قال ابن القيم رحمه الله في كتابه " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" ص 104
فَصْلٌ : الْمَعْصِيَةُ تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ ، وَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ أَهْمَلَهَا وَأَفْسَدَهَا وَأَهْلَكَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَنْسَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ ؟ وَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَذْكُرُ ؟ وَمَا مَعْنَى نِسْيَانِهِ نَفْسَهُ ؟
قِيلَ : نَعَمْ يَنْسَى نَفْسَهُ أَعْظَمَ نِسْيَانٍ ، قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ سُورَةُ الْحَشْرِ : 19 ] .
فَلَمَّا نَسُوا رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُمْ وَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ سُورَةُ التَّوْبَةِ : 67 ] .
فَعَاقَبَ سُبْحَانَهُ مَنْ نَسِيَهُ عُقُوبَتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ أَنْسَاهُ نَفْسَهُ .
وَنِسْيَانُهُ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ : إِهْمَالُهُ ، وَتَرْكُهُ ، وَتَخَلِّيهِ عَنْهُ ، وَإِضَاعَتُهُ ، فَالْهَلَاكُ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ ، وَأَمَّا إِنْسَاؤُهُ نَفْسَهُ ، فَهُوَ : إِنْسَاؤُهُ لِحُظُوظِهَا الْعَالِيَةِ ، وَأَسْبَابِ سَعَادَتِهَا وَفَلَاحِهَا ، وَإِصْلَاحِهَا ، وَمَا تَكْمُلُ بِهِ بِنَسْيِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَمِيعِهِ فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ، وَلَا يَجْعَلُهُ عَلَى ذِكْرِهِ ، وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ فَيَرْغَبُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمُرُّ بِبَالِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ وَيُؤْثِرَهُ .
وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَنَقْصَهَا وَآفَاتِهَا ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ إِزَالَتُهَا .
وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ أَمْرَاضَ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَآلَامَهَا ، فَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مُدَاوَاتُهَا ، وَلَا السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ عِلَلِهَا وَأَمْرَاضِهَا الَّتِي تَئُولُ بِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ ، فَهُوَ مَرِيضٌ مُثْخَنٌ بِالْمَرَضِ ، وَمَرَضُهُ مُتَرَامٍ بِهِ إِلَى التَّلَفِ ، وَلَا يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مُدَاوَاتُهُ ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
فَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ وَضَيَّعَهَا ، وَنَسِيَ مَصَالِحَهَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا ، وَأَسْبَابَ سَعَادَتِهَا وَفَلَاحِهَا وَصَلَاحِهَا وَحَيَاتِهَا الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ؟
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ هَذَا الْخَلْقِ قَدْ نَسُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ وَضَيَّعُوهَا وَأَضَاعُوا حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ ، وَبَاعُوهَا رَخِيصَةً بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الْغَبْنِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لَهُمْ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَيَظْهَرُ هَذَا كُلَّ الظُّهُورِ يَوْمَ التَّغَابُنِ ، يَوْمَ يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ غُبِنَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَالتِّجَارَةِ الَّتِي اتَّجَرَ فِيهَا لِمَعَادِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَتَّجِرُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِآخِرَتِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُنْسِي الْعَبْدَ حَظَّهُ مِنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ ، وَتَشْغَلُهُ بِالتِّجَارَةِ الْخَاسِرَةِ ، وَكَفَى بِذَلِكَ عُقُوبَةً ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .أهـ