها بالتأويل.

    وهذان القولان قال كلا منهما كثير من المسلمين، والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض [ ص: 1703 ] نسخا صحيحة، وبقيت إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسخا كثيرة محرفة، ومن قال: إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه.

    ومن قال: جميع النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، ويخبر أن فيهما حكمه، وليس في القرآن خبر أنهم غيروا جميع النسخ، وإذا كان كذلك فنقول: هو سبحانه قال: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه [المائدة: 47] وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح ، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى - عليه السلام - ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى ، بل هو مما كتبوه مع ذلك التعريف بحال توفيهما، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما، ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس.

    وكذلك: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم [المائدة: 68] وقوله: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66] فإن إقامة الكتاب العمل بما أمر الله به في الكتاب، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.

    وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك - ليس هو مما أنزله [ ص: 1704 ] الله على الرسول، ولا مما أمر به، ولا أخبر به، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة، يصنف الشخص كتابا، فيذكر ناسخه في آخره عمر المصنف ونسبه وسنه، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا (آمين) ولا غير ذلك.

    والمصاحف القديمة - والتي كتبها أهل العلم - على هذه الصفة، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء، وكتب في آخر المصحف تصديقه، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك، وليس هذا من القرآن، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين - ليس هو مما قاله المسيح ، وإنما هو مما رآه من بعده، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله.

    فإن قيل: فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين، فقد دخلت الشبهة.

    قيل: الحواريون - وكل من نقل عن الأنبياء - إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء، فإن الحجة في كلام الأنبياء، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة، إن كان حقا قبل وإلا رد، ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والحديث يجب قبوله، لا سيما المتواتر، كالقرآن وكثير من السنن.

    وأما ما قالوه: فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم، وما تنازعوا فيه رد إلى الله والرسول، وعمر قد كان أولا أنكر موت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رد ذلك عليه أبو بكر ، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه، وتنازعوا في [ ص: 1705 ] تجهيز جيش أسامة، وتنازعوا في قتال مانعي الزكاة، فلم يكن هذا قادحا فيما نقلوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح ، ولم يشهد أحد منهم صلبه، فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرا، وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح، وقد قيل: إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح ، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس، والأول هو المشهور، وعليه جمهور الناس، وحينئذ [ ص: 1706 ] فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب، ولكن عمدتهم على ذلك الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال: أنا المسيح ، وذاك شيطان، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرا ما تجيء ويدعي (كذا) إنه نبي أو صالح، ويقول: أنا فلان النبي والصالح، ويكون شيطانا، وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاء وقال: أنا المسيح جئت لأهديك، فعرف أنه الشيطان، فقال: أنت قد بلغت الرسالة، ونحن نعمل بها، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك.

    فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب، كما قال تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء: 157] وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [النساء: 157] فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح.

    ومن جوز قتله فهو كمن قتله، فهم في هذا القول كاذبون، وهم آثمون، وإذا قالوه فخرا لم يحصل لهم الفخر؛ لأنهم لم يقتلوه، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا رسول الله! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه .

    [ ص: 1707 ] وقوله: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه قيل: هم اليهود والنصارى والآية تعم الطائفتين.

    وقوله: لفي شك منه من قتله، وقيل: منه، أي: في شك منه، هل صلب أم لا؟ كما اختلفوا فيه، فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: إنه إله، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم، فإذا كان هذا في الصلب، فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال: إنه هو المسيح؟

    فإن قيل: كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا [آل عمران: 55] وقوله: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [الصف: 14]؟ قيل: ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلا له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرا من الأنبياء. قال تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [آل عمران: 146] [ ص: 1708 ] الآية. وقال تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران: 143] وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في اليقظة؛ فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعا للسنة وأتباعا لها، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله، فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظن من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #275
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1709 الى صـ 1714
    الحلقة (275)




    وعمر لما كان يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه - لم يكن [ ص: 1709 ] هذا قادحا في إيمانه، وإنما كان غلطا ورجع عنه. وقوله تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم. انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه.

    ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله قصيدة في هذا المقام، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام، قال -قدس سره -:


    جاء المسيح من الإله رسولا فأبى أقل العالمين عقولا قوم رأوا بشرا كريما فادعوا
    من جهلهم لله فيه حلولا وعصابة ما صدقته وأكثرت
    بالإفك والبهتان فيه القيلا لم يأت فيه مفرط ومفرط
    بالحق تجريحا ولا تعديلا فكأنما جاء المسيح إليهم
    ليكذبوا التوراة والإنجيلا فاعجب لأمته التي قد صيرت
    تنزيهها لإلهها التنكيلا وإذا أراد الله فتنة معشر
    وأضلهم رأوا القبيح جميلا هم بجلوه بباطل فابتزه
    أعداؤه بالباطل التبجيلا وتقطعوا أمر العقائد بينهم
    زمرا ألم تر عقدها محلولا هو آدم في الفضل إلا أنه
    لمن يعط حال النفخة التكميلا أسمعتموا أن الإله لحاجة
    يتناول المشروب والمأكولا؟ وينام من تعب ويدعو ربه
    ويروم من حر الهجير مقيلا ويمسه الألم الذي لم يستطع
    صرفا له عنه ولا تحويلا [ ص: 1710 ] يا ليت شعري حين مات بزعمهم
    من كان بالتدبير عنه كفيلا؟ هل كان هذا الكون دبر نفسه
    من بعده أم آثر التعطيلا؟ زعموا الإله فدى العبيد بنفسه
    وأراه كان القاتل المقتولا اجزوا اليهود بصلبه خيرا ولا
    تجزوا (يهوذا) الآخذ البرطيلا أيكون قوم في الجحيم ويصطفي
    منهم كليما ربنا وخليلا وإذا فرضتم أن عيسى ربكم
    أفلم يكن لفدائكم مبذولا؟ وأجل روحا قامت الموتى به
    عن أن يرى بيد اليهود قتيلا فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم
    من كتبكم ما وافق التنزيلا شهد الزبور بحفظه ونجاته
    أفتجعلون دليله مدخولا؟ أيكون من حفظ الإله مضيعا
    أو من أشيد بنصره مخذولا؟ أيجوز قول منزه لإلهه:
    سبحان قاتل نفسه مقتولا؟ أو جل من جعل اليهود بزعمكم
    شوك القتاد لرأسه إكليلا ومضى لحبل صليبه مستسلما
    للموت مكتوف اليدين ذليلا كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا
    أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا ضل النصارى في المسيح وأقسموا
    لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا


    وهي سابغة الذيل، كلها من هذا النفس البديع.
    واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم، وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى - عليه السلام - وبين أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب - بين تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة من القطع بكذبهم، مثبتا أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره، الذي منه التصديق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له بقوله:

    [ ص: 1711 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [159]

    وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي: ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان إلا ليؤمنن به قبل موته، أي: موت عيسى - عليه السلام - أي: لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل. إشارة إلى أن موسى - عليه السلام - إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زمانا طويلا - فالنبي الذي ينسخ شريعة موسى - وهو عيسى عليهما السلام - هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته، وتمهيد أمره، والذود عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة، وأتباع مستكثرة. أمر قضاه الله تعالى في الأزل، فاقصروا أيها اليهود.

    فمعنى الآية إذن - والله أعلم -: إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى - عليه السلام - على شك إلا وهو يوقن بعيسى - عليه السلام - قبل موته، بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة، أفاده البقاعي .

    روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا

    [ ص: 1712 ] وأخرجه مسلم أيضا، وابن مردويه، وزاد بعد قوله (قبل موته): موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

    ورواه الإمام أحمد، عن حنظلة، عن أبي هريرة أيضا مرفوعا ولفظه: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطى المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما .

    قال: وتلا أبو هريرة: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى ، فلا أدري هذا كله حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أو شيء قاله أبو هريرة .

    ورواه أحمد أيضا، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة وفيه: ويهلك الله في زمانه الملل كلها [ ص: 1713 ] غير الإسلام، ويمكث أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون .

    وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم : فينزل عند المنارة شرقي دمشق .

    وقد ذكر الحافظ ابن كثير هنا الأحاديث المتواترة في نزوله - عليه السلام - من رواية أبي هريرة، وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد - رضي الله عنهم - وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام، بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح.

    قال ابن كثير : وقد بنيت في هذه الأعصار - في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة - منارة للجامع الأموي، بيضاء من حجارة منحوتة، عوضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وهذا إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم – بذلك. انتهى.

    قلت: وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى.

    وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" عن بعض السلف أن عيسى - عليه السلام - بعد نزوله يدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، فالله أعلم.

    والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير ، عن سعيد بن جبير والعوفي، كلاهما عن ابن عباس .

    [ ص: 1714 ] وروى ابن أبي حاتم بسنده، عن الضحاك ، عن ابن عباس في الآية قال: يعني اليهود خاصة، وبه إلى الحسن : يعني النجاشي وأصحابه.

    وبه إليه قال: إن الله رفع إليه عيسى ، وهو باعثه - قبل يوم القيامة - مقاما يؤمن به البر والفاجر.

    وكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد.

    قال ابن كثير : وهذا القول هو الحق.

    وروي عن ابن عباس أيضا، ومحمد ابن الحنفية، ومجاهد ، وعكرمة، ومحمد بن سيرين، والضحاك، وجويبر أن المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة، حين لا ينفعه الإيمان، ذهابا إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل؛ لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.

    قال عكرمة: قال ابن عباس : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل بالسلاح.

    قال الزمخشري : فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم - بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم. انتهى.

    قال الأصبهاني: ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أبي بن كعب - رضي الله عنه -: (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجمع.

    والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلها صحيحة، كما قاله ابن كثير .

    وثمة وجه آخر: وهو أن الضمير الأول للنبي - صلى الله عليه وسلم- والثاني: للكتابي. رواه ابن جرير ، عن عكرمة قال: لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1715 ] وتلا الآية.

    قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب - بعد نزول عيسى عليه السلام - إلا آمن به قبل موته، أي: قبل موت عيسى عليه السلام.

    قال ابن كثير : ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك. فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه، وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف).

    فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.

    ثم قال: فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد - عليهما السلام - فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [النساء: 18]، وقال تعالى: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده الآية.

    ويوم القيامة يكون أي: عيسى عليه السلام: عليهم أي: على أهل الكتاب: شهيدا أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، [ ص: 1716 ] وبعد نزوله إلى الأرض.

    قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بعبوديته لله عز وجل، وهذا كقوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إلى قوله: العزيز الحكيم [المائدة: 116].
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا [160]

    فبظلم أي: بسبب ظلم عظيم، فالتنوين للتفخيم، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه بعد أن حرمته التوراة.

    من الذين هادوا أي: تلبسوا باليهودية، وفيه تعظيم ظلمهم أيضا؛ إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق.

    حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم قال ابن كثير : هذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم تضييقا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيا، بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة [آل عمران: 93].



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #276
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1717 الى صـ 1724
    الحلقة (276)





    أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: [ ص: 1717 ] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [الأنعام: 146] أي: إنما حرمنا عليهم ذلك لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.

    ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى: وبصدهم عن سبيل الله أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم كثيرا أي: ناسا كثيرا، أو صدا كثيرا، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكفروا بعيسى ومحمد ، صلى الله عليهما وسلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما [161]

    وأخذهم الربا وقد نهوا عنه أي: في التوراة وأكلهم أموال الناس بالباطل بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة.

    وأعتدنا للكافرين منهم أي: من اليهود المصرين على الكفر، لا لمن تاب وآمن من بينهم عذابا أليما وجيعا يخلص إلى قلوبهم.
    [ ص: 1718 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما [162]

    لكن الراسخون في العلم منهم أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه، كعبد الله بن سلام.

    قال الرازي : الراسخون في العلم: الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون؛ لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة، فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنون بما أنـزل إليك من القرآن وما أنـزل من قبلك على سائر الأنبياء؛ لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك، وأنه صدق ما أنزل من قبلك، فلا بد من الإيمان به أيضا والمقيمين الصلاة قال ابن كثير : هكذا هو في مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أبي بن كعب .

    قال الزمخشري : ارتفاع (الراسخون) على الابتداء، و يؤمنون خبره و والمقيمين نصب على المدح؛ لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم.

    [ ص: 1719 ] وقيل: هو عطف على: بما أنـزل إليك أي: يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء.

    وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي .

    وجوز عطف (المقيمين) على الضمير في (منهم) وعطفه على الضمير في و(إليك) والكتاب أنزل للنبي ولأتباعه، قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم [يونس: 57] كذا في حواشي الشذور.

    وقد أشار الزمخشري بقوله: (كانوا أبعد همة) إلى رد ما نقل أن عثمان - رضي الله عنه - لما فرغ من المصحف أتي به إليه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا.

    قال الحافظ السخاوي: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع؛ لأن عثمان - رضي الله عنه - جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟! وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟!

    [ ص: 1720 ] وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:


    منطق رائع وتلحن أحيا نا وخير الكلام ما كان لحنا


    [ ص: 1721 ] أي: المراد به الرمز، بحذف بعض الحروف خطا، كألف (الصابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، كذا في "عناية الراضي".

    والمؤتون الزكاة رفعه بالعطف على: الراسخون أو على الضمير في: " يؤمنون " أو على أنه مبتدأ، والخبر: أولئك سنؤتيهم والوجوه المذكورة تجري في " المقيمين " على قراءة الرفع. والمؤمنون بالله واليوم الآخر يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع؛ لأنه المقصود في هذا المقام، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه، فبين لهم ما يلزمهم ويجب عليهم.

    أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما يعني الجنة؛ لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.

    لطيفة:

    في الآية وجوه من الإعراب، أحسنها ما اعتمده أبو السعود ، من أن جملة: أولئك سنؤتيهم إلخ ... خبر للمبتدأ الذي هو: الراسخون وما عطف عليه، وأن جملة: يؤمنون بما أنـزل إلخ ... حال من " المؤمنون " مبينة لكيفية إيمانهم، أو اعتراض مؤكد لما قبله.

    قال: وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك؛ حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم، كأنه قيل إثر قوله تعالى: وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما.

    وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى: يؤمنون بما أنـزل إلخ .. خبرا للمبتدأ، ففي كمال السداد، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.
    [ ص: 1722 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا [163]

    إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشادا، ولكن للتعنت واللجاج، وبين أنواعا من فضائحهم - أشار إلى رد شبهتهم، فاحتج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل، وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى ، وإذا لم يكن هذا من شرط النبوة - وضح أن سؤالهم محض تعنت.
    تنبيه:

    قيل: بدأ بنوح ؛ لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام، والحلال والحرام، وفي "العناية" بدأ به تهديدا لهم؛ لأنه أول نبي عوقب قومه، لا أنه أول مشرع كما توهم.

    وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا - صلى الله عليه وسلم - لا أنه غير موحى إليه أصلا كما قيل. انتهى.

    وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم أولاد يعقوب عليهم السلام.

    وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا
    [ ص: 1723 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [164]

    ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل أي: في السور المكية.

    ورسلا لم نقصصهم عليك أي: لم نسمهم لك في القرآن، وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين.

    روي في عدتهم أحاديث تكلم في أسانيدها، منها:

    حديث أبي ذر : إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر صححه ابن حبان، وخالفه ابن الجوزي فذكره في "موضوعاته" واتهم به إبراهيم بن هاشم ، وقد تكلم فيه غير واحد.

    وكلم الله موسى تكليما يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد (كلم) بالمصدر يدل على تحقيق الكلام، وأن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله بلا شك، لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر، فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة، وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محل، فسمع موسى ذلك الكلام.

    قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل، لكن لا تحققه بالمصدر، وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، فدل قوله تعالى: (تكليما) على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة.

    قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى - عليه السلام - بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء - فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء، كذا في "اللباب".
    تنبيه:

    يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام ؛ فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال، وكثرت بسببها الأهوال، وأثارت فتنا، وجلبت محنا، وكم سجنت إماما، وبكت [ ص: 1724 ] أقواما، وتشعبت فيها المذاهب، واختلفت فيها المشارب، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة، المقتفين لأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم.

    فنقول: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - عليه رحمة الرحيم السلام - في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه:

    فصل

    ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف.

    روي عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار - وكان من التابعين الأعيان - قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك: القرآن الذي أنزله الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره - وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم - فإن الكلام لمن قاله مبتدئا، لا لمن قاله مبلغا مؤديا، قال الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [البروج: 21 - 22] وقال تعالى: يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة [البينة: 2 - 3] وقال: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون [الواقعة: 77 - 78].



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #277
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1725 الى صـ 1732
    الحلقة (277)





    والقرآن: كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه. كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 1725 ] من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات .

    وقال أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

    ثم قال رحمه الله: والتصديق بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم - عليه السلام - بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة.

    وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق؛ حيث تلي، وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن: إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال: غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد، ولم يقل أحد قط من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على على من قال: ( لفظ العبد بالقرآن مخلوق).

    وأما من قال: إن المداد قديم - فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [الكهف: 109] فأخبر أن المداد يكتب به كلماته.

    وكذلك من قال: (ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما بين الدفتين، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء.

    وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة - مبتدع ضال، كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت - فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم - فهو ضال، كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله.

    وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله - فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة.

    وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة، نفيا وإثباتا، وإنما حدثت [ ص: 1726 ] هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل.

    فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم - فهو ضال جاهل.

    ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن - فهو ضال مبتدع.

    بل الواجب أن يقال: هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها، كما دخلت معانيه، ويقال: وما بين اللوحين جميعه كلام الله، فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله، فإن كان غير منقوط ولا مشكول - كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة - كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.

    وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟

    فأجاب - رضي الله عنه -: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس، ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبرئيل سمعه من الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: قل نـزله روح القدس من ربك بالحق [النحل: 102] وقال: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق [الأنعام: 114] - فقد أصاب في ذلك.

    [ ص: 1727 ] فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.

    ومن قال: إن القرآن العربي لم يتكلم الله به، وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره، عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما - فهو قول باطل من وجوه كثيرة.

    فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وإنه لا يتعدد ولا يتبعض، وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وبالعبرانية كان توراة، وبالسريانية كان إنجيلا، فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين، و: قل هو الله أحد [الإخلاص: 1] و: تبت يدا أبي لهب [المسد: 1] والتوراة والإنجيل وغيرهما - معنى واحدا، وهذا قول فاسد بالعقل والشرع، وهو قول أحدثه ابن كلاب ، لم يسبقه إليه غيره من السلف.

    وإن أراد قائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي - أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: زينوا القرآن بأصواتكم فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري، كما قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6].

    فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون [ ص: 1728 ] كلام الله لا كلام غيره، كما ذكر الله ذلك.

    وفي السنن عن جابر بن عبد الله قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي .

    قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم: الم غلبت الروم هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى.

    والناس إذا بلغوا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: إنما الأعمال بالنيات - يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، إذا بلغته الرسل عنه، وقرأه الناس بأصواتهم، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه، ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب، ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

    وقد نص أئمة الإسلام - أحمد ومن قبله من الأئمة - على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت، ليس منه شيء كلاما لغيره، لا جبرئيل ولا غيره، وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ، والكلام كلام الباري.

    وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز [ ص: 1729 ] بين صوت العبد وصوت الرب، بل يجعل هذا هو هذا، فينفيهما جميعا، ويثبتهما جميعا، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا، لا فرق بين القديم والحادث، وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل؛ حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق، وإذا أثبت جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما، مع قوله: إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد، ويتحد بصفته، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل.

    وقد علم أن نفي الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته - خطأ وضلال، لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديما، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين، مقروء بألسنتهم، محفوظ بقلوبهم، وهو كلام الله، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط؛ لأنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها.

    فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز، ولم يكره في أظهر قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن، كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط - ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المنقوطة، والشكل والنقط لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف [ ص: 1730 ] المرسومة، فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله: معانيه وحروفه وإعرابه.

    والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله، وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه، سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل، غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين؛ لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل - إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا - كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين.

    ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه، فجميعه كلام الله.

    فلا يقال: بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله، وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى ، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن، كما قال تعالى: هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى [النازعات: 15 - 16] والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [النساء: 163 - 164] فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى، فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتا بل ألهم معناه - لم يفرق بين موسى وغيره، وقد قال تعالى: [ ص: 1731 ] تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [البقرة: 253] وقال تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [الشورى: 51] فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب، كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالا.

    وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره: لم يزل الله متكلما إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى: فلما أتاها نودي يا موسى [طه: 11] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى: فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [الأعراف: 22] فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة، ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [الأعراف: 11] بعد أن خلق آدم وصوره، ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران: 59] فأخبر أنه قال له: كن فيكون [آل عمران: 59] [ ص: 1732 ] بعد أن خلقه من تراب.

    ومثل هذا الخبر في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة: 158] قال: نبدأ بما بدأ الله به فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.

    والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين.

    ثم قالت طائفة: هو معنى واحد، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول مخالف للشرع والعقل.

    وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله، لم تزل لازمة لذاته، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا، أزلا وأبدا، لم تزل ولا تزال، لم يسبق منها شيء شيئا، وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل.

    وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى ، وإنما تجدد استماع موسى ، لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى، ولكن تلك الساعة سمع النداء، وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا: هذه حوادث، والرب لا تقوم به الحوادث، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #278
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1733 الى صـ 1740
    الحلقة (278)




    [ ص: 1733 ] واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به، ولا فعل يفعله، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا، بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرا، لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعا، وإن الفعل صار ممكنا له، بعد أن صار ممتنعا عليه، من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين؛ حيث يثبتونه قادرا في حال كون المقدور عليه ممتنعا عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل، وبين عينيه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا، بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول.

    فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث، بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة، فكيف بالفاعل بالإرادة؟! وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، بل قد يقارنه، كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلا - سواء سمي علة أو لم يسم - فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين.

    ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل، ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث، وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلما [ ص: 1734 ] إذا شاء، فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته - فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود، لا نقص فيه، منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل، منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقا، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة، لا يستفيده من غيره، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء، وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها.

    وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم - اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا؛ بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعا عليه، وكان معطلا عن ذلك، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على الفعل فيما لا يزال، مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين؛ حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته. إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا، والأزل لا أول له، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين، ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام، بل هذا يكون دائما، وإن كان كل من آحاده حادثا كما يكون دائما في المستقبل، وإن كان كل من آحاده فانيا بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل، ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك، لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة، كابن سينا [ ص: 1735 ] وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء، مع مخالفتهم لسلفهم، أرسطو وأتباعه، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك، وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين؛ بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك، بتحرك الفلك للنسبة بها، لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا، ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره.

    وهم - وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم - فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم، فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه.

    وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له، لكن قالوا: تقوم به الأمور الاختيارية، فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلما، بل ولا كان الكلام مقدورا له، ثم صار متكلما بلا حدوث حادث، بكلام يقوم به، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.

    وطائفة قالت: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين، لازما لذات الرب، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، ولن يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات، ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [التوبة: 105] ونحو ذلك: أنه لا يراها إذا وجدت، بل إما أنه لم يزل رائيا لها، وإما أنه لم يتجدد شيء موجود، بل تعلق معدوم.

    إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة، مع مخالفة صريح العقل، والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم: في أنه سبحانه [ ص: 1736 ] لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء، ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية والاقترانية.

    وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة الذين يقولون: إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته، لا قديم النوع ولا قديم العين، ولا حادث ولا مخلوق، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون: إنه كلم موسى من سماء عقله.

    وقد يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون - مع ذلك -: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله، وقولهم: (يعلم نفسه ومفعولاته) حق، كما قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14] لكن قولهم مع ذلك: (إنه لا يعلم الأعيان المعينة) جهل وتناقض، فإن نفسه المقدسة معينة، والأفلاك معينة، وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

    وهم إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى، إن هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن الباري؛ لاعتقادهم أنه لا صفة له، بل هو وجود مطلق، وقالوا: إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف.

    ومنهم من يقول: بل العلم كل المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب "شرح الإشارات" فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب، لكنه تناقض مع ذلك؛ حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى، ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول: معاني الكلام شيء واحد.

    لكنهم [ ص: 1737 ] ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة على الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه، ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف.

    فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوي ونحوهم فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف - جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق.

    فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا: الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع، وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم - قالوا أولا: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إني أنا الله رب العالمين كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل، يقارن بعضها بعضا، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء.

    وقال بعضهم: بل المسموع صوتان: قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي.

    وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم، ولا يفهمون معناه، بل منهم من يظن أنه قديم في علمه، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم من لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات. ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.

    والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه [ ص: 1738 ] سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال - باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات – باطلة.

    وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد بسطناها في "الواجب الكبير" والله أعلم بالصواب.

    (وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث): أول من أظهر إنكار التكليم والمخالة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، وأمر علماء الإسلام كالحسن البصري وغيره بقتله، فضحى به خالد بن عبد الله القسري ، أمير العراق بواسط، فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه.

    وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام، وقال: كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر، ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل - من المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم - في بعض مقالة الصابئة والمشركين، متابعة للجعد والجهم.

    وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين: منهم من يقول: إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن، كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى. ومنهم من ابتدع فقال: بل هي قديمة أزلية، لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد؛ لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى [ ص: 1739 ] يجمعهم، والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور، التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى.

    وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء والحيوان والمعدن والنبات، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله، وعلم ما فوق السماوات، أول الأمر وآخره، وهذا غلط بين، اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين، وأنهم إن يتبعون إلا الظن.

    فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله من أهل الكلام والجدل - صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا فارس والروم؟

    فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة، وهو الكلام في الأجسام والأعراض، بأن تثبت الأعراض، ثم يثبت لزومها للأجسام، ثم حدوثها، ثم يقال: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم. فلما رأوا أن الأعراض التي هي الصفات تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض - التزموا نفيها عن الله؛ لأن ثبوتها مستلزم حدوثه، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه، بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به - [ ص: 1740 ] معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم، وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبي؛ لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقا وأتبع للأدلة العقلية والسمعية؛ لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل، لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها، فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم.

    كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات، ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما، والجسم حادث؛ لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره؛ لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره، ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره، ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم، والقرآن مملوء من إثبات ذلك - صاروا تارة يقولون: متكلم مجازا لا حقيقة، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود، ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا: بل هو متكلم حقيقة.

    وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع، وليس عندهم كذلك، بل حقيقة قولهم وأصله عند من عرفه وابتدعه: إن الله ليس بمتكلم، وقالوا: المتكلم من فعل الكلام، ولو في محل منفصل عنه، ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم، لا حقيقة ولا مجازا، وهذا قول من يقول: القرآن مخلوق. وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم، وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل فليس هو في الكفر مثل القول الأول، لأن هؤلاء لا يقولون: إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه، وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #279
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1741 الى صـ 1748
    الحلقة (279)





    ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة وبين المؤمنين أتباع الرسل - الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم، واختلفوا في كتاب الله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن، وأنه [ ص: 1741 ] كلم موسى تكليما، وأنه يتكلم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من إخبارهم برسالة الله وكلامه. وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى.

    حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وكان قد كثر ظهور هؤلاء الذين هم فروع المشركين، ومن اتبعهم من مبدلة الصابئين، ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين، الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند ، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم.

    وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين، كما يقال: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء - ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ويبتدعوا، وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه.
    فصل

    فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضا وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضا؛ لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم، وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام، وهؤلاء - أهل الكلام القياسي من الصفاتية - فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها، كالصفات [ ص: 1742 ] السبع، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية؟

    ولهم اختلاف في البقاء والقدم، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات، ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية؟ كالوجه واليد، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها، وكثير من متأخريهم لا يثبتها، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها.

    ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده، ومنهم من يفوض معناها، وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات، وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة تركيب، وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة، لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية وأقرب إلى مذاهب أهل السنة من المعتزلة ونحوهم من وجوه كثيرة، ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه:

    أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم.

    الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه.

    الثالث: ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم.

    الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يرون ما يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور.

    فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا: إن القرآن غير مخلوق لما دل على ذلك من النصوص وإجماع [ ص: 1743 ] السلف.

    ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية وبين القياس العقلي لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائما بنفس الله تعالى كسائر الصفات، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديما كسائر الصفات، ورأوا أنه ليس إلا مخلوقا أو قديما - فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ويبطل لدلالة حدوث العالم، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة، بل إما معنى واحدا عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه، فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة، وإما مجازا في كلام الله حقيقة في غيره عند طائفة.

    وخالفهم الأولون وبعض من يستن أيضا، وقالوا: لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها، فصار النزاع بين الطائفتين، وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية، ليست أنواعا له وأقساما، وأن كلام الله معنى واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وبالعبرية فهو توراة، وبالسريانية فهو إنجيل.

    وقال لهم أكثر الناس: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما قال الأولون: إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذات غير ذاته. وقال لهم أكثر الناس: إن هذا معلوم الفساد بالضرورة.

    وقال الجمهور من جميع الطوائف: إن الكلام اسم لللفظ والمعنى جميعا، كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعا، وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة، وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة كتنوع ألفاظه، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق، والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة، وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقا.

    وفرقوا بين كتاب الله وكلامه، فقالوا: كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق، وكلام الله [ ص: 1744 ] هو معناها غير مخلوق، وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون: إنه مخلوق، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل، أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد؟!

    وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل، وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم، وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين، وهو أن القرآن كله كلام الله، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله.

    والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن، حروفه ومعانيه، والأمر والنهي هو اللفظ والمعنى جميعا، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف - الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء، إذا تكلموا في الأمر والنهي - ذكروا ذلك، وخالفوا من قال: إن الأمر هو المعنى المجرد.

    ويعلمون أهل الأثارة النبوية، أهل السنة والحديث، وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة أن قوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة: 1 - 2] ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره، وكلام الله هو ما تكلم به، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به.

    (وسئل تقي الدين أيضا): ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - فيمن يقول: الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى، بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد، أثابكم الله بمنه.

    (فأجاب رحمه الله): الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه - فهذا خطأ وضلال، وهو من يقول: إن القرآن مخلوق، فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم.

    ثم يقولون: وما كان [ ص: 1745 ] غير الله فهو مخلوق، وهذا تلبيس منهم، فإن لفظ (الغير) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره ولا كلامه غيره، ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك.

    وقد يقال بلفظ (الغير) ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف، ولكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته – مخلوقا؛ لأن صفاته ليست هي الذات، لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها، والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس مبائنا منه، بل أسمعه لجبرئيل ونزله به على محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره. بل يقال - كما قال السلف -: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود.

    فقولهم (منه بدا) رد على من قال (إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ) فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدا، لا من بعض المخلوقات.

    (وإليه يعود) أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف.

    وأما القرآن فهو كلام الله، فمن قال: إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله - فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال: إن الكلام غير المتكلم.

    وكذلك من قال: إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به - فخطؤه ظاهر.

    وكذلك: إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون - فقد أخطأ، وإن أراد بالقرآن مصدر (قرأ يقرأ قراءة وقرآنا) وقال: أردت القراءة غير المقروء، فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر، قال: القارئ غير المقروء، كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول، وأراد بـ(الغير) أنه ليس هو إياه - فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف [ ص: 1746 ] والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة، وقسيما منه أخرى.

    فالأول كما يقال: الإيمان قول وعمل. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم- : إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست - أو حدثت - به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم .

    ومنه قوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]. ومنه قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل [يونس: 61]. وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل.

    وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [الحجر: 92 - 93] وقد فسروه بقوله: لا إله إلا الله.

    ولما سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله [ ص: 1747 ] مع قوله: الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان، أفضلها وأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ونظائر ذلك متعددة.

    وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة، هل يحنث ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ بناء على هذا، فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    انتهى كلام تقي الدين رحمه الله تعالى.

    وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية": سألت أبي عن قوم يقولون (لما كلم الله موسى ): لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى، تكلم - جل ثناؤه – بصوت. هذه الأحاديث نرويها كما جاءت.

    وقال أبي: حديث ابن مسعود : إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت [ ص: 1748 ] كمر السلسلة على الصفوان.

    قال: وهذه الجهمية تنكره، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. ثم قال: حدثنا المحاربي ، عن الأعمش، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبيد الله قال: إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا.

    وقال السفاريني في "شرح العقيدة": روي في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثا، وأخرج الإمام أحمد غالبها، واحتج به.

    وأخرج الحافظ ابن حجر أيضا في "شرح البخاري " واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث، على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت، وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله، من شبهات الحدوث وسمات النقص، كما قالوا في سائر الصفات، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة، المعصوم في أقواله، الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم.

    وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين الشافعي في "عقيدته": إنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد. وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك، من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء، وتأول [ ص: 1749 ] النزول بنزول الأمر، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم، وأمثال ذلك.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #280
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,359

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1749 الى صـ 1756
    الحلقة (280)




    ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله معنى قائما بالذات، بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.

    وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة، مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين؛ لأني على مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام؛ لعلمهم وفضلهم، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر، وعدم انشراحه مقرونا بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول؛ مخافة الحصر والتشبيه.

    ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها، مخبرا عن ربه، واصفا له بها، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون.

    ثم قال: والذين أولوا ما أولوا هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الحق به نفسه، ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له - كما يليق بجلاله وعظمته، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين - لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل.

    ثم قال: ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق؛ فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه، فقال تعالى: المص [الأعراف: 1] وقال: ق والقرآن المجيد [ق: 1]، وكذلك [ ص: 1750 ] جاء في الحديث: فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب.

    وفي الحديث: لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف .

    فهؤلاء ما فهموا [ ص: 1751 ] من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين، قالوا: إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات، وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة، فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات.

    والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر، والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات، وكذلك له صوت يليق به يسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والخنجرة، فكلام الله كما يليق به، وصوته كما يليق به، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه؛ لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له، ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله: هذا عبارة عن ذلك.

    فإن قيل: هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو؟ قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا.

    ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه، ولهذا منع السلف من قول: (لفظي بالقرآن مخلوق) لأنه لا يتميز، كما منعوا عن قول: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه؛ كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن. وما أمر السلف بالسكوت عنه يجب السكوت عنه، والله الموفق والمعين.
    تنبيه:

    قال في "العناية": القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة، وقرئ بنصبها في الشواذ. انتهى.

    قال الحافظ ابن كثير : روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش ، فقال: سمعت رجلا يقرأ: (وكلم الله موسى تكليما) فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر. قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثاب على [ ص: 1752 ] أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلم الله موسى تكليما

    وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش - رحمه الله - على من قرأ كذلك؛ لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى - عليه السلام - أو يكلم أحدا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: (وكلم الله موسى تكليما) فقال له: يا ابن الخنا! كيف تصنع بقوله تعالى: ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [الأعراف: 143] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما [165]

    رسلا أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلا مبشرين بالجنة لمن آمن ومنذرين من النار لمن كفر لئلا لكيلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك؛ لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها، كما في قوله عز وجل: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك [طه: 134] الآية.

    وإنما سميت حجة [ ص: 1753 ] مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء - للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى - بمقتضى كرمه ورحمته لعباده - بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها، ولذلك قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] أفاده أبو السعود .

    وفي الصحيحين عن المغيرة: لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين .

    وقوله تعالى: بعد الرسل أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب [ ص: 1754 ] متعلق بـ(حجة) أو بمحذوف وقع صفة لها، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى لا تثبت إلا بالسمع.

    وكان الله عزيزا يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله: حكيما في بعث الرسل للإنذار.
    تنبيه:

    أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل ، وإلى وظيفتهم - عليهم السلام - قال العلامة السيد محمد عبده، مفتي مصر في "رسالة التوحيد" في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها - بمحض فضله - بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها، ثم يتلقون من أمره عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك [ ص: 1755 ] الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.

    لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه - يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره - أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.

    يقول قائل: ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم؟ ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل؟ وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانا آخر كالنحل والنمل، أو ملكا من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض.

    ثم قال: إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل - مثلا - من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه - مع ذلك الشعور - عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، [ ص: 1756 ] والخطر على وجوده، أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم، هو كذلك، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه.

    الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامى من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمر ما، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه، ذلك لسر عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين.

    من ذلك الضعف قيد إلى هواه، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته، أكمل الواهب الجواد لجملته ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه، بما يميزه عن غيره أن ينقص من أفراده، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس؛ لينظر في طلب اللقمة، وستر العورة، والتوقي من الحر والبرد - جاد على الجملة بما هو أمس بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء، وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع، من عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها، لم يخالف سنته فيه، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •