تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 69

الموضوع: شرك العبادة ...

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2014
    المشاركات
    145

    Lightbulb شرك العبادة ...

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هذه مجموعة مقالات عن (شرك العبادة) كتبها فضيلة الشيخ د. لطف الله خوجه - حفظه الله - على موقع صحيفة المدينة (ملحق الرسالة) في بيان أن الشرك يقع دون شرط اعتقاد النفع والضر ، وقد بلغ عدد المقالات 13 مقالًا.
    بالإمكان تنزيلها على صيغة ملف pdf
    http://justpaste.it/og7c

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2014
    المشاركات
    145

    افتراضي

    من حساب الأخ الفاضل/ محمد براء ياسين على الفيس بوك

    الانتقاد على المتكلمين من الأشعرية أو غيرهم في باب توحيد الإلهية لا يُدفع بمجرد النقل عنهم أنهم يفسرون الإله بالمعبود، بل لا بد من تفسيره بالمحبوب، الذي لا أحد يحب لذاته إلا هو، فلا يزول الاعتراض عليهم حتى يُقروا بأن الله تعالى يُقصَد بالمحبة، وأنه لا يستحق أحد أن يكون محبوبًا لذاته إلا الله تبارك وتعالى.
    ولما ثبت عن طائفة من أئمة الكلام نفيهم أن الله تعالى يُحبّ، صح أن يقال: إنهم لم يعرفوا توحيد الألوهية، ولم يعرفوا ملة إبراهيم.
    قال شيخ الإسلام في النبوات (1 / 285) : (وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوبًا، أو أنّه يُحبّ شيئًا، أو يُحبّه أحد، وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا).
    وقال في منهاج السنة (3 / 165 ) : ( وأما السلف والأئمة وأئمة أهل الحديث وأئمة التصوف، وكثير من أهل الكلام والنظر، فأقروا بأنه محبوب لذاته، بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو.
    وهذا حقيقة الألوهية، وهو حقيقة ملة إبراهيم، ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية).
    رزقنا الله وإياكم محبَّته وتوحيده والقرب منه والأنس به.

    وهذا رابط المشاركة لقراءة التعليقات:
    https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=88350 8548384802&id=100001769942677

  3. #3

    افتراضي

    لا أجد فرقًا حقيقيًّا بين من يقول بأنّ الضابط في شرك العبادة هو صرف العمل الظاهر لغير الله مع العلم بذلك، ومن يقول بأنّ الضابط هو أمر قلبي مثل : صرف الخضوع الخاص للمعبود له أو اعتقاد شيء من الربوبية فيه .. فصرف العمل الظاهر مع العلم لابد أن يكون معه صرفٌ للخضوع العبادي لغير الله ..

  4. #4

    افتراضي

    الأمر هو ما ذكرت أبا البراء الجهني جزاك الله خيراً.


    وقد بات معلوما بالضرورة أن الفاعل لا يقع منه الفعل إلا لداع؛ وعلى هذا فمن عبد غير الله فهو كافر مشرك سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو التقرّب به إلى الله تعالى.



    قال الإمام الرازي (606هـ) رحمه الله:

    «أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أنّ عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقرّبهم إلى الله تعالى»([1]).


    وقال الإمام أبو حيان الأندلسي (745هـ) رحمه الله:


    «وقد حكي عن عباد الأوثان قولهم: ﴿ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى﴾.

    وأجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر، سواء اعتقد كونه إلها للعالم، أو أنّ عبادته تقرّب إلى الله»([2]).


    وقال العلامة أبو عبد الله السنوسي (895هـ):


    «قد أطبقت رسل المولى تبارك وتعالى وأجمعوا كلهم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم على أن الله كلف عبيده بتوحيده وحرّم عليهم الشرك في ألوهيته وعبادته، وبلّغوا عن المولى تبارك وتعالى أن من ابتلي بهذا المحرّم - وهو الشرك في الألوهية والعبادة- ومات على ذلك فهو محروم من جميع نعم الآخرة مخلد في العذاب العظيم إلى غير نهاية»([3]).


    وعلق العلامة ابن القيم (751هـ) رحمه الله على قوله عليه السلام: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشّره بالنار» قائلا:

    «فيه دليل على أن من مات مشركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيّروا الحنيفية دينَ إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم؛ فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها؛ فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل»([4]).

    وهذا أشدّ من مذهب النجديين، وفيه إثبات اسم المشرك والجزم بالتعذيب بالنار قبل الرسالة.



    ([1]) التفسير الكبير (14/232).

    ([2]) البحر المحيط (4/377).

    ([3]) شرح المقدمات (ص96).

    ([4]) زاد المعاد (3/599).




  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Dec 2014
    المشاركات
    145

    افتراضي

    ما القول فيمن يقرر بأن صرف العبادة لغير الله تعالى لا تُعد شركًا حتى يعتقد في صاحبها شيئًا من خصائص الربوبية ، فإن لم يكن كذلك فيُعد فعله حرام وليس بشرك؟
    فلو أن إنسانًا توجه إلى قبر ولي من الأولياء يسأله جلب نفع أو دفع ضر مثلًا ، ولم يعتقد فيه شيء من خصائص الربوبية ، ولو سألته من ربك لقال لك: (الله)، فما حكمه؟
    وجزاكم الله خيرًا

  6. #6

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عمر محمد الشاعر مشاهدة المشاركة
    ما القول فيمن يقرر بأن صرف العبادة لغير الله تعالى لا تُعد شركًا حتى يعتقد في صاحبها شيئًا من خصائص الربوبية ، فإن لم يكن كذلك فيُعد فعله حرام وليس بشرك؟
    فلو أن إنسانًا توجه إلى قبر ولي من الأولياء يسأله جلب نفع أو دفع ضر مثلًا ، ولم يعتقد فيه شيء من خصائص الربوبية ، ولو سألته من ربك لقال لك: (الله)، فما حكمه؟
    وجزاكم الله خيرًا
    كلام هذا متناقض فالعبادة لابد معها من اعتقاد الربوبية في المعبود .. ولا يمكن صرف العبادة بدون اعتقاد الربوبية .. أما صرف ما ظاهره العبادة لغير الله فيمكن أن يحصل بدون اعتقاد الربوبية في المقصود له وذلك في حالة الجهل .. كأن يجهل أن هذا الفعل مما لا يستحقه إلا الله .. وحينئذ لا نسمي فعله هذا عبادة لأنه خال من الخضوع العبادي الخاص الذي لا يليق إلا بمن كان إلهًا ..
    المثال المطروح :
    إن توجه لهذا القبر بطلب النفع الذي لا يقدر عليه إلا الله وهو يعلم أن الله لم يأذن لهذا المقبور بالتصرف ويعلم أن هذا الطلب لا يقدر عليه من كان إلهًا .. فليس هناك احتمالٌ آخر إلا أنه يعتقد قدرة في هذا المقبور تضاهي قدرة الله .. ولا عبرة لقوله المخالف لهذا .. فهو كمن يكذّب خبرًا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ثم يقول : أنا لا أعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب !

    لكنّ الجاهل والمتأول تُقبل منه دعواه في مثل هذا ..

  7. #7

    افتراضي

    من صرف شيأ من خصائص الإلهية إلى غير الله بغير إذن من الله فهو مشرك وفعله شرك وكفر سواء جهل أو تأوّل سواء اعتقد الربويبة فيه أو التقرّب به إلى الله، والعبد في هذه المسألة أعني العبادة إما خاضع لله أو خاضع لغيره ولا بدّ. قال تعالى:[قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون]

    وقولكم: فعل الجاهل أ والمتأول لا يسمّى عبادة يحتاج إلى دليل لأن الجاهل قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله وأنه تقرّب أو استغاثة بغير الله، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم.

    وأثر الجهل والتأويل يقدح في الأصل في أثر السبب أو المقتضي ولا يغيّر من حقيقة السبب شئيا.
    والمقصود: أن أثر المانع المعتبر ضدّ أثر المُقتَضِي، وليس المانع ضدّ المقتضي كما تقرّر في الأصول وهذا هو الأصل. إلا أن يكون المانع مانع سبب لا حكم.
    ولم أجد في الأدلة الشرعية ما يثبت العذر بالجهل والتأويل في عبادة غير الله!!



  8. #8

    افتراضي

    من صرف شيئًا من خصائص الإلهية إلى غير الله بغير إذن من الله فهو مشرك وفعله شرك وكفر سواء جهل أو تأوّل سواء اعتقد الربوبية فيه أو التقرّب به إلى الله.
    ##
    ماذا تقصد بخصائص الإلهية ؟
    إن كنت تقصد ما ظاهره العبادة مثل السجود والركوع، فكلامك فيه نظر؛ لأنّ صرف ما ظاهره العبادة إمّا أن يكون مع العلم بكونها عبادة لا يستحقّها إلا الله وحينئذ لابد أن يقع العابد في الخضوع العبادي الخاص ويكون فعله شركًا ..
    أو يقع الشخص فيما ظاهره العبادة من غير أن يعلم بكون هذا الفعل عبادة لا يستحقّها إلا الله وحينئذ لا يكون عابدًا لغير الله لأنّه لم يحصل منه خضوعٌ عبادي خاص لغير الله ..



    والعبد في هذه المسألة أعني العبادة إما خاضع لله أو خاضع لغيره ولا بدّ. قال تعالى:[قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون]
    ##
    نعم الخضوع العبادي الخاص إما أن يقع لله فيكون العبد موحّدًا أو يقع للمخلوق فيكون العبد مشركًا وليس هناك حال ثالثة .

    وقولكم: فعل الجاهل أو المتأول لا يسمّى عبادة يحتاج إلى دليل لأن الجاهل قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله وأنه تقرّب أو استغاثة بغير الله، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم.
    ##
    لابد أن يعلم بكون هذا الفعل لا يستحقّه إلا الله، وهو الذي يحصل معه ارتباط الفعل بالخضوع العبادي الخاص ، أما ما دون ذلك من العلم فلا يحصل معه هذا الخضوع.
    والذي يدل على ذلك أنّ الله مع وصفه لأفعال الكفار بأنّها شرك إلا أنّه بيّن ما وقر في قلوبهم من الدافع الذي حملهم على ذلك فقال: (يحبونهم كحبّ الله) فما كان فيه حب وخضوعٌ وخوف يضاهي الحب والخوف والخضوع الخاص بالله فهو عبادة وصرفه لغير الله شرك، وهذا هو الأصل فيمن صرف الفعل لغير الله مع العلم؛ فمن صرف ما ظاهره العبادة مع العلم فلابد أن يقع في هذا الخضوع .



    وأثر الجهل والتأويل يقدح في الأصل في أثر السبب أو المقتضي ولا يغيّر من حقيقة السبب شئيا.
    والمقصود: أن أثر المانع المعتبر ضدّ أثر المُقتَضِي، وليس المانع ضدّ المقتضي كما تقرّر في الأصول وهذا هو الأصل. إلا أن يكون المانع مانع سبب لا حكم.
    ولم أجد في الأدلة الشرعية ما يثبت العذر بالجهل والتأويل في عبادة غير الله!!

    ##
    لم أفهم الكلام السابق جيّدًا .. ليتك توضّحه وتطبّقه في مسألتنا ..
    خذ هذا المثال للتقريب:
    تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كفر، بل هو ناقض لأصل الدين وللركن الثاني من الشهادة ولا يُعذر فيه بالجهل ، فمن قال: النبي كاذب ثم ادّعى أنّه جاهل فلا يُقبل منه لأنّه نقَضَ أصل الشهادة وهو أن محمّدًا رسول الله فكيف يكذّب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعتقد أنّه رسول من عند الله.

    بناءًا على تقريرك في عدم العذر بالجهل نقول :
    من كذّب أيّ حديثٍ صحيح فهو كافر ولو كان جاهلًا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، لأنّه وإن كان جاهلًا إلا أنّه قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله من التكذيب، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم عليه..

    هل توافق على هذا ؟ وإلا فما الفرق ؟

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,714

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو محمد المأربي مشاهدة المشاركة
    من صرف شيأ من خصائص الإلهية إلى غير الله بغير إذن من الله فهو مشرك وفعله شرك وكفر سواء جهل أو تأوّل سواء اعتقد الربويبة فيه أو التقرّب به إلى الله،

    وهل هناك من خصائص الإلهية إذن الله فيها لغيره؟
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Dec 2014
    المشاركات
    145

    افتراضي

    يصف أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه حال العرب في الجاهلية في عبادة الأحجار فقال: ((كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو أخير ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به)).
    وهذه الحال تصور حقيقة ما يريدونه من تعظيم تلك الأحجار ، وهو التبرك والاستشفاع ، وليس من المتصور أبدا أن يريدوها خالقة مدبرة لأمورهم.
    يقول الشهرستاني: ((وبالجملة: وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبًا منابه ، وقائمًا مقامه ، وإلا فنعلم قطعًا أن عاقلا ما لا ينحت جسما بيده ويصوره صورة ، ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه ، وإله الكل وخالق الكل ، إذ كان وجوده مسبوقا بوجود صانعه ، وشكله يحدث بصنعة ناحته.
    لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها ، كان عكوفهم ذلك عبادة ، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها ، وعن هذا كانوا يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)
    فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب)).

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Dec 2014
    المشاركات
    145

    افتراضي

    "أن أهل السنة والجماعة لما قالوا إن كفار قريش والأُمم السابقة قبلهم كانوا مقرين بربوبية الله تعالى، لا يعنون بذلك أنهم كانوا مستكملين لجوانبها عاملين بلوازمها محققين نتائجها التي تقتضيها.
    لم يكن هذا المراد أبدا ، وإنما المعنى أن ذلك الإقرار واقع منهم بصريح أقوالهم، إلا أنهم واقعون في تناقض مع ذلك الإقرار.
    ولعل أظهر أمر وقعوا فيه وهو مناقض لذلك الإقرار هو صرف العبودية لغير الله ، فصرفهم للعبادة لغير الله تعالى مناقض لما يقتضيه ذلك الإقرار الذي نطقوا به من أن الله تعالى هو وحده الخالق الرازق وأنه بيده تصريف الأمور ، ولذلك جاءت المحاجة عليهم في كتاب الله سبحانه وتعالى ببيان المناقضة التي هم عليها ، حتى وصلت تلك المناقضة حالة يزريهم بها من له أدنى عقل وفهم ، وقد تقدم في حديث أبي رجاء العطاردي يحكي أحوالهم في الجاهلية - قال: ((
    كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو أخير ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به)).
    فتلك الحال تحكي تناقضًا ظاهرًا بين ما يقرون به ، وبين ما هم واقعون فيه من الشرك.
    إذًا، فإثبات إقرارهم بربوبية الله تعالى ليس مدحة لهم تعني أنهم عملوا بمقتضى ذلك الإقرار ، بل هو إزراء بهم إذ وقعوا بما ينافي حقيقته"
    .....
    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأليه واتباع ما شرعوا ، لا في الخلق والقدرة والربوبية ، وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار كقوله:
    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام:1].
    وأصح القولين أن المعنى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، فيجعلون له عدلًا يحبونه ويقدسونه ويعبدونه كما يعبدون الله).
    ......


  12. #12

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أخي أبو البراء الجهني:

    المقصود بالخصائص الإلهية:


    أنّ كل ما ثبت في شرعنا أنه لا يصرف إلا لله من باطن أو ظاهر فصرفه إلى غير الله شرك وصاحبه مشرك كافر سواء جهل أو علم الحكم.

    ومن عنده زيادة علمٍ في هذه المسألة فلينقض هذا الأصل بصورة متفق عليها بدليلها مع الاعتبار والعلم بأن الشرط حكم شرعي وضعي يحتاج في إثباته إلى دليل من الشرع.


    وأما قولكم:
    أن من فعل ما ظاهره العبادة من غير علم الفاعل بكونه عبادة لا يستحقها إلا الله لا يكون عابدا لغيرالله.
    فدعوى مجرّدة؛ لأنك لم تذكر دليلاً عليها، وما كان كذلك فلا يقبل، مع أنها تستلزم أن لا يكون هناك مشرك جاهل بل مشرك معاند فقط وهو باطل لقوله تعالى:﴿لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون﴾ مع أن السلف الصالح أجمعوا على كفرهم وشركهم مع الجهالة وأن موتاهم على هذا الشرك مخلدون في النار.



    وقولكم:
    [والذي يدل على ذلك أنّ الله مع وصفه لأفعال الكفار بأنّها شرك إلا أنّه بيّن ما وقر في قلوبهم من الدافع الذي حملهم على ذلك فقال: ﴿يحبونهم كحبّ الله﴾ فما كان فيه حب وخضوعٌ وخوف يضاهي الحب والخوف والخضوع الخاص بالله فهو عبادة وصرفه لغير الله شرك]

    فيه نظر، بل ضعيف لأنه لا يجوز أخذ الواقعات شروطا في الأحكام الشرعية، بل الشرط يحتاج إلى ما يدل على الشرطية كما يحتاج المانع إلى ما يدل على المانعية.
    وعلى هذا فلا حجة في الآية في اشتراط الداعي القلبي؛ لأن الأحكام تجري على الظواهر إلا بدليل يحوجنا إلى الخروج عنها.



    قلتُ[
    وأثر الجهل والتأويل يقدح في الأصل في أثر السبب أو المقتضي ولا يغيّر من حقيقة السبب شئيا. والمقصود: أن أثر المانع المعتبر ضدّ أثر المُقتَضِي، وليس المانع ضدّ المقتضي كما تقرّر في الأصول وهذا هو الأصل. إلا أن يكون المانع مانع سبب لا حكم].
    وذكرتَ أنك لم تفهم هذا التقرير جيّداً وتحتاج فيه إلى توضيحٍ وتطبيقٍ في عبادة غير الله؛ فأقول: هذا الكلام واضح لا يحتاج إلى كبير شرح في نظري لكن إليك المثال الموضّح لما قرّرتُه:

    إذا سجد لصنمٍ قاصداً السجودَ للصنم لكنه جهل حكمَ الساجد وأنه يكفّر شرعا، وقلنا الجهل عذر، فالجهل مانع من التكفير، والسجود مقتضٍ للتكفير، فهنا المانع وهو الجهل ليس ضدّ المقتضي الذي هو السجود للصنم، بل الجهل ينفي الحكم الذي يقتضيه السبب الذي هو السجود للصنم، والأصل في الأحكام أن ترتّب على أسبابها.



    وقلتَ:[ بناءًا على تقريرك في عدم العذر بالجهل نقول: من كذّب أيّ حديثٍ صحيح فهو كافر ولو كان جاهلًا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لأنّه وإن كان جاهلًا إلا أنّه قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله من التكذيب، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم عليه..

    هل توافق على هذا ؟ وإلا فما الفرق؟]

    أقول: المثال غير مطابق لما قرّرته، ويظهر أنك لم تستوعب القاعدة بعدُ؛ لأن من كذّب حديثاً ولم يعلم أنّ النبي ﷺ قاله لم يكذّب النبي ﷺ وإنما كذّب خبراً سمعه من بعض الناس، وتكذيبهم ليس بكفر شرعا، وإنما الكفر تكذيب النبي ﷺ.
    قولك:[
    وإن كان جاهلًا إلا أنّه قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله من التكذيب، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم عليه..]
    مغلطة أو مغالطة وإلا كيف يقصد تكذيب النبي وهو لم يعلم أنه قاله؟
    بل الصواب أن تقول: إنه قاصد للفعل ومعنى الفعل الذي هو تكذيب المخبِر والراوي، لا تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكون التكذيب إلا بعد العلم بذلك.

    والآفة أنك تخلط بين مانع الحكم وبين مانع السبب لأنّ تكذيب النبي عليه السلام هو سبب التكفير فإذا لم يقصد العبد تكذيب النبي ﷺ لم يحصل سبب التكفير لأن قصد المعنى الكفريّ شرط لا يتمّ السبب إلا به.

    وتقريبه بالمثال: أن الأعجمي إن قيل له: النبي ﷺ ساحر!! وهو لا يعلم العربية إطلاقا فقال: النبي ﷺ ساحر!! فلا يكفّر لعدم قصده معنى القول وإن قصد التلفظ به، وكذلك من رمى المصحف في قاذورة وهو لا يعلم أنه قرآن لا يكفر لأنه قصد الرمي ولم يقصد المعنى الذي هو رمي المصحف في القاذورة.

    ولعلّ هذا القدر يكفي في شرح القضية والله المستعان.

    أما مسألة المشرك الجاهل؛ فإنه إذا ذبح للصنم أو سجد للصنم فإنه يقصد صورة الفعل، ويقصد المعنى الذي هو السجود والذبح للصنم، فيتمّ السبب ويكون مشركا كافرا في حكم الشرع ربطا للمسبَّبِ بسببه الشرعي.

    ومن عنده زيادة شرط على هذا، أو مانع من مثل هذا الحكم فعليه الدليل.







  13. #13

    افتراضي

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
    بارك الله فيك أخي أبا محمد وزادك الله علمًا .. أرجو أن تتفضّل بقبول التعليقات التالية :


    المقصود بالخصائص الإلهية: أنّ كل ما ثبت في شرعنا أنه لا يصرف إلا لله من باطن أو ظاهر فصرفه إلى غير الله شرك وصاحبه مشرك كافر سواء جهل أو علم الحكم.
    ##
    أوافقك على هذا تمامًا .. فإذا حكم الشرع بأنّ كل من صرف ظاهر هذا العمل لغير الله فهو مشرك فنحن نقول بهذا ولا نخالفه .. وكيف لنا أن نتدخّل فيما حسمه الشرع؟
    لكن أين الدليل على أنّ صرف ظواهر العبادة كالسجود والركوع لا يقع إلا على وجه الشرك وأنّ فاعلها مشرك ..

    ------
    ومن عنده زيادة علمٍ في هذه المسألة فلينقض هذا الأصل بصورة متفق عليها بدليلها مع الاعتبار والعلم بأن الشرط حكم شرعي وضعي يحتاج في إثباته إلى دليل من الشرع.
    ##
    النواقض لهذا الأصل كثيرة منها :
    1- سجود إخوة يوسف .
    2- الرجل الذي يقوم فيصلي ركعتين رياءًا لأجل الناس ولم يقصد بها التقرّب لله .
    3- الرجل الذي يُحدث في بداية صلاته ثم يتمّها حياءً من الناس وهو لا يتقرّب بها إلى الله.

    وأما قولكم: أن من فعل ما ظاهره العبادة من غير علم الفاعل بكونه عبادة لا يستحقها إلا الله لا يكون عابدا لغير الله فدعوى مجرّدة؛ لأنك لم تذكر دليلاً عليها، وما كان كذلك فلا يقبل
    ##
    الجمع بين النصوص يبيّن أنّ المناط في العبادة لا يمكن أن يكون هو العمل الظاهر وحده دون اعتقاد القلب والأمثلة السابقة تدلّ على ذلك، والعبادة في اللغة هي الخضوع وفي الاصطلاح : هي الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بمن له الألوهية ويدل عليه ( يحبّونهم كحب الله)

    مع أنها تستلزم أن لا يكون هناك مشرك جاهل بل مشرك معاند فقط وهو باطل لقوله تعالى:﴿لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون﴾ مع أن السلف الصالح أجمعوا على كفرهم وشركهم مع الجهالة وأن موتاهم على هذا الشرك مخلدون في النار.
    ##
    لا تستلزم ذلك فلو خضع عبد لغير الله الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بالله فهو مشرك وإن كان جاهلًا وقال : أنا لا أعلم أنّ الخضوع الخاص لا يستحقّه إلا الله، وهذا ما تنطبق عليه الآية السابقة ..

    وقولكم:[والذي يدل على ذلك أنّ الله مع وصفه لأفعال الكفار بأنّها شرك إلا أنّه بيّن ما وقر في قلوبهم من الدافع الذي حملهم على ذلك فقال: ﴿يحبونهم كحبّ الله﴾ فما كان فيه حب وخضوعٌ وخوف يضاهي الحب والخوف والخضوع الخاص بالله فهو عبادة وصرفه لغير الله شرك] فيه نظر، بل ضعيف لأنه لا يجوز أخذ الواقعات شروطًا في الأحكام الشرعية، بل الشرط يحتاج إلى ما يدل على الشرطية كما يحتاج المانع إلى ما يدل على المانعية. وعلى هذا فلا حجة في الآية في اشتراط الداعي القلبي؛ لأن الأحكام تجري على الظواهر إلا بدليل يحوجنا إلى الخروج عنها.
    ##
    السياق والقرائن تبيّنان اللفظ العام، فإذا وصف الله عملًا من أعمال الكفّار بأنّه شرك وجاءت آيات أخرى تبيّن قرائن حالهم وأنّهم مع صرفهم للعمل الظاهر كانوا يعتقدون اعتقادًا باطنيًّا فاسدًا، فإنّنا نقيّد هذا بهذا، وقد أخبر الله عنهم وجه تنديدهم به وأنّهم يحبّون أصنامهم كحبّ الله
    قال ابن دقيق رحمه الله : (( والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون ان اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ على بخصوص السبب ويجب ان تتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدلة على تخصيص العام وبين مجرد ورود العام على سبب .. الى ان قال ...: أما السياق والقرائن فأنها دالة على مراد المتكلم من كلامه وهي المرشدة الى بيان المجملات وتعيين المحتملات فاضبط هذه القاعدة فأنها مفيدة في مواضع لاتخفى...فأنظر الى قوله عليه السلام (( ليس من البر الصيام في السفر مع حكاية هذه الحالة من القبيلين هو ؟ فتنزله عليه ))

    هذا على أنّك لم تأتِ بدليل يدلّ على أنّ كل من صرف هذا العمل الظاهر لغير الله فهو مشرك .
    أقول: المثال غير مطابق لما قرّرته، ويظهر أنك لم تستوعب القاعدة بعدُ؛ لأن من كذّب حديثاً ولم يعلم أنّ النبي ﷺ قاله لم يكذّب النبي ﷺ وإنما كذّب خبراً سمعه من بعض الناس، وتكذيبهم ليس بكفر شرعا، وإنما الكفر تكذيب النبي ﷺ. قولك:[وإن كان جاهلًا إلا أنّه قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله من التكذيب، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم عليه..] مغالطة وإلا كيف يقصد تكذيب النبي وهو لم يعلم أنه قاله؟ بل الصواب أن تقول: إنه قاصد للفعل ومعنى الفعل الذي هو تكذيب المخبِر والراوي، لا تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكون التكذيب إلا بعد العلم بذلك.
    ##
    نحن نتكلّم عن العمل الظاهر ولا نتكلم عن قصد هذا الشخص الجاهل كما هو الحال مع فاعل الشرك جاهلًا ..
    من قال مثلًا عن خبر أن الحجر جرى بثوب موسى فضربه موسى .. من قال عن هذا الخبر بأنه خرافة وكذب .. أليس تكذيب خبر موسى هذا هو تكذيب لخبر من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر .. أليس الأصل أنّ من كذّب خبرًا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنّه مكذّبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر ..
    إذن من وقع في هذا الفعل فقد وقع في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم .. فالعمل الظاهر عندنا هو تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم .. ولا عبرة باعتقاد الشخص أو نيته أو كونه جاهلًا فالجهل ليس بعذر في نقض أصول الدين ..


    قولك:[وإن كان جاهلًا إلا أنّه قاصد للفعل الذي فعله وعالم بمعنى ما فعله من التكذيب، وبهذا يتمّ حقيقة الاسم عليه..] مغالطة وإلا كيف يقصد تكذيب النبي وهو لم يعلم أنه قاله؟
    بل الصواب أن تقول: إنه قاصد للفعل ومعنى الفعل الذي هو تكذيب المخبِر والراوي، لا تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكون التكذيب إلا بعد العلم بذلك.

    ##
    لا عبرة بعلمه أو عدم علمه بأن ما فعله هو تكذيب لخبر النبي صلى الله عليه وسلم .. صورة العمل الظاهر (القول بأن خبر موسى خرافة ) هو تكذيب لخبر من الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ..
    وإن أردت ترجع عن ذلك كله فتقول : هو لم يقصد التكذيب فنحن نقول فيمن صرف العمل الظاهر لغير الله وهو جاهل: هو لم يقصد التعبد ..
    وإن قلت كيف يقصد تكذيب النبي وهو لم يعلم أنه قاله ، فنقول: كيف يقصد هذا الجاهل الشرك بالله وهو لا يعلم أنّ هذا العمل من العبادات التي لا يستحقّها إلا الله ولم يقع في قلبه يومًا أنّ ما فعله هو من التعبُّد لغير الله.


    والآفة أنك تخلط بين مانع الحكم وبين مانع السبب لأنّ تكذيب النبي عليه السلام هو سبب التكفير فإذا لم يقصد العبد تكذيب النبي ﷺ لم يحصل سبب التكفير لأن قصد المعنى الكفريّ شرط لا يتمّ السبب إلا به.
    ##
    ونحن نقول كذلك بأن من الجاهل لم يقصد التعبّد لغير الله ولم يخصل له سبب التكفير

    وتقريبه بالمثال: أن الأعجمي إن قيل له: النبي ﷺ ساحر!! وهو لا يعلم العربية إطلاقا فقال: النبي ﷺ ساحر!! فلا يكفّر لعدم قصده معنى القول وإن قصد التلفظ به، وكذلك من رمى المصحف في قاذورة وهو لا يعلم أنه قرآن لا يكفر لأنه قصد الرمي ولم يقصد المعنى الذي هو رمي المصحف في القاذورة.
    ##
    وكذلك من صرف عملًا يظنّه من الأعمال العادية التي يجوز صرفها للمخلوقين لا يكفر لأنّه لم يقصد معنى التعبد .

  14. #14

    افتراضي

    زادك الله حرصا وعلما أبا البراء الجهني..
    أرجو أن يكو ن القصد منا الإفادة والاستفادة بإنصاف إن شاء الله، وإذا كان كذلك، ثمّ وافقت على الأصل أو القاعدة السالفة فقولك: [لكن أين الدليل على أنّ صرف ظواهر العبادة كالسجود والركوع لا يقع إلا على وجه الشرك وأنّ فاعلها مشرك..] غريب لأنه إذا أثبتَّ أنّ جنس السجود والركوع لا يصرف إلا لله فهو داخل في القاعدة، وألتزم تكفيرَ من صرفه إلى غير الله ولا أعذره بالجهل تعليقا للحكم بسببه، وأطلق عليه اسم المشرك لقيام الوصف أو المصدر به، والقاعدة أن الوصف إذا قام بالمحلّ جاز اشتقاق اسم الفاعل منه.
    أما ما ذكرتَه كهادم للأصل الذي وافقتَ عليه فلا أدري كيف توافق ثم تورد ناقضا للأصل؟
    هذا والقاعدة في الأصول: إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال. وبعبارة أخرى: «القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلّف» وانطلاقا من هذه القاعدة، ومن الأصل السابق أقول:

    1- سجود إخوة يوسف لا يرد نقضا على الأصل؛ لأنك لم تُثبت أن جنس السجود كان من خصائص الإلهية في شرع يوسف وإخوته! كيف وقد بُحِثَ في أن السجود لغير الله كان جائزا في شرائع من قبلنا؟ ومن ثمّ سجود إخوة يوسف لا يكون داخلا في الأصل، ولا وارداً كنقض للقاعدة.

    2- الرجل الذي يقوم فيصلي ركعتين رياءً لأجل الناس ولم يقصد بها التقرّب لله.

    هذه الصورة لا ترد أيضا لأن الرياء من شرك الأغراض لا من صرف العبادة إلى غير الله فلا يدخل في محلّ البحث.

    نعم، لو فرضنا أنها من صورة النزاع فقد نُقِل الإجماع على أنّ شرك الرياء فسق وليس بكفر كما في [المنهج السديد في شرح كفاية المريد:ص154-155]

    لأن المرائي يشرك في الغرض من العبادة وليس في صرف العبادة إلى غير الله، ولعلّ هذا الفرق سرّ الإجماع على عدم التكفير به إن صحّ. وهذا في الرياء من حيث الجملة.
    أما هذه الصورة فقد يقال إنها كفر وصاحبها كافر من أجل مناط آخر وهو الاستخفاف بالصلاة ولهذا جاء في كتب الحنفية: من صلّى مع الإمام بجماعة بغير طهارة عمدا كفر.

    ومن صلّى إلى غير القبلة عمدا كفر. ومن تحول عن جهة التحري وصلى عمدا كفر.

    ومن سجد، أو صلى رياءً محدثا كفر. ومن ترك صلاة تهاونا كفر.

    يراجع: رسالة من يكفر ولا يشعر لابن قطلوبغا ص39)

    3- الرجل الذي يُحدث في بداية صلاته ثم يتمّها حياءً من الناس وهو لا يتقرّب بها إلى الله.

    وهذه الصورة أيضا ليست من محل البحث وليست على الشرط على أن الحنفية ذكروا أنه إن قصد القيام قيام الصلاة، وقرأ شيئا من القرآن، وإذا حنى ظهره قصد الركوع، وسبّح فيه، فهو كافر بالإجماع، وإلا فالتكفير مختلف فيه. يراجع: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (7/415) وشرح ابن رجب لحديث إنما الأعمال بالنيات من الأربعين


    وذكرتَ:


    [أنّ المناط في العبادة لا يمكن أن يكون هو العمل الظاهر وحده دون اعتقاد القلب والأمثلة السابقة تدلّ على ذلك]
    فإن كنت تقصد أنّ مناط الحكم ليس صورة الفعل المجرّدة بل لا بد من القصد إلى معنى الفعل فهذا مسلّم، وإلا فليس بشيء، وأرجو أني لم أقل إن الحكم منوط بصورة الفعل المجرّدة.
    واعذرني أخي فإني أحسب أنك لم تفهم المراد من القصد لمعنى القول..
    ودعني أزيد من الشعر بيتا فأقول:مناط الحكم في جميع المسائل قصدُ القول والفعل، وهو يتضمّن القصد إلى المعنى إذا كان القول صريحًا أو ظاهرًا في المراد، وترتّب الأحكام على الأسباب للشارع لا للمكلَّف فإذا أتى العبد بالسبب لزمه حكمه شاء أو أبى.

    وهذه قاعدة الشريعة وأصلها في الحكم على النّاس بظاهر أعمالهم؛ لأن الأعمال الظاهرة تعبّر عما في الضمائر، والأصل مطابقة الظاهر للباطن، ولم نؤمر أن ننقّب عن القلوب، ولا أن نشقّ البطون، لا في باب الإيمان ولا في باب الكفر، بل نكل السرائر إلى الله؛ ولأن قصد اللفظ المتضمِّن للمعنى قصدُ لذلك المعنى، إلا أن يعارضه قصد آخر معتبر شرعا كالإكراه..
    أما إعذار أهل الموانع المعتبرة فإنما كان من أجل أنهم لم يقصدوا معنى القول الكفري بدلالة المانع القائم بهم؛ فلم يتمّ السبب، وإنّما القول جزء السبب لا كلّه، أو هما سببٌ وشرطُه، ولا يتمّ السبب إلا بشرطه.
    وإذا اجتمع صورة الفعل وقصد المضمون والمعنى رتّبنا الحكم عليه، وكنّا حاكمين بالظاهر الدالّ على الباطن لا بمجرَّد الباطن، ولا بمجرّدة صورة الفعل الظاهرة.
    وعلى هذا فوجود صورة الفعل الظاهرة جزء السبب وقصد المعنى الجزء الآخر، وبمجموعها يتمّ السبب، ويحتمل أن يجعلا سببا وشرطا.
    [والعبادة في اللغة هي الخضوع وفي الاصطلاح: هي الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بمن له الألوهية ويدل عليه ( يحبّونهم كحب الله)]
    هذا التعريف من حيث الجملة لا بأس به وعرّفها بعضهم: «حدّ العبادة هي الأفعال الواقعة على نهاية ما يمكن من التذلّل والخضوع لله، المتجاوز لتذلّل بعض العباد لبعض».
    تعريف آخر: «العبادة طاعة معها خضوع وتذلل وتعظيم وتقرّب مع اعتقاد الهيبة بالمعبود».
    تعريف آخر: «العبادة: مأخوذة من التذلل والاستكانة. ومعناها: كلّ طاعة يؤتى بها على سبيل التذلل تعظيما للمطاع دون التوصّل بها إلى نفع ناجز للمطيع، وتخيّل غرضٍ للمطاع فيه».
    قلت: إذا صُرِفت هذه الحقيقة إلى الله بإذن منه فهو التوحيد، وإذا صرفت إلى غيره فهي الإشراك والكفر.
    وقديما قيل: إذا اختلفتم في الحقائق فحكّموا الحدود؛ فهل رأيت أخي الفاضل في الحدّ الذي ذكرتَه، أو في الذي ذكرتُه اشتراطَ كون الفاعل عالماً بأن ما فعله لا يستحقه إلا الله، أو أنّه من خصائص الله التي لا تصرف إليه؟ أم أنه إذا وجد هذا المعنى فالفعل شرك وعبادة لغير الله، والفاعل مشرك عابد لغيره؟
    [...فإذا وصف الله عملًا من أعمال الكفّار بأنّه شرك وجاءت آيات أخرى تبيّن قرائن حالهم وأنّهم مع صرفهم للعمل الظاهر كانوا يعتقدون اعتقادًا باطنيًّا فاسدًا، فإنّنا نقيّد هذا بهذا، وقد أخبر الله عنهم وجه تنديدهم به وأنّهم يحبّون أصنامهم كحبّ الله]
    أخي الحبيب: أرجو أن لا يذهب بك الوهم بعيدا إذ لا أحد ينكر اعتبار قرائن الأحوال في موضعها، لكنك تحيد عن السؤال: ما هو الدليل على أخذ أحوال وواقعات المشركين شروطا في الأحكام والحكم عليهم بالشرك والكفر؟ ألا ترى أن مشركي العرب أو أكثرهم كانوا في عبادة الأشجار والأحجار وصور الصالحين وصرف خصائص الله إليها، فهل تقول: صارف الخصائص الإلهية إلى غيره لا يكون مشركا ولا عابدا لغيره حتى يعبد مجسّدا أو مصوّرا؟ أم أن الشرك يثبت بحقيقته؟
    أما أنهم يحبّون أصنامهم كحبّ الله!
    فهل رأيتَ عابداً لا يهاب معبوده ولا يعظمّه ولا يحبّه وإن قلّت؟
    على أنّ الأصل في التشبيه أن يكون المشبه أنقص من المشبّه به إلا أن يكون من باب المقلوب وقد تنازع البيانيون في وقوعه في القرآن الكريم؛ لأنه خيال وغير حقيقة ولا يقع في التنزيل إلا الحقائق فلا يقع المقلوب في التنزيل عند النفاة.
    [هذا على أنّك لم تأتِ بدليل يدلّ على أنّ كل من صرف هذا العمل الظاهر لغير الله فهو مشرك].
    لا أدري ما تعني بالعمل الظاهر؟
    لأن الظاهر عندي غير الظاهر عندك كما تبيّن لي من مشاركتك، فتأخير الجواب إلى تبيين المقصود أولى.
    ورغم ذلك أقول: قال الله تعالى:
    ﴿ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا﴾
    ﴿ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾
    ﴿إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار﴾
    ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾
    ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين﴾
    ﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين﴾
    ﴿ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون﴾.
    ﴿فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين﴾
    ﴿ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا﴾
    ﴿لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا﴾.
    ﴿ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين﴾
    وفي هذه الدلائل:
    أن حقيقة الشرك، والوعيد المرتّب عليه يثبت بمجرّد وجود حقيقة الشرك من العباد.
    وأنّ المشرك الداعي مع الله معبودا آخر معذّب في الآخرة، وترتيب الحكم على الوصف حكم بعلّيّة الوصف، وهي تعمّ الجاهل والعالم، وقبل البعثة وبعدها، وإن كان العذر بعد الرسالة أسقط.
    وفيها: دليل على أنّ المشرك ملقى في جهنم ملوما مبعداً من رحمة الله ولا علة لهذا إلا الإشراك بالله وهو يعم النوعين والزمانين.
    ولا ريب أن القائل بإعذار المشرك بالجهل: قائل بعدم الملامة والخذلان، وعدم الدحر والعذاب وعدم الإلقاء في جهنم، وقائل أيضا بوجود البرهان للمشرك عند الله، وبإمكان الفلاح في الآخرة، ولا ريب أن هذا تكذيب منه للقرآن شعر أو لم يشعر والله أعلم ﴿قل أأنتم أعلم أم الله﴾.
    وفيها: دليل على أنّ استحقاق المشرك للوعيد والذم يتمّ بجريان الشرك منه، وأنه ظالم بذلك مشرك ﴿والكافرون هم الظالمون﴾ ومن اشترط وصفا زائدا على هذا فقد خرج عن دلالة الكتاب.
    وفي قوله: ﴿ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾ مع دلالة التركيب من قوله:﴿ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا﴾ وضميمة قوله:﴿تالله لتسألن عما كنتم تفترون﴾ وقوله:﴿سيجزيهم بما كانوا يفترون﴾ مع قوله: ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون﴾ وقوله:﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم﴾ ﴿لا جرم أنّ لهم النار وأنهم مفرطون﴾ دليل بيّن على أن المشرك مفتر على الله، وضال عن دين الله ضلالا بعيدا، وأنه يسأل عن افترائه الذي هو الشرك بالله، بل يجازى عليه، وأن الجزاء لا يكون إلا النار والعذاب الأليم.
    وهذا يعمّ جميع أنواع المشركين للاشتراك في العلة كما يشمل المشرك قبل الرسالة وبعدها.
    ومن السنة:

    1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» وفي رواية: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار». وفيه أن الرجل يهوي في النار سبعين خريفا مع عدم العلم وثبوت الجهل.

    2- وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله: «حلفت باللات والعزى وكان العهد قريبا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني حلفت باللات والعزى وكان العهد قريبا، فقال: لقد قلت هجرا، اتفل أو انفث عن يسارك ثلاثا وتعوّذ بالله من الشيطان، واستغفر الله ولا تعد».
    وفي رواية: «فقال لي أصحاب رسول الله: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته، فقال لي: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوّذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له».

    والظاهر أنه أمر بتجديد الإسلام كما ذهب إليه ابن الوزير في «الإيثار» والجلال في «ضوء النهار» والصنعاني في «تطهير الاعتقاد» و«سبل السلام» والشوكاني في «نيل الأوطار».

    فلم يعذر سعد بن أبي وقاص بالجهل أو بالخطأ مع حداثة عهده فكان دليلا على أن المشرك لا يعذر.
    وقال الشوكاني رحمه الله: «في الأمر لمن حلف باللات والعزى أن يتكلم بكلمة الشهادة دليل على أنه قد كفر بذلك..».
    وقال الشيخ سليمان بن عبد الله (1233هـ) رحمه الله: « أخذ به طائفة من العلماء فقالوا: يكفر من حلف بغير الله كفر شرك، قالوا: ولهذا أمره النبي ﷺ بتجديد إسلامه بقول: لا إله إلا الله، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذ لك» ثم نقل عن الجمهور خلاف ذلك ورجّحه.

  15. #15

    افتراضي


    3- حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة، أراه قال من صفر، فقال: ويحك، ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا».
    وظاهره أنه لم يعذر بالجهالة كما قال الشيخ ابن عبد الوهاب، ويشهد لكون مثل هذا الفعل كفرا بالله وشركا به أحاديث كثيرة.
    4- حديث بكر بن سوادة عن رجل من صداء قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا فبايعناه وترك رجلا منا لم يبايعه فقلنا: بايعه يا نبي الله، فقال: «لن أبايعه حتى ينزع الذي عليه، إنه من كان منا عليه مثل الذي عليه، كان مشركا ما كانت عليه» قال: فنظرنا فإذا في عضده سير من لحاء شجرة أو شيء من السحرة».
    وفيه تعليق النبي ﷺ الحكم بالاتصاف بالفعل الشركي وهو ما كنت أقرّره والله الموفّق.
    5- حديث عقبة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا، قال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: من علق تميمة فقد أشرك».
    وفيه أن الاسم وحقيقة الشرك منوط بالتلبس بالفعل الشركي فحسب.
    6- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب» قوله:﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب﴾ فكان الرجم مما أخفوا».
    وفيه أن الرجل يكفر بكتاب الله وهو لا يشعر أنه كفر، ولا يكون إلا جاهلا.
    7- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يعلم».
    وفيه أنّ الرّجل يكفر ويصبح يهوديا أو نصرانيا وهو لا يعلم وفيه تكفير الجاهل.
    9- وعن محمد بن سيرين رحمه الله: «رأى عبد الله بن عتبة رجلاً يصنع شيئا من زيّ العجم؛ فقال: ليتق رجل أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال ابن سيرين: فظننته أنه أخذها من هذه الآية ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾».
    هذا ما حضرني من دلائل الكتاب والسنة وآثار السلف، وقد تقرّر في المباحث العقائدية أن الشرك إثبات شريك لله فيما هو من خصائص الله. وهذا حكم القرآن فيمن أشرك وصرف بعض الخصائص إلى غير الله.
    [نحن نتكلّم عن العمل الظاهر ولا نتكلم عن قصد هذا الشخص الجاهل كما هو الحال مع فاعل الشرك جاهلًا ..]
    هذا من قبيل ما سبق، لأننا لم نتفق على مفهوم الظاهر إلى الآن.
    وخلاصة ما أرى أنه لا يصح غيره: أنّ قصدَ المضمون من الظاهر إذا كان اللفظ أو الفعل صريحا أو ظاهراً في دلالته، وأنّ من قصد القول أو الفعل فقد قصد المعنى الذي تضمّنه؛ فيلزمه حكم قوله إلا أن يوجد قصد معتبر معارض لذلك كالإكراه.. أما اللعب والاستهزاء فقصد غير معتبر؛ ولهذا يلزم الهازل ونحوه حكم أفعالهم وأقوالهم.
    وعلى هذا فمن سجد بين يدي صنمٍ بصورة صريحة أو ظاهرةٍ يحكم عليه بالكفر في حكم الشرع إذا لم نعلم عدم قصده السجود للصنم بل السجود لله.
    وإذا أتينا إلى مسألة الجاهل فلا ريب أنه يأتي بصورة الفعل من الذبح أو السجود أو الاستغاثة اختياراً، وأنه يدرك معنى ما فعل من السجود والاستغاثة والذبح لهذا المخلوق؛ وبهذا يتمّ السبب.
    لكنّ بعضهم قد يجهل حكم الفعل، وأنه لا يستحقه إلا الله، وأن الفاعل مشرك وكافر.
    وهذا لا عبرة له في نفي التكفير؛ لأنّ الجهل هنا مانع حكمٍ وقد أتى المكلف السبب مختاراً فلزمه حكمه شاء أو أبى.
    [من قال مثلًا عن خبر أن الحجر جرى بثوب موسى فضربه موسى.. من قال عن هذا الخبر بأنه خرافة وكذب .. أليس تكذيب خبر موسى هذا هو تكذيب لخبر من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر.. أليس الأصل أنّ من كذّب خبرًا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنّه مكذّبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر ..]
    أقول: هذا كمن قال فيمن داس المصحف في ليلة ظلماء وهو لا يدري أليس هذا إهانة واستخفافا بالقرآن الكريم في حقيقة الأمر؟
    وفيمن أراد أن يلعن هامان فسبق لسانه إلى هارون، أليس لعنا وسبّا للنبي عليه السلام في حقيقة الأمر؟ وهلمّ جرّا.
    يكفيك أخي الجهني أن تقول: هذا كذّب القصّة أو الخبر، أو كذّب الراوي والناقل.
    وإن كنت تريد أنه كذّب النبي صلى الله عليه وسلم فلا بدّ أن يعلم المكذِّب أنه قول النبيّ عليه السلام وإلا كيف يمكن قصد تكذيب قائلٍ لم يُعلم أن المكذّب به قوله؟
    على أنّه نسب للجمهور أن من جحد خبرا من أخبار الآحاد لا يكفّر لأنه ليس تكذيبا للنبي عليه السلام؛ إذ لم يقطع أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لاحتمال الكذب والخطأ من جهة الراوي..
    ومن قال من العلماء: إنه يكفر بجحد خبر الواحد فإنه يقول: لا بدّ من صحة الخبر عند الجاحد والعلم بأن النبي قاله عليه السلام.
    أشمّ من كلامك أنّ انتفاء القصد ليس بمانع! فإن كان الأمر كذلك فهو مما لم أره لأحدٍ قبل هذه المشاركات.
    وتوضيحا للمعنى أو تقريبا للفهم أقول:
    عندنا أمور ثلاثة في السبب المكفِّر:
    أحدها: صورة الفعل التي تقع من العاقل والمجنون، وقد تقع من بعض الحيوانات.. وهذا لا بدّ منه لأنه لا يمكن الاعتماد على الباطن المجرّد إلا بوحيٍ.
    ثانيها: قصد معنى الفعل الذي هو حقيقته ولبّه، وهو الفارق بين فعل العجماوات والمجانين وبين أفعال العقلاء. وهذا لا بدّ منه أيضا بل لا يكون المرء قاصداً للفعل إلا به لأن المعنى ينعقد أولا في القلب، ثمّ يُخرَج إلى الواقع والخارج في صورة فعل أو قول ظاهر.
    فمن أتى بالأمر الأول مجرّدا عن الثاني لا يكفّر، والمانع: انتفاء القصد كما في سبق اللسان.
    ومتى انعقد المعنى في قلبه ولم يُخرِجه إلى الخارج بصورة قولٍ أو فعلٍ فليس لنا عليه من سبيل وإنما السبيل لله عليه وهو يحاسبه.
    ثالثها: أن يقصد الحكم الذي ينشأ من الفعل بصورته وحقيقته.
    وهذا ليس بشرط ولا يعتبر؛ إذ الشرط قصدُ الفعل لا قصد الكفر بالله والإشراك به؛ إذ لا يقصد الكفر أو الشرك أحد إلا ما شاء الله كما قاله أبو العباس ابن تيمية.
    وعلى هذا فلا محلّ لقولك: [إذن من وقع في هذا الفعل فقد وقع في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم.. فالعمل الظاهر عندنا هو تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم.. ولا عبرة باعتقاد الشخص أو نيته أو كونه جاهلًا فالجهل ليس بعذر في نقض أصول الدين...]
    لأنّ هذا الإطلاق خطأ، فإذا منعت اعتبار قصد المكلفّ ونيتّه فكفِّرْ من أراد لعن هامان فسبق لسانه إلى هارون!
    وكفِّرْ من داس المصحف ولا يدري أنه مصحف!
    وكفّر من قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك من شدة الفرح!
    وكذلك إطلاق نفي العذر بالجهل ليس بصواب بل الجهل المتعلِّق بالأسباب عذر عند الجميع لانتفاء القصد من أجله.
    ولعلك تقصد الجهل المتعلِّق بالحكم لان عندنا جهل حكم، وجهل حقيقة الفعل، فالأول لا يعذر به في أصل الدين وفي بعض المسائل، والثاني معتبر في جميع المسائل.
    هذا ما أفهمه من دين محمّد عليه السلام وقواعد علمائه.
    [لا عبرة بعلمه أو عدم علمه بأن ما فعله هو تكذيب لخبر النبي صلى الله عليه وسلم... صورة العمل الظاهر (القول بأن خبر موسى خرافة ) هو تكذيب لخبر من الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ..
    وإن أردت ترجع عن ذلك كله فتقول: هو لم يقصد التكذيب فنحن نقول فيمن صرف العمل الظاهر لغير الله وهو جاهل: هو لم يقصد التعبد..]
    معاذ الله أن أرجع عن الحقّ كما قامت عليه الأدلة وأجمع العلماء عليه، وقد شرحت آنفا ما في تقريرك من الخطأ والالتباس فلا حاجة إلى إعادته، وكذلك الإنكار للخبر الواحد، وقد تقدّم أنّ ما تحاول تقريره لا يقول به أهل العلم فإنهم صنفان صنف يكفّر به عند العلم بصحة الخبر، ومن لا يكفر به إطلاقا.
    وكلامك في صورة الفعل الظاهر يحتاج إلى توضيح كي لا يغترّ به من لا يفطن لمواطن الخلل؛ ذلك:
    أن صورة العمل الظاهر يعتمد عليه من لا يعلم حقيقة الأمر كمن رأى ساجدا بين يدي صنم وهو ساجد لله فكفّره بناءً على أنه سجد للصنم. وهذا لا كلام فيه وقد سلف، لكن البحث فيمن علم الانفصام بين صورة الفعل، وبين حقيقته، وقد سبق بعض التفصيل فيه.
    ومحاولة قياس المشرك الجاهل على منكر الخبر في قولك: [فنحن نقول فيمن صرف العمل الظاهر لغير الله وهو جاهل: هو لم يقصد التعبد..] خلط لا يحتمل، لأنه ليس بقياس جمعٍ ولا بنفي فارقٍ، وكان يستقيم لك هذا: لو كان المشرك لا يعلم أنّ هذا ذبح لفلان، ولا استغاثة بفلان، أو سجود لبوذا، فتقول: لا يكفَّر لانتفاء قصد الذبح لفلان والاستغاثة بفلان، والسجود لبوذا، كما نقول: لا يكفّر لانتفاء القصد إلى تكذيب النبي عليه السلام لأنه لم يعلم أن هذا قوله. أما إذا تصوّر كلٌّ منهما حقيقة فعله، ثمّ أقدم عليه مختاراً، لزمه حكمه شاء أم أبي.
    وتقريب المسألة بمثال آخر على شكل سؤال:
    ما تقول فيمن ذبح لصنم أو سجد له وهو هازل، أو جادّ لمصالح، ومعلوم أنّه لم يقصد التقرب ولا التعبّد كما هو اصطلاحك، وما حكمهما عندك؟
    فإن قلت: ليس بكافر ولا مشرك خرجتَ عن قول أهل السنة والجماعة.
    وإن قلت: هو مشرك نقضت أصلك وقاعدتك لانتفاء مناطك وهو قصد التعبد!.
    واختر أيهما شئت فإن أحدهما لازم على الإنصاف.
    [..فنقول: كيف يقصد هذا الجاهل الشرك بالله وهو لا يعلم أنّ هذا العمل من العبادات التي لا يستحقّها إلا الله ولم يقع في قلبه يومًا أنّ ما فعله هو من التعبُّد لغير الله].
    وهذا أيضا من البابة التي شرحتها أعني الخلط بين الجهل بالحكم وبين الجهل بمعنى الفعل والقول.
    ولأن ما تقرّره مثل أن يقال: كيف يكفَّر ويكون مشركا وهو لم يعلم يوما من الدهر أنه يكفر بذلك؟
    أو كيف يكون مشركا وهو لم يقصد لحظة من عمره أن يشرك بالله؟
    أخي الكريم: من عرف أنّ هذا الفعل من العبادات التي لا يستحقها إلا الله أو أنه من الشرك الأكبر، ثم أقدم على ذلك مختاراً فقد قصد أن يكفر بالله ويشرك به.
    وبه يظهر أنك تشترط في الشرك وعبادة غير الله قصدَ المرء أن يشرك بالله؛ ولهذا قلتُ: أنك لا تكفّر إلا المشرك المعاند، وإن نفيته وأنكرته، لكن هذه هي الحقيقة فماذا أفعل؟
    [ونحن نقول كذلك بأن من الجاهل لم يقصد التعبّد لغير الله ولم يخصل له سبب التكفير]
    كنت أحسب أنه التبس مانع الحكم بمانع السبب، أو قصد المعنى بقصد الكفر، والآن أكاد أجزم به؛ لأن هذا كقولنا: أنّ الجاهل لم يقصد الإشراك بالله أو الكفر به فلم يحصل له سبب التكفير! درجة لم يبلغها حتى كفّار قريش.
    وهو واضح من تقريريك؛ لأن الشرك إثبات شريك لله فيما هو من خصائص الله، أو صرف خصلة من الخصائص إلى غيره، فإذا قصد العبد إلى صورة الفعل ومعناه فقد تحقق أنه مشرك لقيام حقيقة وصف الشرك به، سواء كان جاهلا أو معانداً، أو هازلا إلا أن يوجد مانع معتبر.
    وأقصى ما في كلامك: أنّ الجاهل أراد بفعله الشركي غير حقيقته.
    وهذا لا ينفعه بل هو كافر ومشرك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:« إن كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صحّ كفره ولم يصحّ إيمانه، فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة، فلم يصحّ إيمانه، والرجل لو تكلّم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صحّ كفره ظاهراً وباطنا..»
    وقال رحمه الله: «إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرّم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده.
    هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل».
    [وكذلك من صرف عملًا يظنّه من الأعمال العادية التي يجوز صرفها للمخلوقين لا يكفر لأنّه لم يقصد معنى التعبد].
    لا أدري مفهوم التعبّد عندك، ولا الأعمال العادية!

    لكن أعلم أن الأعجمي تلفّظ بقولٍ لا يدري ما هو؟ بل سواء عنده الماء والنار، والحجر والثمر، والسبّ واللعن والثناء والمدح.

    وكذلك الرامي الذي لا يدري ما رماه، هل هو قانون طاغوت، أو خرفة ساحر، أو لوح مربّع أو حجر مستطيل، أو قصاصة أوراق. وأعلم أنهما لم يقصدا رمي مصحف، ولا سبّ نبي أو رسول.
    أما المشرك فهور عارف حقيقة ما فعل، وقاصد؛ لأنّه يدري حقيقةً ما هو الذبح والسجود والاستغاثة ونحوها وأنه قصد بها وتقرّب إلى المقبور الفلاني والوليّ الروحاني اختياراً، ويحسب أنه مهتد ويحسن صنعا.
    ولا يمكن لمنصف أن يسوي بين الصورتين إلا أن يكون ممن يخلط بين جهالة الحكم وبين جهالة حقيقة الفعل والله المستعان.
    وأخيراً:
    هذه تقريرات ذكرتها تعليقا على كلامك واعتراضك إثراء للموضوع إفادة أو استفادة فاسمحني سامحك الله إن نبتْ عبارة ولم تهذّب، أو قست ولم تلطف. والله من وراء القصد.




  16. #16

    افتراضي

    بارك الله فيك أخي الحبيب أبا محمد المأربي ..
    الحوار معك ممتعٌ ومفيد ..
    لديّ قناعات في باب شرك العبادة وقد أخذتُ بها بناءًا على الأدلة والحجج التي توصلْتُ إليها لكن لا مانع عندي من تغيير كل هذه القناعات متى ما لاح لي الحقُّ بدليله، وأتمنّى ألا تأخذني نفسي للتعصّب لقولٍ لأنّي تلقّيته أولًا أو لأنّه يوافق هواي وإلا صرتُ من المقلّدين وليس من طلاب الحق الحقيقيّين الذين يهمّهم الوصول إلى الحقّ بغضّ النظر هل ظهر الحق على لسانه أم على لسان من يحاوره .. الباحثون عن الحقيقة هم كقوم اجتمعوا للبحث عن ضالتهم المفقودة .. وهم يفرحون جميعًا بالوصول إليها ولا يهمهم على يد مَن ..


    إليكم تعليقاتي :
    ثمّ وافقت على الأصل أو القاعدة السالفة فقولك: [لكن أين الدليل على أنّ صرف ظواهر العبادة كالسجود والركوع لا يقع إلا على وجه الشرك وأنّ فاعلها مشرك..] غريب لأنه إذا أثبتَّ أنّ جنس السجود والركوع لا يصرف إلا لله فهو داخل في القاعدة، وألتزم تكفيرَ من صرفه إلى غير الله ولا أعذره بالجهل تعليقا للحكم بسببه، وأطلق عليه اسم المشرك لقيام الوصف أو المصدر به، والقاعدة أن الوصف إذا قام بالمحلّ جاز اشتقاق اسم الفاعل منه.
    ##
    أخي أبا محمد : أنا وافقتك على الأصل لو ورد فيه دليل لكنّه لم يرد دليل عام يقول بأنّ كل سجود هو عبادة وبالتالي فمن صرفه لغير الله فهو مشرك ، بل على العكس جاء الدليل بأنّ من السجود ما ليس بعبادة مثل سجود إخوة يوسف ..
    فأنا لا أوافقك بأنّ جنس الركوع والسجود لا يُصرف إلا الله .. فقد يسجد الشخص للمخلوق احترامًا وتعظيمًا يليق بالمخلوق ولا يكون فعله عبادة كما وقع من إخوة يوسف .. المشكلة يا أبا محمد أنّنا جعلنا الأصل في السجود والركوع أنّه عبادة مع أنّ الأدلة جاءت بأنّ السجود والركوع منه ما هو عبادة يكون صرفه لغير الله شركًا ومنه ما هو تعظيم واحترام يليق بالمخلوق وهذا كان جائزاً في بعض الشرائع السابقة وهو محرّمٌ في شريعتنا ..
    أمّا قاعدة اشتقاق اسم الفاعل ممّن قام به الوصف فأرى بأنّها ضعيفة وبيان ضعفها من جهتين :
    1- يلزم من هذه القاعدة تكفير من كان معذورًا في حصول الشرك منه وهو المُكره فإنّ المكره يصحّ في اللغة اشتقاق اسم من الفعل الذي فعله وهو مكره، فمن ألقى رجلًا من بناية عالية بالإكراه من غير اختيار يصح أن يقال عن المكره هنا بأنّه ساقط رغم أنّه لم يقصد الفعل.
    2- يلزم من هذه القاعدة الحكم بالتوحيد على من ثبت كفره وشركه عند الجميع، فإنّ المشرك الباقي على شركه إذا صلى صلاة واحدةً مخلصًا فيها لله وحده لا شريك له يصح أن نسمّيه موحدًا ..


    أما ما ذكرتَه كهادم للأصل الذي وافقتَ عليه فلا أدري كيف توافق ثم تورد ناقضا للأصل؟ هذا والقاعدة في الأصول: إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال. وبعبارة أخرى: «القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلّف»
    ##
    أخي أبا محمّد أنا لم أعتمد الأصل أصلًا لأنّه لا دليل عليه .. وما ذكرتُه من الأمثلة تبيّن أنّ الأصل الذي ذكرتَه أنت ليس بمسلّم به .. فلا مجال هنا لأن يقال بأنّ قضايا الأعيان لا تقدح في القاعدة الكلية لأنّ القاعدة الكلية لا تثبُت إلا بمجموعة من الأدلة المتظافرة، وليس في المسألة دليل واحد ..

    سجود إخوة يوسف لا يرد نقضا على الأصل؛ لأنك لم تُثبت أن جنس السجود كان من خصائص الإلهية في شرع يوسف وإخوته! كيف وقد بُحِثَ في أن السجود لغير الله كان جائزا في شرائع من قبلنا؟ ومن ثمّ سجود إخوة يوسف لا يكون داخلا في الأصل، ولا وارداً كنقض للقاعدة.
    ##
    أخي هل ترى أنّه يمكن أن يكون أمرًا ما شركًا أكبر في زمن ، ويكون جائزًا في زمن آخر، هل يمكن أن تكون بعض أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة جائزةً في بعض الأوقات، هل يرضى الله أن يُشرك به شركًا أكبر في عصرٍ من الأعصار
    إذن مَن فعل نفس الفعل الذي فعله إخوة يوسف تمامًا فكيف يُقال عنه بأنّه مشرك شركًا مخرجًا عن الملة !
    مسائل الشرك الأكبر من أصول الدين التي لا تختلف فيها الشرائع ..


    الرجل الذي يقوم فيصلي ركعتين رياءً لأجل الناس ولم يقصد بها التقرّب لله.
    هذه الصورة لا ترد أيضا لأن الرياء من شرك الأغراض لا من صرف العبادة إلى غير الله فلا يدخل في محلّ البحث. نعم، لو فرضنا أنها من صورة النزاع فقد نُقِل الإجماع على أنّ شرك الرياء فسق وليس بكفر كما في [المنهج السديد في شرح كفاية المريد:ص154-155]
    لأن المرائي يشرك في الغرض من العبادة وليس في صرف العبادة إلى غير الله، ولعلّ هذا الفرق سرّ الإجماع على عدم التكفير به إن صحّ. وهذا في الرياء من حيث الجملة.

    ##
    أخي أبا محمد : ألم تقل بأنّ الأصل أنّ السجود والركوع لا يُصرف إلا لله .. فإذا لم يتقرب المرائي إلى الله بهذه الصلاة وإنّما تقرّب بصلاته للناس يريدُ ثناءهم ومدحهم ؛ لماذا لا يكون مشركًا شركًا أكبر.
    ثمّ إنّ كثرة الاستثناء من القاعدة يجعلنا نُعيد النظر في القاعدة نفسها ..


    مناط الحكم في جميع المسائل قصدُ القول والفعل، وهو يتضمّن القصد إلى المعنى إذا كان القول صريحًا أو ظاهرًا في المراد، وترتّب الأحكام على الأسباب للشارع لا للمكلَّف فإذا أتى العبد بالسبب لزمه حكمه شاء أو أبى.
    وهذه قاعدة الشريعة وأصلها في الحكم على النّاس بظاهر أعمالهم؛ لأن الأعمال الظاهرة تعبّر عما في الضمائر، والأصل مطابقة الظاهر للباطن، ولم نؤمر أن ننقّب عن القلوب، ولا أن نشقّ البطون، لا في باب الإيمان ولا في باب الكفر، بل نكل السرائر إلى الله؛ ولأن قصد اللفظ المتضمِّن للمعنى قصدُ لذلك المعنى، إلا أن يعارضه قصد آخر معتبر شرعا كالإكراه..

    ##
    هذا الكلام صحيح لو كان المعنى المقصود غير محتملٍ لأمر آخر، أمّا الفعل الظاهر الذي له أكثر من معنى فلا يصح أخذ أحد هذه المعاني دون غيرها، فمن وطئ المصحف وهو يعلم أنّه مصحف فلا يحتمل إلا معنى الاستخفاف والاستهزاء الكفري فيكون كافرًا بفعله، أما من سجد لقبر فيحتمل أن يكون سجوده سجود عبادة ويحتمل أن يكون سجوده سجود احترام ، ويحتمل أن يكون سجوده لله أصلًا وإنّما سجد عند القبر رجاء بركته، ولا يجوز حمل هذا الفعل الظاهر على أحد هذه المعاني بمجرّد التشهي والتحكّم بغير بيّنة، ومن ثبت إسلامه بيقين فلا يصح إخراجه منه إلا بيقين ..

    قلت: إذا صُرِفت هذه الحقيقة إلى الله بإذن منه فهو التوحيد، وإذا صرفت إلى غيره فهي الإشراك والكفر.
    وقديما قيل: إذا اختلفتم في الحقائق فحكّموا الحدود؛ فهل رأيت أخي الفاضل في الحدّ الذي ذكرتَه، أو في الذي ذكرتُه اشتراطَ كون الفاعل عالماً بأن ما فعله لا يستحقه إلا الله، أو أنّه من خصائص الله التي لا تصرف إليه؟ أم أنه إذا وجد هذا المعنى فالفعل شرك وعبادة لغير الله، والفاعل مشرك عابد لغيره؟

    ##
    ليس في الحد اشتراط كون الفاعل عالمًا، لكن الجاهل الذي يعمل عملًا عاديًّا عنده ولا يظنّ فيه أي شبهة تقرّب وتعبّد للمخلوق لا يمكن أن يكون واقعًا في هذا الخضوع الخاص، كيف وهو لم يخطر بباله أي تنديد لهذا المخلوق بالله .

    الأدلة ... حقيقة الشرك، والوعيد المرتّب عليه يثبت بمجرّد وجود حقيقة الشرك من العباد. وأنّ المشرك الداعي مع الله معبودا آخر معذّب في الآخرة، وترتيب الحكم على الوصف حكم بعلّيّة الوصف، وهي تعمّ الجاهل والعالم، وقبل البعثة وبعدها، وإن كان العذر بعد الرسالة أسقط.
    ##
    أخي أبا محمد : هذا الكلام متفقٌ عليه وليس هذا ما أريده .. أريد دليلًا على أنّ كلّ من صرف السجود والركوع والدعاء لغير الله فهو مشرك

    عندنا أمور ثلاثة في السبب المكفِّر:
    أحدها: صورة الفعل التي تقع من العاقل والمجنون، وقد تقع من بعض الحيوانات.. وهذا لا بدّ منه لأنه لا يمكن الاعتماد على الباطن المجرّد إلا بوحيٍ.
    ثانيها: قصد معنى الفعل الذي هو حقيقته ولبّه، وهو الفارق بين فعل العجماوات والمجانين وبين أفعال العقلاء. وهذا لا بدّ منه أيضا بل لا يكون المرء قاصداً للفعل إلا به لأن المعنى ينعقد أولا في القلب، ثمّ يُخرَج إلى الواقع والخارج في صورة فعل أو قول ظاهر.
    ثالثها: أن يقصد الحكم الذي ينشأ من الفعل بصورته وحقيقته.
    وهذا ليس بشرط ولا يعتبر؛ إذ الشرط قصدُ الفعل لا قصد الكفر بالله والإشراك به؛ إذ لا يقصد الكفر أو الشرك أحد إلا ما شاء الله كما قاله أبو العباس ابن تيمية.

    ##
    أخي أبا محمد : دعنا نطبّق هذه الأمور في مسألة التكذيب ونزيد أمرًا آخر للتفصيل:
    الأمر الأول: أن ينطق بأنّ خبر موسى والحجر خُرافة وكذب.
    الأمر الثاني: أن يقصد المعنى من كلامه السابق وهو تكذيب خبر موسى والحجر، وليس كمن وطئ المصحف بلا قصد أو سبق لسانه بلا قصد
    الأمر الثالث: أن يقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم .
    الأمر الرابع: أن يقصد الكفر بالله بتكذيب خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس شرطًا
    الأمران الأولان حاصلان .. والأمر الرابع غير مشترط عند الجميع .. الإشكال بيننا هو في الأمر الثالث ..
    المكذّب الجاهل لا يقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنّه قصد المعنى من تكذيبه للخبر لكنه يجهل الارتباط بين ما فعله وبين تكذيب النبي في حقيقة الأمر..
    كذلك المستغيث الجاهل لا يقصد عبادة غير الله رغم أنّه قصد المعنى من استغاثته بالمقبور لكنه يجهل الارتباط بين ما فعله وبين الشرك بالله ..



    وتقريب المسألة بمثال آخر على شكل سؤال:
    ما تقول فيمن ذبح لصنم أو سجد له وهو هازل، أو جادّ لمصالح، ومعلوم أنّه لم يقصد التقرب ولا التعبّد كما هو اصطلاحك، وما حكمهما عندك؟
    فإن قلت: ليس بكافر ولا مشرك خرجتَ عن قول أهل السنة والجماعة.
    وإن قلت: هو مشرك نقضت أصلك وقاعدتك لانتفاء مناطك وهو قصد التعبد!.
    واختر أيهما شئت فإن أحدهما لازم على الإنصاف.

    ##
    سؤال جميل يشحذ الذهن ..
    من سجد لصنمٍ وهو هازل فهو كمن كذّب خبرًا ثابتًا عنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو هازل .. وهذا الهازئ بالفعل هو كمن يستهزئ بالقول فيقول على وجه الاستهزاء : النبي كاذب أو يقول : الله ليس مستحقًا للألوهية .. وهذا كافر وكفره من باب الاستهزاء وليس من باب الشرك ولا داعي للتأكّد من قصد التعبّد عنده ..

  17. #17

    افتراضي

    وفيك بارك أخي الجهني.
    أشكرك على الخلق الطيب في حبّ الرّجوع إلى الحقّ إذا لاح وقبوله من كلّ من جاء به! مع تهذيب العبارة وتلطيف القول في الرّد والاعتراض.
    لكن أريد أمراً آخر تحبّه وهو الإنصاف في الجواب عن الإشكالات الواردة وعدم اختزال الإشكال كما فعلت فيمن سجد لصنم هازلا أو جادا لمصالح دنياه فأجبت عن الأول وتركت الأشدّ وهو الساجد لصنم لمصلحة دنيوية مع انتفاء التعبّد فيهما على رأيك! وأرجو أن لا أخالفك إلى ما أنهى عنه إن شاء الله.
    طال الحوار نسبيا ويبدو أنّ السبب عدم الاتفاق على بعض المفاهيم فإما أن نرجع إلى قواعد الحوار بعد عناء حتى تجري المناظرة بهدوء وسلاسة وتحصل الفائدة أو نستمرّ على ما بدأنا به.
    وعلى أي حال فإني أظنّ أننا اتفقنا على أصول:
    الأول: عدم اشتراط كون المشرك عالماً بأن ما فعله لا يستحقه إلا الله أو أنّه من خصائص الله التي لا تصرف إليه.
    الثاني: لا يشترط أن يقصد العبد أن يكفر بالله أو يشرك به.
    الثالث: لا بدّ من الاتيان بصورة الفعل وقصد حقيقته.
    الرابع: ما ثبت في شرعنا أنّه عبادة لله فلا يصرف إلى غيره، ومن صرف ذلك إلى غير الله فهو مشرك سواء جهل أو علم الحكم.
    وتنتهي المناظرة لو اتفقنا كيف يعرف بأن هذه الخصلة عبادة لله فلا تصرف إلا له سبحانه؟
    والجواب عن هذا سهل عند علماء الشريعة قالوا: أن كلّ ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو طاعة. وكلّ خصلة أمر الله ورسوله بصرفها إليه فهو عبادة فمن صرفها إلى غيره فقد عبد غيره وأشرك به.
    وهذه المسائل ينبغي أن يكون الكلام لأهل العلم الكبار وما نذكره نحن إنما هو للمباحثة وإليك بعض التعليقات على المشاركة.
    التعليقة الأولى:
    ذكرتَ أنه لم يرد دليل عام يقول بأنّ كل سجود هو عبادة وبالتالي فمن صرفه لغير الله فهو مشرك بل على العكس جاء الدليل بأنّ من السجود ما ليس بعبادة مثل سجود إخوة يوسف..
    وهو غريب!
    كنّا من قبل نعجب لنظرية داود بن جرجيس الملحد: «الشرك السجود لغير الله لا غير»!!
    وها هو أخونا أبو البراء ينازع في كون جنس السجود لغير الله شركا في شرعنا!!
    أخي الكريم: البحث في شرعنا المفصّل لا في شرائع غيرنا فأقول: السجود مأمور به أمر إيجاب أو استحباب، وكل مأمور به على هذا الوجه فهو عبادة في شرعنا، وكلّ عبادة لا تكون إلا لله.
    دليل المقدمة الأولى ﴿اسجدوا للرحمن﴾﴿لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن﴾﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم﴾﴿واسجد واقترب إلى غير ذلك من الأدلة المتضافرة.
    ودليل المقدمة الثانية ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾﴿وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وغير ذلك من الأدلة القرآنية والنبوية.
    ودليل المقدمة الثالثة:﴿اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون﴿وإياي فاعبدون﴾﴿إياك نعند وإياك نستعين﴾﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا﴾﴿واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه:« يا نبي الله أوصني، قال: اعبد الله ولا تشركْ به شيئا» وقال جرير رضي الله عنه:«يا رسول الله اشترط علي؟، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا» وقال لمن سأله عن الإسلام: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا..» وقال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: بأي شيء أرسلك الله؟ قال:«بأن توحّد الله ولا تشرك به شيئا..»
    النتيجة: السجود عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فمن صرفه لغير الله فقد أشرك وعبد غيره.
    ولا ريب أن الله أمر بالسجود له ونهى عن السجود لغيره، فمن سجد لغير الله فقد أثبت للمسجود له شركة مع الله لأنّ الشرك مأخوذ من المشاركة أو الإشراك وفي الاصطلاح: إثبات شريك لله فيما هو من خصائص الله.
    الخلاصة: جنس السجود عبادة خاصة بالله في شرعنا فمن صرفه إلى مخلوق فقد أشرك وعبد غير الله.
    التعليقة الثانية:
    وأغرب من ذلك القول بأنه: [لم يرد دليل عام في أنّ كل سجود هو عبادة وبالتالي فمن صرفه لغير الله فهو مشرك بل على العكس جاء الدليل..]
    هذا مما لا يُحتمل لأن أهل التوحيد، والشرك المنتسبين اتفقوا على أن العبادة لا تصلح إلا لله وأن عبادة غيره شرك وكفر، ثم اختلفوا في بعض أنواع العبادات، وثبت بالأدلة القطعية بأن السجود عبادة فيُقطَع بأنّ من صرفه إلى غير الله فقد أشرك وكفر.
    لا أدري أين تذهب؟ وكيف تقول: لم يرد دليل عام في أن السجود عبادة بل جاء الدليل على العكس؟.
    ألم يقل المولى جلّ ذكره:﴿ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ إن كنتم إياه تعبدون.
    فمن سجد لله فهو عابد له، ومن سجد لغير الله فهو عابد لغيره كما دلّ منطوق الآية ومفهومها.
    وقال جلّ ذكره: ﴿ألّا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرضوقال عليه السلام: «ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه»
    وقال عليه السلام لما قيل عند سجود البعير والشجر له: يا رسول الله يسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك فقال: «اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم ولو كنت آمرا أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». أي اسجدوا لربكم ولا تسجدوا لغيره، لأن السجود عبادة لا يستحقها إلا هو، فمن سجد لغيره فقد أشرك وعبد غيره. قال القاري رحمه الله في المرقاة: «اعبدوا ربكم» أي: بتخصيص السجدة له، فإنها غاية العبودية، ونهاية العبادة «وأكرموا أخاكم»: أي: عظّموه تعظيما يليق له بالمحبة القلبية والإكرام المشتمل على الإطاعة الظاهرية والباطنية.
    وفيه إشارة إلى قوله تعالى ﴿ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين وإيماء إلى قوله: ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم.
    وأما سجدة البعير فخرق للعادة واقع بتسخير الله تعالى وأمره فلا مدخل له في فعله. والبعير معذور حيث أنه من ربه مأمور كأمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم».
    وهذا من تواضعه حيث أطلق على نفسه الأخوّة في مقام تعظيم الرب سبحانه.
    وقيل لمهاجرة الحبشة رضي الله عنهم: «ما لكم لا تسجدون للملك؟ فقالوا: إن الله عز وجل بعث إلينا نبيّه صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن لا نسجد إلا الله عز وجلّ..».
    وفي مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلي الأنصاري: أن النجاشي قال لهم: «ما لكم لا تحيّوني كما تحيّيني الناس الناس قالوا: إن لنا ربّا لا ينبغي أن نسجد لغيره ولو سجدنا لأحد لسجدنا لنبينا ..»
    فأي سجود لغير الله فهي عبادة له في شرعنا فليسمّه المشرك ما شاء: سجود تحيةّ، أو تعظيم، أو وضع الجبهة على الأرض للتقدير والعرفان..
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله في المدارج: «ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون: ليس هذا سجود، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً.
    فيقال لهؤلاء ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود: وضع الرأس لمن يسجد له، وكذلك السجود للصنم، وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه».
    لأن الدلائل عامة في جنس السجود، والعموم دلالته كليّة في أفراده؛ فكلّ فردٍ من أفراد السجود في الوجود داخل في القصر القرآني النبوي وإجماع علماء المسلمين.
    التعليقة الثالثة:
    [أنا لا أوافقك بأنّ جنس الركوع والسجود لا يُصرف إلا الله.. فقد يسجد الشخص للمخلوق احترامًا وتعظيمًا يليق بالمخلوق ولا يكون فعله عبادة كما وقع من إخوة يوسف..]
    المسألة ليست مسألة موافقة أومخالفة بل مناقضة للشرع؛ لأنها قرّرت بجلاء تامّ أن السجود لا يصرف إلا الله سبحانه «...فقال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.. اسجدوا للملك؟ فقال جعفر: لا نسجد إلا لله فقال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسوله وهو الرسول الذي بشر به عيسى برسول يأتي من بعده اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا..» لأن السجود لغير الله عبادة له، فنحن لا نعبدك بالسجود لك ولو تحيّة.
    وليسجد المشرك بأي غرض شاء من احترام أو تعظيم فإننا لا نعرف في شرع خاتم الأنبياء سجودا يليق لغير الله، وما وقع في شرع غيرنا فهو منسوخ والشرائع تختلف في مثل هذه المسألة عند علماء الشريعة.
    والله لأستغرب جداً أن يصدر هذا القول من طالب علم:
    [فقد يسجد الشخص للمخلوق احترامًا وتعظيمًا يليق بالمخلوق ولا يكون فعله عبادة كما وقع من إخوة يوسف..]
    لأن السجود لأي مخلوق في شرعنا من الشرك المحرّم وعبادة غير الله وإن سمّاه بما شاء.
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله في البدائع: «قلّما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرّب إليه؛ إما بذبحٍ باسمه، أو بذبح يُقصَد به هو، فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق.
    والساحر وإن لم يسمّ هذا عبادةً للشيطان فهو عبادة له، وإن سمّاه بما سمّاه به، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه.
    فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبّلها بالنّعم، أو هذا إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمّه بما شاء.
    وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرّب إليه بما يحبّ فقد عبده، وإن لم يُسمِّ ذلك عبادةً بل يسمّيه استخداما ما.. والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سمّاه استخداما قال تعالى:﴿ألم اعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوّ مبين..»
    التعليقة الرابعة:
    [المشكلة يا أبا محمد أنّنا جعلنا الأصل في السجود والركوع أنّه عبادة مع أنّ الأدلة جاءت بأنّ السجود والركوع منه ما هو عبادة يكون صرفه لغير الله شركًا ومنه ما هو تعظيم واحترام يليق بالمخلوق وهذا كان جائزاً في بعض الشرائع السابقة وهو محرّمٌ في شريعتنا..].
    لا أدري أي دليل نتحدّث، لأن الأصل في شرعنا أن السجود ونحوه عبادة، ولا أدري في شريعتنا سجوداً لا يكون عبادة ولا سجوداً لغير الله لا يكون شركا.
    وما تحيل عليه من الأدلة فهي عندي إحالة على معدوم أو هي اعتقادية ليست موجودة، وقد ذكرتُ آنفا بما يكفي رّد الشبهة وأن السجود عبادة جملة وتفصيلا ولا تليق إلا لله.
    والبحث في شرعنا فلماذا نبدي ونعيد سجود إخوة يوسف؟ وهل عدمنا مثالا للتخصيص في شرعنا؟
    التعليقة الخامسة:
    أما نزاعك في قاعدة الاشتقاق من الوصف القائم بالذات فلا يُقبل، والقاعدة: أن من ادعى مستحيلا لا يسمع، ومن ادعى ممكنا سمع، وطولب بالدليل، وإذ لم تذكر دليلا على دعواك فلا تقبل.
    هذا، ولا أعلم لأهل السنة والجماعة نزاعا في صحة القاعدة بل هي من أشهر قواعدهم العقيلة والسمعية في الرد على القدرية المعتزلة في مسألة الصفات.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وهنا أربع مسائل: مسألتان عقليتان، ومسألتان سمعيتان لغويتان.
    الأولى: أن الصفة إذا قامت بمحلّ عاد حكمها إلى ذلك المحلّ، فكان هو الموصوف بها؛ فالعلم والقدرة والكلام والحركة والسكون إذا قام بمحلّ كان ذلك المحل هو العالم أو القادر أو المتكلم أو المتحرّك أو الساكن.
    الثانية: أن حكمها لا يعود على غير ذلك المحلّ، فلا يكون عالما بعلم يقوم بغيره ولا قادرا بقدرة تقوم بغيره ولا متكلما بكلام يقوم بغيره ولا متحركا بحركة تقوم بغيره. وهاتان عقليّتان.
    الثالثة: أنه يشتق لذلك المحلّ من تلك الصفة اسم، إذا كانت تلك الصفة مما يشتق لمحلّها منها اسم؛ كما إذا قام العلم أو القدرة أو الكلام أو الحركة بمحلّ - قيل: عالم أو قادر أو متكلم أو متحرّك بخلاف أصناف الروائح التي لا يشتق لمحلّها منها اسم.
    الرابعة: أنه لا يشتق الاسم لمحلّ لم يقم به تلك الصفة فلا يقال لمحل لم يقم به العلم أو القدرة أو الإرادة أو الكلام، أو الحركة: إنه عالم أو قادر أو مريد أو متكلم أو متحرّك. والجهمية والمعتزلة عارضوا هذا بالصفات الفعلية ......»
    ولخّص القاعدة صاحب المراقي في منظومته الأصولية بقوله:
    وعند فقد الوصف لا يشتقّ.........وأعوز المعتزلي الحقّ
    وحيثما ذو الاسم قام قد وجب.....وفرعه إلى الحقيقة انتسب
    لدى بقاء الأصل في المحلّ.......... بحسب الإمكان عند الجلّ....
    فما كسارق لدى المؤسس......... حقيقة في حالة التلبس
    أو حالة النطق بما جا مسندا...... وغيرُه العمومُ فيه قد بدا
    إلى آخر الأبيات.
    والتقييد بالوصف أو الصفة احتراز من العين فإنه يشتق منها مع عدم قيامها بالذات لاستحالة قيامها بالذات كاشتقاق التامر واللابن من التمر واللبن مع أنهما لم يقوما بذات صاحبهما.
    واحترز أيضا "ذو الاسم" عن المعنى الذي ليس اسم في العربية كأنواع الروائح فلا يصح الاشتقاق منه لعدم وجود لفظ يعبر به عنه حتى يصحّ منه الاشتقاق.
    وقال الإمام القرافي رحمه الله:
    «قيام المعاني بمحالِّها يوجب أحكامها لمحالِّها، واستحقاق ألفاظ تلك الأحكام، فقيام العلم بالمحلّ يوجب له حكمًا وهو كونه عالمًا، واستحقاق لفظ هذا الحكم وهو لفظ عالم، والسواد إذا قام بمحل أوجب لمحله حكمًا وهو كونه أسود، واستحقاق لفظ دال على هذا الحكم وهو لفظ أسود..».
    فالمحلّ الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحرّكا أسود أبيض لا غيره، وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضا هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره وما لم يقم به الوصف لا يتصف به.
    والمقصود: أنّ الشخص الذي قام به الكفر، فالأصل أن يوصف بالشرك والكفر، كما أنّ من صلى يقال له مصلّ، وهو ما يقتضيه العقل الصريح قبل الشرع الصحيح.
    على أن السبب يتعقّبه حكمه بلا خلاف أعلمه، ذلك أنّ الشارع الحكيم وضع الأسباب قاصداً مسبباتها التي هي الأحكام فدخول الوقت سبب لوجوب الصلاة المعينة على المكلف كزوال الشمس سبب في وجوب الظهر، ورؤية الهلال سبب لوجوب رمضان.
    فمن صلّى فهو مصلّ، ومن قام فهو قائم، ومن زنى فهو زان، ومن شرب خمرا ونحوه فهو شارب، ومن سرق فهو سارق، ومن سجد للصنم فهو ساجد له، ومن ضرب فهو ضارب، ومن قتل فهو قاتل إلخ
    والحقيقة أني اعتبر كلامك في القاعدة نزاعا في مسلّمة وتعليقي عليه شرحا للواضحات، ولا أستحسن أن يجري مثل هذا بين طلبة العلم.
    أما ما ذكرتَه من مسألة المكرَه فهو من فروع القاعدة فكيف تورده اعتراضا؟ لأن المكره إذا سجد أو ذبح أو طاف لصنم فهو ذابح وساجد وطائف لقيام وصف السجود والذبح والطواف به.
    وإنما انتفى التكفير لانتفاء معنى الفعل الذي شرط لإعمال السبب أو جزء منه «ألا ترى أن المكرَه قصد دفع العذاب عن نفسه، فلم يقصد السبب ابتداءً» قاله ابن تيمية.
    وكذلك المشرك إذا صلى صلاة واحدةً مخلصًا فيها لله وحده لا شريك له نسمّيه مصلّيا موحّداً مخلصا في هذه اللحظة لقيام وصف الإخلاص والصلاة به، وإن كان ينسحب عليه حكم الشرك الذي لم يتب منه.
    والدليل عليه قوله تعالى:﴿وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كلّ ختّار كفور﴿وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إيّاه فلما نجّاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً﴾﴿وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين﴾﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البر إذا هم يشركون ونحوها من الآيات.
    وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك, فيقول رسول الله : ويلكم قد قد, فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك, يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت».
    فالسؤال: ما الحكم لو اقتصر المشركون الطائفون على الجملة الأولى؟ هل موحّدون مخلصون أم مشركون في هذا العمل؟
    وهل يمكن أن نقول إن العرب - حين أخلصوا العبادة والدعاء لله رب العالمين وخلعوا الأنداد وأفردوه بالألوهية في الأمواج وظلمات البحار والليل هم مشركون غير مخلصين في هذه الحالة بالذات؟ فنردّ على الله سبحانه وعلى رسوله؟
    فإن قيل: إنهم غير مخلصين بل مشركون فهو مناقضة للقرآن والسنة، وتكون الخصومة بين القائل وبين الشارع، ولا شأن لي في ذلك.
    وإن قيل: هم مخلصون موحّدون في تلك اللحظة، ومشركون إذا أشركوا بعد ذلك؛ لقيام الوصف في المحلّين فهو ما قرّره الدليل فيلزم ترك النزاع رأسا، وهو الواجب على طلبة العلم.
    التعليقة السادسة:

    قرّرتُ أن ما ثبت في شرعنا أنه لا يصرف إلا الله فصرفه إلى غير الله شرك وصاحبه مشرك كافر سواء جهل أو علم الحكم.. وذكرت أن هذا الأصل لا تسلّمه لأنه لا دليل عليه!
    وقد ذكرتُ بعض الأدلة آنفا فهل تسلّم الآن ؟ وهل هناك عبادة في شرعنا تصرف لغير الله ولا تكون شركا؟ وما الدليل؟
    وذكرتَ أن الأمثلة التي ذكرتَها تبيّن أن الأصل ليس بمسلّم وليس في المسألة دليل واحد..
    وهذه دعوى عريضة ولا حاجة إلى العودة إلى سرد الأدلة لكن بحثت عن الأمثلة التي أحلت إليها، وذكرتَ أنّها تخرم الأصلَ فلم أجد إلا ما سبق الحديث والجواب عنه!
    وعلى أيّ حالٍ فلنعد إليها بالنقض مرة ثانية أو ثالثة فلعلّ الجديد تعسّر أو لم يحضرك على الأقل.
    1- سجود إخوة يوسف عليه السلام.
    شرع من قبلنا فلا يعارض بالشرعسواء كان سجود حقيقة أولا، أو عبادة لله وتشريفا ليوسف كسجود الملائكة لآدم عليهما السلام أولا، لأن أنواع العبادات وأصنافها مما تختلف فيه الشرائع بالإجماع، ومنه السجود، والبحث في شرعنا لا غير.
    2- الرجل الذي يقوم فيصلي ركعتين رياءً لأجل الناس ولم يقصد بها التقرّب لله.
    سبق أن الرياء من شرك الأغراض ومنه الصلاة لله وإظهارها لرؤية الناس فيحمد صاحبها وقد نقل الإجماع على أنّه ليس بشرك أكبرلأن أصل الرياء المتكلّم في مباحث السلوك: العمل لله ومحبة رؤية الناس له ليحمد صاحبه فكأنّه جعل العمل لله وللإنسان فكان تشريكا من هذه الجهة لكنه أصغر وحُمِل على يسير الرياء.
    أما الشرك الأكبر صرف نوع من العبادة إلى غير الله فبينهما مغايرة ولهذا اختلف الحكم عند العلماء.
    وسبق أيضا أنه لو قيل: إنّ هذه الصورة من صرف العبادة إلى غير الله فصاحبه مشرك كافر بالإجماع.
    والمقصود: أن هذه الصورة إما أن تكون من شرك الرياء الأصغر، وليس البحث فيه، وإما من الشرك الأكبر.
    فإن قلتَ: إنها من صرف الصلاة إلى غير الله!
    يقال: صاحبها مشرك كافر بالإجماع، وإن قلت بغير ذلك فأنت أعلم به!!

    3- الرجل الذي يُحدث في بداية صلاته ثم يتمّها حياءً من الناس وهو لا يتقرّب بها إلى الله.
    هذه ليست بصلاةٍ ولا من التقرّب إلى الله وإلى غيره، بل إظهار صورة يظنّها الرائي صلاةً ولا يقصد صاحبها الصلاةَ، فإن قصد الصلاة أو التقرّب إلى غير الله فهو كافر أو مشرك ولا حاجة إلى التطويل من غير طائل لما سبق من الكلام فيها.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «أما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله... وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده...»

  18. #18

    افتراضي

    التعليقة السابعة
    أخي هل ترى أنّه يمكن أن يكون أمرًا ما شركًا أكبر في زمن، ويكون جائزًا في زمن آخر، هل يمكن أن تكون بعض أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة جائزةً في بعض الأوقات، هل يرضى الله أن يُشرك به شركًا أكبر في عصرٍ من الأعصار. إذن مَن فعل نفس الفعل الذي فعله إخوة يوسف تمامًا فكيف يُقال عنه بأنّه مشرك شركًا مخرجًا عن الملة ! مسائل الشرك الأكبر من أصول الدين التي لا تختلف فيها الشرائع..
    لو قدّمت هذا الاعتراض قبل إتعاب الأنفس لاسترحنا وأرحنا الإخوة المتابعين؛ لأن هذا الإشكال هو الذي منعك من القبول والتسليم.
    وإزاحة الإشكال سهل إن أنصفتَ ودققت النظر فيما يقال بتجرّدٍ وهو المرجوّ إن شاء الله.
    وإليك البيان المزيل للإشكال إن شاء الله تعالى:
    أخي بارك الله ورزقني الله وإياك الفهم والسداد هذا الإشكال يرد على كلّ من لم يفرّق بين اتفاق الشرائع في أصل التوحيد ودعوة الخلائق إلى عبادة الله وحده وأن لا يشرك به شيئا - دين الأنبياء جميعا - وبين اختلافها في الفروع المؤدية إلى الأصل والخادمة له من أنواع العبادات التي يتقرّب بها إلى الله!
    لا يأتي في شريعة نبي الأمر بعبادة غير الله والإشراك به كما قال تعالى:﴿ولقد بعثنا في كلّ أمة رسولا إن اعبدوا الله واجتنوا الطاغوت﴾ لأن أصل دينهم التوحيد وإفراد الله والعبادة.
    لكن الشرائع تختلف في كميات وكيفيات العبادة ومظاهرها وأصنافها ويجري فيها النسخ والتغيير كما قال تعالى:﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدةً ولكن ليبلوكم في ما ءاتاكم﴾ وقال عليه السلام «الأنبياء إخوة لعلات أمّهاتهم شتى ودينهم واحد» لأن العبادة تعتمد الأمر والنهي، وهما يعتمدان المصالح والمفاسد، وهي تختلف من شريعة لأخرى، ومن عصر لآخر؛ فلذلك تختلف المحرّمات والمباحات في الشرائع، بل في الشريعة الواحدة.
    ولا يمكن عند استواء المفسدة في شيء أن يختلف الحكم، لكن الأمر في تحقيق الاستواء في الشيء الذي يختلف الحكم فيه من شريعة لأخرى فوجب اتباع النهي والأمر في كل شيء من الشرائع ﴿أم لهم شركآؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله﴾﴿قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾﴿قل إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾.
    أو ليس في شرعنا ما لم تكن في شرع من قبلنا بالوصف أو بالأصل، ونحن نتقرّب به إلى الله، ولو صرفناه إلى غيره لكنا مشركين عابدين غير الله؟
    قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في التفريق بين المقامين:
    «أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده وهو في غيره ممتنع باطل.
    وأما السجود فشريعة من الشرائع إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعةً لله عز وجل إذ أحبّ أن نعظم من سجدنا له. ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله.
    فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام، ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له».
    فالعبادة - وهي: نهاية ما يقدر عليه من الخضوع والتذلل لمن يستحقّ بأمره - دائرة مع الأمر والنهي وجودا وعدما فما أمرنا الله بالتقرّب به إليه فهو عبادة وصرفه إلى غيره شرك وعبادة للغير سواء كان جائزا لمن قبلنا أو محرّما، والسجود مما تختلف فيه الشرائع إجماعا. قال الإمام ابن الوزير اليماني رحمه الله: «إن تحريم السجود لغير الله حكم شرعي يجوز تغيّره إجماعاً».
    وقال الإمام أبو محمد ابن حزم في الرّد على بعض المعتزلة في تأويل قوله تعالى:﴿وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله قالوا: «معنى هذا إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة».
    قال ابن حزم: «وهذا في غاية الفساد؛ لأنّ الله تعالى لو أمرنا بذلك، لم يكن عوداً في ملّة الكفر، بل كان يكون ثَبَاتا على الإيمان وتزايداً فيه».
    ولهذا، قولك: هل يرضى الله أن يشرك به شركا أكبر في عصر من الأعصار؟
    ليس في محلّه ولا وارداً، بل الله لا يرضى أن يشرك في عصر من الأعصار لا شركا أكبر ولا أصغر لكن القضية قضية أمر ونهي واختلاف في الأفراد والأنواع؛ فإذا أمر الله أن لا نصرف هذا النوع إلا إليه فهو عبادة وإن كان ذلك جائزا قبل ذلك، ولا يكون في ذلك الوقت شركاً بالله، وإنما صار عبادة أو شركا بالأمر والنهي الحادث، فإن الله يحدث من أمره ما شاء، ويحكم ما يريد ﴿لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب
    ولا أدري بما تعني بمسائل الشرك الأكبر التي لا تختلف فيها الشرائع وهي من أصول الدين!
    لأن الشرك الأكبر أن يصرف نوع من أنواع العبادة لغير الله كأن يسجد لغير الله أو يدعوه أو يذبح، وقد يجري في بعض الأنواع النسخ والتغيير.
    التعليقة الثامنة:
    أخي أبا محمد : ألم تقل بأنّ الأصل أنّ السجود والركوع لا يُصرف إلا لله.. فإذا لم يتقرب المرائي إلى الله بهذه الصلاة وإنّما تقرّب بصلاته للناس يريدُ ثناءهم ومدحهم؛ لماذا لا يكون مشركًا شركًا أكبر. ثمّ إنّ كثرة الاستثناء من القاعدة يجعلنا نُعيد النظر في القاعدة نفسها..
    لا جديد في هذا؛ فإن السجود ونحوها من العبادات في شرعنا لا يصرف إلا لله أصلا، ومن تقرّب به إلى غيره فقد أشرك وكفر على ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
    أما هذه الصورة فقد تقدم الكلام عليها فلا نعيده.
    وفي الحديث الحسن من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعا: «من صلّى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك».
    أما المستثنيات من القاعدة فلم نعثر لها على أثر دع عن كثرتها، وكلّ ما ذكرته أخي فقد أتيت عليه بحول الله وقوته.
    التعليقة التاسعة:
    هذا الكلام صحيح لو كان المعنى المقصود غير محتملٍ لأمر آخر، أمّا الفعل الظاهر الذي له أكثر من معنى فلا يصح أخذ أحد هذه المعاني دون غيرها، فمن وطئ المصحف وهو يعلم أنّه مصحف فلا يحتمل إلا معنى الاستخفاف والاستهزاء الكفري فيكون كافرًا بفعله، أما من سجد لقبر فيحتمل أن يكون سجوده سجود عبادة ويحتمل أن يكون سجوده سجود احترام، ويحتمل أن يكون سجوده لله أصلًا وإنّما سجد عند القبر رجاء بركته، ولا يجوز حمل هذا الفعل الظاهر على أحد هذه المعاني بمجرّد التشهي والتحكّم بغير بيّنة، ومن ثبت إسلامه بيقين فلا يصح إخراجه منه إلا بيقين
    لا ينبغي القدح في القواعد بغير مستند ظاهر، وقد سبق أنّ مفهوم الظاهر ليس بواضحٍ ولو ذكرت مفهوم الظاهر عندك في هذه المسائل لكان أحسن؛ لأن تقريرك يقتضي أن لا يعتمد في مسائل التكفير إلا بالصريح وفيه خروج عن دائرة العلم وقواعد العلماء.
    وعلى الأقل تضع لفظَ الظاهر موضع المحتمل احتمالا متساويا، وإلا فالظاهر غير المحتمل في الاصطلاح الفقهي.
    والسبب إذا كان صريحا أو ظاهرا في معناه لا حاجة إلى الاستفصال والنظر في القصود والنيات، ولا عبرة بالاحتمال عند ظهور أحد المعاني بل الحكم منوط بالظاهر غير الصريح.
    قال الإمام القرافي رحمه الله: «القاعدة: أنّ النيّة إنما يحتاج إليها إذا كان اللفظ مترددًا بين الإفادة وعدمها.
    أما ما يفيد معناه، أو مقتضاه قطعًا أو ظاهرًا فلا يحتاج للنية؛ ولذلك أجمع الفقهاء على أن صرائح الألفاظ لا تحتاج إلى نية لدلالتها إما قطعًا أو ظاهرًا وهو الأكثر.. والمعتمد في ذلك كله: أن الظهور مغنٍ عن القصد والتعيين».
    وقال العلامة عبد اللطيف رحمه الله:
    «قد قرّر الفقهاء وأهل العلم في باب الرّدّة وغيرها أن الألفاظ الصريحة يجري حكمها وما تقتضيه وإن زعم المتكلم بها أنه قصد ما يخالف ظاهرها. وهذا صريح في كلامهم يعرفه كل ممارس».
    وقال ابن حجر الهيتمي(974هـ) في من قال لأخيه: يا كافر من غير تأويل:
    «قلنا له: إنك حيث أطلقت هذا اللفظ ولم تؤوِّل كنت كافرا؛ لتضمّن لفظك تسمية الإسلام كفراً، وإن كنت لم تقصد ذلك؛ لأنّا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصدك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن لا الظاهر..
    لما قررناه بأن حكمنا إنما هو باعتبار الظاهر، فلا نبحث عن المراد، ولا ندير عليه حكما ظاهراً».
    وقال في بحث للمالكية: «وما ذكره ظاهر موافق لقواعد مذهبنا؛ إذ المدار في الحكم بالكفر على الظواهر، ولا نظر للمقصود والنيات، ولا نظر لقرائن حاله».
    وفي مسألة أخرى: «الّذي يتّجه الكفرُ أيضا؛ لما علمت أن هذا اللفظ ظاهر في الكفر، وعند ظهور اللفظ فيه لا يحتاج إلى نيّة، كما عُلم من فروع كثيرة مرّت وتأتي».
    قال العلامة عثمان بن فودي رحمه الله: «إن التكفير في ظاهر حكم الشرع لا يطلب القطع، بل ما يدل على الكفر فقط، ولو ظنا، ولذلك يختلف العلماء فيه في بعض الوقائع، ويراعي بعضهم حق الربوبية وصيانة الشريعة؛ فيحكم بالكفر ويقول هذا كافر فاقتلوه.
    ويراعي بعضهم حرمة دم المسلم، ويقول هذا أمر ظني محتمل وحفظ حرمة دم المسلم أمر مقطوع به في الشرع».
    وقال العلامة المعلمي اليماني رحمه الله: «قد جرى العلماء في الحكم بالردة على أمور، منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، ولذلك اختلفوا في بعضها. ولا وجه لما يتوهمه بعضهم أنه لا يكفر إلا بأمر مجمع عليه..
    وكذلك من تكلم بكلمة كفر وليست هناك قرينة ظاهرة تصرف تلك الكلمة عن المعنى الذي هو كفر إلى معنى ليس بكفر، فإنه يكفر، ولا أثر للاحتمال الضعيف أنه أراد معنى آخر».
    وقد تقرّر في الأصول أنّ مقابل المعنى الظاهر مرجوح فلا يصار إليه، وإذا استوت المعاني فلا ظهور أصلا.
    هذا تقرير الفقهاء الموافق للقواعد في الحكم بالظاهر؛ لأن قصدَ القول والفعل يتضمّن القصد إلى المعنى إذا كان صريحًا أو ظاهرًا في المراد، وترتّب الأحكام على الأسباب للشارع لا للمكلف فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أو أبى.
    ولا ريب أن دلالة الأفعال والأفعال على المعنى تختلف ظهورا وخفاء من سبب لآخر، ومن موطن لآخر، ومن ثمّ يأتى الاختلاف في دلالة بعض الأسباب فيختلف العلماء في ذلك الموطن غالبا.
    قال أبو العباس القرافي (684هـ) رحمه الله في أسباب الكفر:
    «إما باللفظ، أو بالفعل، كإلقاء مصحف في القاذورات، ولكليهما مراتب في الظهور، والخفاء، ولذلك لا تقبل الشهادة فيها إلا على التفصيل، ولاختلاف المذاهب في التكفير»
    ومن هنا يُعلم أن قولك:
    أمّا الفعل الظاهر الذي له أكثر من معنى فلا يصح أخذ أحد هذه المعاني دون غيرها.
    إطلاق خارج عن القواعد لا ينبغي لعالم أو طالب علم. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمنّاه وقرّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة».
    وفي رواية: «خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، ألا إنا إنما نعرفكم إذ بين ظهرانينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن النبي قد انطلق، وقد انقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيرا ظننا به خيرا، وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا، وأبغضناه عليه سرائركم بينكم وبين ربكم..».
    وكذلك قولك:
    أما من سجد لقبر فيحتمل أن يكون سجوده سجود عبادة ويحتمل أن يكون سجوده سجود احترام
    الخطأ يجرّ إلى خطأ وقد سبق بما يغني إن شاء الله فالساجد إذا سجد لغير الله اختياراً فلا فرق في شرعنا بين أنواع سجوده، بل هو على وتيرة واحدة هي الشرك بالله كصرف أنواع العبادات الأخرى إلى غير الله، وأنا لا نعرف في شرعنا سجود عبادة هي شرك، وسجود احترام لغير الله ليس بشرك.
    وهذا جارٍ على اعتبار مجرّد الاحتمال مع ظهور الفعل على أحد المعاني ولا يستقيم هذا؛ لأن الظهور إذا ثبت علّق الحكم به وإن كان الاحتمال موجودا.
    ومن الغرائب أيضا:
    ولا يجوز حمل هذا الفعل الظاهر على أحد هذه المعاني بمجرّد التشهي والتحكّم بغير بيّنة.
    لأنه كلام ينقض آخره أوّله لأنّ الفعل إذا كان ظاهراً على أحد المعاني فعند الحامل البينة الشرعية بإجماع، فمن أين يأتي التشهي والتحكم؟ وكيف يكون حمله من غير بيّنة مع الاعتراف بظهور السبب على أحد المعاني؟
    وإن كنت تقصد بأنّ هناك قرائن حالية أو مقالية تخدش في الظهور فهو أيضا غير مقبول لأنه حينئذ لا ظاهر عند الحامل! على أن القرائن في الأغلب لا تفيد إلا الظن الظاهر فكيف تردّ الظاهر وتقبله في آن واحد؟
    وأغرب منه قولك بعده:
    ومن ثبت إسلامه بيقين فلا يصح إخراجه منه إلا بيقين
    لأنك لست على يقين من إسلام المرء، ولا من كفره إلا نادراً، وإنما تعتمد على الظاهر كفراً ولا إسلاماً، ومن اليقين الاعتماد على الظن المعتبر شرعا، ومنه الاعتماد على الظواهر من الأفعال والأقوال.
    قال الإمام ابن رشد الجدّ رحمه الله: «لا يعلم أحدٌ كفرَ واحدٍ ولا إيمانَه قطعا؛ لاحتمال أن يبطن خلاف ما يظهر، كالمنافقين والزنادقة وشبههم إلا بالنص من صاحب الشرع على كفر أحد أو إيمانه.
    أو بأن يظهر منه عند المناظرة والمجادلة والمباحثة لمن ناظره أو باحثه ما يقع له به العلم الضروري أنه معتقد لما يجادل عليه من كفر أو ما يدلّ عليه من مذهب يعتقده.
    إلا أن أحكامه تجري على الظاهر من حاله، فمن ظهر منه ما يدل على الكفر حكم له بأحكام الكفر، ومن ظهر منه ما يدل على الإيمان حكم له بأحكام الإيمان».
    وقال العلامة السنوسي (895هـ): «كل عاقل يجوّز فيمن يظهر الإيمان أن يكون فيه مقلِّدا أو ظانّا أو شاكّا، بل يجوّز أن يكون كافرا زنديقا، بل لو نطق مظهر الإيمان بأدلته، وأتقن براهينه لما قطعنا في حقه بالإيمان ولا المعرفة؛ لاحتمال أن يكون في قلبه شبهات أوجبت له شكا ولم يبدها لنا، أو حفظ تلك الأدلة تقليداً ولم يتحقّقها، إلا أن قرائن الأحوال تغلب أحد الأمرين..».
    لكن هذه المقولة (من ثبت إسلامه بيقين...) لما اشتهرت في الناس بعد انتشار كتب شيخ الإسلام ونحوها أخذها بعضهم لاسيما الذين جمعوا في [ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة!] من غير تدقيق لمفهومها والله المستعان.
    قال الإمام الجلال اليمني رحمه الله: «ينبغي أن يعلم أن اليقين المعتبر هو العلم بحصول مناط شرعي لوجوب العمل كما يعلم الحاكم حصول الشاهدين وإن لم يحصل له من شهادتهما إلا الظن».
    وقال أيضا: «فالحق منع العمل بكل دليل ظني ما لم يعلم اعتبار الشارع للعمل به بخصوصه كالشاهدين، والنطق بكلمة الإيمان، وكلمة الكفر، ونحو ذلك من المناطات التي علم من الشارع ترتيب لوازمها عليها وإن لم تفد سوى الظنّ كما حققناه في شرح الفصول..»
    وقال العلامة المعلمي رحمه الله: «..إن مدار الحكم الظاهر على الأمر الظاهر، ولذلك يكفي في ثبوت الردة شاهدان فلو شهدا أن فلانا مات مرتدا وجب الحكم بذلك فلا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ويعامل معاملة المرتد في جميع الأحكام..»
    وهل تفيد الشهادة اليقين الذي تقصده بدلالة السياق والمقام لإبطالك الظاهر وعدم اعتباره بينة شرعية؟
    وبالجملة: فالمراد باليقين عند الفقهاء يشمل الظن المعتبر شرعا والظاهر من أفعال العباد وأقوالهم من ذاك اليقين.
    التعليقة العاشرة:
    ليس في الحد اشتراط كون الفاعل عالمًا، لكن الجاهل الذي يعمل عملًا عاديًّا عنده ولا يظنّ فيه أي شبهة تقرّب وتعبّد للمخلوق لا يمكن أن يكون واقعًا في هذا الخضوع الخاص، كيف وهو لم يخطر بباله أي تنديد لهذا المخلوق بالله.
    إنّ المنع بعد الاعتراف غير مسموع في آداب البحث، وكأني بك تسلّم شيئاً ثم تردّه، إذا لم يكن العلم بكون العمل عبادة لغير الله شرطا فلا عبرة بظنّ الجاهل ولا بيقينه لوجود السبب المقتضي للتكفير وهو قصد الفعل مبنى ومعنى.
    ونتحقّق من ذلك إذا كان صريحا أو ظاهرا.
    وعلى هذا إذا سجد أو ذبح أو طاف أو دعا غير الله بفعل ظاهر أو صريح في هذا فقد تمّ السبب، وإذا ثبت في الأدلة الشرعية أن هذا السب كفر وشرك فصاحبه مشرك كافر ولا عبرة بظنّ العامل وحسبانه وخطور التنديد في باله وعدم الخطور.
    والدليل بعد ذلك كلّه قوله جلّ ذكره:﴿إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون﴿وإنهم ليصدّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون﴾﴿الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا﴿ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير
    وفي الآيات: أن لا عبرة بظن المشرك ولا لحسبانه ولا لجهله بأنّ ما فعله تنديد لمخلوق بالله، وأن المشرك الجاهل كافر ظالم ليس له نصير بأي وجه من الوجوه.
    وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون
    ظاهر الآية: أن أعمال المؤمن قد تحبط بسوء الأدب مع الرسول عليه السلام وهو لا يشعر وفيها تكفير الجاهل لأن الأعمال لا تحبط إلا بالكفر إجماعا.
    وقال تعالى:﴿إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
    وفي الآية تعليق الحكم والاسم معا بحصول الشرك من المرء والمشرك أشرك مع الله غيره في الذبح والسجود والطواف والدعاء والاستغاثة وإن لم يعلم أن هذا عبادة لغير الله ولم يخطر بباله.
    وقال تعالى:﴿ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴿ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا والضلال البعيد في القرآن الكريم لا يكون إلا الكفر استقراءاً
    وفي الحديث الصحيح: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب».
    وفي رواية: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار».
    وفيه أن الرجل يهوي في النار سبعين خريفا مع عدم العلم وعدم شعور المفسدة التي فعله وقوله.
    وفي حديث الرجل من صداء رضي الله عنه: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا فبايعناه وترك رجلا منا لم يبايعه فقلنا: بايعه يا نبي الله، فقال: «لن أبايعه حتى ينزع الذي عليه، إنه من كان منا عليه مثل الذي عليه، كان مشركا ما كانت عليه» قال: فنظرنا فإذا في عضده سير من لحاء شجرة أو شيء من السحرة».
    والحديث نصّ في أن الوصف يتحقق بالتلبس بالشرك «من كان منا عليه مثل الذي عليه كان مشركا ما كانت عليه» فالمشرك مشرك شاء أم أبى، جهل أو علم، وإذا كان كذلك فحكمه معلوم قطعاً.
    وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب» قوله:﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب فكان الرجم مما أخفوا».
    وفيه أن الرجل يكفر بكتاب الله وهو لا يشعر أنه كفر به، ولا يكون إلا جاهلا لم يقصد الكفر بالقرآن.
    وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يعلم».
    وفيه أنّ الرّجل يكفر ويصبح يهوديا أو نصرانيا وهو لا يعلم وفيه تكفير الجاهل.
    وعن محمد بن سيرين رحمه الله: «رأى عبد الله بن عتبة رجلاً يصنع شيئا من زيّ العجم؛ فقال: ليتق رجل أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال ابن سيرين: فظننته أنه أخذها من هذه الآية ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم».
    وهل كان النصارى واليهود يندّدون أحبارهم ورهبانهم بالله؟
    وهل كانوا يظنون ذلك شركا وعبادة لغير الله؟
    مع أن الله حكم عليهم بالشرك وعبادة غير الله، فعند الترمذي والطبري والطبراني والبيهقي من حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ في سورة براءة:﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون ما أحل الله فتحرّمونه و يحلّون ما حرم الله فتستحلونه؟ قلت: بلى قال: فتلك عبادتهم». وفي رواية: «يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم. قال: أجل، ولكن يحلّون لهم ما حرّم الله فيستحلّونه، ويحرّمون عليهم ما أحلّ الله فيحرّمونه، فتلك عبادتهم لهم».
    وفي رواية: «يا رسول الله أما أنهم لم يكونوا يصلّون لهم. قال: صدقت ولكن كانوا يحلّون لهم ما حرّم الله فيستحلّونه ويحرّمونما أحل الله لهم فيحرّمونه».
    قال الترمذي حسن غريب...وحسّنه الشيخ الألباني في الصحيحة (3293) وفي غاية المرام (6) وصحيح سنن الترمذي (2471).
    وسئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا أحله الله لهم حرّموه فتلك كانت ربوبيتهم. وفي رواية: فصاروا بذلك أربابا. وهو صحيح عنه.
    وعن أبي البحتري: انطلقوا إلى حلال الله فجعلوه حراما وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا، فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم، ولو قالوا لهم: اعبدونا لم يفعلوا.
    وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يأمروهم أن يسجدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية الله فأطاعوهم فسمّاهم الله بذلك أربابا. ونحوه عن أبي العالية.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى أن رؤوسهم لما أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم كانت تلك الطاعة عبادة لهم وشركا بالله.
    وهذا يتناول ما إذا أحلّوا وحرّموا متعمّدين للمخالفة، أو متأولين مخطئين، لاسيما وعلماء النصارى هم عند أنفسهم لم يفعلوا إلا ما يسوغ لهم فعله كالرؤساء إذا قدّر أنهم اجتهدوا وأخطأوا يغفر لهم، فإن من اتبعهم مع علمه بأنهم أخطأوا وخالفوا الرسول فقد عبد غير الله وأشرك به».
    وقال الشيخ أبا بطين رحمه الله:« فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية لم يسمّوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ولا آلهة، ولا كانوا يظنّون أن فعلهم هذا معهم عبادة لهم ولهذا قال عدي: إنهم لم يعبدوهم.
    وحكم الشيء تابع لحقيقته لا لاسمه ولا لاعتقاد فاعله، فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم لهم في ذلك ليس بعبادة لهم فلم يكن ذلك عذرا لهم ولا مزيلا لاسم فعلهم ولا لحقيقته وحكمه.
    فكذلك ما يفعله عبّاد القبور في سؤالهم من المقبورين قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالنذور و الذبائح عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمّونه ولا يظنونه عبادة»
    فظن المشركين أنهم لا يعبدون غير الله أو يتقرّبون إلى غير الله وإنما يمدحون الرسول والأولياء وينصرونهم «ظن باطل لا ينفعهم كظنّ النصارى أنهم ينصرون المسيح ورسل الله» قاله ابن تيمية.
    ولا عبرة للخضوع الخاص الذي تردّده أخي الكريم في الحكم على المشرك؛ فكلّ من تقرّب إلى غير الله بما هو عبادة في شرعنا فهو مشرك لقيام الوصف به، وإن لم يكن بقيود المأمور به في شرعنا.
    وأصل الخطأ عند بعضنا أنهم يعتبرون بعد وجود الفعل الكفري اختيارا وقصداً ما لم يعتبره الشارع فيعتبرون أوصافا مهدرة في نظر الشرع وسيأتي بيان ذلك في آخر التعليقات.
    قال العلامة الرشيدي (1096هـ):
    «إن من فعل فعلا صريحا في الكفر وهو كل فعل صدر عن تعمد واستهزاء بالدين كفر ظاهرا وباطنا وإن كان مصرحا بالإسلام آتيا بجميع أحكامه. فمن ذلك: السجود لمخلوق، من صنم أو صورة أو كوكب أو غيرها، أو التقرب إليه بالذبح باسمه - ولو في دار الحرب- إن لم تقم قرينة قوية على عذره».
    التعليقة الحادية عشرة :
    أخي أبا محمد : هذا الكلام متفقٌ عليه وليس هذا ما أريده... أريد دليلًا على أنّ كلّ من صرف السجود والركوع والدعاء لغير الله فهو مشرك
    أخي أبو البراء أضحكتني بهذه المطالبة أضحك الله سنّك! هوِّن عليّ وعلى نفسك؛ لأن الشرك عبادة غير الله، وعبادة غير الله هي الشرك.
    والدعاء مأمور بالتقرّب به إلى الله، وكل ما كان كذلك فهو عبادة لله، وكلّ عبادة لا تصرف إلى الله، ومن صرفها إلى غير الله فهو مشرك مع الله ظالم كافر إجماعا.
    دليل المقدمة الأولى:﴿ادعوني استجب لكم﴾﴿ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ونحوها من الدلائل.
    ودليل المقدمة الثانية ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾﴿وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا﴿وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين﴾﴿ومن أضلّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون* وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال عليه السلام: «الدعاء هو العبادة» ونحوها من الدلائل.
    ودليل المقدمة الثالثة: ﴿فإياي فاعبدون﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا﴿بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴿فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص﴿إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين﴾﴿قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه﴿قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين ونحوها من الدلائل.
    وإذا كان الدعاء عبادة لا يصرف إلا الله أفلا يكون من صرفها إلى غيره مشركاً مع الله غيره؟
    ومع ظهور لزوم النتيجة من المقدمتين إلا أنّ الشرع نصّ عليها في دلائل منها قوله تعالى:
    ﴿ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين﴿ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون
    فجمع الله للداعي الشرك والكفر فهو مشرك كافر ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾﴿والكافرون هم الظالمون وقال عليه السلام: «إنّه من كان منا عليه مثل الذي عليه، كان مشركا ما كانت عليه»
    وعلى هذا أجمع السلف والخلف قال الإمام الغزالي (505هـ) رحمه الله: «وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفراً؛ لأنه مخلوق، وكان مخلوقا لأنه جسم؛فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف، سواء كان ذلك الجسم كثيفا، كالجبال الصمّ الصلاب، أو لطيفا كالهواء والماء، وسواء كان مظلما كالأرض، أو مشرقا كالشمس والقمر والكواكب، أو مشفّا لا لون له كالهواء، أو عظيما كالعرش والكرسي والسماء، أو صغيرا كالذرة والهباء، أو جمادا كالحجارة أو حيوانا كالإنسان» فالمسألة قضية أوصاف ومناطات لا قضية أعيان وأشخاص.
    قال العلامة عبد الله أبا بطين رحمه الله في تأسيس التقديس: «فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك وإن كان لا يظنّه شركا ولا تألّهاً وسمّاه بأي اسم شاء. فالمشرك مشرك شاء أم أبى كما أن المرابي مراب شاء أم أبى».
    التعليقة الثانية عشرة
    [أخي أبا محمد : دعنا نطبّق هذه الأمور في مسألة التكذيب ونزيد أمرًا آخر للتفصيل:
    الأمر الأول: أن ينطق بأنّ خبر موسى والحجر خُرافة وكذب.
    الأمر الثاني: أن يقصد المعنى من كلامه السابق وهو تكذيب خبر موسى والحجر، وليس كمن وطئ المصحف بلا قصد أو سبق لسانه بلا قصد
    الأمر الثالث: أن يقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم .
    الأمر الرابع: أن يقصد الكفر بالله بتكذيب خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس شرطًا
    الأمران الأولان حاصلان .. والأمر الرابع غير مشترط عند الجميع .. الإشكال بيننا هو في الأمر الثالث ..
    المكذّب الجاهل لا يقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنّه قصد المعنى من تكذيبه للخبر لكنه يجهل الارتباط بين ما فعله وبين تكذيب النبي في حقيقة الأمر...]
    أخي أبا البراء أراك تستميت في الدفاع عن هذا المثال، ولا أدري لماذا؟ وقد سبق الجواب أكثر من مرة، ودعني أحاول كشف اللبس بطريقة أخرى فأقول: إذا ثبت الأمران الأوّلان وهما: النطق بأنّ خبر الحجر خُرافة، والقصد إلى هذا المعنى من كلامه وهو كون هذا الخبر كذباً ليس بحقيقة. إذا تمّ هذا فقد تمّت حقيقة الفعل التي تناط بها الأحكام.
    ولكن بعدها يضيق فم القارورة ويشتدّ الخناق عليّ أو عليك أبا البراء!
    خلاصة هذا: عندنا حقيقة فعلية أو سبب تامّ، لكن ما هو الدليل على أنه كفر بحدّ ذاته؟ وأن من قال: خبر موسى والحجر خرافة كافر مشرك؟.
    لا بدّ من قيام السبب، ومن قيام الدليل على كون السبب كفراً، فهات دليلا واحداً على أن من قال ذلك كافر؛ لأن قيام الأسباب بالخلائق شيء، وقيام الدليل على كون السبب كفراً بحدّ ذاته شيء آخر.
    ولا يهمّني قصدَ تكذيب النبي أو لم يقصد؛ لأن ذلك مناط مستقلّ للتكفير.
    هذه مسألتك وليست عنك ببعيدة!
    أنسيت أنه لما قيل: الدعاء أو السجود لغير الله شرك وصاحبه مشرك، ذكرتَ ما معناه: أسلّم بقيام الفعل وبقصد العامل إلى السجود والدعاء لكن ما هو الدليل على أن من سجد لغير الله أو دعا غيره مشرك كافر؟
    والحقيقة أنه لا يمكن لك الانفصال من هذا الإشكال إلا أن تكون ممن يكفّر الناس بالمآل أو باللازم غير البيّن - أعاذك الله منه- فتقول: هذا الخبر صحيح عن النبي ، وتكذيبه يستلزم تكذيب النبي، وتكذيب النبي كفر، فالمكذب لهذا الخبر كافر!!
    ولهذا فلا محلّ للتنظير بين هذه المسألة وبين مسألة الداعي غير الله؛ لأن الأخير قام به السبب، وقام الدليل على أنّ من دعا غير الله مشرك كافر، وأن لا عبرة بعدم قصد عبادة غير الله والإشراك به....
    ومما لم أستحسن أخي الكريم القفز على الإجماع في أن ردّ الخبر الواحد المعيّن ليس بكفرٍ إلا أن يعلم أنه ثابت عن الرسول.
    التعليقة الثالثة عشرة:
    سألتك أخي الكريم: [ما تقول فيمن ذبح لصنم أو سجد له وهو هازل، أو جادّ لمصالح دنياه، ومعلوم أنّه لم يقصد التقرب ولا التعبّد كما هو اصطلاحك، وما حكمهما عندك؟
    فإن قلتَ: ليس بكافر ولا مشرك خرجتَ عن قول أهل السنة والجماعة.
    وإن قلتَ: هو مشرك نقضت أصلك وقاعدتك لانتفاء مناطك وهو قصد التعبد!.
    واختر أيهما شئت فإن أحدهما لازم على الإنصاف].
    وأجبتَ بالتالي:
    سؤال جميل يشحذ الذهن .. من سجد لصنمٍ وهو هازل فهو كمن كذّب خبرًا ثابتًا عنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو هازل... وهذا الهازئ بالفعل هو كمن يستهزئ بالقول فيقول على وجه الاستهزاء : النبي كاذب أو يقول : الله ليس مستحقًا للألوهية... وهذا كافر وكفره من باب الاستهزاء وليس من باب الشرك ولا داعي للتأكّد من قصد التعبّد عنده...
    فوقع ما كنت أخشاه من عدم الإنصاف في الجواب والرجوع إلى الصواب إذا لاح.
    أما عدم الإنصاف فمن وجهين:
    الأول: أجبت عن الهازل وذكرتَ أنه ليس بمشرك ولا عابد لغير الله إذا سجد وهو قاصد لحقيقة السجود.. وهو رأي فطير خطير، وإبطال لحكم السبب وعدم الربط بفاعله من غير مانع شرعيّ.
    الثاني: تركتَ الجواب عن الأشكل ولا أدري لماذا؟
    وهو الساجد للصنم اختياراً من أجل مصالح دنياه لأنّ كلّا منهما لم يقصد التعبّد على اصطلاحك؛ فالأول تقرّب إلى الصنم من أجل المزاح والهزل، والثاني تقرّب من أجل المال أو الجاه.
    أما عدم الرجوع إلى الصواب؛ فلأن جنس السجود ليس بعبادة بناء على تفصيلك، وإذا كان هذا النوع من العبادة فلم يقصد الهازل التعبّد فليس سجوده للصنم شركا بل من الأسباب العادية على أصلك!
    فلماذا كفّرته ولم تعتبر ظنّه وحسبانه بأن هذا لا يضرّ ولا يكفر به؟ وما الدليل على أنّ من سجد لصنمٍ من غير تعبّد ولا إشراك بالله هازلاً يكفر؟
    وبعد هذا فلا محلّ لتنظير الهازلِ بمن كذّب خبراً ثابتا عنده عن النبي ، أو قال النبي كاذب، أو نفى استحقاق الرب للألوهية؛ لأنها أسباب كفرية بإجماعٍ أو باختلافٍ، وسواء فيها الهازل والجادّ..
    أما السجود لصنم من غير قصد التعبّد فليس بشرك ولا عبادة على قاعدتك لانتفاء المناط ويلزم منه أنّ قصد التعبّد هو العبادة فقط في السجود لله اعتبارا للشيء بضدّه إلا بمانع؛ لأنّ نفس السجود ليس بعبادة ولا شرك؛ إذ لو كان كذلك لصار الساجد للصنم مشركا عابدا لغير الله، وإنما العبادة قصد التعبد فقط، وعندها يتحقق الشرك لا غير ذلك.
    وبحثك هذا أخي الحبيب قريب من عقيدة طائفتين من أهل البدع أو هي العقيدة نفسها:
    الطائفة الأولى: المعتزلة قالوا في مسألة الواحد بالنوع: إن الساجد للصنم عاص بقصد عبادة غير الله لا بنفس السجود لأن السجود عندهم نوع واحد لا يمكن أن يكون مأمورا ومنهيا عنه إلا من جهة قصد عبادة الله وقصد عبادة غير الله دون نفس السجود.
    قال العلامة ابن رشيق المالكي رحمه الله:
    «ويلزم على هذا المذهب أن يكون الساجد لله تعالى مطيعا بالنية لا بالسجود وهو خلاف إجماع المسلمين».
    وقال الإمام الغزالي رحمه الله:
    «والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود، والقصد جميعا»
    وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله:
    «والإجماع منعقد على أن الساجد للصنم عاص بنفس السجود والقصد جميعا، والساجد لله مطيع بهما جميعا» ونقله أيضا أبو الحسن الأبياري رحمه الله في شرح البرهان.
    والمقصود: أن اشتراطك قصد التعبد في كون الفعل شركاً أو عبادة يلتقي بعقيدة المعتزلة القدرية - لعنهم الله- فالسجود للصنم ليس بعبادة ولا شرك عندهم إلا أن يقصد الساجد عبادة غير الله وعند علماء المسلمين هو عاص مشرك بنفس سجوده وقصده معا كالساجد لله مطيع وعابد له بنفس السجود والقصد جميعا.
    لا أريد إحراجك لكن هذا ما قاد إليه بحثك، وجاء على قياس نظريّاتك في مسألة عبادة غير الله! لأنّك قرّرت أنّ السجود للصنم إنما يكون عبادة وشركا بقصد عبادة غير الله، والهازل لم يقصد التعبد فليس بمشرك وعابد لغير الله عندك! والعلماء أجمعوا على أن الساجد لله مطيع بنفس السجود وبالقصد جميعا، والساجد لغيره عاص بهما جميعا، وإذا كان كذلك فلا يجوز ذكر ما لا تأثير له في الحكم مع المؤثِّر عند أهل الأصول والفقه.
    الطائفة الثانية: مرجئة الجهمية الذين قالوا: إن السجود للشمس والقمر أو للصنم ليس بكفر إذا لم يسجد له على سبيل التعظيم واستحقاق العبادة. يراجع: المواقف للإيجي (ص387-388) وشرح المواقف للجرجاني (3/546) وأصول الدين للبغدادي (ص266).
    وقد يكون جهمية الماتريدية والأشعرية خيراً من تقريرك لأن هؤلاء يرون أن هذا كفر وشرك مجازا إذا لم يصاحبه الشرط السابق وإطلاقك يقتضي عدم ذلك.
    أخي الكريم كلاهما (الهازل والمصلحي) مشرك لقيام وصف الشرك لأن كلّاً توجّه إلى غير الله بالسجود قصدا واختياراً، ونفيك الشرك عن الهازل ليس بصواب على ما سلف آنفا.
    وفي الختام أنبّه على أصلين لعلّ الله ينفع به في إزالة اللبس والإشكال في مثل هذه المسألة.
    الأصل الأول:
    أنّ العبد إذا أتى بالسبب قصداً واختياراً عُلِّق به الحكم، والأوصاف الأخرى مهدرة غير معتبرة في نظر الشرع كوصف الهزل، والغرض المصلحيّ «والرجل لو تكلّم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقادٍ صحّ كفره ظاهرا وباطنا، وذلك لأنّ العبد مأمور أن يتكلّم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا أو هازلا كان كافرا وكاذبا حقيقةً، لأن الهزل بهذه الكلمات غير مباح فيكون وصف الهزل مهدراً في نظر الشرع؛ لأنه محرّم، فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها..» قاله ابن تيمية رحمه الله.
    لأن الهازل والمصلحي ونحوهما لما أرادوا إخراج اللفظ والفعل عن حقيقته ولم يكن مقصودهما مقصود الشارع عوقبوا بنقيض قصدهم، ولأن الأصل تلازم الظاهر والباطن «ولهذا كان التكلّم بالكفر من غير إكراه كفراً في نفس الأمر عند الجماعة وأئمة الفقهاء حتى المرجئة خلافاً للجهمية ومن اتبعهم» قاله ابن تيمية.
    الأصل الثاني:الجنس المنقسم إلى مأمور به ومنهي عنه يختصّ المأمور به بقيود وشروط لا تراعى في المنهي عنه كالسجود لله ولغيره يشترط في الأول ما لا يشترط في الثاني؛ فلو سجد لغير الله من غير طهارة عريانا ولا استقبال قبلة ولا نية تقرّب إليه فهو مشرك بخلاف السجود لله سبحانه.
    وكذلك ولاية المؤمنين يشترط أن تكون من أجل إيمانهم وموالاتهم الله وكتابه ورسوله بخلاف موالاة الكفار فإنه لا يشترط فيها ذلك بل يرتّب الحكم بوجود النصرة والمظاهرة.. وهلمّ جرا
    والمفرِّق بين النوعين وجوه:
    منها: أنّ النهي يعم كلّ ما دخل في اللفظ أو المعنى فَيُنهى عنه بكل حال وعلى أيّ وجهٍ كما يحرم السجود للشمس والقمر والطواغيت سواء كان السجود إلى القبلة، وإلى غيرها، وسواء كان مع وضوء أو لا، وسواء كان بنية التقرب وبغيرها، فكلّ ذلك شرك؛ لأنّ النهي يعمّ كلّ ما سُمِي سجودا على أي وجه كان، فإذا قصد إليه تمّ المقتضي للحكم.
    أما السجود المتقرّب به إلى الله فلا يكون إلا بقيود لا تراعى في السجود المنهي عنه.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «السجود الواجب يشترط له شروط يكون بها أخص، بل العبادة الواجبة يشترط لها شروط شرعية، والعبادة لغير الله محرّمة على كل حال» ينظر لتقرير الأصل جامع المسائل (8/26).
    ومن هذا الباب الولاية المأمور بها؛ فإنها قائمة على أساس الإيمان والحب لله ورسوله وكتابه والمسلمين والولاية المنهي عنها لا يشترط أن تكون من أجل حبّ الكفر، أو البغض لدين الإسلام فلا تقاس على المأمور به على المنهي عنه من الجنس المنقسم إلى ذلك لاختلاف حقائق النهي والأمر وآثارهما.
    ومنها: أنّ الكفر أسرع ثبوتا من الإسلام؛ ولهذا لو نوى الكافر أن يسلم غداً لم يكن مسلما في الحال.
    ولو نوى المسلم أن يكفر بعد عشرين عاماً كفر في الحال.
    ولو التزم الكافر شريعة من شرائع الإسلام لم يصر مسلما.
    ولو جحد المسلم شرعا واحدا كفر؛ فلا يجوز قياس المأمور به على المنهي عنه في هذا الباب.
    ومنها: أن الكافر لا يكون مؤمنا إلا باختيار الإيمان والإسلام ويكون المسلم كافراً من غير أن يختار أن يكفر بالله.
    ولهذا قالوا: إن كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صحّ كفره ولم يصحّ إيمانه، فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة، فلم يصحّ إيمانه، والرجل لو تكلّم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صحّ كفره ظاهراً وباطنا..
    الخلاصة: إن التكفير منوط بأي سبب تبيّن أنه صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله قصدا واختياراً عملا بالظاهر ومن كذّبه الظاهر لم يصدّق.



  19. #19

    افتراضي

    أخي أبا محمّد :
    أرى أنّ الردود الطويلة يُنسي فيها بعض الكلام بعضًا ، ولذلك سوف أقتصر على أصل الإشكال، ولا فائدة في التنازع في فروع القاعدة إذا كانت المشكلة في الأصل أصلًا .. إلا إن كان لك رأيٌ آخر .. ولذلك سوف أناقش قولك هذا :


    وتنتهي المناظرة لو اتفقنا كيف يعرف بأن هذه الخصلة عبادة لله فلا تصرف إلا له سبحانه؟ والجواب عن هذا سهل عند علماء الشريعة قالوا: أن كلّ ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو طاعة. وكلّ خصلة أمر الله ورسوله بصرفها إليه فهو عبادة فمن صرفها إلى غيره فقد عبد غيره وأشرك به.
    ##
    هنا مكمن الخطأ .. وهذا هو أصل الإشكال .. والمشكلة أنّ الخطأ في هذه المسألة متراكم وقد توارد على هذا الخطأ جمعٌ من العلماء وأئمة الدعوة وقرّروا وقعّدوا وهم لم يستدلوا لأصل المسألة ..
    ما هو الدليل على أنّ كل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب أنّه عبادة وأنّ صرفها لغير الله شرك ؟
    هات دليل القاعدة التي بنيتم عليها هذه التقريرات .. والذي من المفترض ألا يكون دليلًا واحدًا وإنما يكون قاعدة كلية تواردت مجموعة من الأدلة على تقريرها ..
    إذا لم تجد الدليل فأرجو أن تُراجع تقريراتك بإنصاف، وأعلمُ أنّ الأمر صعب، وأنّ مخالفة الإنسان لما نشأ عليه وقرّره واستدلّ له وصار عنده كالمُسلّمة أنّه أمرٌ عسير، ولكنّ الحقّ أحقّ أن يُتّبع إذا كنّا فعلًا طلّاب حقّ..
    ما حكم من بر بوالديه تقرّبًا لهما ولم يرد التقرب لله ؟
    ما حكم من تصدّق على المساكين تقرّبًا إلى الحاكم ؟
    ما حكم أن أطلُب من الله الحصول على 100 ريال ، أليس هذا مستحبًا، فالسلف كانوا يسألون الله الملح ..
    إذا كان ذلك كذلك فما حكم أن أصرف هذا الطلب لغير الله فأذهبُ إلى رجل مقتدر وأطلب منه الحصول على 100 ريال .. سيكون شركًا على قاعدتك !

    أرجو أن تُجيب عن هذه الإشكالات الواردة في أصل القاعدة ..

  20. #20

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو البراء الجهني مشاهدة المشاركة
    أخي أبا محمّد :
    أرى أنّ الردود الطويلة يُنسي فيها بعض الكلام بعضًا ، ولذلك سوف أقتصر على أصل الإشكال، ولا فائدة في التنازع في فروع القاعدة إذا كانت المشكلة في الأصل أصلًا .. إلا إن كان لك رأيٌ آخر .. ولذلك سوف أناقش قولك هذا :

    وتنتهي المناظرة لو اتفقنا كيف يعرف بأن هذه الخصلة عبادة لله فلا تصرف إلا له سبحانه؟ والجواب عن هذا سهل عند علماء الشريعة قالوا: أن كلّ ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو طاعة. وكلّ خصلة أمر الله ورسوله بصرفها إليه فهو عبادة فمن صرفها إلى غيره فقد عبد غيره وأشرك به.
    ##
    هنا مكمن الخطأ .. وهذا هو أصل الإشكال .. والمشكلة أنّ الخطأ في هذه المسألة متراكم وقد توارد على هذا الخطأ جمعٌ من العلماء وأئمة الدعوة وقرّروا وقعّدوا وهم لم يستدلوا لأصل المسألة ..
    ما هو الدليل على أنّ كل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب أنّه عبادة وأنّ صرفها لغير الله شرك ؟
    هات دليل القاعدة التي بنيتم عليها هذه التقريرات.. والذي من المفترض ألا يكون دليلًا واحدًا وإنما يكون قاعدة كلية تواردت مجموعة من الأدلة على تقريرها ..
    إذا لم تجد الدليل فأرجو أن تُراجع تقريراتك بإنصاف، وأعلمُ أنّ الأمر صعب، وأنّ مخالفة الإنسان لما نشأ عليه وقرّره واستدلّ له وصار عنده كالمُسلّمة أنّه أمرٌ عسير، ولكنّ الحقّ أحقّ أن يُتّبع إذا كنّا فعلًا طلّاب حقّ..
    ما حكم من بر بوالديه تقرّبًا لهما ولم يرد التقرب لله ؟
    ما حكم من تصدّق على المساكين تقرّبًا إلى الحاكم ؟
    ما حكم أن أطلُب من الله الحصول على 100 ريال ، أليس هذا مستحبًا، فالسلف كانوا يسألون الله الملح ..
    إذا كان ذلك كذلك فما حكم أن أصرف هذا الطلب لغير الله فأذهبُ إلى رجل مقتدر وأطلب منه الحصول على 100 ريال .. سيكون شركًا على قاعدتك!
    أرجو أن تُجيب عن هذه الإشكالات الواردة في أصل القاعدة ..
    أخي الكريم أبا البراء
    المعروف أن أئمة الدعوة لا يؤصّلون ولا يقعّدون إلا بدليل وهم على هذا المنهج فيما اطلعتُ من تقريراتهم.
    ولعلّ بعض من له اختصاص بمناهجهم يناقشك في هذا، وليس لي فيه ناقة ولا جمل.
    فلنرجع إلى أصل النزاع ولا أريد أن أنتقل من مسألة إلى أخرى قبل الاتفاق على الأولى لئلا تضيع الفائدة.
    هذا، وقبل الإجابة عن المسائل الثلاث لا استحسن الاسترسال في الأخذ والرد.
    الأولى: مسألة السجود في شرعنا..أريد جوابا صريحا مع الدليل على أنّه ليس بعبادة إما لله وإما لغيره في شرعنا.
    الثانية: التوفيق بين اشتراط قصد التعبّد في كون العمل شركا وعبادة لغير الله، وبين عدم شرطية العلم بكون العمل عبادة لغير الله أو أنه لا يستحقه إلا الله..
    الثالثة: ماذا عن اختلاف الشرائع في فروع العبادة مع الاتفاق في أصل التوحيد وعبادة الله وحده كما سبق في التقرير؟.
    لأنّ له علاقة وثيقة بالذي ذكرتَه وقد يكون فرعا من هذا من جهةٍ ولهذا أرجو منك فيه ما طلبت في الأولى. وبعدها يحسن الجواب عما تعتبره إشكالات واردة على الأصل.
    وإليك القول المجمل في المسائل التي ذكرتها قبل التفصيل بعد الجواب عن المسائل الثلاث
    - من برّ بوالديه ولم يقصد الامتثال لم يعتبر عمله قربة إلى الله وإنما هو إحسان لا ثواب فيه لانتفاء الامتثال، وليس من الأصل في شيء:
    (وكلّ خصلة أمر الله ورسوله بصرفها إليه فهو عبادة فمن صرفها إلى غيره فقد عبد غيره وأشرك به). كما قال جلّ ذكره:واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً ففرّق بين عبادة الله وبين البرّ بالوالدين، وكلّ عبادة طاعة، وليس كل طاعة عبادة إلا بنظر آخر.
    - التصدّق على المساكين تقرّبًا إلى الحاكم..فهي مسألة الرياء وقد سبق الكلام فيها فلا جديد!
    - طلب الريالات ونحوها من الناس..
    فمن سؤال الخلق فيما يقدرون عليه وليس من الشرك وعبادة غير الله، لأن الطلب منهم فيما يضرّون فيه وينفعون دائر بين التحريم والإباحة وليس من الشرك الأكبر كما قال تعالى: ولاتدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين.
    فجميع المسائل خارجة من محلّ النزاع..
    وهذا دأب إشكالاتك جميعا في ما سلف..
    وتقدمت بعض الأدلة في الأصل، ولم تجب عنها، وستأتي إن شاء الله زيادة بعد الجواب عما طُلِب.
    دمتم برعاية الله وحفظه الله.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •