قال الامام الشوكاني رحمه الله في كتابه ادب الطلب ومنتهى الادب ج1ص 41
وَهَكَذَا صَاحب الْمعرفَة وحامل الْحجَّة وثاقب الْفَهم لَو وَطن نَفسه على الْإِرْشَاد وَتكلم بِكَلِمَة الْحق وَنصر الله سُبْحَانَهُ وَنصر دينه وَقَامَ فِي تَبْيِين مَا أمره الله بتبيينه لحمد مسراه وشكر عاقبته وَأرَاهُ الله سُبْحَانَهُ من بَدَائِع صنعه وعجائب وقايته وَصدق مَا وعد بِهِ من قَوْله (ولينصرن الله من ينصره) (إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم) مَا يزِيدهُ ثباتا ويشد من عضده ويقوى قلبه فِي نصْرَة الْحق ومعاضدة أَهله
وَمن تَأمل الْأَمر كَمَا يَنْبَغِي عرف أَن كل قَائِم بِحجَّة الله إِذا بَينهَا للنَّاس كَمَا أمره الله وصدع بِالْحَقِّ وَضرب بالبدعة فِي وَجه صَاحبهَا وألقم المعتصب حجرا وأوضح لَهُ مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ وَأَنه فِي تمسكه بمحض الرَّأْي مَعَ وجود الْبُرْهَان الثَّالِث عَن صَاحب الشَّرْع كخابط عشواء وراكب العمياء فَإِن قبل مِنْهُ ظفر بِمَا وعده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأجر فِي حَدِيث لِأَن يهدى الله بك رجلا الحَدِيث
وَإِن لم يقبل مِنْهُ كَانَ قد فعل مَا وَجب الله عَلَيْهِ وخلص نَفسه من كتم الْعلم الَّذِي أمره الله بإفشائه وَخرج من ورطة أَن يكون من الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْبَينَات وَالْهدى وَدفع الله عَنهُ مَا سولته لَهُ نَفسه الأمارة من الظنون الكاذبة والأوهام الْبَاطِلَة وانْتهى حَاله إِلَى أَن يكون كَعبه الْأَعْلَى وَقَوله الأرفع وَلم يزده ذَلِك إِلَّا رفْعَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وحظا عِنْد عباد الله وظفرا بِمَا وعد الله بِهِ عبَادَة الْمُتَّقِينَ وهم وَإِن أَرَادوا أَن يضعوه بِكَثْرَة الْأَقَاوِيل وتزوير المطاعن وتلفيق الْعُيُوب وتواعدوه بإيقاع الْمَكْرُوه بِهِ وإنزال الضَّرَر عَلَيْهِ فَذَلِك كُله يَنْتَهِي إِلَى خلاف مَا قدروه وَعكس مَا ظنوه وَكَانَت الْعَاقِبَة لِلْمُتقين كَمَا وعد بِهِ عبَادَة الْمُؤمنِينَ (وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بأَهْله)
وَلَقَد تتبعت أَحْوَال كثير من القائمين بِالْحَقِّ المبلغين بِهِ كَمَا أَمر الله المرشدين إِلَى الْحق فوجدتهم ينالون من حسن الأحدوثة وَبعد الصيت وَقُوَّة الشُّهْرَة وانتشار الْعلم ونفاق المؤلفات وطيرانها وقبولها فِي النَّاس مَا لَا يبلغهُ غَيرهم وَلَا يَنَالهُ من سواهُم
وسأذكر لَك هُنَا جمَاعَة مِمَّن اشتهرت مذاهبهم وانتشرت أَقْوَالهم وطارت مصنفاتهم بعدهمْ وَمَا أَصَابَهُم من المحنة مَا نالهم كإمام دَار الْهِجْرَة مَالك بن أنس فَإِنَّهُ بلَى بخصوم وعاداه مُلُوك فنشر الله مذْهبه فِي الأقطار واشتهر من أَقْوَاله ماملأ الأنجاد والأغوار
كَذَلِك الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فَإِنَّهُ وَقع لَهُ من المحن الَّتِي هِيَ منح مِمَّا لَا يخفى على من لَهُ اطلَاع وَضرب بَين يَدي المعتصم العباسي ضربا مبرحا وهموا بقتْله مرّة بعد مرّة وسجنوه فِي الْأَمْكِنَة الْمظْلمَة وكبلوه بالحديد ونوعوا لَهُ أَنْوَاع الْعَذَاب فنشر الله من علومه مَا لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَلَا يفْتَقر إِلَى إِيضَاح وَكَانَت الْعَاقِبَة لَهُ فَصَارَ بعد ذَلِك إِمَام الدُّنْيَا غير مدافع ومرجع أهل الْعلم غير مُنَازع وَدون النَّاس كَلِمَاته وانتفعوا بهَا وَكَانَ يتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ فتطير فِي الْآفَاق فَإِذا تكلم بِالْكَلِمَةِ فِي رجل بِجرح تبعه النَّاس وَبَطل علم الْمَجْرُوح وَإِن تكلم فِي رجل بتعديل كَانَ هُوَ الْعدْل الَّذِي لَا يحْتَاج بعد تعديله إِلَى غَيره
ثمَّ الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أَصَابَهُ من مُحَمَّد بن يحيى الذهلي وَأَتْبَاعه من المحنة مَا مَاتَ بِهِ كمدا ثمَّ جعل الله تَعَالَى كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح كَمَا ترى أصح كتاب فِي الدُّنْيَا وَأشهر مؤلف فِي الحَدِيث وَأجل دفتر من دفاتر الْإِسْلَام
ثمَّ انْظُر أَحْوَال من جَاءَ بعد هَؤُلَاءِ بدهر طَوِيل كَابْن حزم المغربي فَإِنَّهُ أُصِيب بمحن عَظِيمَة بِسَبَب مَا أظهره من إرشاد النَّاس إِلَى الدَّلِيل والصدع بِالْحَقِّ وتضعيف علم الرَّأْي حَتَّى أفْضى ذَلِك إِلَى امتحان الْمُلُوك لَهُ وإيقاعهم بِهِ وتشريده من مواطنه وتحريق مصنفاته وَمَعَ ذَلِك نشر الله من علومه مَا صَار عِنْد كل فرقة وَفِي كل بِلَاد الْمُسلمين وَبَين ظهراني كل طَائِفَة
ثمَّ كَذَلِك شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية أَحْمد بن عبد الْحَلِيم فَإِنَّهُ لما أبان للنَّاس فَسَاد الرَّأْي وأرشدهم إِلَى التَّمَسُّك بِالدَّلِيلِ وصدع بِمَا أمره الله بِهِ وَلم يخف فِي الله لومة لائم قَامَ عَلَيْهِ طوائف من المنتمين إِلَى الْعلم المنتحلين لَهُ من أهل المناصب وَغَيرهم فمازالوا يحاولون ويصاولون ويسعون بِهِ إِلَى الْمُلُوك ويعقدون لَهُ مجَالِس المناظرة ويفتون تَارَة بسفك دَمه وَتارَة باعتقاله فنشر الله من فَوَائده مَا لم ينشر بعضه لأحد من معاصريه وترجمه أعداؤه فضلا عَن أصدقائه بتراجم لم يَتَيَسَّر لَهُم مثلهَا وَلَا مَا يقارنها لأحد من الَّذين يتعصبون لَهُم ويدأبون فِي نشر فضائلهم ويطرؤون فِي إطرائهم وَجعل الله لَهُ من ارْتِفَاع الصيت وَبعد الشُّهْرَة مَا لم يكن لأحد من أهل عصره حَتَّى اخْتلف من جَاءَ بعد عصره فِي شَأْنه وَاشْتَغلُوا بأَمْره فعاداه قوم وَخَالفهُم آخَرُونَ وَالْكل معترفون بِقَدرِهِ معظمون لَهُ خاضعون لعلومه واشتهر هَذَا بَينهم غَايَة الاشتهار حَتَّى ذكره المترجمون لَهُم فِي تراجمهم فَيَقُولُونَ وَكَانَ من المائلين إِلَى ابْن تَيْمِية أَو المائلين عَنهُ
وَهَذِه الْإِشَارَة إِنَّمَا هِيَ لقصد الْإِيضَاح لَك لتعلم بِمَا يصنعه الله لِعِبَادِهِ وعلماء دينه وَحَملَة حجَّته وَفِي كل عصر من هَذَا الْجِنْس من تقوم بِهِ الْحجَّة على الْعباد