قيل:
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قضى في قصةِ الربيع بالقصاص في السنِّ، وقال: (كتاب الله القصاص)، وليس في القرآنِ: السنُّ بالسنِّ، إلا ما حُكي فيه عن التوراة بقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة: 45]
فدلَّ على أنه - عليه السلام - قضى بحكمِ التوراة، ولم يكن شرعًا له لَمَّا قضى به.
• وأجيب: بأنَّه ثبت ذلك من قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ ، وقوله - جل وعلا -: ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) ، فدخل السِّن تحت عمومِه.
ومن أمثلة الاحتجاج بشرع من قبلنا:
استدلَّ الفقهاءُ على جوازِ قسمة منافع المال المشترك بطريق "المهايأة" بقولِه - تعالى - في قصةِ صالحٍ - عليه السلام - ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾[12]، وهو المهايأة بعينِها، وهي جائزةٌ في المذاهب الأربعة.
واستدلَّ الحنفيةُ على جوازِ قتلِ المسلم بالذِّمِّي، والرجلِ بالمرأةِ بقوله - تعالى -: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [13] ؛ أي: في التوراة، واحتجَّ بالآيةِ أيضًا المالكيةُ والحنابلة على قتلِ الذَّكرِ بالأنثى.
واستدلَّ المالكيةُ والشافعية والحنابلة على جوازِ "الجعالةِ" بقولِه - تعالى - في قصةِ يوسف - عليه السلام -: ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ [14] . واحتجَّ غيرُ الشافعيةِ لجوازِ "الكفالةِ" بالنَّفسِ بقولِه - تعالى -: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ [يوسف: 66 ][15]،
والشَّافعيةُ استأنسوا بهذه الآية، واحتجُّوا بعمومِ حديث: ( الزَّعيم غارم ) ، وبالقياسِ على كفالة الدين.واحتجَّ الحنابلةُ على جوازِ المنفعةِ مهرًا بآيةِ: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ [القصص: 27] [16]، واستأنس الشَّافعيةُ بتلك الآية، واستدلُّوا على الجوازِ بالقياسِ على الإجارة.
واستدلَّ مالكٌ على أفضليةِ الكِباش في الضَّحايا، ثم البقرِ ثم الإبل - بما فعلَه إبراهيمُ - عليه السلام - من فدائه ولدَه بكبشٍ.واستدلَّ مالك وأبو حنيفة ومحمد - خلافًا للشَّافعي وأحمد وأبي يوسف وزُفَر - بقصةِ إبراهيم على لزومِ نذر ذبح الولد، ووجوبِ الهدي - وهو جزورٌ عند مالكٍ، وشاةٌ عند أبي حنيفة [17]
جاء في "المغني"؛ لابن قدامة ( 9 / 409 ): "اختلفتِ الرِّوايةُ فيمن حلف بنحرِ ولده، نحو أن يقول: إنفعلت كذا فلله عليَّ أن أذبحَ ولدي، أو يقول: ولدي نحيرٌ إن فعلتُ كذا، أو نذر ذبح ولدِه مطلقًا، غير معلَّقٍبشرط؛ فعن أحمد: عليه كفارةُ يمين، وهذا قياسُ المذهب؛ لأنَّ هذا نذرُ معصية، أو نذر لَجاج، وكلاهما يوجِبُ الكفارة، وهو قولُابنِ عباس - رضي الله عنهما - فإنَّه رُوي عنه أنَّه قال لامرأةٍ نذرتْ أن تذبحَ ابنَها: لا تنحري ابنَك، وكفِّري عن يمينِك، والرِّواية الثانية: كفارتُه ذبحُ كبشٍ، ويطعمه للمساكين؛ وهو قولُأبي حنيفة.ويُروى ذلك عنابنِ عباس- رضي الله عنهما - أيضًا؛ لأنَّ نذرَ ذبح الولد جُعِل في الشَّرعِ كنذر ذبحِ شاة، بدليلِ أنَّ الله - تعالى - أمرَ إبراهيم بذبحِ ولدِه، وكان أمرًا بذبح شاة، وشرعُ من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يثبتْ نسخُه، ودليلُ أنَّه أُمِر بذبح شاة، أنَّ الله لا يأمرُ بالفحشاءِ ولا بالمعاصي، وذبحُ الولدِ من كبائرِ المعاصي؛ قالالله - تعالى-: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ﴾ [18]"؛ ا. هـ.
جاء في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" ( 7 / 142 ): " ( قوله صحَّ التوكيل ) ؛ أي: تفويض التصرفِ إلى الغيرِ بالكتاب والسنة والإجماع، قال - تعالى - حكاية عن أصحابِ الكهف: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ [19] ، وكان البعثُ منهم بطريقِ الوكالةِ،وشرعُ من قبلنا شرعٌ لنا إذَا قصَّه اللهُ - تعالى - ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غير إنكارٍ ولم يظهر نسخه،( ووكَّل - عليه السلام- حكيمَ بن حِزامبشراء أضحيته ) ، وانعقد الإجماعُ عليه وهو عامٌّ وخاصٌّ؛ فالثاني ظاهرٌ، والأولُ نحو أنيقول: ما صنعت من شيءٍ فهو جائزٌ، أنت وكيلي في كلِّ شيء جائز،أمرك على مِلْك جميعِ أنواع التصرفات من البيع والشراء والهبة والصدقة والتقاضي وغير ذلك، ولو طلَّقَ امرأتَه جاز، قال الصَّدرُ الشهيد: وبه يُفتى حتَّى يتبين خلافُه، واختار أبو الليث: أنَّه لو طلَّق أو وقف لم يجزْ؛ كذا في الولوالجيَّة وفي البزازية ما حكمت فجائز تحكيم لا توكيل، وقدَّمنا فتوىقاضيخانأنَّ ه يختصُّ بالمعاوضاتِ، ( قوله وهو إقامة الغير مقام نفسه في التصرف)؛ أي: الجائزُ المعلوم، حتَّى إنَّ التصرفَ إذا لم يكن معلومًا ثبت أدنى التصرفات؛ وهو الحفظُ فيما إذا قال: وكلتك بمالي". اهـ.