الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات (5/79-83 ط.ابن عفان )
ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف
كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام " أصحابي كالنجوم " وقد مر الجواب عنه وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال ليس بداخل تحت ظاهر الحديث لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه فهما صاحبا دليلين متضادين فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى وقد ما مر فيه فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع
وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفى اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فإختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ولذلك أعقبها بقوله" ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك..." الآية وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله "أصحابي كالنجوم" وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف
انتهى كلام الشاطبي
و قال الإمام الأصولي فخر الدين الدين الرازي في المحصول ( 6/82 الشاملة)
فإن قلت العامي ربما اغتر بالظواهر وقدم المفضول على الفاضل فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداء وإلا فأي فرق بين الأمرين قلت
من مرض له طفل وليس له طبيب فإن سقاه دواءا برأيه كان متعديا مقصرا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا
ثم أنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر بالأخبار وبإذعان المفضول له وبأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء
يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له
فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي
انتهى كلام الرازي
الخلاصة
أنه يجب على المقلد أن يجتهد في اختيار من يقلده
فكما أن الناس اليوم في زماننا هذا أصبح عنهم القدرة على التخير من الأجهزة الألكترونية مثلا و التفضيل بين الأنواع و الطرز المختلفة على الرغم من أنهم لا يفقهون شيئا في الهندسة الألكترونية و إنما يتحصلون على ذلك بالاجتهاد في التقصي و الاستعلام من أهل الخبرة
فكذلك أمر الدين الذي يتوقف عليه السعادة الأبدية أو عكسها أعاذنا الله منها
أخيرا
أذكر نفسي و إياكم ببعض الآيات من الذكر الحكيم في ذم الهوى و ذم اتباعه
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ
( المائدة 77 )
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (*) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(الأعراف 175-176)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
(الكهف 28)
إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (*) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
(طه 15-16)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
(الفرقان43)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(القصص50)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
(ص26)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(*)إِ َّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ
(الجاثية18-19)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(الجاثية23)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى
(النجم23)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
(النازعات40)
أعاذنا الله و إياكم من اتباع الهوى