المعلم المخيف
كان والدي يقيم مع عائلته الصغيرة في مدينة مومن شاهي. أنا وأخي الكبير محمد عزيز الحق وأمنا الحبيبة، ولم يولد بعد أخي الصغير محمود الحق صديق. كان والدي يدرِّس في دار العلوم التي حول اسمها إلى "الجامعة الإسلامية" الشيخ أطهر علي- رحمه الله تعالى-. وأذكر أن والدي بكى كثيرا يوم سمع نبأ هذا التحويل. فدار العلوم التي قطع للمجيء إليها ستين ميلا مشيا على الأقدام من قريته في تنغايل، والتي أمضى فيها زهرة شبابه دارسًا ثم التحق بها فيما بعد مدرسًا كانت ممزوجة بلحمه ودمه. فهي دائما كانت تسكن فيه وهو يسكن فيها. وكيف لا، فقد درَّس فيها من عام 1959م إلى عام 1971م، ودرَس فيها قبله حقبة من السنين. فكان يحن عليها ويرنو إليها دومًا وإن فرقتهما الأيام والزمان. كان يستريح في كنف ذكرياتها، حلوها ومرها، حسنها وسيئها، ويطلب الخلود والدوام لها ولما لها من الوسوم والصفات. فكيف بها تغير وسمها المبرز وتحول اسمها الذي تشربه العقل الباطن لسكان المنطقة بكافة أطيافهم شبابًا وشيوخًا وأطفالًا ونساءً على مر السنين. إنه حقًا أمر مرير . وقد رأيت أبي يومئذٍ قلقًا مهمومًا ورأيته جالسًا في مصلاه يبكي ويتضرع لكي يصرف الله قلب هذا الشيخ عما شد أزره من أجله وأكب على تنفيذه. ولكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ولعل الشيخ أطهر علي كان يريد لهذا الصرح العلمي العتيد الخير الكثير. فهو إن كان قد نما وترعرع على يد أستاذ والدي الشيخ نور الدين – رحمه الله تعالى- . إلا أن صعوده الكمي إلى العلى كان على يد الشيخ أطهر علي الذي أحبه وترك من أجله جامعته في كيشورغنج، الجامعة الإمدادية. وإني لأظن – واعتدز إلى والدي المرحوم – عن هذا التعليل - بأن الشيخ ربما فكر في أن تحويل اسمه إلى "الجامعة الإسلامية" ستلبسه أبهة الجامعات الإسلامية في العالم العربي. وهذا سيعود عليه بمردود ملؤها الطيب والحسنات. وإن كنت لا أعرف على وجه اليقين أن الشيخ كان على دراية تامة بالشروط الفنية التي تجعل صرحًا علميًا ما جامعة عصرية. أيا كان الأمر فقد حصل الشيخ بعدما نفذ ما ارتاءه وسكن قلبه إليه، على تبرع كبير من دولة ليبيا – كما سمعت- ليضع به أساس المبنى الشمالي العالي الذي تزدان به الجامعة هذه الأيام. رحم الله تعالى الشيخ أطهر علي الذي أراد كل الخير والفلاح لدار العلوم، ورحم والدي الذي أراد أن لا يضيع ماضيها المجيد تحت اسم جديد.
كانت دارنا وراء هذا المبنى الذي رأيته يومئذٍ بيتًا تعلوه الصفائح وكان يمينه كُتَّاب يدرس به الأطفال. أراد والدي إدخالي في هذا الكتاب لأتعلم القرآن. فذهبت يوما لأرى ما الذي يجري هناك. فما إن وقفت أمامه ومددت رأسي إلا وقد رأيت المعلم الوحيد الذي كان يدرس فيه مكبًا على أحد طلابه وفي يده سوط من الخزيران غليظ. لقد أردى الطالب أرضًا وهو يضربه ضربًا مبرحًا. وكان الطالب المسكين يتلوى ويتوجع ويستنجد ويُعوِّل ولكن عويله الأليم كان كصرخة في وادٍ. فملئت خوفاً وغدا قلبي يدق رعباً فما كان مني إلا أن جريت إلى أمي جرى الفرس المضروب :" أماه! أماه! أنا لا أريد الدراسة أبدًا. إنه مفزع. لا، لا، لا استطيع، لا أريد. إن المعلم يضرب، يضرب كثيرًا يا أماه." قلت لأمي "خفف عنك يا ولدي، لا تبك. سأتحدث إلى أبيك، لعله يجد لك حلا" ردت علي أمي.
والدي، حين كلمته أمي، طمأنني أنه سيكلم المعلم حتى لا يفعل بي ما فعل بهذا الطالب المسكين. غير أن الفزع كان يطردني والمشهد كان يطل برأسه أينما توجهت. وكنت أفكر دومًا في حيلة تنجيني من هذا المعلم المخيف. ووالدي – رحمه الله – كان رجلًا صارمًا، وكان مضرب المثل في الغضب والانتفاض، فكنت أخشاه دومًا ولا اعترض عليه إذا أقرَّ أمرًا. ولكن ماذا أفعل، فالمعلم رجل مخيف. ففكرت في حيلة سخيفة، وهي أنني في اليوم التالي حين قرب موعد الذهاب إلى الكتَّاب دخلت بيت الخلاء، وكان منفصلا عن الحمام، فبقيت فيه لساعات طوال، حتى عثروا علي وأنا خائف مذعور.
تأكد لوالدي أنني لا أريد الدراسة. غير أنه لم يُعَنِّفني، إذ كان يحبني حباً جماً، فقد كنت ابنه الصغير، والكتوم الخجول الذي لا يسبب له أي إزعاج.