شرح حديث : " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا "
متفق عليه , ولقد قمتُ بتخرجه في هذا الملتقى الطيب على هذا الرابط :
http://majles.alukah.net/t148988/

قوله ( آل محمد ) إن كلمة (آل) من الكلمات التي وقع فيها الخلاف بين علماء اللغة من حيث الاشتقاق، ومن حيث المعنى، أما من حيث الاشتقاق، فقيل إن أصلها أول، وقيل إن أصلها أهل.
فذهب الخليل بن أحمد إلى أن كلمة (آل) مشتقة من الأول، قال: " آل يؤول إليه، إذا رجع إليه" يُنظر كتاب "العين" 8/ 395 .
وقال ابن فارس في "مقاييس اللغة" 1 / 159 : "آل يؤول أي رجع... يقال: أول الحكم إلى أهله، أي أرجعه ورده إليهم" .
وقال ابن الجوزي في "نزهة الأعين" (ص: 122): "والأصل في ذلك قولنا: آل، وهو بمعنى: رجع " واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 22 / 463 .
وذهب فريق آخر إلى أن أصل كلمة (آل): أهل.
قال ابن منظور في "لسان العرب" 11/ 30 : "آل الرجل: أهله. وآل الله وآل رسوله: أولياؤه،أصلها أهل ثم أبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أَأْل فلما توالت الهمزتان أبدل الثانية
ألفا كما قالوا آدم وآخر".
وبمثل هذا قال الفيروزآبادي في "القاموس" (ص: 1245) .
وضعّف ابن القيم القول الثاني في "جلاء الأفهام" (ص: 203- 204) لأمور :
أحدها: عدم الدليل عليه.
الثاني: أنه يلزم منه القلب الشاذ من غير موجب، مع مخالفة الأصل.
الثالث: أن الأهل تضاف إلى العاقل وغيره بخلاف الآل.
الرابع: أن الأهل تضاف إلى العلم والنكرة، والآل لا يضاف إلا إلى معظم من شأنه أن يؤول غيره إليه.
الخامس: أن الأهل تضاف إلى الظاهر والمضمر، أما الآل فإضافتها إلى المضمر قليلة شاذة .
وأما من حيث المعنى فقد نص غير واحد على أن آل الرجل هم أهل بيته وقرابته ، وأضافت طائفة أخرى الأتباع ، واقتصر بعضهم على الأتباع .
وقد وفق ابن الجوزي بين القولين فقال: "الآل: اسم لكل من رجع إلى معتمد فيما رجع فيه إليه، فتارة يكون النسب، وتارة بالسبب " .
فقوله: (بالنسب) إشارة إلى الأهل والقرابة، وقوله: (بالسبب) إشارة إلى الأتباع، ومن الثاني قوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} -غافر: 46-.
وجاء في "الفتح" : "قيل المراد بالآل ذرية فاطمة خاصة حكاه النووي في "شرح المهذب" , وقيل : هم جميع قريش حكاه ابن الرفعة في "الكفاية" وقيل :المراد بالآل جميع الأمة امة الإجابة
وقال ابن العربي: مال إلى ذلك مالك . واختاره الأزهري وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية ورجحه النووي في شرح مسلم وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم وعليه
يحمل كلام من أطلق ويؤيده قوله تعالى :{إن أولياؤه الا المتقون} وقوله صلى الله عليه وسلم : "إن أوليائي منكم المتقون" , وفي نوادر أبي العيناء إنه غض من بعض الهاشميين فقال له أتغض مني وأنت تصلي علي في كل صلاة في قولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقال إني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم..." .
وفي "مرعاة المفاتيح" : " .. وإلى حمله على أمة الإجابة ذهب نشوان الحميري إمام اللغة، ومن شعره في ذلك:
... آل النبي هم أتباع ملته من الأعاجم والسودان والعرب
... لو لم يكن آله إلا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب
ويدل على ذلك أيضاً قول عبد المطلب من أبيات:
... وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
والمراد بآل الصليب أتباعه. ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} , لأن المراد بآله أتباعه، وقد احتج لهذا القول بحديث أنس رفعه: آل محمد كل تقي.
أخرجه الطبراني، ولكن سنده واه جداً. وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف، ويؤيد ذلك معنى الآل لغة. قال في القاموس: الآل أهل الرجل وأتباعه، وأولياؤه، ولا يستعمل
إلا فيما فيه شرف غالباً، فلا يقال آل الإسكاف، كما يقال أهله- انتهى. وفي تفسيره أقوال أخرى كلها مرجوحة ضعيفة، فلا حاجة إلى ذكرها، ولولا ضعف حديث أنس وكون سنده واهياً جداً
لتعين تفسير آل محمد في التشهد بأتقياء أمته، ثم لعل وجه إظهار محمد في قوله "وآل محمد" مع تقدم ذكره هو أن استحقاق الآل بالإتباع لمحمد، فالتنصيص على اسمه آكد في الدلالة
على استحقاقهم، والله تعالى أعلم".
قوله : ( قوتا ) قال القرطبي :قال ابن بطال في "شرح البخاري" : "فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفر نعيم الآخرة وإيثارا
لما يبقى على ما يفنى فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك ".
وقال القرطبي : "معنى الحديث أنه طلب الكفاف فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا".
ومعنى قوله (قوتا) قيل كفايتهم من غير إسراف وهو بمعنى قوله في الرواية الاخرى كفافا . وقيل هو سد الرمق . قاله النووي في "شرح مسلم".
قال القرطبي :"أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما
يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال وقد قال خير الأمور أوساطها ".
قلت : حال الانسان في الدنيا لا يخرج عن ثلاث : إما الغنى , وإما الفقر , وإما الكفاف .
نقل الحافظ في "الفتح" عن أحمد بن نصر الداودي أنه قال : الفقر والغنى محنتان من الله يختبر بهما عباده في الشكر والصبر كما قال تعالى : {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} , وقال تعالى : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} , وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من شر فتنة الفقر ومن شر فتنة الغنى ثم ذكر كلاما طويلا حاصله
أن الفقير والغني متقابلان لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من العوارض فيمدح أو يذم والفضل كله في الكفاف لقوله
تعالى : {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}
وقال صلى الله عليه وسلم : "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" ...وعليه يحمل قوله "أسألك غناي وغنى هؤلاء" وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا"
الحديث فهو ضعيف وعلى تقدير ثبوته فالمراد به أن لا يجاوز به الكفاف انتهى ملخصا .
قال الحافظ : "وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في المفهم فقال جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث الفقر والغنى والكفاف فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من
مجاهدة النفس ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله وهي صورة الكفاف التي مات عليها قال وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على
الكفاف فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة انتهى ويؤيده ما تقدم من الترغيب في غنى النفس وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه "قد أفلح من هدي إلى الإسلام ورزق الكفاف وقنع" وله شاهد عن فضالة بن عبيد نحوه عند الترمذي وابن حبان وصححاه قال النووي : فيه فضيلة هذه الأوصاف والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان. وقال القرطبي : هو ما يكف عن الحاجات ويدفع للضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات. ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال وقد قال خير الأمور أوساطها انتهى ويؤيده ما أخرجه بن المبارك في الزهد بسند صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب أفضل أو رجل كثير العمل كثير الذنوب فقال لا أعدل
بالسلامة شيئا فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به أمن من آفات الغنى وآفات الفقر وقد ورد حديث لو صح لكان نصا في المسألة وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نفيع وهو ضعيف عن أنس رفعه ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا".
وقال المُناوي في "فيض القدير" : " الكفاف حالة متوسطة بين الفقر والغنى وخير الأمور أواسطها ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله :"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا"
ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال والكفاف حالة سليمة من آفات الغنى المطغي وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما فهي أفضل منهما .
قال القرطبي: فعلى هذا فأهل الكفاف هم صدر كتيبة الفقر الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمس مئة عام لأنهم وسطهم والوسط العدل {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} أي عدلا خيارا وليسوا من الأغنياء ولا من الفقراء".



وكتب
أبو سامي العبدان
حسن التمام
26 صفر 1437 من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم