بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ مبارك الميلي – رحمه الله تعالى - و نظرية النشوء و الارتقاء (الدارونية)
الحمد لله، والصلاة و السلام على رسول الله، وعلى آله و صحبه و من والاه،
أما بعد:
فالشيخ مبارك بن محمد الميلي - رحمه الله تعالى - من مواليد 1898م، درس في ميلة على الشيخ محمد بن معنصر الميلي، وفي قسنطينة على الشيخ عبد الحميد بن باديس، والتحق بتونس حتى تخرج من الزيتونة عام 1924م، تولى التدريس بقسنطينة ثم الأغواط ثم ميلة ، عين كأمين مال لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين و كان من بين الأعضاء المؤسسين لها عام 1931م، وأسندت إليه تحرير جريدتها ( البصائر ) سنة 1937م.
ـ قول الشيخ مبارك الميلي في مذهب النشوء و الارتقاء (النظرية الدارونية):
قال الشيخ مبارك الميلي – عفا الله عنه – كما في (1/62) من (تاريخ الجزائر في القديم و الحديث) وهو يتحدث عن ابتداء الإنسان ووجوده و أول عهده:" إن المؤرخين – وإن لم يكن لهم نقل عن أهل هذا العصر – لم يعدموا سبيلا للبحث عنه فقد وجدوا من الآثار العريقة في القدم التي حفظها بطن الأرض أساسا للكلام عن حياة الإنسان الأول، وأنار أمامهم مذهب النشوء و الارتقاء دياجي هذا العصر الحالكة.
إن مذهب النشوء و الارتقاء قديم ليس من بنات أفكار المتأخرين، والناس إزاءه فريقان: مثبت له معجب به، ونافٍ له نافر منه.
والحق الذي تشهد له الضرورة و يؤيده القرآن الكريم أن المذهب نفسه – بصرف النظر عن بعض الجزئيات – معقول مقبول".اهـ
ثم استدل على قبول مذهب النشوء و الارتقاء بالضرورة ثم القرآن الكريم..إلى أن قال (1/63) : " وإذا ثبت لديك أن المذهب نفسه لا مغمز فيه فلا يضيقن صدرك لبعض الجزئيات التي يقسر بعض الماديين عقلاء البشر على قبولها و يحاولون بها هدم الأديان – مثل ترقي القرد إلى نوع الإنسان – فإن تلك الجزئيات لم تزل وهما ولن تزال خيالا فكيف يصح إلحاقها بذلك المذهب الصحيح؟". اهـ
ثم خلص في زبدة قوله إلى أن الضرورة و الدين متفقان على إثبات النشوء و الارتقاء في النوع الواحد؛ ينظر: (1/63- وما بعدها) من (تاريخ الجزائر في القديم و الحديث) طبعة مكتبة النهضة الإسلامية.
ـ ما يفهم من كلام الشيخ مبارك:
يظهر من كلام الشيخ مبارك الميلي ما يلي:
- عدم رفضه لهذا المذهب كما أنه صرح بقبوله بصرف النظر عن بعض الجزئيات؟!!
- المذهب معقول، مقبول، عند الميلي ؛ لشهادة الضرورة و القرآن الكريم له.
- المذهب صحيح، لا مغمز فيه؛ لبعض الجزئيات الوهمية كترقي القرد إلى نوع الإنسان.
ـ تأثر الشيخ مبارك برجال المدرسة العقلية الحديثة:
فكلام الشيخ مبارك - السابق – في جملته موافق لكلام رجال المدرسة العقلية الحديثة، منهم: محمد عبده، ورشيد رضا، ولمعرفة أقوالهم و ردها بالتفصيل ينظر (أصل الإنسان) من كتاب (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) لأحمد الرومي.
والحق الذي لا بد منه ولا مرية فيه أن الشيخ مبارك الميلي متأثر بهم لذا قال ببعض قولهم، ومن الأدلة على ذلك نقله من كتاب محمد عبده (رسالة التوحيد) و (تفسير جزء عم ) كما في (رسالة الشرك و مظاهره) و نقله عن كتاب محمد عبده (الإسلام و النصرانية مع العلم و المدنية) كما في (1/296) من (تاريخ الجزائر في القديم و الحديث) و نقل أيضا من ( تفسير المنار ) لرشيد رضا كما في (رسالة الشرك و مظاهره)، وبلغ به التأثر – بهم - إلى درجة الاحتفاظ بصورهم، كما ذكر نجله في مقدمة كتاب (تاريخ الجزائر في القديم و الحديث) طبعة مكتبة النهضة الجزائرية، والله المستعان.
" و بهذا أعطى الشيخ مبارك الميلي- عفا الله عنه - الضوء الأخضر لمن يريد أن يدخل نظرية داروين وغيرها في أذهان المسلمين". ينظر: (2/611) من كتاب: ( منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - بتصرف).
ـ مفاسد الأقوال السابقة للشيخ الميلي:
نخلص في الأخير إلى أن الأقوال السابقة لها مفساد عدّة؛ منها:
1- إفساح المجال لمن يريد أن يقول بهذه النظرية لأنها لا تعارض القرآن الكريم.
2- جعل الضرورة قرينة للقرآن الكريم حاكمة على المذاهب الحادثة فسادا و صلاحا.
3- نسبة الخلق للطبيعة، فقد قال داروين: "الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق".
وهذه المفسدة قد وقع فيها الشيخ الميلي كما في ( 1/57) من كتابه (تاريخ الجزائر القديم و الحديث) عند قوله: "..ذلك أن الجنس الذي يكون بالأراضي التي غضبت عليها الطبيعة فجردتها من روعة الجمال و تركتها عجوزا شمطاء يجد نفسه في حاجة إلى التوسع و طلب الرزق في غير وطنه".اهـ، وقوله (1/58) من المصدر السابق:" أما الجنس الذي يكون بالأرباضي التي منحتها الطبيعة سلطان الجمال و خلعت عليها ضروب الزينة فأضحت عروسا ترمقها الأعين من كل جانب و هي في عزتها لا تحتفل باحد-هذا الجنس تجده راضيا عن وطنه مستغنيا بخطه الوافر عن أن يمد عينه إلى غيره".اهـ
4- الأثر الغير أخلاقي لاتجاهات هذه الفكرة اليهودية، جاء في بروتوكولات حكماء صهيون: "لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولا حظوا هنا أن نجاح دارون وماركس و نيتشه قد رتبناه من قبل، والأثر الغير أخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي (غير اليهودي) سيكون واضحا لنا على التأكيد".اهـ.
ـ خلاصة:
مما سبق يتضح للإخوة الكرام أن الشيخ مباركا الميلي – عفا الله عنه – قد أخطأ في عدم رفضه لهذا المذهب، وجعله الضرورة قرينة للقرآن الكريم وحاكمة على المذاهب الحادثة فسادا و صلاحا..
فينبغي التنبه و التنبيه لذلك، و أخص بالذكر من يشرف على تصحيح و طبع كتاب (تاريخ الجزائر القديم و الحديث) من أهل السنة..
أما نجله الأستاذ محمد الميلي – هداه الله – مقدم و مصحح!! كتاب (تاريخ الجزائر القديم و الحديث) بطبعة مكتبة النهضة الجزائرية فلا يعول عليه كثيرا ؛ لأنَّه من أعداء الدعوة السلفية بدليل طعنه فيهم و في دعوتهم و نبزهم بالوهابية كما في حصة تلفزيونية في القناة الجزائرية و بجانبه زوجه المتبرجة ..والإعلامي "حبيب"، ويكفي عدم تصدير الكتاب بذكر اسم الله –جل وعلا - ناهيك عن مقدمته له ؟!، و إذا طالعت بعض مقالاته في جريدة "الشروق اليومي" الجزائرية و غيرها فحدث ولا حرج.. وقل كما يقول بعض العامة عندنا في الجزائر: "الكرش تجيب السباغ و الدباغ!!" أو كما يقال في بعض المناطق الجزائرية: "مرات الكرش تجيب التبن!! "...فشتان بين "مبارك بن محمد" ، و "محمد بن مبارك " ؟!. والله المستعان.
[ملحق في بعض التنبيهات المختصرة على مخالفات]
وهذه بعض التنبيهات المختصرة على مخالفات في كتاب (تاريخ الجزائر في القديم و الحديث):
1- قوله بالتسامح مع بقية الأديان ومعاملتهم بالجميل و الإحسان عند ذكره للإسلام ودعوة النبي – صلى الله عليه و سلم – له. ينظر:(2/17).
2- عدم تعقيبه و رده لكلام ابن خلدون الذي وصف فيه قبر عقبة بن نافع بأنه مجصص و اتخذ عليه مسجدا، وجعله في عداد المزارات و مظان البركات، بل صرح الشيخ الميلي عقب نقله لكلام ابن خلدون وأقره بأن ضريح عقبة بن نافع داخل المسجد، وأن تلك القطعة من وطن الجزائر أشرف بقعة تزار. ينظر: (2/27).
3- قوله بالحرية الدينية لما تحدث عن البربر و الإسلام. ينظر: (2/38).
4- قوله عن الإسلام بأنه: "دين الفطرة دين الحرية الصادقة دين الرقي الشريف". أما قوله ( دين الحرية الصادقة ) فليس على إطلاقه. ينظر: ( 2/40).
5- جعله مسمى (الخوارج) عَلَمًا على أصحاب فكرة خاصة، وليس مرادا به مدح أو قدح وعلل ذلك بقوله : " ..إذ لا يعقل ذم طائفة – أيا كانت – لعملها بمبدأ استصوبته، وإنما ينظر في مبدأها وما فيه من مقبول و مردود، وكلامه". والحقيقة أن وصف الخوارج أطلقه النبي - صلى الله عليه و سلم - ذما لهذه الفرقة ناهيك عن الصحابة و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . ينظر: (2/55).
6- جعله الإباضية أعدل الخوارج، وإذا علمت أن الشيخ مبارك الميلي هو أمين مال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و نائبه في المالية إباضي علمت سر قوله. ينظر: (2/57).
7- جعله الإلزام بالعقيدة الإسلامية سبيله البرهان فقط ينظر: (2/60). والصحيح أن الإلزام بالعقيدة الإسلامية سبيله البرهان و السيف و السنان، لأن كلامه يقتضي نفي جهاد الطلب والدفع معا. و رحم الله الشيخ العلامة السَّلفي إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1276 – 1319 هـ) إذ قال في أرجوزته المفيدة في التوحيد:
شَهِدْتُّ بِالصِّدْقِ الْيَقِينِ أَنَّ لَا... إِلَهَ إِلَّا اللهُ ربًّـا جـلَّا
وَأَنَّّـهُ قَـدْ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَـا.. . عَلَى النَّبِيِّ الْعَرَبِـيِّ تِبْيَانَا
فَأَرْشَـدَ الْخَلْقَ لِهَـذَا الدِّينِ... بِسَيْفِـهِ وَشَرْعِـهِ الْمُبِيـنِ.
8- وصفه للدولة الرستمية الإباضية الخارجية بأنها مقيدة بالكتاب و السنة و أثر السلف. ينظر: (2/68).
9- جعله من هانات أمراء المرابطين - وهي إمارة سلفية كما ذكر بعض أهل العلم – حرقهم لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي كما في: (2/287). وينظر الأسباب الحقيقة لحرق إحياء علوم الدين للغزالي في كتاب: (( العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية )) القسم الخامس- للشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي، و ما نقل من فتاوى العلماء على وجوب حرق كتاب ((الإحياء)) كالطرطوشي – رحمه الله تعالى – وهو من كبار علماء المالكية ينظر ما نقله الشيخ المغراوي في كتابه السابق من كتاب: ((المعيار المعرب و الجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس و المغرب)) (12/ 184) و (12/187). وغيره من فتاوى العلماء.
10- تعريضه بدولة المرابطين – وهي دولة سلفية –كما في (2/335) لأنها لم تحتفي بالعلوم الطبيعية و الأنظار الفلسفية وأرهقت المفكرين خشية منهم على تعاليم الإسلام. وينظركتاب: (( العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية )) القسم الخامس- للشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي .
11- مدحه لأمراء الموحدين و الدولة المؤمنية – وهي دولة المبتدعة من الأشاعرة و غيرهم - لحفاظهم على جوهر الدين بنشر أصوله العقلية و النقلية و تركها للعقول حريتها تجري طلقة العنان في ميادين البحث و الاستنتاج، بل قال مشيدا بالفلسفة: "و أظنك إذا صدقت البحث و أجدت النظر لا تجد عصرا تآخت فيه الفلسفة و الشريعة كعصر الدولة المؤمنية..".ينظر: (2/335-336).
12- جعله أهل البدع من الأشاعرة ضمن أهل السنة، قال: "وانقسم أهل السنة إلى سلفيين...، وإلى أشاعرة...". ينظر: (2/338).
13- جعله من مذاهب الصوفية أهل السنة (السنيين) حيث قال: " وكان من الصوفية من يعتمد على الرياضة وحدها ومنهم من يقيدها بالدين، فتعددت مذاهبهم إلى سنيين و مبتدعين و مارقين من الدين". ينظر: (2/342).
14- أثناء الحديث عن الدولة الزيانية كما في (2/487-488). وصف إحتفالهم بالمولد النبوي – البدعي – بوصف مغري، يفهم منه الإقرار على إحياء بدعة الإحتفال بالمولد النبوي ، ويؤيد ذلك احتفال الشيخ مبارك – رحمه الله تعالى- عمليا بالمولد النبوي كما في "الشهاب" (الجزء الرابع، المجلد: 11/ ص: 293)، وجريدة "البصائر".
15- قوله و إقراره للديموقراطية كما في إهداءه للكتاب. ينظر: (1/5).
هذا والله أعلم و أحكم.
وصلى الله و سلم على نبينا محمد، وعلى آله و صحبه أجمعين.
وكتبه عبد الحق آل أحمد الجلفاوي
- غفر الله ذنبه و ستر عيبه -
قبل صلاة الفجر من يوم الخميس
بتاريخ:15/ شوال 1429هـ ، الجزائر
--