الشعرالعباسي بين الكلاسيكية والتجديد- القسم الثاني


بقلم د. فالح الحجية


الشعر والامور السياسة والاجتماعية




تابع




وكذلك ظهرت في البلاد الاسلامية عصبيات اشتد النزاع بينها ومذاهب دينية تقاسمت البلاد ا لاسلامية بينها كما اطلقت الحكومات الاسلامية العنا ن لليهود والنصارى للعمل كيفما يشاؤون وكذلك اختلفت وجوه المعاش وكسب الرزق او الحالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد وانقسم الشعب بين غني مترف وفقير جائع .


فالقسم الاول وهو الامراء والقادة والتجار واصحاب الاموال والاعمال عاشوا بترف غير معقول في كل امورهم في الملبس والمسكن وهم طبقات الخلفاء والامراء والتجار والشعراء المقربين والاغنياء .


واما السواد الاعظم من الشعب وهم الفقراء في المجتمع فهم راسفون في قيود من فقر مدقع وعيش ذليل وكسب قليل لا يسد اودهم ولا يسمنهم من جوع وقد انعكست كل هذه الاحوال على الادب والشعر في البلاد فكان ادب الاغنياء يتمثل بوصف القصور الفخمة والرياض الزاهرة والغزل والغناء والخمرة واللهو والترف و القسم الاخر يتسم بالشكوى والحنين والبكاء وذم الزمن وصروف الدهر.


اجتمع الشعراء حول الخلفاء والامراء واصحاب النفوذ والجاه فانتشرت الثقافة في هذا العصر امتداد ا لثقافة العصر العباسي الاول والتي آ تت اكلها في هذا العصر فنمت في ذاك و اثمرت او اينعت في هذا وكذلك كان لصناعة الورق اثر عظيم في انتشار الثقافة ككل ونشوء المكتبات العامة والخاصة والمدارس النظامية الحكومية بجانب المدارس الخاصة والتعليم الفردي للابناء الخلفاء و الوزراء ... لكل هذا اثر عظيم في تقدم الثقافة ووصولها الى اوج عظمتها في الدولة الاسلامية وتقدم الشعر واتساع افاقه واخيلته وتحسين معانيه فازدهر في هذا العصراكثر من باقي العصور العربية وبلغ شأوته وظهر فحول من الشعراء كالمتنبي وابي العلاء المعري والحمداني وابن النبيه والشريف الرضي وغيرهم ..


لذا يمكننا ان نقول ان هذا العصر هو العصر الذهبي للشعر العربي
بما اوتي فيه من نتاج وتجديد ورقة في النظم والالفة في القول .


ولما استولى البويهيون على السلطة بعد الأتراك انتهجوا نهجهم فكان الأمير البويهي يولي الخلافة من يشاء من اولاد الخلفاء العباسيين ويخلعها ممن يشاء وكثرالخلع . و كثيرا ما يتم بالذل والهوان. حتى كان يوم خلع الخليفة يوم ابتهاج عند الجند وفيه يجري نهب دار الخلافة وفيه يطالب الجند الخليفة الجديد برسم ( بيعته). وكان يجري على الخليفة المخلوع نفقة قد لا تكفيه, فيضطر إلى العيش بالكفاف وربما استعطاف الناس الميسورين .

وكذلك الوزراء فلم يكن حال الوزراء بأفضل من حال الخلفاء فكان الوزير يأتمر بأمر المتغلبين فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله وربما يقتلونه وكثيرا ما كان الوزير يُنصب ثم يُعزل, ويتكرر نصبه وعزله مرات عديدة وغالبا ما كان ينتهي عزله بمصادرة امواله ومن ثم قتله ومع ذلك فإن الكثيرين كانوا يطمعون في تولي الوزارة, ويبذلون المال في شتى المجالات في سبيل توزيرهم. كما هو الحال لدينا الان حيث أن الوزارة كانت موردا للثراء الفاحش عن طريق الرشاوى وقيل أن ( محمد بن عبيد الله بن خاقان ) وزيرالخليفة ( المعتضد بالله ) كان يأخذ الرشوة من كل طالب وظيفة وربما عين للوظيفة الواحدة عددا من الموظفين وقيل إنه عين في يوم واحد تسعة عشر ناظرا للكوفة وأخذ من كل واحد منهم رشوة معينة . الا ان بعض الوزراء كان حسن السياسة ذا دهاء وذكاء يستطيع أن ينال من الخليفة أو الأمير البويهي تفويضا بتصريف أمور الدولة وكان أهم هذه الامور ضمان الخراج وتعيين الولاة والعمال والقضاة والكتاب لذا يكون للوزير على من يوليه جبايات يجني منها ربحا وفيرا ويثري به ثراء فاحشا. و من أجل ذلك كانت الوزارة هدفا للدسائس والحسد . وكثر الطامعون في منصب الوزارة, فإذا أفلح الدس وغلب اهله على الوزير عزل هذا الوزير وصودرت أمواله وكان ما يصادر يعد بآلاف الآلاف من الدنانير لذا كان بعض الوزراء يطمرون خزينهم من الاموال والنقد تحت الارض الى أن تنتهي الازمة
و قيل في ذلك:


إذا أبصرت فـي خلع وزير
فقل أبشر بقاصمة الظهور


بأيام طـوال فــي بـلاء
وأيام قصار في سـرور


وكان العرب – ولا يزالون – يتكنـّون - وهي عادة عربية قديمة - بأسماء أكبر أبنائهم فيقال ابو فلان مثلا وكان الخلفاء يتلقبون ب (أمير المؤمنين) منذ عهد الخلفاء الراشدين في زمن عمر بن الخطاب وما بعده وكذلك خلفاء بني امية .


وعندما انتقلت الخلافة إلى بني العباس أضافوا إلى هذا اللقب ألقابا اخرى تدل على صفة يتميز بها الخليفة. فقد عرف عبد الله أبو العباس وهو أول خليفة عباسي بلقب (السفاح) وتلقب أخوه الخليفة عبد الله أبو جعفر بلقب (المنصور) وتلقب ابنه الخليفة محمد بلقب (المهدي) وتلقب الخليفة موسى بلقب موسى (الهادي) والخليفة هارون ب(الرشيد). ولقب الرشيد أولاده الثلاثة: محمد وعبد الله والقاسم بلقب محمد (الأمين) وعبد الله (المأمون) والقاسم (المؤتمن). وهكذا جرت العادة في تلقيب الخلفاء واولادهم .


ولما استبد القادة الأتراك بالسلطة فرضوا على الخليفة ان يطلق لقب على من بيده السلطة منهم لقب ( أمير الأمراء) ولماء جاء من بعدهم البويهيون الزموا الخليفة العباسي ان يطلق عليهم ألقابا فيها معنى الاعتراف بسلطانهم فلقب أحمد بن بويه بلقب (معز الدولة) ولقب أخوه علي بلقب (عماد الدولة) ولقب أخوه الحسن بلقب (ركن الدولة), وهكذا كثرت الالقاب في الدولة كعضد الدولة وجلال الدولة وبهاء الدولة وفخر الدولة. حتى ان منهم من لقب ( السلطان ) ا و ( شاهنشاه ) أي (ملك الملوك ) ثم سرت هذه الحالة في امراء الدويلات المستقلة .وهكذا كثرت الكنى والألقاب في العصر العباسي الثاني ويقول احدهم في ذلك شعرا :


أما رأيت بني العباس قد فتحوا
من الكنى ومـن الألقاب أبوابا


ولقبوا رجـلا لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للقصر بوابا


قـل الدارهم في كفي خليفتنا
هذا فأنفـق في الأقـوام ألقابا


وقد نهج الخلفاء الفاطميون نهج الخلفاء العباسيين في الألقاب فكان منها المهدي بالله والعزيز بالله والمعتز بالله والحاكم بأمر الله والمستنصر بالله, وفي الأندلس تسمى عبد الرحمن الثالث بن محمد بالخليفة واتخذ لنفسه لقب ( الناصر لدين الله ) ونهج من جاء بعده نهجه فكان منهم المؤيد بالله والمستعين بالله والمستظهر بالله والمعتمد على الله.


واتخذ ملوك الطوائف في الأندلس الألقاب فكان منهم المعتضد بالله ملك أشبيلية وابنه المعتمد على الله وكانت هذه الألقاب على ضخامتها لا تمثل لمن اتخذها لنفسه شيئا من معانيها,


ظهرت في هذا العصر الفتن المذهبية ثارت بين الشيعة وبين السنة, وخاصة الحنابلة منهم, فتن كان مسرحها بغداد . وقد بدأت في أوائل القرن الرابع الهجري وامتدت إلى أواخر القرن الخامس الهجري وكانت تتوالى الفتن عاما بعد عام . وكثيرا ما كانت تشتد. فينشب فيها قتال مرير بين ابناء البلد الواحد والمدينة الواحدة على حساب المذهب او باذكاء هذا الخلاف من قبل رجال الدين من هذا المذهب او ذاك لاستفادتهم الشخصية وعلو مكانتهم الدينية في مثل هذه الاوضاع وظهورهم للقيادة .

وقد أزر البويهيون الشيعة في تشيعهم, وشد الأتراك أزر أهل السنة لأخذهم بمذهبهم وقد افضت هذه الامور الى اشتداد العداء بينهم الى حد المقاتلة فقتل خلق كثير من الطرفين جراء ذلك وكانت بغداد اول ساحة لمثل هذه المقاتلة .


وكذلك كانت الفتن تحدث بين الحنابلة والأشاعرة وبين الحنفية والشافعية, فكان أهل كل مذهب يتعصبون لمذهبهم ويدفعهم التعصب إلى القتال بينهم مما اثر في خراب المدن واضعاف شوكة المسلمين وقوتهم وكانت بغداد مسرحا لمثل هذه الامور والاحداث وقد كانت هذه وغيرها اسبابا لنشوب ثورات كثيرة في البلاد الاسلامية مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة في الجنوب وكذلك ادى الى انفصال بعض الاقاليم عن جسم الدولة العباسية واقامة اقاليم وامارات في البلاد وخاصة البعيدة عن الخلافة وربما خلافات جديدة مستقلة عن الخلافة العباسية . مثل الدولة الاخشيدية والخلافة الفاطمية والامارة الحمدانية والدولة الصفارية .


فوجود الدويلات والامارات وخاصة غير العربية المنسلخة من جسم الدولة العباسية ضمت بين اهدافها هذه الامور.ثم كانت هذه الانقسامات سببا واسعا وكبيرا لقيام الحروب الصليبية وطمع الدول الاوربية تحت علامة الصليب في القضاء على الدولة الاسلامية او الاستحواذ على بعض اجزائها المقدسة لديهم وخاصة ( فلسطين ) وفي صفحات التاريخ الشيء الكثير الكثير والشواهد القائمة على ما ذكرناه .

كان لهذه التطورات السياسية اثرعظيم في الشعر العربي وتقدمه وازدهاره فقد كانت بغداد ام الدنيا ومركزالخلافة العربية الاسلامية ومركز الثقافة والعلوم وفيها جل الشعراء الا انه ظهرت حواضرو مدن اخرى اجتمع فيها الشعراء هي مراكز الا مارات كحلب والقاهرة وجرجان وبخارى وسمرقند والاندلس وامارات دويلاتها وغيرها و كل امير من امراء هذه الامارات حاول ان يجمع حوله العديد من الشعراء والادباء والمثقفين ويجزل لهم العطاء ويتباهى في جمع اكبر عدد منهم لحبهم الادب وخاصة الشعر وليمدحوهم ويذكروهم في شعرهم فادى هذا التنافس حتما والى ايجاد المنافسة بين الشعراء والادباء دفعت الشعر نحو علائم التقدم والرقي الثقافي والحضاري في كل مجالات الحياة .


لذلك فقد اجزل الخلفاء والامراء العطاء للشعراء الذين نالوا حضوة كبيرة عندهم حتى بلغ بهم حد الاستيزار ورئا سات الدواوين الكتابية وخاصة اذا علمنا ان بعض الا مراء والخلفاء كانوا يجيدون الشعر وقرضه ونقده .


يتبع


امير البـــيــان العربي
د. فالح نصيف الكيلاني
العراق - ديالى - بلدروز


*********************