فِقه العشائِر السنية
ا.د. الشيخ احمد بن مسفر العتيبي


يتردَّد هذا المصطلح في وسائل الإعلام منذ حِقبة الربيع العربي ، ولم أقف على من كتب فيه كتابة تشفي العليل أو تروي الغليل .
من القواعد الأصولية للعمل بالعزيمة سواء عند الرخاء أو الشدة ، أن يكون المحكوم فيه : معلوماً ، كما قال سبحانه : ” لأُنذركم به ومن بَلَغ ” ( الأنعام :19 ) .
فثمرة الحديث عن العشائر السنية في هذا الوقت – حتى لا يُساء فهم المقال – هي إحياء ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفقُّد لأحوال العشائر وتقوية لجذوتهم وتعاهد عودهم وصلابتهم ، حماية للسنة وأهلها في ظل الحكومة النبوية في وقته .
وقد قال أبو بكر بن عياش ( ت: 193 هـ ) رحمه الله تعالى : ” السنة في الاسلام أعزُّ من الإسلام في سائر الاديان” .
وقد صحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلَّم لما رجع من الطائف لم يتمكَّن من دخول مكة ، فطلب الإحتماء بالمطعم بن عدي بن نوفل ليكون تحت جِواره ، فأجابه إلى ذلك ، وأمَّنه حتى دخل بيته .
فهذا الخبر الصحيح دليل على أن وجهاء العشائر لهم كلمة في أقوامهم وعند خصومهم ، ولا يخفرون ذِّمة من استعان بهم .
بعد الولاء لله تعالى ولرسوله ودين الإسلام ، يكون الإنتماء للعشيرة والقبيلة والولاية الكبرى في بلد الإنسان التي يُنظِّم فيها الحاكم مصالح الرعية .
من المحزن إهمال أهل العلم وأهل الإعلام الإسلامي لأهمية مصطلح العشيرة السنية ومكانتها في التأثير وتغيِّير الأحداث على حسب نفوذها ودورها وهيمنتها.
العشيرة هي بنو الأب الأقربين . أو هم الأسرة الكبيرة لقبيلة معينة تجمعهم شجرة نسب واحدة . وقد جاء في التنزيل العزيز: ” وأنذِر عشيرتك الأقربين ” ( الشعراء : 214 ) .
ويستفاد من هذه الآية أن قرابة الإنسان هم أجدر من يستجيب ويؤثِّر في محيط القبيلة .
فهيبة العشيرة قد تمنع كثيراً من الأذى والمكروه كما قال سبحانه: ” ولولا رهطك لرجمناك ” ( هود : 91 ) .

مصطلح العشيرة ضعف في السنوات الأخيرة بسبب نفوذ المؤسسات الحكومية وقِّلة الوعي بدور العشيرة في التأثير الإيجابي في الأحداث المختلفة في السِّلم والحرب .
لو تأملنا في التاريخ الإسلامي في أحداث بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية لاستخلصنا أهمية العشيرة في توحيد الصف وجمع الكلمة ونبذ الخلافات العائلية والقبلية التي تُورث الشقاق والندم وتضعف الُّلحمة الإيمانية .

من فقه أحاديث الأوس والخزرج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمعهم في كثير من المرَّات ليعظهم ويذكِّرهم ويناصحهم ويُعلِّمهم طرق الخير وأساليبه .
ومرة من المرات جمعهم وقال لهم : ” هل فيكم أحدٌ من غيركم ” ؟ قالوا لا يا رسول الله إلا ابن أخت لنا . فقال صلى الله عليه وسلم : ” ابن أخت القوم منهم ” أخرجه أحمد بإسناد صحيح .
العشائر السنية في مناطق الصراع في سوريا والعراق واليمن ضعفت جداً بسبب شراء ذِّممها بالمال من القوى المتصارعة في مناطقها ، وأصبحوا لا يقفون مع الحق بل مع من يُطعمهم ويكسوهم ولو كان الباطل معه ! .

والطمع في عَرض الدنيا هو سبب ذُّل أهل السنة وهوانهم عند غيرهم . كما في الحديث : ” ورضيتم بالزرع.. سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ” . أخرجه أبو داود بإسناد صحيح .
العشائر العربية أو حتى الأعجمية المسلمة المخلصة التي نشأت على الخير والمروءة والشهامة وكرم النفس والشجاعة يندر فيها أن تبيع مبادئها أو كرامتها للباطل أو لِعرض من الدنيا مقابل ضياع الدِّين والتقوى والضمير الحي ! .

قرأتُ قبل مدة يسيرة في أحد كتب التأريخ عن قبيلة عربية سورية لجأ إليها أحد حُكَّام دمشق هاربا ً إبان الحكم العثماني ، فرفضت تسليمه لمدة عشرين عاماً ، حتى رضي العثمانيون بالصلح والعفو عنه .
مما يؤكِّد لنا دور العشيرة في حِماية مظلة أهل السنة ونصرتهم ، ما يذُكر ويُشكر لعشيرة ” الفضول ” خوال الجربا من شمَّر أهل حائل .
فقد أوردت لنا كتب السِّير والتراجم أنه مع اقتراب المغول لغزو دمشق سنة: 1303 هـ بعهد المماليك ، بدأ الإمام ابن تيمية(ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى تحريض أهل الشام في دمشق وحلب ، وانتدبه الناس للسفر إلى مصر لملاقاة سلطانها الناصر محمد بن قلاوون، وحثِّه على الجهاد ، وأعاد نشر فتاويه في حكم جهاد الدفع ، وردِّ الصائل . ثم سافر إلى أمير العرب ” مهنا بن عيسى الطائي ” ، فلبَّى دعوة ابن تيمية لملاقاة التتار.
و” مهنا هو ابن عيس ى بن ماتع بن حديثة بن عقبة بن فضل بن ربيعة التدمري الطائي” .
وقد انتقلت رئاسة طيء إلى بني ربيعة، وكان الطائي أمير عرب الشام أيام دولة طغتكين على دمشق في مستهل القرن السادس الهجري.

وروى القلقشندي في “صبح الأعشى” أن آل فضل من بطون ربيعة، ثم صار آل فضل بيوتاً، أرفعها قدراً عيسى بن مهنا, وفيهم الإمرة دون سائر آل فضل، وكانت منازلهم تمتدُّ من حِمص إلى ضفتي الفرات وأطراف العراق .
يمكن توضيح فقه العشائر السنية من خلال شحذ هممهم للثبات على الحق والمنافحة عن السنة وأهلها بالمال والرجال كما فعل ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” علي ابن أبي طالب ” رضي الله عنه ، حين نام على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم تضحية بنفسه ودمه فداءاً للحبيب صلى الله عليه وسلم .
ومن فِقه العشائر السنية وجوب وقوفهم مع العلماء الربانيِّين الصادقين الذين لا يخافون في الحق لومة لائم .
ويجب على العلماء الصبر على زللهم وسهوهم واجتهادهم إذا زلُّوا أو حادوا عن الحق لِشبهة .
وقد جاء في الصحيح في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما راسل أهل مكة قبل فتحها: ” والله يا رسول الله إنّي لمؤمن بالله ورسوله ما غَيَّرت ولا بدَّلت ولكنّي ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة ، ولي بين أظهرهم ولدٌ وأهل ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ليحفظوني فيهم ” متفق عليه . فعفى عنه الحبيب صلى الله عليه وسلم لصدقه ونصرته للحق .

ومن فقه العشائر السنية ضرورة الإفادة من الحكام الصادقين ، ففي سيرتهم نورٌ لِضعاف البصر والبصيرة .
فالسلطان المجاهد عبد الحميد الثاني( ت: 1336هـ) رحمه الله تعالى كان قد أصدر قراراً يمنع من خلاله اليهود من المكوث في المدينة المقدَّسة بعد صلاة المغرب . وقد رفض السلطان عرض ملك اليهود الدكتور النمساوي ” هرتزل” الذي أغراه بالمال لإنقاذ الدولة العثمانية من الإنهيار والإفلاس المؤكَّد إذ قال : ” إنصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع ، إني لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبرٍ واحدٍ من الأرض ، فهي ليست مُلك يميني بل ملك شعبي ، لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم إذا مُزِّقت امبراطوريتي ، فلعلهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمنٍ ، ولكن يجب أن يبدوأ ذلك التمزيق في جثتنا أولاً ، فإنِّي لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة ” .

عند حدوث الفتن وضعف الأمن يأوي الناس إلى ربِّهم ثم إلى عشائرهم ليتقووا بهم من الصِّراع والسلب والنهب وسفك الدم الحرام .
فالمقصود إحياء سنة التناصح للعشائر السنية بعمومها بالثبات على الحق ، وعدم الحيدة إلى الباطل أو الهوى لتصفية حسابات خفية .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
26/ 2/ 1437