" فضائح الباطنية "
أبو حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي (505 ه )
.....
مقدمة الموءلف
قمت بتصنيف كتاب فِي علم الدّين أقضى بِهِ شكر النِّعْمَة وأقيم بِهِ رسم الْخدمَة واجتني بِمَا اتعاطاه من الكلفة ثمار الْقبُول والزلفة لكني جنحت الى التواني لتحري فِي تعْيين الْعلم الَّذِي اقصده بالتصنيف وَتَخْصِيص الْفَنّ الَّذِي يَقع موقع الرِّضَا من الرَّأْي النَّبَوِيّ الشريف فَكَانَت هَذِه الْحيرَة تغبر فِي وَجه المُرَاد وتمنع القريحة عَن الإذعان والإنقياد حَتَّى خرجت الاوامر الشَّرِيفَة المقدسة النَّبَوِيَّة المستظهرية بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْخَادِم فِي تصنيف كتاب فِي الرَّد على الباطنية مُشْتَمل على الْكَشْف عَن بدعهم وضلالاتهم وفنون مَكْرهمْ واحتيالهم وَوجه استدراجهم عوام الْخلق وجهالهم وإيضاح غوائلهم فِي تلبيسهم وخداعهم وانسلالهم عَن ربقة الْإِسْلَام وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم بِمَا يُفْضِي الى هتك أستارهم وكشف أغوارهم فَكَانَت المفاتحة بالإستخدام فِي هَذَا المهم فِي الظَّاهِر نعْمَة اجابت قبل الدُّعَاء ولبت قبل النداء وَإِن كَانَت فِي الْحَقِيقَة ضَالَّة كنت أنشدها وبغية كنت أقصدها فَرَأَيْت الِامْتِثَال حتما والمسارعة الى الإرتسام حزما وَكَيف لَا أسارع اليه وان لاحظت جَانب الْآمِر ألفيته أمرا مبلغه رعيم الْأمة وَشرف الدّين ومنشؤه
وَإِن الْتفت إِلَى الْمَأْمُور بِهِ فَهُوَ ذب عَن الْحق الْمُبين ونضال دون حجَّة الدّين وَقطع لدابر الْمُلْحِدِينَ وَإِن رجعت إِلَى نَفسِي وَقد شرفت بِالْخِطَابِ بِهِ من بَين سَائِر الْعَالمين رَأَيْت المسارعة إِلَى الإذعان والامتثال فِي حَقي من فروض الْأَعْيَان إِذْ يقل على بسيط الأَرْض من يسْتَقلّ فِي قَوَاعِد العقائد بِإِقَامَة الْحجَّة والبرهان
....
رَأَيْت أَن أسلك المسلك المقتصد بَين الطَّرفَيْنِ وَلَا أخلى الْكتاب عَن أُمُور برهانية يتفطن لَهَا الْمُحَقِّقُونَ وَلَا عَن كَلِمَات إقناعية يَسْتَفِيد مِنْهَا المتوهمون فان الْحَاجة الى هَذَا الْكتاب عَامَّة فِي حق الْخَواص والعوام وشاملة جَمِيع الطَّبَقَات من أهل الاسلام وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الْمنْهَج القويم فلطالما قيل ... كلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم .
......
اهم ما جاء في الكتاب
لكُل لقب سَبَب أما الباطنية فانما لقبوا بهَا لدعواهم أَن لظواهر الْقُرْآن وَالْأَخْبَار بواطن تجرى فِي الظَّوَاهِر مجْرى اللب من القشر وَأَنَّهَا بصورها توهم عِنْد الْجُهَّال الأغبياء صورا جلية وَهِي عِنْد الْعُقَلَاء والأذكياء رموز وإشارات إِلَى حقائق مُعينَة وَأَن من تقاعد عقله عَن الغوص على الحفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعا إِلَى الاغترار كَانَ تَحت الأواصر والأغلال معنى بالأوزار والأثقال وَأَرَادُوا ب الأغلال التكليفات
الشَّرْعِيَّة فَإِن من ارْتقى إِلَى علم الْبَاطِن انحط عَنهُ التَّكْلِيف واستراح من أعبائه وهم المرادون بقوله تَعَالَى ٨٨
{وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم}
......
وغرضهم الْأَقْصَى إبِْطَال الشَّرَائِع فَإِنَّهُم إِذا انتزعوا عَن العقائد مُوجب الظَّوَاهِر قدرُوا على الحكم بِدَعْوَى الْبَاطِن على حسب مَا يُوجب الإنسلاخ عَن قَوَاعِد الدّين إِذا سَقَطت الثِّقَة بِمُوجب الالفاظ الصَّرِيحَة فَلَا يبْقى للشَّرْع عِصَام يرجع إِلَيْهِ ويعول عَلَيْهِ
وَأما القرامطة فانما لقبوا بهَا نِسْبَة الى رجل يُقَال لَهُ حمدَان قرمط كَانَ اُحْدُ دعاتهم فِي الِابْتِدَاء فَاسْتَجَاب لَهُ فِي دَعوته رجال فسموا قرامطة وقرمطية وَكَانَ الْمُسَمّى حمدَان قرمط رجلا من اهل الْكُوفَة مائلا الى الزّهْد فصادفه اُحْدُ دعاة الباطنية فِي طَرِيق وَهُوَ مُتَوَجّه الى قريته وَبَين يَدَيْهِ بقر يَسُوقهَا فَقَالَ حمدَان لذَلِك الدَّاعِي وَهُوَ لَا يعرفهُ وَلَا يعرف حَاله أَرَاك سَافَرت عَن مَوضِع بعيد فَأَيْنَ مقصدك فَذكر موضعا هُوَ قَرْيَة حمدَان فَقَالَ لَهُ حمدَان اركب بقرة من هَذِه الْبَقر لتستريح عَن تَعب الْمَشْي فَلَمَّا رَآهُ مائلا الى الزّهْد والديانة اتاه من حَيْثُ رَآهُ مائلا اليه فَقَالَ اني لم اومر بذلك فَقَالَ حمدَان وكأنك لَا تعْمل الا بامر
الَ نعم قَالَ حمدَان وبأمر من تعْمل فَقَالَ الدَّاعِي بامر مالكي ومالكك وَمن لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَقَالَ حمدَان ذَلِك إِذن هُوَ رب الْعَالمين فَقَالَ الدَّاعِي صدقت وَلَكِن الله يهب ملكه لمن يَشَاء قَالَ حمدَان وَمَا غرضك فِي الْبقْعَة الَّتِي انت مُتَوَجّه اليها قَالَ امرت أَن ادعو اهلها من الْجَهْل الى الْعلم وَمن الضلال الى الْهدى وَمن الشقاوة الى السَّعَادَة وان استنقذهم من ورطات الذل والفقر واملكهم مَا يستغنون بِهِ عَن الكد والتعب فَقَالَ لَهُ حمدَان انقذني انقذك الله وافض عَليّ من الْعلم مَا يحببني بِهِ فَمَا اشد احتياجي الى مثل مَا ذكرته فَقَالَ الدَّاعِي وَمَا امرت بَان اخْرُج السِّرّ المخزون لكل اُحْدُ الا بعد الثِّقَة بِهِ والعهد عَلَيْهِ فَقَالَ حمدَان وَمَا عَهْدك فاذكره لي فَانِي مُلْتَزم لَهُ
.....
وَأما الخرمية فلقبوا بهَا نِسْبَة لَهُم الى حَاصِل مَذْهَبهم وزبدته فانه رَاجع الى طي بِسَاط التَّكْلِيف وَحط أعباء الشَّرْع عَن المتعبدين وتسليط النَّاس على اتِّبَاع اللَّذَّات وَطلب الشَّهَوَات وَقَضَاء الوطر من الْمُبَاحَات والمحرمات وخرم لفظ اعجمي يُنبئ عَن الشئ المستلذ المستطاب الَّذِي يرتاح الانسان اليه بمشاهدته ويهتز لرُؤْيَته وَقد كَانَ هَذَا لقبا للمزدكية وهم اهل الْإِبَاحَة من الْمَجُوس الَّذين نبغوا فِي ايام قباذ وأباحوا النِّسَاء وان كن من الْمَحَارِم وَأَحلُّوا كل مَحْظُور وَكَانُوا يسمون خرمدينية فَهَؤُلَاءِ ايضا لقبوا بهَا لمشابهتهم اياهم فِي اخر الْمَذْهَب وان خالفوهم فِي الْمُقدمَات وسوابق الْحِيَل فِي الاستدراج وَأما البابكية فاسم لطائفة مِنْهُم بَايعُوا رجلا يُقَال لَهُ بابك الخرمي وَكَانَ خُرُوجه فِي بعض الْجبَال بِنَاحِيَة أذربيجان فِي أَيَّام المعتصم بِاللَّه واستفحل أَمرهم واشتدت شوكتهم وقاتهلم افشين صَاحب حبس المعتصم مداهنا لَهُ فِي قِتَاله ومتخاذلا عَن الْجد فِي قمعه إضمارا لموافقته فِي ضلاله فاشتدت وَطْأَة البابكية على جيوش الْمُسلمين حَتَّى مزقوا جند الْمُسلمين وبددوهم منهزمين الى أَن هبت ريح النَّصْر وَاسْتولى عَلَيْهِم
......قال
(ص 37)
ما الْجُمْلَة فَهُوَ أَنه مَذْهَب ظَاهره الرَّفْض وباطنه الْكفْر الْمَحْض ومفتتحه حصر مدارك الْعُلُوم فِي قَول الإِمَام الْمَعْصُوم وعزل الْعُقُول عَن أَن تكون مدركة للحق لما يعتريها من الشُّبُهَات ويتطرق الى النظار من الاختلافات وايجاب لطلب الْحق بطرِيق التَّعْلِيم والتعلم وَحكم بَان الْمعلم الْمَعْصُوم هُوَ المستبصر وانه مطلع من جِهَة الله على جَمِيع اسرار الشَّرَائِع يهدي الى الْحق ويكشف عَن المشكلات وان كل زمَان فَلَا بُد فِيهِ من امام مَعْصُوم يرجع اليه فِيمَا يستبهم من امور الدّين
هَذَا مبدأ دعوتهم ثمَّ انهم بِالآخِرَة يظهرون مَا يُنَاقض الشَّرْع وَكَأَنَّهُ غَايَة مقصدهم لَان سَبِيل دعوتهم لَيْسَ بمتعين فِي فن وَاحِد بل يخاطبون كل فريق بِمَا يُوَافق رَأْيه بعد أَن يظفروا مِنْهُم بالانقياد لَهُم والموالاة لامامهم فيوافقون الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس على جملَة معتقداتهم ويقرونهم عَلَيْهَا فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب
وَأما تَفْصِيله فَيتَعَلَّق بالالهيات والنبوات والإمامة والحشر والنشر وَهَذِه أَرْبَعَة أَطْرَاف وَأَنا مقتصر فِي كل طرف على نبذة يسيرَة من حِكَايَة
.......
( ص 39)
فَهَذَا مَا حُكيَ من مَذْهَبهم الى امور اخر هِيَ افحش مِمَّا ذَكرْنَاهُ لم نر تسويد الْبيَاض بنقلها وَلَا تبيان وَجه الرَّد عَلَيْهَا لمعنيين احدهما أَن المنخدعين بخداعهم وزورهم والمتدلين بِحَبل غرورهم فِي عصرنا هَذَا لم يسمعوا هَذَا مِنْهُم فينكرون جَمِيع ذَلِك إِذا حكى من مَذْهَبهم ويحدثون فِي انفسهم أَن هَؤُلَاءِ انما خالفوا لانه لَيْسَ عِنْدهم حَقِيقَة مَذْهَبنَا وَلَو عرفوها لوافقونا عَلَيْهَا فنرى ان نشتغل بِالرَّدِّ عَلَيْهِم فِيمَا اتّفقت كلمتهم وَهُوَ إبِْطَال الرَّأْي والدعوة الى التَّعَلُّم من الامام الْمَعْصُوم فَهَذِهِ عُمْدَة معتقدهم وزبدة مخضهم فلنصرف الْعِنَايَة اليه وَمَا عداهُ فمنسقم الى هذيان ظَاهر الْبطلَان وَإِلَى كفر مسترق من الثنوية وَالْمَجُوس فِي القَوْل بالالهين مَعَ تَبْدِيل عبارَة النُّور والظلمة ب السَّابِق والتالي الى ضلال منتزع من كَلَام الفلاسفة فِي قَوْلهم ان المبدأ الاول عِلّة لوُجُود الْعقل على سَبِيل اللُّزُوم عَنهُ
......