تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) (أدلة وقرائن)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) (أدلة وقرائن)

    الحمد لله العلي الأعلى, خالق السموات العلى, الذي على العرش استوى, والصلاة والسلام على من أنزل عليه القرآن شفاء وهدى, وجاء فيه (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) فبين أن الغاية من إنزال القرآن إنما هو تدبر الآيات, والاستبصار بالعبر النازلات, لا إفناء الأعمار الغاليات في الغنن والإمالات, ولا الروم والإشمامات, ولا السكت على الساكن قبل الهمزات, ولا غير ذلك من الأمور الغريبات.
    والصلاة والسلام على خير البرية, والذي طلب من ربه مراراً أن يهون القراءة على أمته, حتى أذن له أن تقرأ أمته القرآن على حروف كثيرة (أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا), ليزيل عنهم العنت والحرج في قراءته.
    ولكن أقواماً من أمته أبوا ذلك التيسير والتهوين, واختاروا التعسير والتهويل, وسلكوا في تعلم وتعليم القراءة ما يشق مشقة بالغة, وخاضوا في دقائق وتفاصيل ما كان السلف الكرام يخوضون فيها, وأوغلوا فيها إيغالاً عظيماً, وأفنوا فيها الأوقات والأعمار, وأشغلهم ذلك عن كنوز من المعارف والهدايات, والمعاني المستعذبات, لو ذاقوا شيئاً منها لزهدوا فيما هم فيه من المبالغات والمسالك الوعرات الشائكات.

    قال أبو عبد الله الزعفراني: "ومن القراء المستأخرين نفر أحدثوا قراءة سموها قراءة الوزن، فأقاموا لأنفسهم بذلك سوقاً، وآذوا المتعلم إيذاء شديداً، وتعنتوا تعنتاً كبيراً، وأوهموه أنه ليس يستدرك ما قد استدركوه، فكان المتعلم إذا سكن الحرف تسكيناً خفيفاً قالوا له: حركت، وإذا بالغ في التسكين قالوا: وقفت، وإذا شدد تشديداً متوسطاً قالوا له: لم تحقق، وإذا بالغ في التشديد قالوا: اتكأت عليه، وإذا بين الألف بياناً خفيفاً قالوا: لم تخرجها من مخرجها، وإذا زاد في البيان قالوا: نفخت فيها، إلى أشياء لهم يعنتون بها المتعلم, وذلك كله مهجور متروك عندنا, لم يتعاطاه المتقدمون ولم يسنوه، ولم يتعلموه ولم يعلموه ، بل كانت قراءتهم محققة غير متجاوزة للحد". ذكره الأندرابي في "الإيضاح" ص (350)

    أما بعد:
    فقد اشتهر عن بعض السلف قولهم: (القراءة سنة متبعة).
    وقد ورد هذا المعنى عن علي بن أبي طالب, وعبد الله بن مسعود, وزيد بن ثابت, وعروة بن الزبير, وعمر بن عبد العزيز, ومحمد بن المنكدر, وعامر الشعبي وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.

    فعن علي بن أبي طالب t أنه قال: (إن رسول الله r يأمركم أن يقرأ كل رجل كما علم).
    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إني سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم، وإياكم والاختلاف والتنطع).
    وقال زيد بن ثابت: (القراءة سنة).
    وقال أيضاً: (القراءة سنة فاقرءوا كما تجدوه).
    وقال عروة بن الزبير: (إن قراءة القرآن سنة من السنن, فاقرؤوه كما اقرئتموه).
    وقال عمر بن عبد العزيز: (قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول).
    وقال محمد بن المنكدر: (قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول).
    وقال عامر الشعبي: (القراءة سنة, فاقرؤوا كما قرأ أولوكم).

    ولم أخَرِّجْ تلك الروايات, لأنها ثابتة عن السلف ومشهورة جداً, ومعناها صحيح لا ريب فيه, فإن قراءة القرآن سنة متبعة, ليس لأحد أن يقرأ من تلقاء نفسه, ولا أن يقرأ كيفما اتفق, بل ليس له أن يقرأ إلا كما قرأ من قبله.
    ولا يمكن أن يستقل القارئ بمجرد المكتوب, فإن الرسم قد ينطق على أوجه كثيرة, ولأن رسم المصحف يختلف عن غيره كما هو معلوم, فلا تصح القراءة إلا بالكيفية التي قرأ بها القراء الأولون.
    أرأيت مثلاً كلمة (الصلوة) المكتوبة في المصحف, وكذلك (الزكوة), و(مشكوة) و(الحيوة) و(الربوا) و(النجوة) و(منوة) وغيرها كثير لا يمكن أن تقرأ كما هو مكتوب, لأن القراءة سنة متبعة.

    وقد اشتهر عند مشايخ القراءات والتجويد منذ زمن بعيد أن معنى قول السلف رحمهم الله: (القراءة سنة متبعة) أنها سنة متبعة حتى في تفاصيل الأداء وصفة التلاوة والمدود ومقاديرها والإظهار والإدغام والإخفاء والغنن والتفخيم والترقيق, وغير ذلك مما هو من قبيل الأداء.
    وهذا المفهوم لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام أي من السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.

    والحقيقة أن مقصود السلف رحمهم الله بقولهم: (القراءة سنة متبعة) إنما هو ما يتعلق بالإعراب والحركات, وما يختلف به النطق عن الكتابة, كالأحرف المقطعة, وكلفظ الصلاة والزكاة ونحو ذلك, فالقرآن لا يقرأ إلا مشافهة على الشيوخ, ولا يتلقى من المصحف مباشرة, مع أن كثيراً من ألفاظ القرآن هي ألفاظ عربية يتفق فيه النطق والرسم, فكل من يتكلم اللسان العربي يقرؤها بكل يسر وسهولة ووضوح.

    وسوف أسوق جمعاً من الروايات الدالة على أن ذلك هو المراد, ليتبين أن هذا المعنى الذي يكثر من ترداده أهل التجويد المتأخرون إنما هو معنى مقحم زائد لا أصل له من أقوال السلف وليس عندهم عليه أي دليل.

    وتلك الروايات كلها تدل على أن أولئك القراء السابقين إنما كانوا يقصدون بقولهم: (سنة متبعة) ما كان يتعلق بالحروف والحركات وكيفية نطق الكلمة, وليس ما يتعلق بطريقة التغني والترتيل والأداء والتجويد, ويتبين ذلك جلياً من سياق كلامهم وأنهم لا يريدون إلا هذا المعنى وليس للمعنى الآخر أي ذكر.

    وسوف أعرض الموضوع الآن وفق العناوين التالية:

    أولاً: الروايات التي توضح مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة).
    ثانياً: ما يدل على ذلك من كلام العلماء الذين يذكرون أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.
    ثالثاً: أن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ, وليس ما له علاقة بطريقة الأداء.
    رابعاً: أن السلف رحمهم الله ما كانوا يُحَذِّرون إلا من اللحن في القراءة وكانوا يحضون على إعراب القرآن.
    خامساً: المراد بإعراب القرآن في هذه الآثار.
    سادساً: أنهم كانوا ينكرون على من يلحن في القراءة, ويشددون في ذلك.
    سابعاً: المراد باللحن في القراءة.
    ثامناً: أنهم كانوا يتلقون القراءة وينقطون مصاحفهم على قراءة قرائهم.
    تاسعاً: قصة وقعت للكسائي رحمه الله فيها دلالة.
    عاشراً: أنهم كانوا يُحَذِّرون من تلقي القرآن ممن يأخذه من المصحف مباشرة دون تلقي.
    الحادي عشر: أن عنايتهم كانت منصبة فيما يتغير به اللفظ, وليس في طريقة أداء اللفظ.
    الثاني عشر: الإجابة عن بعض العبارات التي قد يستدل بظاهرها على أنهم رحمهم الله كانوا يهتمون بدقائق التجويد.
    ويتخلل ذلك نقولات وعبارات فيها دلالة وفائدة.

    فأقول مستعيناً بالله :

    أولاً: الروايات التي توضح مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) أو نحوها من الألفاظ.

    قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في "البخاري" (4415): "(هَيْتَ لك) وإنما نقرؤها كما علمناها".

    وعن شقيق، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ {هيت لك} فقال شقيق: إنا نقرؤها (هئت لك) يعني فقال ابن مسعود: (أقرؤها كما علمت أحب إلي). أخرجه أبو داود (4/38)

    وقال أبو عمرو البصري: "ما قرأت حرفاً من القرآن إلا بسماع واجتماع من الفقهاء، وما قلت برأيي إلا حرفاً واحداً، فوجدت الناس قد سبقوني إليه (وأملي لهم)". أخرجه الداني في "جامع البيان" (1/105).
    وذكره الهذلي في "الكامل" ص (65) بلفظ (والله ما قرأت حرفاً إلا بأثر إلا قوله: (إِنْ هَذَانِ) فوجدت الناس قد سبقوني إليه).

    وقال أبو عمرو أيضاً: "لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرىء به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا". أخرجه ابن مجاهد في "السبعة" ص (48), والداني في "جامع البيان" (1/106)

    وقال الكسائي: "لو قرأت على قياس العربية لقرأت (كبره) برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر". انظر: "جامع البيان" للداني (1/85)

    وقال الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: (وبركنا عليه) في موضع (وتركنا عليه) في موضع أيعرف هذا؟ قال: ما يعرف، إلا أن يسمع من المشايخ الأولين". أخرجه ابن مجاهد في "السبعة" ص (48), والداني في "جامع البيان" (1/108)

    وسئل يونس بن حبيب عن قوله: (أُقِّتَتْ) قال: سمعت سيدنا وسيد العلماء يقرأها: (وُقِّتَتْ) (يقصد أبا عمرو البصري). انظر: "الكامل" للهذلي ص (66)

    وقال الأصمعي، قال: سمعت نافعاً يقرأ (يقص الحق), فقلت لنافع: إن أبا عمرو يقرأ (يقض)، وقال: القضاء مع الفصل، فقال: وي يا أهل العراق! تقيسون في القرآن. انظر: "جامع البيان" للداني (1/83)

    وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة لمالك بن أنس: لم قرأتم في ص (ولي نعجة وحدة) موقوفة الياء، وقرأتم في (قل يأيها الكافرون) (ولي) منتصبة الياء؟
    فقال مالك: يا أهل الكوفة لم يبق لكم من العلم إلا كيف ولم، القراءة سنة تؤخذ من أفواه الرجال، فكن متبعاً ولا تكن مبتدعاً. انظر: "جامع البيان" للداني (1/84)

    وقال القعنبي: قيل لمالك بن أنس: كيف قرأتم في سورة سليمان (ما لي لا أرى الهدهد) مرسلة الياء، وقرأتم في سورة يس (وما لي لا أعبد) منتصبة الياء؟ قال: فذكر مالك كلاماً، ثم قال: لا تدخل على كلام ربنا لم وكيف، وإنما هو سماع وتلقين، أصاغر عن أكابر، والسلام". انظر: "جامع البيان" للداني (1/84)

    وعن شبل بن عباد، قال: "كان ابن محيصن وابن كثير يقرءان (وأن احكم), (وأن اعبدوا), (أن اشكر), (وقالت اخرج), (قل رب احكم), (رب انصرني), ونحوه، فقال شبل بن عباد: فقلت لهما: إن العرب لا تفعل هذا ولا أصحاب النحو، فقال: إن النحو لا يدخل في هذا، هكذا سمعت أئمتنا ومن مضى من السلف". أخرجه الداني في "جامع البيان" (1/82). وانظر: "الكامل" للهذلي ص (52)

    وعن حمزة قال: "قلت للأعمش: إن أصحاب العربية قد خالفوك في حرفين، قال يا زيات: إن الأعمش قرأ على يحيى بن وثاب, ويحيى بن وثاب قرأ على علقمة، وعلقمة قرأ على عبد الله، وعبد الله قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عندهم إسناد مثل هذا, ثم قال: غلب الزياتون غلب الزياتون". أخرجه الداني في "جامع البيان" (1/82).

    وقال الأصمعي: "سألت نافعاً عن (الذئب) و(البئر) فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما". انظر: "السبعة" ص (346)

    فكل هذه الروايات قد أشارت إلى أن القراءة سنة متبعة يتبع الآخر فيها الأول, ولم يأت في أي منها ذكر لطريقة الأداء أو إشارة إليه, وإنما تتفق كلها على ذكر الاختلاف في الأحرف والإعراب والحركات فعلى أي شيء يدل هذا ؟

    ثانياً: العلماء يذكرون دائماً أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.

    قال ابن جرير الطبري في "تفسيره" (22/146): "وغير جائز في القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في العربية، لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية، وجاء به السلف على النحو الذي أخذوا عمن قبلهم".

    وقال ابن مجاهد في كتاب "جامع القراءات, كما في كتاب "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" ص (359): "ولم أر أحداً ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية يرخصون لأحد في أن يقرأ بحرف لم يقرأ به أحد من الأئمة الماضين، وإن كان جائزاً في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه أشد النهي، ويروون الكراهية له عمن تقدمهم من مشايخهم".

    وقال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (2/670): "وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها".

    وقال أبو عمرو الداني أيضاً في "شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني:
    "عرض القرآن على أهل القراءة المشهورين بالإمامة المختصين بالدراية سنة من السنن التي لا يسع أحداً تركها رغبة عنه، ولا بد لمن أراد الإقراء والتصدر منها، والأصل في ذلك ما أجمع العلماء على قبوله وصحة وروده … فكل مقرئ أهمل العرض واجتزئ بمعرفته - أي اكتفي - أو بما تعلم في المكتب من معلمه الذي اعتماده على المصحف أو على الصحائف دون العرض أو تمسك فيما يأخذ به ويعلمه بما يظهر له من جهة إعراب أو معنى أو لغة دون المروي عن أئمة القراءة بالأمصار المجتمع على إمامتهم فمبتدع مذموم مخالف لما عليه الجماعة من علماء المسلمين تارك لما أمر به رسول الله r قراء القرآن من تلاوته بما علمه وأقرئ به، وذلك لا يوجد إلا عندما يكون متواتراً ويرويه متصلاً فلا يقلد القراءة من تلك الصفة ولا يحتج بأخذه" اهــ.

    وهذا حق وصواب, فمن اعتمد على المصحف دون العرض أو تمسك فيما يأخذ به ويعلمه بما يظهر له من جهة إعراب أو لغة دون المروي عن أئمة القراءة فهو مخالف لما عليه الجماعة من علماء المسلمين تارك لما أمر به رسول الله r قراء القرآن من تلاوته بما علمه وأقرئ به.
    وهذا يؤكد أن مقصود السلف رحمهم الله بقولهم: (إن القرآن سنة متبعة) أن لا يستقل القارئ بمجرد المكتوب فإن الرسم قد ينطق على أوجه كثيرة فلا يصح إلا بأن تؤخذ القراءة عمن سلف, وليس معنى هذا أن ينظر إلى كيفية أداء القارئ بكل تفاصيله فيقلده في كل شيء, في مدوده وغننه وكيفية إخراجه للحروف وغير ذلك, فإن هذا لا دليل عليه فضلاً عن كونه في غاية العسر والمشقة والحرج, ولا يمكن انضباطه بين اثنين فضلاً عن عشرات ومئات بالأسانيد.

    وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (13/399): "السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف مرجعه إلى النقل واللغة العربية, لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله, إذ ليس لأحد أن يقرأ بمجرد رأيه, بل القراءة سنة متبعة, وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي, وقد قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء, لم يكن واحد منهما خارجاً عن المصحف, ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ويتنوعون في بعض".

    فيفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله أن القرآن سنة متبعة في مثل القراءة بالتاء أو الياء أو الحركات الإعرابية ونحو ذلك, أما طريقة الأداء والترتيل والتغني والمدود وغيرها فهي راجعة إلى القارئ نفسه.

    يتبع...

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي

    ثالثاً: اختلاف الصحابة رضي الله عنهم إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ, وليس ما له علاقة بطريقة الأداء.
    ومن أمثلة ذلك:
    اختلافهم في قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) فقد سأل عروة بن الزبير عائشة عنها فقال: (كذبوا) بالتخفيف أو (كذبوا) بالتشديد قالت عائشة: كذبوا (مشددة) قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك, فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا, قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها, قلت: فما هذه الآية ؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر, حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. انظر: البخاري (4418)

    وكذلك اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: (وجدها تغرب في عين حمئة) هل تقرأ هكذا (حمئة) أو تقرأ (حامية) انظر: "سنن الترمذي" (5/188), وتفسير ابن جرير (16/11)

    وكذلك اختلافهم في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) هل تقرأ هكذا (ننسها) بالنون أو تقرأ (تنسها) بالتاء. انظر: تفسير ابن جرير (1/476)

    وكذلك اختلافهم في قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون). هل تقرأ هكذا (يصدون) بضم الصاد أو تقرأ (يصدون) بكسرها. انظر: تفسير ابن جرير (25/86)

    وكذلك اختلافهم في قوله تعالى: (عندها جنة المأوى) هل تقرأ هكذا (جنة المأوى) بالتاء أو تقرأ (جنه المأوى) بالهاء. انظر: "المحرر الوجيز" (14/98)
    واختلاف عمر مع هشام بن حكيم في الحديث المتفق عليه هو من هذا النوع.

    وكذلك اختلاف الرجلين في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عند مسلم (820) قال: (كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه, ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه...) الحديث. هو اختلاف من هذا النوع.
    أما الاختلاف في طريقة الأداء وطريقة القراءة فليس لها عندهم أي ذكر وليس لهم فيها أي كلام.

    وأما ما يروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قرأ عليه (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) مرسلة, فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فمدها.
    فهذا الحديث لا دلالة فيه على تحديد طريقة أو مقدار للمد أو غيره, وإنما المطلوب هو المد أي مد, فإن أصل المد لا بد منه ولا تصح القراءة إلا به, أما مقاديره وحدوده فليست كذلك.
    ولذلك لم يذكر له ابن مسعود مقدار ذلك المد, ولم يقل ست حركات ولا خمس ولا أربع.
    وإنما نبهه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنه قد أخل بأصل المد, ولا شك أن من قرأ (للفقراء) مرسلة من دون أي مد فهو مخطئ.
    ولهذا أخبره ابن مسعود رضي الله عنه بأن فيها المد, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أقرأه مد في القراءة.
    ثم إن الحديث لا يصح, بل هو ضعيف.
    وقد أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (5/257), ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9/137)
    من طريق: شهاب بن خراش، عن موسى بن يزيد الكندي قال: قال: كان ابن مسعود يقرئ رجلاً...) الحديث.
    وشهاب بن خراش لا بأس به, ولكن قال فيه ابن عدي في "الكامل" (4/34): "له أحاديث ليست بالكثيرة، وفي بعض رواياته ما ينكر عليه".
    وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/459): كان رجلاً صالحاً، وكان ممن يخطئ كثيراً حتى خرج عن حد الاجتاج به".
    وموسى بن يزيد الكندي غير معروف.
    ويحتمل أنه مسعود بن يزيد الكندي كما وقع عند ابن الجزري في "النشر" (1/315), وكما في "مجمع الزوائد" (7/155)
    فإن كان هو مسعود بن يزيد الكندي فإنه أيضاً ليس بمعروف وليس له ترجمة.

    وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وأخذت سائر القرآن من أصحابه).
    ولم يرد عنه حرف واحد في أن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصحابة أوقفه أو نبهه عند أي شيء يتعلق بالأداء أو نحوه.

    رابعاً: أن السلف رحمهم الله ما كانوا يحذرون إلا من اللحن في القراءة, وكان يحضون ويحثون على إعراب القرآن, ويرغبون فيه, وينكرون القراءة بغير إعراب, ويمنعون منها, فإن الله تبارك وتعالى قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين, كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ), وقال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا), وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ), وغير ذلك من الآيات.

    فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (اقرؤوا ولا تلحنوا) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/151)

    وكتب عمر إلى أبي موسى: (أما بعد فتفقهوا في السنة, وتفقهوا في العربية, وأعربوا القرآن فإنه عربي, وتمعددوا فإنكم معديون). أخرجه ابن أبي شيبة (7/150)
    وفي لفظ: (تعلموا قراءة القرآن بالعربية).

    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أعربوا القرآن فإنه عربي) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (348), وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/150), وغيرهما.

    وكذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنه كما عند ابن أبي شيبة (7/150), وغيره.
    وكذلك جاء عن إبراهيم النخعي, كما عند الدولابي في "الكنى" (2024)

    وعن عمر رضي الله عنه قال: (تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (349)

    وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (تعلموا العربية في القرآن كما تعلمون حفظه) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (349), وابن أبي شيبة (7/150), وغيرهما.

    وكذلك قال أبو ذر رضي الله عنه كما عند ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (23)

    وقال عمر رضي الله عنه: (تعلموا اللحن كما تعلمون القرآن). أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (349), وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/325), وغيرهما.

    وكذلك قال أبي بن كعب رضي الله عنه, كما عند ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (24), وابن عدي في "الكامل" (1/210), وغيرهما.

    وقال أبو بكر وعمر: رضي الله عنهما: (لبعض إعراب القرآن أعجب إلينا من حفظ بعض حروفه) كما عند ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (16)

    وعن أم الدرداء قالت: (إني لاحب أن أقرأه كما أنزل. يعني إعراب القرآن). أخرجه ابن أبي شيبة (7/151)

    وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لان أقرأ آية بإعراب أحب إلى من أن أقرأ كذا وكذا آية بغير إعراب). أخرجه ابن أبي شيبة (7/150)

    خامساً: المراد بإعراب القرآن في الآثار السابقة.
    المراد بإعراب القرآن في تلك الآثار عدم اللحن في الإعراب.
    قال الجوهري في "الصحاح" (1/179): "أعرب كلامه إذا لم يلحن في الإعراب".

    وقال الحليمي كما في "شعب الإيمان" للبيهقي (2/429): "ومعنى إعراب القرآن شيئان:
    أحدهما: أن يحافظ على الحركات التي بها يتميز لسان العرب على لسان العجم, لأن أكثر كلام العجم مبني على السكون وصلاً وقطعاً, ولا يتميز الفاعل من المفعول والماضي من المستقبل باختلاف المقاطع.
    والآخر: أن يحافظ على أعيان الحركات ولا يبدل شيء منه بغير لأن ذلك ربما أوقع اللحن أو غير المعنى".
    قال البيهقي: وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تعلمون القرآن).

    وقال الحميري في "شمس العلوم" (7/4496) أعرب الرجل: إذا بين وأفصح، ومنه إعراب الحروف، وهو تبيين حركاتها وسكونها.

    وقال الهمذاني في "التمهيد": "حد الإعراب اختلاف أواخر الكلم, لاختلاف العوامل, وهو موضوع للإبانة عن المعاني بالألفاظ, ولولا ذلك لاستبهمت المعاني, ولم يفصل بين الفاعل والمفعول, إلا ترى أنك إذا سمعت ضرب زيد عمراً حكمت بكون زيد فاعلاً وكون عمرو مفعولاً..." اهـ

    وتلك الروايات كلها وغيرها تظهر بجلاء أن تركيز السلف رحمهم الله في قراءة القرآن إنما هو على عدم اللحن وعدم مخالفة العربية, وعلى قراءة الكلمات على الوجه الصواب الذي قرأ به الأولون.

    وقال سالم بن قتيبة: "كنت عند ابن هبيرة الأكبر فجرى ذكر العربية فقال: والله ما أستوى رجلان دينهما واحد وحبسهما واحد ومروءتهما واحدة, أحدهما يلحن والآخر لا يلحن, إن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن, قلت: أصلح الله الأمير هذا في الدنيا فضل فصاحته وعربيته, أرأيت الآخرة ما باله فضل فيها ؟ قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله, وإن الذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه ويخرج ما هو فيه, قلت: صدق الأمير وبر". أخرجه البيهقي في "الشعب" (3/430), والخطيب في "الجامع" (1076)
    وتأمل قوله: (أفضلهما الذي لا يلحن لأنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله).

    وعن يحيى بن عتيق قال: "سألت الحسن عن الرجل يتعلم العربية ليقيم بها كلامه ويقيم بها القرآن، فقال: لا بأس به، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك".
    أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (350), وسعيد بن منصور في "سننه" (1/167)
    وتأمل قوله: (يتعلم العربية ليقيم بها القرآن).

    سادساً: أنهم كانوا ينكرون على من يلحن في القراءة, ويشددون في ذلك.
    ومما روي عنهم في هذا الشأن:
    أن ابن عمر رضي الله عنه كان يضرب ولده على اللحن, كما عند ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/129) (7/151) , والبخاري في الأدب المفرد (880)

    وكان الزهري يصلي وراء رجل يلحن، فكان يقول: "لولا أن الصلاة في جماعة فضلت على الفذ ما صليت وراءه" أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/364)

    وقرأ مسعر بن كدام على عاصم بن أبي النجود فلحن, فقال له عاصم: أرغلت يا أبا سلمة". أخرجه الداني في جامع البيان" (1/119)
    ومعنى (أرغلت) قال الخطابي في "غريب الحديث" (3/189): أصل هذه الكلمة في رضاع الطفل. يقال: رغل الصبي إذا استلب ثدي أمه فملقه ملقاً حثيثاً. وإنما قال له هذا القول لأنه استنكر منه اللحن بعد ما كان قد مهر في القراءة, يقول: له أصرت رضيعاً بعد الكبر. وانظر: "الفائق" للزمخشري (2/69), و"النهاية" لابن الأثير (2/238)

    وقرأ رجل على حمزة فلحن, فقال له حمزة: لا جعلني الله فداءك.

    وقرأ رجل على أبي محمد اليزيدي, فلحن في سورة الزمر, فقال له اليزيدي: والله لا أقرؤك حتى تغتسل في البحر وتعود إلي.

    وقرأ رجل على يعقوب الحضرمي فلحن, فقام يعقوب من المجلس وهو غضبان, وخرج وطرف ردائه ينجر. انظر: "طبقات القراء" للذهبي (1/331)

    سابعاً: المراد باللحن في القراءة.
    المراد باللحن هو الخطأ في العربية.
    قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (5/239): "اللحن إمالة الكلام عن جهته الصحيحة في العربية".

    واللحن الخطأ ومخالفة الصواب, وبه سمي الذي يأتي بالقراءة على ضد الإعراب لحاناً. انظر: "التمهيد" لابن الجزري ص (62)

    وقد شهد عصر الصحابة رضي الله عنهم بدايات ظهور اللحن في القراءة, وقد دلت هذه الآثار وغيرها على أن الصحابة ومن بعدهم قد اجتهدوا في مدافعته والتنبيه إليه والتحذير منه.

    وهذه الروايات وغيرها كثير تدل على أن مقصدهم الرئيس من الإقراء والتلقي هو قراءة الكلمات على الوجه الصواب الذي أخذ بالتلقي والتوقي من اللحن والخطأ في نطق الكلمات وإعرابها.

    ولذلك لا تراهم ينطقون بتلك الكلمة (القراءة سنة متبعة) إلا عند ذكر ما يتعلق بالإعراب ونحوه, ولا يذكرونها عند بيان كيفية الأداء.

    يتبع ...

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي

    ثامناً: أنهم كانوا يتلقون القراءة, وينقطون مصاحفهم على قراءة قرائهم.
    فقد ورد عن جماعة من القراء أنهم كانوا يجلسون لإسماع الناس القرآن, وكان الناس يتلقون عنهم القراءة, وينقطون مصاحفهم على قراءتهم.
    كما ورد عن عطية بن قيس الكلابي الدمشقي المتوفى سنة (121) هـ
    فقد روى عبد الواحد بن قيس السلمي قال: "كان الناس يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس، وهم جلوس على درج الكنيسة من مسجد دمشق، قبل أن تهدم الكنيسة".
    أخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" ص (346), والفسوي في "المعرفة" (2/398)
    ففي قوله: (يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس) دليل واضح على أن الناس إنما كان يتلقون القراءة ومقصدهم الأساسي أن يتعلموا الصواب في الحركات والحروف والإعراب, ولذلك يصلحون مصاحفهم التي حصل فيها الغلط فحسب, لأن طريقة الأداء لا أثر لها في حروف الكلمة ولا حركاتها.

    وورد مثل ذلك عن حميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة (130) هـ
    فعند ابن عساكر في "التاريخ" (15/296) أن أهل مكة كانوا يجتمعون على قراءة حميد بن قيس فإذا قال علموا على ما يقول, وكان قرأ على مجاهد, ولم يكن بمكة أحد أقرأ منه.

    وورد مثل ذلك عن الكسائي أيضاً.
    قال أبو بكر بن الأنباري: اجتمعت للكسائي أمور لم تجتمع لغيره, فكان واحد الناس في القرآن, يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم, فيجمعهم ويجلس على كرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره وهم يستمعون, حتى كان بعضهم ينقط المصاحف على قراءته, وآخرون يتبعون مقاطعه ومباديه فيرسمونها في الواحهم وكتبهم, وكان أعلم الناس بالنحو. "تاريخ بغداد" (11/409), و"غاية النهاية" (1/747)

    ومن المعلوم أنه بسبب النقط يتبدل المعنى ويتغير وهذا الأمر من أهم ما كان يعنيهم ويهمهم, فحين تكتب كلمة (قبل) من غير نقط فإنها قد تقرأ (قيل) أو تقرأ (قتل) أو (فيل) أو (فتل) أو غير ذلك.

    تاسعاً: قصة التي وقعت للكسائي رحمه الله فيها دلالة.
    قال خلف البزار: "كان الكسائي يقرأ لنا على المنبر, فقرأ يوماً ونحن تحته (أنا أكثر منك مالاً وولداً) فنصب أكثر, فعلمت أنه قد وقع فيه, فلما فرغ أقبل الناس يسألون عن العلة في (أكثر) لم نصبه, فلما فرغ سألوه عن العلة فثرت في وجوههم إنه أراد في فتحه (أقل) (إن ترن أنا أقل منك) فقال الكسائي: (أكثر), فمحوه من كتبهم, ثم قال لي: يا خلف يكون أحد من بعدي يسلم من اللحن ؟ قلت: لا أما إذ لم تسلم أنت فليس يسلم منه أحد بعدك. انظر: "تاريخ بغداد" (11/408), و"معرفة القراء" (1/301), و"غاية النهاية" (1/748)

    إنهم يتلقون القراءة وهمهم منصب على الإعراب وما تتغير به الكلمة, ولذلك وضعوا علامة النصب على (أكثر), فلما تبين لهم أن الكسائي أخطأ فيها محوه من كتبهم.

    وقال الكسائي: "صليت بهارون الرشيد فاعجبتني قراءتي, فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط, أردت أن أقول: (لعلهم يرجعون) فقلت: لعهم يرجعين, قال: فوالله ما اجترأ هارون أن يقول: أخطأت, ولكنه لما سلمت قال لي: يا كسائي أي لغة هذه؟ قلت: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد". انظر: "تاريخ بغداد" (11/408), و"معرفة القراء" (1/300)

    قال ابن مجاهد في "السبعة" ص (45): "وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف, فيقرأ بلحن لا يعرفه, وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه, وعسى أن يكون عند الناس مصدقاً, فيحمل ذلك عنه وقد نسيه ووهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه, أو يكون قد قرأ على من نسى وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم, فذلك لا يقلد القراءة ولا يحتج بنقله".
    فقوله : "فيقرأ بلحن.. نسي وضيع الإعراب" دليل على أن المراد بالتلقي الإعراب ونحوه مما تتغير به الكلمات.

    عاشراً: أنهم كانوا يحذرون من تلقي القرآن ممن يأخذه من المصحف مباشرة دون تلقي خشية أن يخطئ في الإعراب والحركات أو أن ينطق الكلمة كما هي مكتوبة مع أنها لا تنطق كما تكتب.
    قال سليمان بن موسى: لا تقرؤوا القرآن على المصحفيين. انظر: "الجرح والتعديل" لأبن أبي حاتم (2/31)

    وقال أبو الزناد: لا تأخذوا القرآن من مصحفي. (أي: ممن يتعلم من المصحف دون معلم).

    وقال ثور بن يزيد: "لا يفتي الناس صحفي, ولا يقرؤهم مصحفي". أخرجه الخطيب في "الكفاية" ص (162)

    وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: (لا تأخذوا العلم عن صحفي, ولا القرآن من مصحفي). "الجرح والتعديل" لأبن أبي حاتم (2/31)

    الحادي عشر: أن عنايتهم كانت منصبة فيما يتغير به اللفظ, وليس في طريقة أداء اللفظ.
    ومما يدل على ذلك ما رواه أبو إدريس الخولاني، عن أبي بن كعب رضي الله عنه (أنه كان يقرأ: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام {فأنزل الله سكينته على رسوله}، فبلغ ذلك عمر فاشتد عليه، فبعث إليه، وهو يهنأ ناقة له، فدخل عليه فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال: من يقرأ منكم سورة الفتح ؟ فقرأ زيد على قراءتنا اليوم، فغلظ له عمر، فقال له أبي: أأتكلم ؟ فقال: تكلم، فقال: لقد علمت أني كنت أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرئني وأنتم بالباب، فإن أحببت أن أقرئ الناس على ما أقرأني، أقرأت، وإلا لم أقرئ حرفاً ما حييت, قال: بل أقرئ الناس).
    أخرجه الحاكم (2/225), والنسائي في "الكبرى" (6/463) مختصراً, وغيرهما.

    ومن ذلك حديث أبي بن كعب المشهور قال: (كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه...) الحديث. أخرجه مسلم (820)

    وكذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم...) الحديث. متفق عليه.

    وقال سويد بن عبد العزيز التنوخي: (كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، ويجعل على كل عشرة منهم عريفاً، ويقف هو قائماً في المحراب يرمقهم ببصره، وبعضهم يقرأ على بعض، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء، فسأله عن ذلك, وكان ابن عامر عريفاً على عشرة، وكان كبيراً فيهم، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر، وقام مقامه مكانه، وقرأ عليه جمعيهم، فاتخذه أهل الشام إماماً، ورجعوا إلى قراءته).
    ذكره السخاوي في "جمال القراء" ص (542), والذهبي في "طبقات القراء" (1/125)
    وتأمل قوله: "فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء، فسأله عن ذلك".

    وعن مسلم بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القرآن, فعددتهم ألفاً وستمائة ونيفاً, وكان لكل عشرة منهم مقرىء, وكان أبو الدرداء يكون عليهم قائماً, وإذا أحكم الرجل منهم يعني حفظ القرآن تحول إلى أبي الدرداء رضي الله عنه". "طبقات القراء" (1/125)

    ويتضح من ذلك جلياً أنهم إنما كانوا يتعلمون ما يتعلق باللحن وصحة نطق الكلمات والحروف, لا طريقة الأداء, وليس لطريقة الأداء أي ذكر.

    وقال رجل للحسن البصري: (يوم يحشر) فقال: (المتقون), قال: فإنها (المتقين) قال: فهي: (نحشر المتقين). أخرجه ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (42)

    وقال مجاهد: (لقد عرضت القرآن على ابن عباس رضي الله عنه ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أسأله فيما نزلت، وفيم كانت).
    أخرجه الدارمي (1/725), والحاكم (2/279) , وغيرهما.
    ولم يذكر مجاهد رحمه الله حرفاً واحداً يدل على أنه كان يتلقى منه أيضاً كيفية الأداء ومقادير المدود والغنن وغيرها.
    بل عرضه القرآن على ابن عباس لضبط كلمات وحروف القرآن, للسلامة من اللحن, وكذلك لأجل معرفة التفسير كما ذكر.

    ولذلك قال مجاهد: (لأن أخطي بالآية أحب إلي من أن ألحن في كتاب الله تعالى). أخرجه ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (1/26)
    وعن إبراهيم عن المهاجر عن مجاهد (أنه كره اللحن في القرآن). أخرجه ابن الأنباري في "الإيضاح" أيضاً (1/26)

    وقال: ما رأيت أحداً أعرب لساناً من ابن عباس رضي الله عنه كما في "البداية والنهاية" (8/302)

    وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف طلبت قراءة القرآن ؟ كيف طلبت قراءة القرآن؟ قال: لم أزل - كنت- أطلبه أن أقرأه كما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما أنزل عليه. قال: قلت وكيف ذاك؟ قال: هرب أبي من الحجاج وأنا يومئذ رجل، فقدمنا مكة فلقيت عدة من التابعين ممن قرؤوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم من التابعين فقرأت عليه القرآن، وأخذت بالعربية عن العرب الذين سبقوا اللحن، فهذه التي أخذتها هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشدد بها يديك. انظر: "المبسوط في القراءات" لابن مهران ص (37)

    فقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذاً هي القراءة الصحيحة في حركاتها وحروفها الخالية من اللحن, المأخوذة عن الشيوخ الأولين, ولذلك قال أبو عمرو رحمه الله: "وأخذت بالعربية عن العرب الذين سبقوا اللحن، فهذه التي أخذتها هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

    وجاء رجل إلى نافع فقال: تأخذ عليَّ الحدر؟ فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها! أسمعنا. فقرأ الرجل، فقال نافع: الحدر أو حدرنا أن لا نسقط الإعراب، ولا ننفي الحرف، ولا نخفف مشدداً، ولا نشدد مخففاً، ولا نقصر ممدوداً، ولا نمدّ مقصوراً، قراءتنا قراءة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سهل جزل، لا نمضغ ولا نلوك، ننبر ولا ننتهر، نسهل ولا نشدد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها, ولا نلتفت إلى أقاويل الشعراء وأصحاب اللغات، أصاغر عن أكابر، ملي عن وفي، ديننا دين العجائز، وقراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل الرأي". " انظر: "جامع البيان" لأبي عمرو الداني (1/355), و"التحديد" له أيضاً ص (93).
    فلم يذكر نافع رحمه الله إلا ما تتغير به الحروف أو الإعراب ومن ذلك ما يسبب زيادة حرف كتشديد المخفف أو نقصه كتخفيف المشدد أو القصر في موضع المد أو عكسه.

    وانظر إلى قول ابن مجاهد رحمه الله في كتابه "السبعة" ص (45): "فمن حملة القرآن المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات, العارف باللغات ومعاني الكلمات, البصير بعيب القراءات المنتقد للآثار, فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين.
    ومنهم من يعرب ولا يلحن ولا علم له بغير ذلك, فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ولا يقدر على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه.
    ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم لا يعرف الإعراب ولا غيره, فذلك الحافظ فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده, فيضيع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة, لأنه لا يعتمد على علم بالعربية, ولا بصر بالمعاني يرجع إليه, وإنما اعتماده على حفظه وسماعه.
    وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف فيقرأ بلحن لا يعرفه, وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرىء نفسه, وعسى أن يكون عند الناس مصدقاً, فيحمل ذلك عنه وقد نسيه ووهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه.
    أو يكون قد قرأ على من نسى وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم, فذلك لا يقلد القراءة ولا يحتج بنقله.
    ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار, فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعاً".
    ثم قال: وقد رويت في كراهة ذلك وحظره أحاديث, ثم ذكر منها قول ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
    وقوله: اقرؤوا كما علمتم.
    وقول حذيفة: (اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم, فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً, ولئن تركتموهم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً).
    وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا القرآن كما علمتم).
    وقول أبي عمرو بن العلاء: "لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرىء به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا"
    وقيل لأبي عمرو بن العلاء: {وباركنا عليه} في موضع {وتركنا عليه} في موضع أيعرف هذا فقال ما يعرف إلا أن يسمع من المشايخ الأولين. اهــ
    وواضح جداً من كلامه رحمه الله أن المراد بعبارات أولئك السلف هو ما يتعلق بالإعراب والفتح والضم والكسر, فكل كلامه إنما هو في الإعراب واللحن.

    وأمام هذا الحشد من الشواهد والروايات لا نجد نصوصاً تذكر أن القراءة سنة متبعة عند ذكر ما يتعلق بالأداء بأنواعه كالمدود ومقاديرها والغنن والتفخيم والتغليظ والترقيق والسكت والقلب والتسهيل والإبدال والإمالة والروم والإشمام والإدغام والإخفاء وغير ذلك.
    ومن المعلوم أن القرآن كان في أول أمره غير منقوط ولا مشكول فما أسرع الخطأ في قراءته إلا عمن أخذ عن الشيوخ الماضين فإن القراءة سنة متبعة.

    وقد نقل الشيخ الضباع في "سمير الطالبين" عن العسكري في كتاب "التصحيف" قوله: "إن الناس عبروا يقرؤون في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه نيفاً وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك مروان, ثم كثر التصحيف وانتشر في العراق, ففزع الحجاج بن يوسف إلى كتابه فسألهم أن يضعوا علامات لهذه الحروف المتشبهة...
    ثم قال الضباع: وقد شاهدت كتباً كتبت في العصور الوسطى ولم تنقط من كلماتها شيء أو إلا قليلاً اتكالاً القارئ، والظاهر أن ذلك كان فاشياً في تلك الأزمنة ,وكان النقط لم يلتزم إلا في الأزمنة المتأخرة، وشاهدت أيضاً قطعاً قديمة من صحائف القرآن الكريم بعضها لم يكن به نقط البته، وبعضها فيه نقط الإعجام على الحروف التي لم يختلف فيها القراء دون ما اخلفوا فيه، وبعضها فيه شيء من النقطين معاً. اهـ

    يتبع...

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي

    الثاني عشر: الإجابة عن بعض العبارات التي قد يستدل بظاهرها على أن السلف رحمهم الله كانوا يهتمون بدقائق الأداء.
    نعم قد ورد بعض العبارات التي قد يستدل بظاهرها على أنهم رحمهم الله كانوا يهتمون بدقائق الأداء وتجويد التلاوة, ولكن إنما هي عبارات عامة تدل على اهتمامهم بجودة التلاوة عموماً ووضوح القراءة والفصاحة في النطق بالحروف ونحو ذلك.
    وهذا كله حق وهو مطلوب من كل قارئ ولا شك, وليس في هذه العبارات ولا غيرها البتة أنهم يدعون أن تفاصيل ذلك كله منقول بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    ولم يقل أحد منهم حين يأمر بتلك الجزئيات المتعلقة بتحسين التلاوة: إن القراءة سنة متبعة في ذلك كما سوف يأتي.
    ومن ذلك ما روي عن أبي سعيد المصري المتوفى سنة (191) هـ أنه قال: "قال لي نافع: بيِّن النون في هذه الأحرف إذا لقيتها, عند الحاء والخاء والعين والغين والألف والهاء". ذكره ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/429)

    وقال أبو حاتم: قرأت على يعقوب الحضرمي, فبلغت إلى قوله: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) فقال: يا سهل سمعني صفير السين, وطنين النون, وقعقعة العين".

    وقال عبد الله بن ذكوان كما في "جمال القراء" للسخاوي: "يجب على قارئ القرآن أن يقرأ بترتيل, وترسل، وتدير، وتفهم، وخشوع، وبكاء، ودعاء، وتحفظ، وتثبت، وأن يزين قراءته بلسانه، ويحسنها بصوته، ويعرف مخارج الحروف في مواضعها، ويستعمل إظهار التنوين عند حروف الحلق إظهاراً وسطاً بلا تشديد، وإخراج الهمزة إخراجاً وسطاً حسناً، ويشدد المضاعف تشديداً وسطاً من غير إسراف ولا تعد، وتفخيم الكاف والراء والزاي والخاء والحاء والطاء بلا إفحاش ولا إسراف، وترقيق الراء وتصفية السين، وإظهار طنين النون عند الخاء، وإظهار الهاء وإخراجها من الصدر، وإدغام ما يحسن فيه الإدغام، وإظهار ما يحسن فيه الإظهار" اهـ.

    وقال محمد بن أبي عبد الرحمن المقري: "سمعت رجلاً من أهل العلم يقول: قرأ رجل على مقرئ بواسط, فقال له المقرئ: أقم الهاء, وأسمعني طنين النون, وخرير الخاء, ورو الراء, وأسلس الباء, سمن الصاد, اشقق الكاف, أقم الواو على ذنبها".

    وقال ابن مجاهد: "جثوت بين يدي أبي الزعراء لأقرأ عليه, فقال: إن كنت تقرأ علي فأعط الحرف حقه, وأسمعني خرير الخاء, وطنين الطاء, وععة العين, وبحة الحاء, وصفير السين, ورنين الراء, ولا تمضغ, أو قال: لا تمذق الحرف" اهـ.
    وهذه الآثار السابقة لا شك أنها حق وصواب, فإن القارئ لا محيد له من أن يقرأ القرآن بطريقة صحيحة, فيدغم فيما يحسن فيه الإدغام، ويظهر فيما يحسن فيه الإظهار, ويفخم الراء في مواضع التفخيم, ويرققها في مواضع الترقيق, وأن يعطي الحروف حقها, وأن يخرج الحروف من مخارجها الصحيحة إذا كان أعجمياً فإنه قد يبدل الحاء هاء والتاء طاء أو غير ذلك, وأن تكون الحروف صافية واضحة فيظهر الراء, ويوضح الطاء والنون, ويصرح بالعين ويظهر الحاء ويبين الخاء, كل ذلك بغير تكلف ولا تشدد ولا مبالغة ولا زيادة.
    فإن المطلوب أن تكون القراءة فصيحة صافية جميلة فيها المد والتغني والترتيل وإعطاء الحروف حقها من الإفصاح والوضوح.
    ولو أن عربياً لم يعرف من التجويد والأسانيد حرفاً سمع من يقرأ قراءة ضعيفة ليس فيها إفصاح بالحروف ولا وضوح في القراءة, مع ترقيق ما حقه التفخيم أو تفخيم ما حقه الترقيق من الراء وغيرها, أو سمع إخلالاً بالنطق بإشباع الحركة حتى تصير حرفاً, أو اختلاس الحرف حتى يصير حركة, فإن هذا العربي الذي لم يسمع بالتجويد ولا يدري ما الأسانيد سيقول للقارئ حتماً: وضح القراءة وأفصح بالحروف, وأعطها حقها ولا تختلس الحروف, ورقق الراء هنا وفخمها هنا ومد هذا... الخ.
    والآثار السابقة التي سقتها هي من هذا القبيل.
    وما ورد عن بعض السلف من ذكر المدود والترتيل فإنما هي ألفاظ عامة تدل على أنهم كانوا يرتلون ويتغنون ويمدون وهذا مطلوب ولا شك ولكن من غير قيود عميقة ولا حدود دقيقة.

    قال أبو سعيد ابن الأعرابي المتوفى سنة (340) هـ: "إن العرب كانت تتغنى بالركباني وهو النشيد بالتمطيط والمد إذا ركبت الإبل وإذا تبطحت على الأرض وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها, فلما نزل القرآن أحب النبي أن يكون القرآن هجيراهم مكان التغني بالركباني".

    قال أبو عمرو الداني في "الأرجوزة المنبهة" ص (20):
    والعلم لا تأخذه عن صحفي ولا حروف الذكر عن كتبي
    ولا عن المجهول والكذاب ولا عن البدعي والمرتاب
    وارفض شيوخ الجهل والغباوه لا تأخذن عنهم التلاوه
    لأنهم بِالجهل قد يأتونا بغير ما يروى وما يروونا
    وكل من لايعرف الإعرابا فربما قد يترك الصوابا
    وربما قد قول الأئمه ما لا يجوز وينال إثمه
    ومن تراه يحتذي الطريقا ومن تراه يحتذي الطريقا
    طريـق من مضــى من الأسـلاف أولـي النـهى والعلــم بالخــلاف


    أسأل الله أن يعلمنا العلم النافع, وأن يرزقنا الإخلاص فيه, وأن يعيننا على العمل به وعلى ذكره وشكره, وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, إنه سميع قريب مجيب.
    والله أعلم.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •