الكعبة البيت الحرام ....قياما للناس
قال شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله في الصفدية 1 / 220 :
" وكذلك ما خص الله به الكعبة البيت الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيم وتوقير وانجذاب القلوب إليه ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان ، والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس بل كثيرا ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوى إليه ما لا يعلمه إلا الله وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة فيكونون هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبدانهم والذي بناه قد مات من ألوف سنين ولهذا كان أمر البيت مما حير هؤلاء الفلاسفة والمنجمين والطبائعية لكونه خارجا عن قياس عقولهم وقوانين علومهم .... " أ ه

فهذه الحقيقة لا بد من وضوحها و نصاعتها ، مما يجعل تدفق الحجيج نحو بيت الله عز وجل في كل عام أعظم رافد للتذكير بهذه الحقيقة الباهرة ، و لهذا زكى الله هذه الوفود بأنهم ( يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا ) فأي فضل بعد هذا

ولقد وصف الله هذا البيت بأنه ( مبارك ) و ( هدى ) و سماه ( البيت العتيق ) و ( المسجد الحرام ) و ( مكة ) و ( الكعبة ) و ذكر تاريخ هذا البيت منذ تحديد مكانه ( و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) و زمن بنائه ( و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) مروراً بتسميته ( البيت االعتيق ) في إشارة إلى تاريخه الطويل و استقلاله ، إلى دفاع الله عز وجل عنه ضد من أراده بسوء كأصحاب الفيل ، و التي كانت قصتهم كالتوطئة و التجديد و التذكير لمكانة هذا البيت و أهله الذين سيخرج منهم نبي موصوف بأنه ( رحمة للعالمين ) كما وصف بيته بأنه ( هدى للعالمين ) .

و لو أردنا الحديث عن هذا البيت لطال بنا المقام ، و لتشعب بنا الطريق ، و لكن عندما يُنبهنا الله عز وجل لمكانة هذا البيت بقوله ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس ...) فنحن امام حقيقة و قاعدة كبرى ، تنتظم حياة الناس ، و تصلح بها دنياهم و أخراهم ، و تلفت انتباههم لأهمية هذا البيت ، و ضرورة العناية و الاحتفاء به ، إذ جعل الله عز و جل الكعبة قواماً لحياة الناس و معيشتهم و دينهم و أمنهم و مصالحهم فوجود الأمن و التجارة و الرزق ، هي قوام مصالح الدنيا و كذلك جعل الله الكعبة سببا لقيام دينهم، لما انتظمته من معاني التوحيد لله، و الإيمان بالرسل الذين وطئت أقدامهم تلك البقاع، و جعلها قبلة للمسلمين في صلاتهم أينما كانوا، و ما جعل فيها من المناسك و الطاعات و العبادات التي لا توجد إلا فيها
فقوام حياة الناس هي الأمن و الرزق و العبادة، فينتظم بقيامها صلاح الدنيا و الأخرة، و الكعبة تحمي هذه الضروريات، و توفر أسبابها، و تحمي حياضها، لتقوم حياة الناس بها، فلنستلهم هذا الدرس العميق ،و لنكمل هذا المسير بالحفاظ عليها، لا لتقوم حياتنا فقط، بل لتقوم حياة الناس ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) .