المبحث الثاني·
الفحص الطبي قبل الزواج·
المطلب الأول·
تعريف الفحص الطبي قبل الزواج·
عرف علماء الطب هذا المصطلح تعريفات عدة, متقاربة في المعنى والمبنى, ومن هذه التعريفات:·
التعريف الأول: ” إسداء النصيحة، و إعطاء المعلومة الصحيحة، وتقديم الاحتمال بإنجاب طفل مصاب بمرض وراثي له عواقب وخيمة على حياة هذا الطفل، سواء كانت عواقب مرضية أو جسدية أو عقلية”([18]).
التعريف الثاني: معرفة الحاملين لأمراض وراثية في مجموعة عرقية معينة، أو في بلد معين حتى يتجنب ظهور الأمراض الوراثية” ([19])
التعريف الثالث : “تعرف كلا الطرفين على وجود أمراض وراثية معينة لديه، تمهيدا لإتمام الزواج، وإن وجدت فكيف يمكن علاجها، حتى لا يولد طفل مشوه، أو مصاب بمرض وراثي خطير”([20])
التعريف الرابع: “قراءة محتوى المادة الوراثية في الجين، للوقوف على مدى ما تحمله هذه المادة من تشوهات أو أمراض وراثية” ([21])
فجميع التعريفات التي أوردتها والتي قرأتها بالخصوص المذكور, تركز على عدة أمور:·
1- الفحص الطبي قبل الزواج يعني إجراء الفحص للمقبلين على الزواج لمعرفة وجود الإصابة أو حمل لصفة بعض الأمراض الوراثية.·
2- ·الوقوف على إمكانية نقل الأمراض الوراثية إلى الأبناء.·
3- توضيح الخيارات والبدائل أمام الخاطبين من أجل إيجاد أسرة سليمة صحياً بإذن الله.
المطلب الثاني·
الأمراض التي يمكن تجنبها عن طريق الفحص الطبي·
1ـ الأمراض الوراثية:·
وهي أمراض كثيرة ومتعددة وقد قال البعض عنها أنها أكثر من أن تحصى ومنها: فقر الدم المنجلي ـ الثلاسيميا ـ نقص الخميرة …·
2 ـ الأمراض المنقولة جنسيا:·
وهي أمراض ليست وراثية ولكنها تنتقل عبر الاتصال الجنسي ومنها ما قد يصيب الأبناء عبر الدم في فترة الحمل, ومثال هذه الأمراض ( نقص المناعة المكتسب “الايدز” ،الزهري ،السيلان)·
3ـ الفيروس: ·
الفيروس المسبب لمرض التهاب الكبد الوبائي.·
المطلب الثالث·
فائدة الفحص الطبي ومحاذيره:·
أولا: فائدة الفحص الطبي:·
1- يكون المقدمون على الزواج على علم بالأمراض الوراثية المحتملة للذرية إن وجدت, فتتسع الخيارات في عدم الإنجاب أو عدم إتمام الزواج.·
2-تقديم النصح للمقبلين على الزواج إذا ما تبين وجود ما يستدعي ذلك بعد استقصاء التاريخ المرضي والفحص السريري واختلاف زمر الدم. ·
3- مرض التلاسيميا هو المرض الذي ينتشر بشكل واسع وواضح في حوض البحر المتوسط وهو المرض الذي توجد وسائل للوقاية من حدوثه قبل الزواج.·
4- المحافظة على سلامة الزوجين من الأمراض فقد يكون أحدهما مصابا بمرض يعد معديا فينقل العدوى إلى زوجه السليم وهناك أمراض تؤثر في الحمل والولادة والذرية مثل عامل الريسوس ومرض القطط والكلاب.·
5- المحافظة على ديمومة واستمرار عقد الزواج, فإذا تبين بعد الزواج أن أحد الزوجين مصاب بمرض فإن هذا قد يكون سببا في إنهاء الحياة الزوجية لعدم قبول الطرف الآخر به.·
6- بالفحص الطبي يتأكد كل من الخاطبين من مقدرة الطرف الآخر على الإنجاب وعدم وجود العقم ويتبين مدى مقدرة الزوج على المعاشرة الزوجية.·
7- بالفحص الطبي يتم الحد من انتشار الأمراض المعدية والتقليل من ولادة الأطفال المشوهين أو المعاقين والذين يسببون متاعب لأسرهم ومجتمعاتهم.·
ثانيا: محاذير الفحص الطبي:
كما أن للفحص الطبي قبل الزواج فوائد ومنافع ، فإن له محاذير ومنها:·
1- ما يترتب من آثار نفسية لمن تدل خريطتهم الوراثية على وجود أمراض لديهم في الحال أو المآل. ·
·2- البعد عن الزواج واللجوء إلى الأفعال غير الشرعية خوف الكشف عن مكنون الإنسان, وفي هذا خطر على الأمة حين ينكفئ أولادها عن الزواج لما يتركه ذلك من آثار ومخاطر على أحوالها العامة.·
3- إن كشف خريطة الإنسان الوراثية يعد تعدياً على حريته وخصوصيته, كما يعد قسراً له على أمر لا يرغب فيه خاصة إذا كان طلب الفحص إلزامياً من قبل السلطة.·
4- إفشاء أسرار الإنسان للعامة, فإذا عرف الناس أنه مصاب بمرض مّا من خلال تداول الحديث عنه، فسيكون ذلك مدعاة له للانعزال عن المجتمع.·
ومع أهمية هذه المحاذير إلا أن لكل قضية جوانب ذات فوائد، وجوانب ذات أضرار ، والعبرة في ذلك لرجحان هذه أو تلك, فعقم الإنسان -مثلاً- لابد أن ينكشف في الحال أو المآل ، ومرض المرأة لابد أن ينكشف كذلك، وقد يكون في اكتشاف العقم أو المرض دافع لعلاجهما، وإذا ظن البعض أن هذا الأمر فيه تكلف ومشقة على الراغبين في الزواج، فإن التأكد من السلامة أمر أكثر أهمية حتى لا يقع ما يندم عليه [22]
المبحث الثالث·
التكييف الشرعي لمنع إتمام عقد الزواج بسبب المرض الوراثي·
المطلب الأول: حكم التداوي·
الأصل في حكم التداوي أنه مشروع. وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص. ·
ـ فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.·
ـ ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.·
ـ ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.·
ـ ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.[23]
وقد علم من الشرع بالضرورة مشروعية التداوي ، وأن حكمه في الأصل الجواز ، توفيراً لمقاصد الشرع في حفظ النوع الإنساني ، المعروف في ضرورياته باسم ” حفظ النفس ” .[24]
ومما يدل على مشروعيته: ماروى أبو خزيمة عن أبيه قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاَ؟ قال: هي من قدر الله.[25]
وعن أسامة بن شريك (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحد الهرم.[26]
وعن حصين بن أبي الحر، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حجام، فأمره أن يحجمه، فأخرج محاجم من قرون فألزمها إياه، وشرطه بطرف الشفرة، ثم صب الدم في إناء عنده، فدخل عليه رجل من بني فزارة، فقال: ما هذا يا رسول الله؟ على ما تمكن هذا من جلدك يقطعه؟ فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا الحجم، قال: وما الحجم ؟ قال: هو خير ما تداووا به([27]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ فيقول امسح البأس رب الناس لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما”([28])
وكما أن التداوي مشروع, فإن العمل على عدم نقل العدوى ودرء الأسقام وانتشار الأمراض الوراثية والوقاية من أسباب المرض مشروع أيضا, قال العز بن عبد السلام: “الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام”[29].
وقد جاء في دعاء زكريا عليه السلام: [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] {آل عمران:38} ·
وفي دعاء الصالحين: ·[وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا] {الفرقان:74} ·
فالمحافظة على النسل من الكليات الخمس التي اهتمت بها الشريعة، فلا مانع من حرص الإنسان على أن يكون نسله المستقبلي صالحاً غير معيب، ولا تكون الذرية صالحة وقرة للعين إذا كانت مشوهة وناقصة الأعضاء متخلفة العقل، وكل هذه الأمراض يمكن تجنبها بالفحص الطبي. ·
وقد جاء في·حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا توردوا الممرض على المصح)([30]). ·
ونص الحديث فيه أمر باجتناب المصابين بالأمراض المعدية والوراثية، ·
وعن عمر بن الشريد عن أبيه قال كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- إنا قد بايعناك فارجع وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا هامة ولا صفر واتقوا المجذوم كما يتقى الأسد وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لا تحدوا النظر إليهم يعنى المجذومين ([31]).
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقي من الأمراض والابتعاد عن مواطن المرض وعدم مخالطة أصحابها لما يترتب على هذه المخالطة من انتقال العدوى, فأفاد ذلك مشروعية الوقاية من أسباب الأمراض.· ·
·ولا يخفى أن اقتران زوجين مهيأين للمرض الوراثي هو من قبيل العدوى المنهي عنها, لأن المرض الوراثي سينتقل إلى بعض الذرية([32]).
– كما اتفق الفقهاء حديثا على جواز إجراء الفحص الطبي اختياريا لمن أراد ذلك, وقد جاء في فتوى مجلس الإفتاء الأوروبي: “لا مانع شرعاً من الفحص الطبي بما فيه الفحص الجيني للاستفادة منه للعلاج مع مراعاة الستر. ولا مانع من اشتراط أحد الخاطبين على الآخر إجراء الفحص الجيني قبل الزواج.ولا مانع من اتفاقهما على إجراء الفحص الطبي (غير الجيني) قبل الزواج على أن يلتزما بآداب الإسلام في الستر وعدم الإضرار بالآخر”([33]).
– كما ذهب مجموعة من الفقهاء حديثا منهم: محمد الزحيلي وناصر الميمان وحمداتي ماء العينين شبيهنا وعبد الله إبراهيم موسى ومحمد شبير وعارف علي عارف وأسامة الأشقر.·
أنه يجوز لولي الأمر إصدار قانون يلزم فيه كل المتقدمين للزواج بإجراء الفحص الطبي بحيث لا يتم الزواج إلا بعد إعطاء شهادة طبية تثبت أنه لائق طبياً. ([34])
المطلب الثاني: الفحص الطبي ومقاصد الشريعة·
علاقة الفحص الطبي بمقاصد الشريعة ·
إن حفظ النسل يعد من مقاصد الشريعة الخمسة الضرورية التي جاء الشرع بحفظها وتحريم كل ما يخل بها, قال الغزالي: مقصود الشرع من الخلق خمسة وهو: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة[35]
وقال الشاطبي: “ومجموع الضروريات خمسة هي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل, وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة” .[36]
فقول الغزالي: فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة يشمل كل ما فيه حفظ لهذه الأصول وإجراء الفحص الطبي فيه حفظ للنسل وذلك بوقاية الذرية من الإصابة ببعض الأمراض الوراثية.·
كما أن الشرع جاء بالمحافظة على هذه الضروريات الخمس من جانبين :·
الأول : من جانب الوجود بالحث على ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها·
الثاني: من جانب العدم بمنع ما تختل به أو تنعدم. وفي هذا يقول الشاطبي والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع عنها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم فقوله “والحفظ لها يكون بأمرين … والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها” فيه دلالة على أن كل ما يؤدي إلى درء الإخلال بحفظ النسل يكون مشروعا, ويدخل في ذلك الفحص الطبي لأن توارث الأمراض الوراثية يؤدي إلى ضعف النسل.[37]
وقد جاء العديد من القواعد الشرعية التي تبين أن الشريعة جاءت لمصالح العباد, ولتدفع الضرر عنهم, بل تمنع الضرر قبل وقوعه, ومن هذه القواعد الشرعية:·
القاعدة الأولى: قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”.[38]
·وجه الاستدلال بالقاعدة وعلاقة ذلك بالمقاصد: إن عدم إجراء الفحص الجيني فيه ضرر بالذرية في حالة كون الوالدين حاملين للجينات المعتلة لأن ذلك يؤدي إلى انتقال هذه الجينات إلى الذرية ومن ثم إصابة بعضها بهذا المرض الوراثي الذي يسببه هذا الجين المعتل ولا طريق لمعرفة سلامة الراغبين في الزواج من الأمراض الوراثية الشائعة إلا بالفحص الجيني فيتعين ·درءا لهذا الضرر.·
القاعدة الثانية: “إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما”[39].
·وجه الاستدلال بالقاعدة وعلاقة ذلك بالمقاصد إذا وقع التعارض بين مفسدتين فإننا نراعي أعظمهما ضررا على أخفهما وبالنظر في الفحص الجيني وما قد يترتب عليه من مفاسد كإفشاء نتائجه أو إحجام الراغبين عن الزواج أو تكلفته المادية وغيرها فإننا نجد أن عقدة عدم إجراءه· أعظم وذلك لما قد يترتب عليها من إصابة النسل ببعض الأمراض الوراثية وهذه المفسدة راجعة على النسل الذي يعد حفظه من مقاصد الشريعة الضرورية ومن ثم فإن المتعين تقديم هذه المفسدة وعدم النظر إلى ما قد ترتب على هذا التقديم من مفاسد . ·
القاعدة الثالثة : “الدفع أولى من الرفع”[40]
وجه الاستدلال بالقاعدة وعلاقة ذلك بالمقاصد: أنه إذا أمكن رفع الضرر قبل وقوعه فهذا أولى من رفعه بعد وقوعه والغرض من الفحص الطبي هو الحد من زواج المورثات المعتلة ومن ثم تقليل المواليد المصابين بالأمراض الوراثية وفي ذلك تحقيق لرفع الضرر قبل وقوعه الذي هو أسهل من رفعه بعد وقوعه لأن وقاية المولود من المرض الوراثي قبل وقوعه أسهل من رفعه ومعالجته بعد وقوعه.[41]
وبناء على ما دلت عليه مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ونظرا لما يتضمنه الفحص الطبي من دفع الضرر قبل وقوعه فإنه يجوز فعله شرعا. ·
·المطلب الثالث: سلطة ولي الأمر في تقييد المباح·
المباح هو: ما لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه, وبالتالي فهو يستوي فيه الفعل والترك. أي أن الفرد المسلم حر بأن يفعل وحر بأن يترك فهو بالخيار، وإليه يعود الترجيح بين الفعل والترك بناءً على تقدير مصلحته، وقد يحدث أن يتولى ولي الأمر هذا الترجيح نيابة عن المسلمين وبموجب تقدير المصلحة العامة، لأن تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة. وقد ينهى عن المباح سدًّا للذريعة.[42]
وقد أولت الشريعة ولي الأمر مكانة كبيرة فأمرت بطاعته وحرمت معصيته حتى تستقيم أمور الرعية ويتمكن من تحقيق الغاية التي نصب لها. ·
ولقد ذهب عدد كبير من الذين كتبوا في السياسة الشرعية إلى حق ولي الأمر في أن يأمر بمباح فيصير واجبًا على من أمرهم به، أو أن ينهي عن مباح فيصير حرامًا على من نهاهم عنه. استدلالاً بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ] {النساء:59}. ·يقول الشيخ عبد الرحمن تاج: “إن ولي الأمر إذا رأى شيئًا من المباح قد اتخذه الناس عن قصد وسيلة إلى مفسدة، أو أنه بسبب فساد الزمان أصبح يفضي إلى مفسدة أرجح مما قد يفضي إليه من المصلحة، كان له أن يحظره ويسد بابه، ويكون ذلك من الشريعة”[43]·
وأكد د. فتحي الدريني حق ولي الأمر في ذلك بشرطين: الأول: طهارة الباعث وشرف النية.·
·الثاني: النظر لمآل التصرف. فقال: ومن هنا جاز لولي الأمر أن يقيد الحق بالقدر الذي يصون به المصلحة العامة فله أن يتدخل في شؤون الأفراد لهذا الغرض العام[44]. ولقد كان من القواعد التي قررها أهل العلم في ذلك الباب أن “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”[45], فتصرف الإمام وكل من ولي شيئا من أمور المسلمين يجب أن يكون مقصودا به المصلحة العامة، أي بما فيه نفع لعموم من تحت أيديهم وما لم يكن كذلك لم يكن صحيحا ولا نافذا شرعا”[46]، فمتى كان هناك مصلحة عامة جامعة لشرائطها فإن تصرف الإمام بناء على ذلك تصرف شرعي صحيح ينبغي إنفاذه والعمل به، ولا يصلح التحايل للتخلص منه. يقول لإمام السبكي رحمه الله: “يجب على السلطان أو نائبه الذي له النظر في ذلك أن يقصد مصلحة عموم المسلمين … والأصلح للناس في دينهم”[47]
ولعل هنالك العديد من الشواهد والتي تم فيها تقييد التصرفات المباحة منها:·
– تزوج حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يهودية فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها فقال إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات[48], وفي رواية تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر: أن خل سبيلها ، فقال: أحرام هي ؟ فكتب إليه عمر: لا ، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن[49].
ومن المعلوم في الشرع أن نساء أهل الكتاب حل للمؤمنين ولكن أمير المؤمنين عمر خشي مفسدتين إحداهما: إما التساهل في شرط الإحصان والعفاف المشروط بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فيقع المسلم في المومسات والفاجرات، وإما كساد سوق الفتيات المسلمات، وهو باب في سد الذرائع، سلكه الإمام حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية, فأراد أن يمنع الشر قبل وقوعه. ·
·- قصة الصحابي سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال ومع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه فطلب إليه أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى قال فهبه له ولك كذا وكذا أمرا رغبة فيه فأبى فقال أنت مضار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري اذهب فاقلع نخله[50]
– وقول عمر بن الخطاب للضحاك الذي منع مرور جدول مياه عن طريق أرضه إلى أرض جار له: “والله ليمرن به ولو على بطنك”[51].
فلما كان هنالك ضررا واقعا بالغير من خلال تصرف الشخص فيما هو مباح له, منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة, وكذلك عمر رضي الله عنه في حديث الضحاك, وكذلك الأمر فإن الضرر متوقع من زواج الحاملين للأمراض الوراثية على الذرية, فجاز لولي الأمر منع ذلك قبل وقوعه, أما الحديث الأول وهو حديث حذيفة رضي الله عنه فقد أراد عمر رضي الله عنه أن يمنع الشر قبل وقوعه. وقد تأكد بالعلم أن منع إجراء عقد الزواج بسبب الأمراض الوراثية هو من قبيل منع انتشار الأمراض الوراثية في المجتمع المسلم, والعمل على إيجاد مجتمع بلا أمراض وراثية. وعلاج الأمراض الوراثية يكون بالوقاية منها لأن ذلك وسيلة لتجنب حصول المرض والفحص الطبي فيه وقاية من الأمراض الوراثية وذلك بتقليل الزواج بين حاملي الجينات المعتلة.·
الـنـتـــــــــ ــائـــــــج:·
– ثبت بالدليل القاطع من خلال التجربة العملية في قطاع غزة أن منع إتمام· الزواج بسبب المرض الوراثي (الثلاسيميا) أدى إلى شبه انعدام المرض.·
– الزواج بين خاطبين يحملان الأمراض الوراثية تأكد علميا وعمليا أنه قد ينتقل إلى الذرية.·
– إجراء الفحص الطبي للخاطبين قبل الزواج فيه مصلحة متحققة لهما, وللذرية في المستقبل, وللمجتمع وللدولة, كما أن فيه درءا لمفاسد كثيرة قد تكون متحققة الوقوع.·
– الشريعة جاءت من أجل تحقيق مصالح العباد, فتحقق لهم ما فيه المصلحة وتدرأ عنهم المفسدة, وحيث كانت المصلحة فثم شرع الله.·
– منحت الشريعة ولي الأمر صلاحية واسعة ليحقق للرعية ما فيه الخير لدينهم والصلاح لدنياهم, ومن ذلك منحته الحق في تقييد المباح لما فيه من مصلحة الرعية.·
– ·يجوز لولي الأمر أو الدولة إصدار التشريعات اللازمة لمنع إتمام إجراء عقد الزواج بسبب الأمراض الوراثية.·
الـتــوصـــيـات
– أدعو ولاة الأمر من مجلس تشريعي وغيره إلى الإسراع في سن القوانين اللازمة والتي· بموجبها·
1- يتعين على من يريد الزواج أن يقوم بإجراء الفحص الطبي للأمراض الوراثية.·
2- يمنع إتمام إجراء عقد الزواج بسبب الأمراض الوراثية ·
– أن يتم توسيع دائرة الفحص الطبي وأن لا يقف عند مرض الثلاسيميا فقط.·
– أدعو· الباحثين من علماء شرعيين وأطباء متخصصين لعقد المزيد من المؤتمرات للوقوف على آخر المستجدات العلمية وإعطاء الحكم الشرعي فيه بما يتفق ومصالح العباد.·
– نشر ثقافة فوائد الفحص الطبي والتشجيع عليه وسط المجتمعات عبر الجامعات والمدارس وغيره.·
– توضيح الحكم الشرعي لعموم الناس في إجراء الفحص الطبي, وأن الشريعة تؤيد ذلك.·
– نشر النتائج التي وصل إليها الحال في قطاع غزة بعد إجراء فحص
[1]) المعجم الكبير 18/85·
[2]) صحيح البخاري 5/1950·
([3] صحيح البخاري 5/1949·
[4] صحيح البخاري 2/26·
[5]) مصنف عبد الرزاق 6/173·
[6]) السرخسي:· المبسوط 4/141·
[7] عبد الرحمن النفيسة: الفحص الطبي قبل الزواج ص3·
الموسوعة الطبية: الشركة الشرقية للمطبوعات، ط 1،6/1003نقلا عن: http://www.alukah.net/Social/1030/2612/·
[9] سامية على التمتامي: أثر العوامل الوراثية في حدوث الإعاقة (بحث منشور بالنشرة الدورية لاتحاد هيئات رعاية الفئات الخاصة والمعوقين ·العدد 50، يونيه 1997 ص: 48.·
[10] جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني: مجلة بلسم عدد360ص32.·
[11])· محمد بن يحيى بن حسن النجيمي: الفحص الطبي قبل الزواج بين الطب والفقه ·
http://www.dahsha.com/viewarticle.php?id=26953·
[12]) الحجاوي:الإقناع 3/199, الشربيني: الإقناع 2/420·
[13]) جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني: مجلة بلسم عدد360ص32.·
([14] جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني: مجلة بلسم عدد360 ص32·
[15]) جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني: مجلة بلسم عدد360/32·
[16] تعميمات قاضي القضاة ونائبه ص81·
[17] مقابلة أجريتها مع أحمد رستم الكاشف مدير عام مؤسسة فلسطين المستقبل يوم 28/8/2010 الساعة 11 صباحا·
[18]) د. محمد الأشقر: الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني, رؤية إسلامية ص847·
([19] د.ناصر اليماني: نظرة فقهية للإرشاد الجيني ص497·
([20] د. رضا عبد الحليم: الحماية القانونية للجين البشري ص19.·
[21]) د. إياد احمد إبراهيم: الهندسة الوراثية بين معطيات العلم وضوابط الشريعة ص83·
[22] عبد الرحمن النفيسه: الفحص الطبي قبل الزواج ص9·
[23] ·الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 7/173·
[24] فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5 / 106·
[25] التبريزي: مشكاة المصابيح 1/21 ح97·
[26] سنن أبي داود 4/1 ح 3857·
([27] الطبري: تهذيب الآثار 6/332, البوصيري: اتحاف الخيرة المهرة 4/434·
([28] النسائي: السنن الكبرى 7/78ح 7510·
[29] العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/4·
([30] صحيح البخاري: كتاب الطب ح 5771·
([31] البيهقي: السنن الكبرى ·7/218·
([32] حسن الجواهري: ·المواكبة الشرعية لمعطيات الهندسة الوراثية ص 830·
([33] مجلة عكاظ عدد 1845 5/7/2006·
[34]) مجلة عكاظ عدد 1845 تاريخ 5/7/2006·
[35] الغزالي: المستصفى 1/174·
[36] الشاطبي: الموافقات 2/8·
[37] أحمد عبد الحميد: الصحة الانجابية من منظور إسلامي ص61·
[38] السيوطي: الأشباه والنظائر 1/86, ابن نجيم: الأشباه والنظائر 87·
[39] السيوطي: الأشباه والنظائر 1/87, ابن نجيم: الأشباه والنظائر 89·
[40] السبكي: الإبهاج 2/227·
[41] د. ناصر الميمان: نظرة فقهية للارشاد الجيني ص502·
[42]· رفيق المصري: ·أصول الاقتصاد الإسلامي ·ص 77 ·
[43] الشيخ عبد الرحمن تاج: السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، ص 76.·
[44] الدريني: نظرية الحق ص111·
[45] ابن نجيم: الأشباه والنظائر ··1/123·
[46] د. محمد صدقي ·البورنو: موسوعة القواعد الفقهية· 4/307-308·
[47] فتاوى السبكي 1/186 ·
[48] البيهقي في سننه الكبرى ج7/ص172 ح13762·
[49] ابن بطال: شرح صحيح البخاري· 7/435·
·[50]سنن أبي داود 3/315 ح3636 ·
[51] الموطأ: 2 / 218.
جميع الحقوق محفوظة لديوان القضاء الشرعي 2013© تطوير مركز الحاسوب الحكومي
http://www.ljc.gov.ps/index.php?option=com_content&v iew=article&id=222:11&catid=31 :2010-05-30-18-53-22
|