ضوابط في معرفة السيرة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
ضوابط في معرفة السيرة
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد، والثناء، له جلّ وعلا كله، فهو ولي الفضل وهو وليّ الإحسان وهو وليّ النعمة، ومن أعظم نعمه علينا أنْ بعث محمدا عليه الصلاة والسلام إلينا هاديا وبشيرا ونذيرًا، {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين}، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، به أزال الله جلّ وعلا الشرك وجنده، وبه أقام الله جلّ وعلا التوحيد وأهله وبه أبصر الناس بعد العمى، وهُدِيَ الناسُ بعد الضلالة فما أعظم منته جلّ وعلا علينا ببعث محمد عليه الصلاة والسلام، وما أعظم مِنَّة محمد عليه الصلاة والسلام على أمته فإنهم لو فدَوه بأنفسهم وأولادهم وأهليهم وأموالهم ما قضوا حقه عليه الصلاة والسلام، أليس هو الذي وجدنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا منها صلى على نبينا محمد كفاء ما أرشد وعلّم وبيّن، ونشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد وتركنا بعده على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صلّى الله عليه وسلّم إلاّ هالك وصلى الله وسلم على صحابته الذين نصروه وعزَّرُوه وأيدوه، وصلى الله على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمة أرحم الراحمين، أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أنْ يجعلني وإياكم ممن أعطاه قلبا خاشعًا ودعاءً مسموعًا اللّهم اجعلنا ممن تخشعُ قلوبهم لك وتلين أفئدتهم لذكرك اللّهم وهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، فلا حول لنا ولا قوة إلاّ بك، نعوذ بك من إرادة العلو في الأرض والفساد، ونسألك أنْ تعيذنا من العِيّ، وأنْ تعيذنا من خطل الرّأي ومن البعد عن الصواب، اللّهم فوفقنا فأنت ولي التوفيق {ومن يهدِ الله فهو المهتدي}، ثم إني أشكر في فاتحة هذه المحاضرة الإخوة الكرام في مكتب الدعوة والإرشاد في محافظة الخرج على أنْ دعوا لهذه المحاضرة واهتموا بها وليس هذا بغريب فهم حريصون على الخير ويمثلهم فضيلة الأخ الشيخ عبد الرحمن الصغير وكذلك فضيلة الأخ الشيخ امام المسجد وكذلك بقية الإخوة الكرام، فأسأل الله جلّ وعلا لهم المزيد من فضله وأنْ يتقبل ما بذلوا وما انتقلوا من أجل نشر الحق والهدى، ثم إنّ هذه المحاضرة موضوعها ضوابط في فهم سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وهذه المحاضرة ليست موعظة من المواعظ وإنما هي محاضرة تأصيلية في موضوع سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذًا ربما انتفع منها الجميع وخُصّ بالانتفاع بها من كان له مساس وله صلة بالعلم والسنة والسيرة وبالدعوة والإرشاد، ولا شك أنّ سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بها اهتم العلماء قديما وحديثا، وذلك لأنّ بهدي المصطفى
صلّى الله عليه وسلّم تتبيّن الأشياء وقد قال لنا جلّ وعلا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فالاهتمام بالسيرة لابدّ منه لأنّ بالسيرة وبالاهتمام بها معرفةَ أحواله عليه الصلاة والسلام من ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وبالسيرة يعلم المسلم ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته من نشر الدين وما كابدوا فيه وأنهم بذلوا ما بذلوا وتركوا الأمة بعدهم على أمر واضح بيِّن ولم ينتشر الإسلام بسهولة بل بذل فيه عليه الصلاة والسلام بتأييد من ربه جلّ وعلا، وبذل فيه أصحابه الكرام ما بذلوا وهذا يظهر لك في السيرة.
ومن أوجه الاهتمام بالسيرة أيضا أنّ معرفة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وإنّ معرفة سيرة الصحابة معه عليه الصلاة والسلام يبعث في قلوب أهل الإيمان القوة في الإيمان والقوة في اليقين وأنهم مهما تكالبت عليهم الأمور ومهما قوي الشيطان وجنده فإنّ لهم في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة وإنّ لهم في الصحابة الكرام أسوة حسنة، فقد شكا بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام ما يلقى من شدة قريش عليه ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار نصفين ما بين لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه فو الذي نفسي بيده ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من مكة إلى صنعاء، أو قال: من بصرى إلى مكة، لا يخاف إلاّ الله جلّ وعلا))، وهذا يُبيّن ويبعث في المؤمن أنّ الحق ليس بكثرة الناس، وأنّ المؤمن إذا حصل له ما حصل من كيد الشيطان أو من كثرة الشهوات أو من كثرة المغريات فإنه يبعثه ذلك على الاستمساك أكثر وأكثر بدين الله جلّ وعلا؛ لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم ما تركوا دينهم ولم يتركوا توحيد الله ولم يتركوا البراءة من الشرك ولم يتركوا ما أمنوا به مع عظم ما أصابهم عليهم رضوان الله، فكيف بحال أهل هذا الزمان الذين ربما تركوا شيئا من الدين لبعض المغريات.
النظر في السيرة وقراءة السيرة يبعث في المؤمن قوة اليقين وقوة الاستعداد للثبات على دين الله، وكذلك يبعث في قلب المؤمن قوة العزة بالإسلام وأنه عزيز بتوحيد الله جلّ وعلا وعزيز بما قام في قلبه من معرفة الله والعلم به، والإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما أنزل الله جلّ وعلا على رسوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وهذا من ضمن فوائد كثيرة يستفيدها كل مؤمن في النظر في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، إذن فالأصل أنّ قراءة السيرة ليست قراءة قصص ولا حكايات وإنما هو قراءة عِظة واعتبار لأنّ بالسيرة أخذ الفوائد وأخذ ما ينفع المؤمن ويبعث فيه أنواعا من الخير والهدى والاستمساك بالحق، {فاستمسك بالذي أوحيَ إليك إنّك لعلى صراطٍ مستقيم}، {وإنّه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تسألون}.
تنوعت اهتمامات أهل العلم بالسيرة وذلك لعظم شأنها.
والسيرة المقصود بها ما أُثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أصحابه وعن التابعين وعن من بعدهم من أهل العلم في وصف حال سير النبي صلّى الله عليه وسلّم وحال طريقته وهيئته منذ وُلد عليه الصلاة والسلام إلى أنْ توفاه الله جلّ وعلا، فالسيرة إذن هي حكاية لما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من حين ولادته إلى أنْ توفاه الله جلّ وعلا فيها بيان ما حصل له من ولادته وما كان في ولادته من ظهور بعض المعجزات، وظهور بعض الإرهاصات لمبعثه عليه الصلاة والسلام وذكر رضاعه عليه الصلاة والسلام وذكر أحواله وأمه وأخواله وأشباه ذلك، وذكر هديه عليه الصلاة والسلام وسيرته في صغره حتى بعثه الله جلّ وعلا وما كان يتصف به قبل المبعث من أنواع الأخلاق والشمائل، كذلك سيرته عليه الصلاة والسلام حكاية لحاله منذ بعثه الله جلّ وعلا، فبلغ دعوة الله وصبر على ذلك وما ناله من الأذى وكيف بلغ والسبيل التي اتخذها للبلاغ إلى أنْ هاجر إلى المدينة ومن مهاجره إلى المدينة وتأسيسه لدولة الإسلام الأولى إلى أن توفاه الله جلّ وعلا ويدخل فيها عددُ من أهل العلم ما كان بعد ذلك من سيرة الخلفاء الراشدين وما حصل لهم من أنواع الفتوح.
إذًا فالسيرة طريقة وهيئة والسيرة أيضا مأخوذة من السَير سار يسيرُ سيرًا يعني ما سار عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقد جاء في القرآن ذكر السيرة بمعنى الطريقة والهيئة في قول الله جلّ وعلا: {سنعيدها سيرتها الأولى} فالسيرة إذا تشمل طريقة السير وتشمل الهيئة التي كان عليها السير ولذلك تجمع السيرة على سِيَر ويذكر فيها أنواع المغازي والفتوح ويُذكر فيها أنواع ما حصل له عليه الصلاة والسلام وما حصل لصحابته من بعده فإذن السيرة لها معنًى لُغوي ولها معنى اصطلاحي كما ذكرت لك.
ودرج العلماء على أنّ المراد بالسيرة حين تذكر السير ما دون في كتب مخصوصة أسموها كتب السيرة وكتب السير وهذا يجعلنا نفيضُ في أنّ الكتابة في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وفي مغازيه كانت متقدمة في الزمن الأول، فذكر العلماء أنّ أبان بن عثمان بن عفان ابن الخليفة الراشد هو أول من دوّن سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ودوّن مغازيه وكانت وفاة أبان رحمه الله تعالى سنة (105هـ) وكان قد أخذ عن عدد كثير من الصحابة، وأخذ عنه عددٌ كثير أيضا من التابعين وممن شُهر أيضا بأخذه برواية السيرة وتتبعها عروة بن الزبير بن العوام فقد كان إمامًا في المغازي وله مغازي ألفها وجمعها باسم مغازي عروة، وقد جمع بعضها وطبع وكذلك ممن اهتم بالسيرة ابن شهاب الزهري الإمام المعروف سيد المحدثين في زمانه جمع في السيرة كتابًا وفي المغازي كتابًا في ما ذكره له عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، وكذلك ممن كتب في السيرة من الأولين من التابعين عاصم بن عمر بن قتادة وغيره، من ثقات أهل العلم في القرن الأول وفاتحة القرن الثاني، في هذا يتبيّن أنّ كتابة السيرة كانت متقدمة جدًّا، ولهذا صار أهل العلم بعدهم يأخذون مأخذ التابعين في العناية بالسير والعناية بالمغازي فقد جمع ما سمع من بعض هؤلاء جمعه العالم المعروف محمد بن إسحاق المدني في كتاب ((السير والمغازي)) والذي قيل إنه ألفه بإشارة من أبي جعفر المنصور لما زار ابن إسحاق بغداد وأشار أبو جعفر إلى ابنه وقال لابن إسحاق أتعرف هذا قال نعم هذا ابن أمير المؤمنين فقال له صنف له كتابًا فيه ذكر الأخبار من خلق آدم عليه السلام إلى يومنا هذا فكتب ابن إسحاق ذلك، وكتاب ابن إسحاق رُوي عنه وانتشر بعده رحمه الله تعالى وهو إمام في السير اجتمع لديه ما تفرق فيمن قبله من التابعين الثقات.
وإذا كان كذلك فإنّ كتاب ابن إسحاق لم يوجد كاملاً في زماننا هذا وإنما وُجِد من مغازي وسير ابن إسحاق ما انتقاه ابنُ هشام العالم اللّغوي المعروف، وهذا الانتقاء أجمع العلماء على حُسنه وعلى أنه استخلص من سيرة ابن إسحاق ما أثني على مؤلفه به وهو لا يروي السيرة عن ابن إسحاق مباشرة وإنما يرويها بواسطة رجل عن ابن إسحاق وهذه السيرة هي المعروفة الآن بسيرة ابن هشام وهذا تطور في أهل العلم فكتب في السير عدد كتب ابن حزم في السيرة وسماها ((جوامع السيرة)) وكتب ابن سيد الناس سيرة والعلماء تتابعوا على كتابة السير ومعتمدهم فيما ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق أو فيما ذُكر في غير ذلك من المغازي.