بَابُ الاعتِكَافِ
هُوَ لُزُومُ مَسْجِدٍ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى..........
قوله: «الاعتكاف» افتعال من العكوف،، افتعل أي دخل في العكوف مأخوذ من عكف على الشيء، أي: لزمه ودوام عليه، ومنه قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقومه: {{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}} [الأنبياء: 52] أي: لها ملازمون، وقول الله تعالى: {{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}} [الأعراف: 138] أي: يلازمونها، ويداومون عليها.
وفي الشرع عرفه المؤلف بقوله: «لزوم مسجد لطاعة الله تعالى» .
واعلم أن التعريفات الشرعية أخص من التعريفات اللغوية، أي: أن التعريفات اللغوية غالباً تكون أعم وأوسع من التعريفات الشرعية.
فالزكاة مثلاً في اللغة النماء وفي الشرع ليست كذلك.
والصلاة في اللغة الدعاء، وفي الشرع أخص، إلا شيئاً واحداً وهو الإيمان، فإن الإيمان في اللغة التصديق والإقرار، ولكنه في الشرع قول، وعمل، واعتقاد، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فإنهم يجعلون الإيمان مدلوله شرعاً أوسع من مدلوله لغة.
قوله: «هو لزوم مسجد لطاعة الله» خرج به لزوم الدار، فلو اعتكف في بيته، وقال: لا أخرج إلى الناس فأفتتن بالدنيا، ولكن أبقى في بيتي معتكفاً فهذا ليس اعتكافاً شرعياً، بل يسمى هذا عزلة، ولا يسمى اعتكافاً.
وهل العزلة عن الناس أفضل أم لا؟
الجواب، في هذا تفصيل:
فمن كان في اجتماعه بالناس خير، فترك العزلة أولى، ومن خاف على نفسه باختلاطه بالناس لكونه سريع الافتتان قليل الإفادة للناس، فبقاؤه في بيته خير، والمؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم.
وخرج به أيضاً لزوم المدرسة، ولزوم الرباط، لو كان هناك ربط لطلبة العلم يسكنونها ويبقون فيها، فإن لزومها لا يعتبر اعتكافاً شرعاً.
وخرج به لزوم المصلى، فلو أن قوماً في عمارة ولها مصلى، وليس بمسجد فإن لزوم هذا المصلى لا يعتبر اعتكافاً.
والدليل على ذلك، قوله تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] فجعل محل الاعتكاف المسجد.
وقوله: «لطاعة الله» اللام هنا للتعليل، أي: أنه لزمه لطاعة الله، لا للانعزال عن الناس، ولا من أجل أن يأتيه أصحابه ورفقاؤه يتحدثون عنده، بل للتفرغ لطاعة الله عزّ وجل.
وبهذا نعرف أن أولئك الذين يعتكفون في المساجد، ثم يأتي إليهم أصحابهم، ويتحدثون بأحاديث لا فائدة منها، فهؤلاء لم يأتوا بروح الاعتكاف؛ لأن روح الاعتكاف أن تمكث في المسجد لطاعة الله ـ عزّ وجل ـ، صحيح أنه يجوز للإنسان أن يتحدث عنده بعض أهله لأجل ليس بكثير كما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك[(510)].
وهل ينافي روح الاعتكاف أن يشتغل المعتكف في طلب العلم؟
الجواب: لا شك أن طلب العلم من طاعة الله، لكن الاعتكاف يكون للطاعات الخاصة، كالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك، ولا بأس أن يَحضر المعتكف درساً أو درسين في يوم أو ليلة؛ لأن هذا لا يؤثر على الاعتكاف، لكن مجالس العلم إن دامت، وصار يطالع دروسه، ويحضر الجلسات الكثيرة التي تشغله عن العبادة الخاصة، فهذا لا شك أن في اعتكافه نقصاً، ولا أقول إن هذا ينافي الاعتكاف.
مَسْنُونٌ ..........
قوله: «مسنون» خبر ثان لـ(هو)، والخبر الأول (لزوم).
ففي الخبر الأول ذكر تعريفه، وفي الخبر الثاني ذكر حكمه؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، أي: يذكر الشيء وتعريفه، ثم بعد ذلك يذكر حكمه، حتى يكون الحكم منطبقاً على معرفة الصورة.
والمسنون اصطلاحاً: ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه.
وقوله: «مسنون» لم يقيده المؤلف بزمن دون زمن، ولا بمسجد دون مسجد، وعلى هذا فيكون مسنوناً كل وقت وفي كل مسجد، فكل مساجد الدنيا مكان للاعتكاف، وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة كما روي ذلك عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» [(511)] فإن هذا الحديث ضعيف.
ويدل على ضعفه أن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وهنه، حين ذكر له حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفة، وبيت ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، فجاء إلى ابن مسعود زائراً له، وقال: إن قوماً كانوا معتكفين في المسجد الفلاني، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» ، فقال له ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لعلهم أصابوا فأخطأت وذكروا فنسيت» [(512)] فأوهن ابن مسعود هذا الحديث حكماً ورواية.
أما حكماً ففي قوله: «أصابوا فأخطأت» وأما رواية ففي قوله: «ذكروا فنسيت» والإنسان معرض للنسيان.
وإن صح هذا الحديث فالمراد به لا اعتكاف تام، أي أن الاعتكاف في هذه المساجد أتم وأفضل، من الاعتكاف في المساجد الأخرى، كما أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المساجد الأخرى.
ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] .
فقوله تعالى: {{فِي الْمَسَاجِدِ}} (الـ) هنا للعموم، فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لزم أن تكون (الـ) هنا للعهد الذهني، ولكن أين الدليل؟ وإذا لم يقم دليل على أن (الـ) للعهد الذهني فهي للعموم، هذا الأصل.
ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها، ثم نقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة؟! فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية، ثم نقول: إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة، كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام.
فالصواب أنه عام في كل مسجد، لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل.
وقوله: «مسنون» قد دل على هذا الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}} [البقرة: 125] ومن هذه الآية نعرف أن الاعتكاف مشروع حتى في الأمم السابقة، وقال تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] .
وأما السنة: فواضحة مشهورة مستفيضة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اعتكف، واعتكف أصحابه معه» [(513)] و «اعتكف أزواجه من بعده» [(514)].
وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من أهل العلم.
وهو مسنون في كل وقت، هكذا قال المؤلف وغيره، حتى لو أردت الآن ـ ونحن في شهر جمادى ـ أن تعتكف غداً أو الليلة وغداً، يكون ذلك مسنوناً، ما لم يشغل عما هو أهم، فإن شغل عما هو أهم، كان ما هو أهم أولى بالمراعاة.
وهذه المسألة فيها نظر؛ لأننا نقول الأحكام الشرعية تتلقى من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يعتكف الرسول صلّى الله عليه وسلّم في غير رمضان إلا قضاءً، وكذلك ما علمنا أن أحداً من أصحابه اعتكفوا في غير رمضان إلا قضاءً، ولم يرد عنه لفظ عام أو مطلق، في مشروعية الاعتكاف كل وقت فيما نعلم، ولو كان مشروعاً كل وقت لكان مشهوراً مستفيضاً لقوة الداعي لفعله وتوافر الحاجة إلى نقله وغاية ما ورد أن عمر بن الخطاب استفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم «بأنه نذر أن يعتكف ليلة أو يوماً وليلة في المسجد الحرام فقال: أوف بنذرك»[(515)] ولكن لم يشرع ذلك لأمته شرعاً عاماً، بحيث يقال للناس: اعتكفوا في المساجد في رمضان، وفي غير رمضان فإن ذلك سنة.
فالذي يظهر لي أن الإنسان لو اعتكف في غير رمضان، فإنه لا ينكر عليه بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذن لعمر بن الخطاب أن يوفي بنذره ولو كان هذا النذر مكروهاً أو حراماً، لم يأذن له بوفاء نذره، لكننا لا نطلب من كل واحد أن يعتكف في أي وقت شاء، بل نقول خير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن في الاعتكاف في غير رمضان، بل وفي غير العشر الأواخر منه سنة وأجراً لبينه للأمة حتى تعمل به؛ لأنه قد قيل له: {{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}} [المائدة: 67] ، وانظر في حديث أبي سعيد اعتكف الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «العشر الأول، ثم الأوسط، ثم قيل له: إن ليلة القدر في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر»[(516)] ولم يعتكف السنة الثانية العشر الأول، ولا الأوسط، مع أنه كان زمناً للاعتكاف من قبل، والشهر شهر اعتكاف.
وعلى هذا فإنه لا يسن الاعتكاف، أي: لا يُطلب من الناس أن يعتكفوا إلا في العشر الأواخر فقط، لكن من تطوع وأراد أن يعتكف في غير ذلك، فإنه لا ينهى عن ذلك، استئناساً بحديث عمر ـ رضي الله عنه ـ، ولا نقول: إن فعله بدعة، لكن نقول: الأفضل أن تقتدي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ولحديث عمر نظائر:
منها: الرجل الذي كان يقرأ بأصحابه فيختم بـ{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}، لم ينكر عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم[(517)]، لكنه لم يشرع ذلك لأمته، فلا يشرع للإنسان كلما قرأ في صلاة أن يختم بـ{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}، كما فعل هذا الرجل لكن لو فعل لم ينكر عليه.
ومنها: سعد بن عبادة رضي الله عنه «استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أن يجعل مخرافه في المدينة صدقة لأمه فأذن له»[(518)] ، لكن لم يقل للناس تصدقوا عن أمهاتكم بعد موتهن حتى يكون سنة مشروعة، ففرق بين هذا وهذا.
فإن قال قائل: أليست السنة ثبتت بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وفعله وإقراره، فالجواب بلى، ولذلك قلنا: لو فعل أحد فعل الرجل الذي كان يختم بـ{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}[(519)] أو تصدق بشيء عن أمه لم ينكر عليه اتباعاً لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أقر ذلك، ولولا إقراره عليه لأنكرنا على فاعله.
مسألة: من اعتكف اعتكافاً مؤقتاً كساعة، أو ساعتين، ومن قال: كلما دخلت المسجد فانو الاعتكاف، فمثل هذا ينكر عليه؛ لأن هذا لم يكن من هدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم.