خمسون سنة عشتها بليلها ونهارها، بساعاتها ودقائقها. خمسون سنة عشتها بعجفها وسمنها، وذقتها وذاقتني، وعانقتها وعانقتني. خمسون سنة هي أنا وأنا هي.
وقفت أمام المرآة ذات يوم، فنظرت إلى وجهي، فإذا هو شاحب، وشعر رأسي الذي كان يضفي علي أبهة وجمالاً قد ذبل وغشاه الارتخاء. خمسون سنة قد غيرتني من حال إلى حال. فلو كان لك أن تعود بي إلى الماضي، لرأيت أنني تجددت بالكامل عشر مرات. فالخلايا التي تمثل اللبنات الأساسية في جسدي كانت تتجدد بالكامل بعد كل خمس سنوات. والذي لم يتغير هو أنا. فمن أنا وماذا تريد مني أن أحكيه لك عن أناي؟ فهل أنا المخ الذي لم تتغير خلاياه منذ تكونها وأنا جنين في بطن أمي؟ كدت أعتقد أن المخ هو أنا لولا قراءتي للدراسة العلمية التي تقول إن المخ يستقبل المعلومات، ويحتفظ بها فقط، سواء في خانة الشعور أو في محيط اللاشعور. غير أن مسؤولية ترتيب المعلومات والوصول بها إلى نتائج ليست موكولة إليه. فالتفكير يتواصل حتى في حالة توقف جميع أجزائه. الأمر غريب. فأنا حيوان ناطق، - ناطق عن الأفكار. فإذا كان المخ ليس مركزا للتفكير فأين أنا؟ هل أنا في القلب الذي لا تموت خلاياه أيضا، كما يقول بعض العلماء؟ وإذا كنت في القلب وحده فهل يمكنه أن يستقل عن المخ الذي يستقبل ويحتفظ بالمعلومات ثم يقوم هو بتحليلها وتركيبها والوصول إلى نتائج؟ أم أقول إنني مجموعة المخ والقلب؟ نعم أنا هذه المجموعة ويمدهما الخلايا المتجددة في سائر الجسد. فقصة حياتي هي قصة حياة مخي وقلبي. أما سائر أجزاء الجسد فقد تجددت عشر مرات،
غير أن خلايا مخي وقلبي لا تسعفني كثيرا لاستحضار ما مضى من الأيام والليالي وما حملت بطونهما من الأفراح والأتراح، وما شربت فيهما من كؤوس ملؤها العسل المصفى، وأقداح ملؤها الحنظل والخل المرير. فلم تعد تذكرني إلا بالأحداث الجسام. وهل أنا هذه الأحداث الجسام؟ لا أبدًا. فأنا مجموعة من الأحداث والأفكار، صغيرها وكبيرها، سعيدها وشقيها، وما النسيان إلا نعمة من نعم الله تعالى من بها علي من غير أن أسأله. فلو أنني كنت متذكرا لجميع ما مر بي من سود الليالي وجور الأيام فلربما لم استطع أن أطبق عيني لأتلذذ بهناءة النوم. إي ورب لقد كنت رحيما بي عندما جعلتني أنسى، فقدرتي لا تسمح بتحمل سيئ الذكريات التي عبر خلالها قارب حياتي الصغير.
إذن هي الأحداث الجسام التي سأفتح صفحاتها عليكم، علكم تحذرون ما خبث منها وانحط وتقتدون بما صلح منها وطاب.