خطورة صرف آيات الصفات عن مقتضى ظاهرها (3)
كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمَن نظر من جهة البلاغة وشروطها في التأويل تبيَّن له -جليًّا-: أن تأويلات المتكلمين للصفات ركيكة، يزدريها نظر أهل البلاغة، فهي لا تنتمي لجنس البيان وعلومه؛ لندرك بذلك عظيم جناية هذا التأويل على اللغة والعقيدة، والشريعة والفطرة، والله المستعان.
تلك الجناية التي جعلتهم يأتون على أحاديث الصفات واحدًا واحدًا، وآياتها آية آية، ويعملون فيها العقل المتخبط المتأثر بفكر فلاسفة اليونان، حتى كفَّر بعضهم بعضًا، وطعنوا في أهل السنة والجماعة، بعد تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، ولو أنهم اعتمدوا البلاغة -التي جعلوها متكًأ- بوجهها الصحيح الصبيح، الأنور الأزهر، لَمَا كانت هذه الاتهامات المتبادلة بقلة الفهم وطمس البصيرة؛ إذ عِلْمُ الْبَلَاغَةِ كما يقول الطاهر بن عاشور: "بِهِ يَحْصُلُ انْكِشَافُ بَعْضِ الْمَعَانِي وَاطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لَهَا، *وَبِهِ *يَتَرَجَّحُ *أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْ نِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ" (التحرير والتنوير).
ليظهر بذلك أن معالجتهم لتأويلاتهم من طريق البلاغة، وزعمهم أن البلاغة معتمدهم هو وَهْمٌ كبير، وادِّعاء عريض، ودعوى لا أساس لها، بل البلاغة بريئة من تحريفهم الذي سموه: تأويلًا ومجازًا!
وتأويلاتهم تلك يزدريها نظر أهل البلاغة؛ لذا كان الخط سقيمًا، والخاطر عقيمًا، والكلام شقاقًا، كالولد العاق والأخ المشاق، إذا أدرته استطال، وإذا قومته مال، وإذا بعثته وقف، وإذا وقفته انحرف.
قال ابن قتيبة: "وَفَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَعْجَبِ تَفْسِيرٍ، يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَحْمِلُوا التَّأْوِيلَ عَلَى نِحَلِهِمْ" (تأويل مختلف الحديث).
ولعل هذا الانحراف الشديد بأساليب البلاغة؛ خاصة المجاز والكناية، والتخييل في محاولة استغلال الاتساع الدلالي، كان سببًا في ظهور ألفاظ الكفر الصريحة، والردة القبيحة، والشرك الأكبر بشكل تجاوز حدود الشرك الجاهلي، وهو ما نبَّه عليه الغزالي بقوله: "وبهذا الطريق –يعني صرف الألفاظ عن مقتضى ظاهرها بلا قرينة معتبرة- توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم" (إحياء علوم الدين).
ويتضح ذلك في محاولات التبرير والتخريج -اليائسة- بالمجاز، لكلام الكفر والشرك الصريح عند أصحاب عقيدة الحلول والاتحاد: كالحلاج، وابن عربي، وابن سبعين، والششتري، وابن الفارض، وأتباعهم.
ويتناسى أولئك المبررون بالمجاز أن العقيدة لا تحتمل مثل تلك التأويلات والمتاهات، ودليل ردها من السُّنة ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلًا قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا شَاءَ اللَّهُ *وَشِئْتَ! قَالَ: (جعلتَ *لِلَّهِ *نِدًّا؟! مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ) (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني)، مع أنّ القائل ما أراد أن يجعل لله نِدًّا، ولكن هذا اللفظ لا يجوز، فهو شرك لفظي ولو لم يقصده، ومِن ثَمَّ يقال: إن اللفظ إذا كان يحتمل الصواب والخطأ فيمنع منه من أجل ما يحتمله من خطأ لا سيما في باب الاعتقاد، هذه هي العقيدة؛ لا تقبل التمويهات ولا اللعب بالألفاظ على وتر المجازات، هنا مقام يضيق على المجاز فلا يتسع، فالأمر توقيفي.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولو ترك المتأوِّلون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها؛ *لأفادتهم *اليقين، وجزموا بمراد المتكلم بها، ولانحسمت بذلك موادُّ أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة، ولما تهيَّأ لكل مبطلٍ أن يَعمِد إلى آيات من القرآن فيُنزِلها على مذهبه الباطل ويتأوَّلها عليه ويجعلها شاهدةً له وهي في التحقيق شاهدة عليه، ولَسَلِمَ القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأوِّلون وألصقها بهما المحرِّفون، والله المستعان" (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة).
لكنهم في مخالفة لما هو معلوم من اللغة والشرع، وجهة تعامل السلف مع آيات الصفات، فيوجبون التأويل لوهم توهموه، بل زادوا وماروا وباروا، وقالوا: "الْأَخْذ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُول الْكُفْرِ!" نعوذ بالله من قولهم.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.