بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:قال المعلمي رحمه الله ثالثًا: أن أهل السنة إنما حصل لهم الشرف باتباع الكتاب والسنة، فإنما يكون تقليدهم فيما يجوز فيه التقليد أولى لأن الظاهر أن قولهم موافق للكتاب والسنة، فإذا فُرِضَ أنه تبيَّن بالبحث والتحقيق أنهم قالوا في مسألة خلاف ما يدل عليه الكتاب والسنة فلا قيمة لقولهم فيها.
وإنما ننبِّهك على هذا؛ لأنَّ مِنْ طَبعْ الإنسان أنه إذا عرف في طائفة أنهم على الحق في كثير من المسائل، وعرف في طائفة أخرى أنهم على باطل في كثير من المسائل، ثم ذكرت له مسألة اختلفت الطائفتان فيها، فإنه يتسرَّع إلى الحكم بأن الحقَّ فيها مع الطائفة الأولى، ولو لم يعرف لهم حجَّة، بل قد تُتْلى عليه الحجج الموافقة للطائفة الثانية، وتكون قويَّة ولا يعرف حجَّة للطائفة الأولى، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك الوهم عنه، وهذا من أشنع الغلط.
وفي الحديث: "الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ بها"، أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا (1).
وأخرج الديلمي وابن عساكر نحوه من حديث علي عليه السلام كما "في المقاصد الحسنة" للسخاوي.
أقول: ومعناه صحيح يشهد له الكتاب والسنة. ومما يشهد له من السنة حديث أحمد وغيره في اليهوديّ الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنكم تشركون وتندِّدون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فنهى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه عن ذلك (2)، وسيأتي هذا الحديث وما في معناه إن شاء الله تعالى.
وحديث الحكمة يُشير إلى أمور: منها: أن الحق كثيرًا ما يوجد عند مَنْ ليس من أهله فضلًا عمن أسيئت سمعته، ولهذا قال: "فهو أحق بها" يريد: فهو أحق بها ممن وجدها عنده، وذلك صريح في أنه وجدها عند من ليس من أهلها. بل قوله: "ضالة المؤمن" إلخ صريح في أنه قد توجد الحكمة عند كافر. ولهذا يكون المؤمن أحق بها ممن وجدها عنده؛ إذ لو وجدها عند مؤمن لكان كلٌّ منهما حقيقًا بها، وإذا أمكن وجودها عند كافر فإمكان وجودها عند مبتدعٍ أو فاسقٍ أولى.
ومنها: أنه قد لا يوجد الحق في بعض المسائل عند من اشتهر بالحق؛ لأن من شأن الضالة أنها تقع في محلٍّ غير مناسب لها فلا توجد إلا فيه، ولا توجد في المحلِّ المناسب لها، فمن اقتصر على طلبها في المواضع المناسبة لها لم يظفر بها.
ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يستنكف عن طلب الحق عند من اشتهر بخلاف الحق ولا عن قبوله منه، فإن من ضلّ خاتمه مثلًا فوجده في كُنَاسَة أو بيد مشرك أو مبتدع أو من يلابس القاذورات مثلًا لم يمنعه ذلك من أخذه، ولو امتنع لعُدَّ أحمق.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يتعرَّف الحق من حيث هو حق، ولا يلتفت إلى حال من قاله، حتى لو اختلف عليه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل لم يحمله ذلك على تلقّي كلام الوليِّ أو العالم بالقبول بدون تحقُّق أنه الحق، كما أن من ضلّ خاتمه مثلًا فلقيه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل بيد كلٍّ منهما خاتم يقول له: أرى أن هذا خاتمك لم يلتفت إلى جلالة الوليّ أو الإِمام ودناءة الفاجر أو الجاهل، بل يتأمَّل الخاتمين فأيُّهما عرف أنه خاتمه أَخَذَه، وإن كان هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل.
ومنها: أن ترك الأخذ بقول وليٍّ أو إمام لا يكون تحقيرًا له ولا استخفافًا بحقه؛ فإن من عرف أن خاتمه هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل، فأخذه وترك الذي بيد الوليِّ أو الإِمام لم يُعَدَّ مُهينًا لهذين ولا مُسيئًا إليهما كما أنه لا يُعَدُّ معظِّمًا مبجلًا لذلك الفاجر أو الجاهل، وإن كان عليه شكره.
ومن أمعن في تدبُّر الحديث ظهر له أكثر مما ذكرنا.
ومما يحسن ذكره هنا قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
تقول العرب: جَرَمَه بُغْضِي أن يظلمني أو على أن يظلمني أي: جعله بغضي يكسب ظلمي الذي هو جُرْمٌ، أي: ذنب.
ومن العدوان وترك العدل أن تردَّ قول العالم بدون حجة، ولكن لأنك تسيء الظنّ به أو لأن كثيرًا من الناس أو أكثرهم يخالفونه ويدَّعون عليه أنه يخالف الحقَّ في بعض المسائل. وكما أن هذا عدوان على ذلك العالم، فهو عدوان على الحق أيضًا؛ لأن عليك أن تطلبه بالحجة والبرهان، فَتَرَكْتَ ذلك، وعدوانٌ على نفسك أيضًا؛ لأنك ظالم لها.
والحاصل: أن طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء كان عليه أن ينصب نفسه منصب القاضي فيسمع قولَ كلِّ واحد منهم وحجته، ثم يقضي بالقسط، فكما أن القاضي إذا اختصم إليه وليٌّ وفاجر أو مؤمن وكافر ليس له أن يقضي للوليِّ أو المؤمن بدون حجة، ولا أن يسمع منه ويُعْرِضَ عن خصمه، ولا أن يمتنع عن الحكم للفاجر أو الكافر إذا توجَّه له الحق، فكذلك طالب الحق في المسائل المختلف فيها.
ولعلك قد بلغك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أيام خلافته أنه رافع يهوديًا إلى القاضي شريح وبيد اليهودي درعٌ،فادَّعى أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: "إنها درعي"، فأنكر اليهودي، ولم يكن لأمير المؤمنين بينة، فقضى القاضي لليهودي، فلما رأى اليهوديّ ذلك أسلم واعترف بأن الدرع درع أمير المؤمنين، فلما رأى أمير المؤمنين إسلامه واعترافه وهب له الدِّرْعَ.
والقصة ثابتة في كتب الحديث والتاريخ (1).