بسم الله الرحمن الرحيم

إنكار المدرسة العقلية الحديثة لحقيقة السحروبيان الحق في ذلك:

مما خالفت فيه المدرسة العقلية الحديثة سلف الأمة في تفسير القرآن الكريم مسألة السحر سالكة بذلك مسلك المدرسة العقلية القديمة -المعتزلة-، وهذه أقوال لبعض أقطاب هذه المدرسة في تأوليهم للسحر، وبيان الحق في ذلك:
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى:
ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ([1]):" والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يري ما لا حقيقة له في صورة الحقائق...فقد نص القرآن على أن السحر تخييل لما ليس واقعا، وأنه كيد ومكر..."([2])، وقال عند تفسير قوله تعالى:ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ([3]):" وقد وصف الله السحر في القرآن بأنه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا..."([4])، وهذا ما أكده في مجلته –المنار- بقوله:" السحر لغة إخراج الباطل في صورة الحق بالتمويه والخداع ، والسحر الذي جاء في الشرع ليس غير هذا بدليل وصفه تعالى لعمل سحرة فرعون في قوله جلت حكمته:ﯝ ﯞ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ([5])ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ([6])"([7]). هذا الإنكار لحقيقة السحر دفعهم إلى إنكار سحر اليهود للنبي صلى الله عليه و سلم([8]).
يقول الشيخ محمد عبده:" وقد رووا ههنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم وأثر سحره فيه حتى كان يخيل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله... ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه فعل شيئًا وهو لا يفعله ، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان ،ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية ، بل هو ماس بالعقل ، آخِذٌ بالروح ، وهو مما يصدق قول المشركين فيه :ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ([9])... وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها([10]) : إن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح ، فيلزم الاعتقاد به ... وقد جاء القرآن بصحة السحر . فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلد بدعة ؟ نعوذ بالله...وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد ، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين ، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون..."([11]) .
وسلف هؤلاء في إنكار السحر المعتزلة الذين بلغ الأمر ببعضهم إلى تكفير من أقر بحقيقته،" وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر رقى مخصوصة وكلمات معينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك الفلك والنجوم فلا..."([12])، يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى:ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ([13]):" فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة."([14]). وقال الإمام المازري رحمه الله تعالى:" مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها وقد ذكره الله تعالى فى كتابه وذكر أنه مما يتعلم وذكر مافيه اشارة إلى أنه مما يكفر به وأنه يفرق بين المرء وزوجه وهذا كله لا يمكن فيما لاحقيقة له."([15]).
يقول الحافظ الحكمي رحمه الله تعالى في منظومته الموسومة سلم الوصول إلى علم الأصول:
والسحر حق وله تأثيـــــــــــ ــــــــــر ... لكن بما قدره القديــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــر
أعني بذا التقدير ما قد قدره ... في الكون لا في الشرعة المطهره
ويقول رحمه الله تعالى في شرحه لهذين البيتين:" والسحر حق يعني متحقق وقوعه ووجوده ولو لم يكن موجودا حقيقة لم ترد النواهي عنه في الشرع والوعيد على فاعله والعقوبات الدينية والأخروية على متعاطيه والاستعاذة منه أمرا وخبرا... وله تأثير فمنه ما يمرض ومنه ما يقتل ومنه ما يأخذ بالعقول ومنه ما يأخذ بالأبصار ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه لكن تأثيره ذلك إنما هو بما قدره القدير سبحانه وتعالى أي بما قضاه وقدره وخلقه عندما يلقي الساحر ما ألقى ولذا قلنا أعني بذا التقدير في قوله بما قدره القدير وما قد قدره في الكون وشاءه لا أنه أمر به في الشرعة التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه المطهرة من ذلك وغيره"([16]).
وأما شبهة الشيخ محمد عبد في إنكاره لسحر النبي صلى الله عليه وسلم بحجة أن ذلك يخالف صريح القرآن في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن السحر، فالحق أن القرآن الكريم لا يعارض السنة، وكيف يتعارضان وهما من مشكاة واحدة، والجمع بين ما ورد من الآيات في تنزيهه صلى الله وسلم من السحر وبين حديث عائشة رضي الله عنها واضح: ففي كل ما يتعلق بأمور الدين والوحي وتبليغ الشرع لا يمكن أن يطرأ عليه صلى الله عليه وسلم ما يؤثر في عقله لأن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه ووحيه، ومن لوازم هذا الحفظ حفظه صلى الله عليه وسلم من كل ما قد يؤثر في التبليغ. وأما في أمور الدنيا التي لا علاقة لها بالوحي وتبليغه فقد يعرض له صلى الله عليه وسلم بطبيعته البشرية ما قد يؤثر فيه من سحر ونحوه.
يقول الإمام المازري رحمه الله تعالى:"وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث بسببها ولا كان مفضلا من أجلها وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له."([17]).

([1] ) سورة الأنعام، الآية:7.

([2] ) رشيد رضا، تفسير المنار، مرجع سابق،7/257.

([3] ) سورة البقرة:الآية 102.

([4] ) رشيد رضا، المرجع السابق،1/325.

([5] ) سورة الأعراف:الآية 116.

([6] ) سورة طه:الآية 66.

([7] ) رشيد رضا، محمد، "الداء أو الفتور العام"، مجلة المنار، المجلد الخامس،( غرة صفر - 1320هـ 9 مايو - 1902م)،ص:105.

([8] ) وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في البخاري وغيره، فقد روى رحمه الله تعالى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:" سحر النبي صلى الله عليه و سلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ثم قال ( أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ) . قلت وما ذاك يا رسول الله ؟ قال ( جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب قال ومن طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق قال في ماذا ؟ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال فأين هو ؟ قال في بئر ذي أروان )..." -كتاب الطب،باب السحر، رقم الحديث:5433-.

([9] ) سورة الإسراء الآية 47.

([10] ) إذن فعلى زعم محمد عبده فكل الأئمة الكبار الذين رووا الحديث كالإمام البخاري والإمام مسلم والإمام أحمد وغيرهم، وكل من اعتقد بصحة الحديث وأثبت قصة سحره صلى الله عليه وسلم هم من المقلدين الذين لا يعقلون معنى النبوة...فإن كان مثل هؤلاء لا يعقلون معنى النبوة فمن يعقلها إذن؟ أهم العقلانيون الذين آثروا إلا تحكيم عقولهم في فهم النقل، واستكفوا من إخضاعها للشرع؟

([11] ) محمد عبده، تفسير جزء عم،ط 3،(مصر: مطبعة مصر،1341هــ)،181-182.

([12] ) الرازي،-م الغيب:3/193-*

([13] ) سورة البقرة، الآية:102.

([14] ) القرطبي، مرجع سابق، 2/46.

([15] ) النووي، أبو زكريا يحيى، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط 2،(بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1392)،14/174.

([16] ) حافظ حكمي، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، تحقيق عمر بن محمود أبو عمر،ط1،(الدمام: دار ابن القيم، 1410 – 1990)، 2/544.

([17] ) النووي، المرجع السابق، 14/174-175.