الحمد لله العلي الأعلى, خالق السموات العلى, الذي على العرش استوى, والصلاة والسلام على من أنزل عليه القرآن شفاء وهدى, وجاء فيه (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) فبين أن الغاية من إنزال القرآن إنما هو تدبر الآيات, والاستبصار بالعبر النازلات, لا إفناء الأعمار الغاليات في الغنن والإمالات, ولا الروم والإشمامات, ولا السكت على الساكن قبل الهمزات, ولا غير ذلك من الأمور الغريبات.
والصلاة والسلام على خير البرية, والذي طلب من ربه مراراً أن يهون القراءة على أمته, حتى أذن له أن تقرأ أمته القرآن على حروف كثيرة (أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا), ليزيل عنهم العنت والحرج في قراءته.
ولكن أقواماً من أمته أبوا ذلك التيسير والتهوين, واختاروا التعسير والتهويل, وسلكوا في تعلم وتعليم القراءة ما يشق مشقة بالغة, وخاضوا في دقائق وتفاصيل ما كان السلف الكرام يخوضون فيها, وأوغلوا فيها إيغالاً عظيماً, وأفنوا فيها الأوقات والأعمار, وأشغلهم ذلك عن كنوز من المعارف والهدايات, والمعاني المستعذبات, لو ذاقوا شيئاً منها لزهدوا فيما هم فيه من المبالغات والمسالك الوعرات الشائكات.
قال أبو عبد الله الزعفراني: "ومن القراء المستأخرين نفر أحدثوا قراءة سموها قراءة الوزن، فأقاموا لأنفسهم بذلك سوقاً، وآذوا المتعلم إيذاء شديداً، وتعنتوا تعنتاً كبيراً، وأوهموه أنه ليس يستدرك ما قد استدركوه، فكان المتعلم إذا سكن الحرف تسكيناً خفيفاً قالوا له: حركت، وإذا بالغ في التسكين قالوا: وقفت، وإذا شدد تشديداً متوسطاً قالوا له: لم تحقق، وإذا بالغ في التشديد قالوا: اتكأت عليه، وإذا بين الألف بياناً خفيفاً قالوا: لم تخرجها من مخرجها، وإذا زاد في البيان قالوا: نفخت فيها، إلى أشياء لهم يعنتون بها المتعلم, وذلك كله مهجور متروك عندنا, لم يتعاطاه المتقدمون ولم يسنوه، ولم يتعلموه ولم يعلموه ، بل كانت قراءتهم محققة غير متجاوزة للحد". ذكره الأندرابي في "الإيضاح" ص (350)
أما بعد:
فقد اشتهر عن بعض السلف قولهم: (القراءة سنة متبعة).
وقد ورد هذا المعنى عن علي بن أبي طالب, وعبد الله بن مسعود, وزيد بن ثابت, وعروة بن الزبير, وعمر بن عبد العزيز, ومحمد بن المنكدر, وعامر الشعبي وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
فعن علي بن أبي طالب t أنه قال: (إن رسول الله r يأمركم أن يقرأ كل رجل كما علم).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إني سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم، وإياكم والاختلاف والتنطع).
وقال زيد بن ثابت: (القراءة سنة).
وقال أيضاً: (القراءة سنة فاقرءوا كما تجدوه).
وقال عروة بن الزبير: (إن قراءة القرآن سنة من السنن, فاقرؤوه كما اقرئتموه).
وقال عمر بن عبد العزيز: (قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول).
وقال محمد بن المنكدر: (قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول).
وقال عامر الشعبي: (القراءة سنة, فاقرؤوا كما قرأ أولوكم).
ولم أخَرِّجْ تلك الروايات, لأنها ثابتة عن السلف ومشهورة جداً, ومعناها صحيح لا ريب فيه, فإن قراءة القرآن سنة متبعة, ليس لأحد أن يقرأ من تلقاء نفسه, ولا أن يقرأ كيفما اتفق, بل ليس له أن يقرأ إلا كما قرأ من قبله.
ولا يمكن أن يستقل القارئ بمجرد المكتوب, فإن الرسم قد ينطق على أوجه كثيرة, ولأن رسم المصحف يختلف عن غيره كما هو معلوم, فلا تصح القراءة إلا بالكيفية التي قرأ بها القراء الأولون.
أرأيت مثلاً كلمة (الصلوة) المكتوبة في المصحف, وكذلك (الزكوة), و(مشكوة) و(الحيوة) و(الربوا) و(النجوة) و(منوة) وغيرها كثير لا يمكن أن تقرأ كما هو مكتوب, لأن القراءة سنة متبعة.
وقد اشتهر عند مشايخ القراءات والتجويد منذ زمن بعيد أن معنى قول السلف رحمهم الله: (القراءة سنة متبعة) أنها سنة متبعة حتى في تفاصيل الأداء وصفة التلاوة والمدود ومقاديرها والإظهار والإدغام والإخفاء والغنن والتفخيم والترقيق, وغير ذلك مما هو من قبيل الأداء.
وهذا المفهوم لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام أي من السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.
والحقيقة أن مقصود السلف رحمهم الله بقولهم: (القراءة سنة متبعة) إنما هو ما يتعلق بالإعراب والحركات, وما يختلف به النطق عن الكتابة, كالأحرف المقطعة, وكلفظ الصلاة والزكاة ونحو ذلك, فالقرآن لا يقرأ إلا مشافهة على الشيوخ, ولا يتلقى من المصحف مباشرة, مع أن كثيراً من ألفاظ القرآن هي ألفاظ عربية يتفق فيه النطق والرسم, فكل من يتكلم اللسان العربي يقرؤها بكل يسر وسهولة ووضوح.
وسوف أسوق جمعاً من الروايات الدالة على أن ذلك هو المراد, ليتبين أن هذا المعنى الذي يكثر من ترداده أهل التجويد المتأخرون إنما هو معنى مقحم زائد لا أصل له من أقوال السلف وليس عندهم عليه أي دليل.
وتلك الروايات كلها تدل على أن أولئك القراء السابقين إنما كانوا يقصدون بقولهم: (سنة متبعة) ما كان يتعلق بالحروف والحركات وكيفية نطق الكلمة, وليس ما يتعلق بطريقة التغني والترتيل والأداء والتجويد, ويتبين ذلك جلياً من سياق كلامهم وأنهم لا يريدون إلا هذا المعنى وليس للمعنى الآخر أي ذكر.
وسوف أعرض الموضوع الآن وفق العناوين التالية:
أولاً: الروايات التي توضح مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة).
ثانياً: ما يدل على ذلك من كلام العلماء الذين يذكرون أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.
ثالثاً: أن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ, وليس ما له علاقة بطريقة الأداء.
رابعاً: أن السلف رحمهم الله ما كانوا يُحَذِّرون إلا من اللحن في القراءة وكانوا يحضون على إعراب القرآن.
خامساً: المراد بإعراب القرآن في هذه الآثار.
سادساً: أنهم كانوا ينكرون على من يلحن في القراءة, ويشددون في ذلك.
سابعاً: المراد باللحن في القراءة.
ثامناً: أنهم كانوا يتلقون القراءة وينقطون مصاحفهم على قراءة قرائهم.
تاسعاً: قصة وقعت للكسائي رحمه الله فيها دلالة.
عاشراً: أنهم كانوا يُحَذِّرون من تلقي القرآن ممن يأخذه من المصحف مباشرة دون تلقي.
الحادي عشر: أن عنايتهم كانت منصبة فيما يتغير به اللفظ, وليس في طريقة أداء اللفظ.
الثاني عشر: الإجابة عن بعض العبارات التي قد يستدل بظاهرها على أنهم رحمهم الله كانوا يهتمون بدقائق التجويد.
ويتخلل ذلك نقولات وعبارات فيها دلالة وفائدة.
فأقول مستعيناً بالله :
أولاً: الروايات التي توضح مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) أو نحوها من الألفاظ.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في "البخاري" (4415): "(هَيْتَ لك) وإنما نقرؤها كما علمناها".
وعن شقيق، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ {هيت لك} فقال شقيق: إنا نقرؤها (هئت لك) يعني فقال ابن مسعود: (أقرؤها كما علمت أحب إلي). أخرجه أبو داود (4/38)
وقال أبو عمرو البصري: "ما قرأت حرفاً من القرآن إلا بسماع واجتماع من الفقهاء، وما قلت برأيي إلا حرفاً واحداً، فوجدت الناس قد سبقوني إليه (وأملي لهم)". أخرجه الداني في "جامع البيان" (1/105).
وذكره الهذلي في "الكامل" ص (65) بلفظ (والله ما قرأت حرفاً إلا بأثر إلا قوله: (إِنْ هَذَانِ) فوجدت الناس قد سبقوني إليه).
وقال أبو عمرو أيضاً: "لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرىء به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا". أخرجه ابن مجاهد في "السبعة" ص (48), والداني في "جامع البيان" (1/106)
وقال الكسائي: "لو قرأت على قياس العربية لقرأت (كبره) برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر". انظر: "جامع البيان" للداني (1/85)
وقال الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: (وبركنا عليه) في موضع (وتركنا عليه) في موضع أيعرف هذا؟ قال: ما يعرف، إلا أن يسمع من المشايخ الأولين". أخرجه ابن مجاهد في "السبعة" ص (48), والداني في "جامع البيان" (1/108)
وسئل يونس بن حبيب عن قوله: (أُقِّتَتْ) قال: سمعت سيدنا وسيد العلماء يقرأها: (وُقِّتَتْ) (يقصد أبا عمرو البصري). انظر: "الكامل" للهذلي ص (66)
وقال الأصمعي، قال: سمعت نافعاً يقرأ (يقص الحق), فقلت لنافع: إن أبا عمرو يقرأ (يقض)، وقال: القضاء مع الفصل، فقال: وي يا أهل العراق! تقيسون في القرآن. انظر: "جامع البيان" للداني (1/83)
وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة لمالك بن أنس: لم قرأتم في ص (ولي نعجة وحدة) موقوفة الياء، وقرأتم في (قل يأيها الكافرون) (ولي) منتصبة الياء؟
فقال مالك: يا أهل الكوفة لم يبق لكم من العلم إلا كيف ولم، القراءة سنة تؤخذ من أفواه الرجال، فكن متبعاً ولا تكن مبتدعاً. انظر: "جامع البيان" للداني (1/84)
وقال القعنبي: قيل لمالك بن أنس: كيف قرأتم في سورة سليمان (ما لي لا أرى الهدهد) مرسلة الياء، وقرأتم في سورة يس (وما لي لا أعبد) منتصبة الياء؟ قال: فذكر مالك كلاماً، ثم قال: لا تدخل على كلام ربنا لم وكيف، وإنما هو سماع وتلقين، أصاغر عن أكابر، والسلام". انظر: "جامع البيان" للداني (1/84)
وعن شبل بن عباد، قال: "كان ابن محيصن وابن كثير يقرءان (وأن احكم), (وأن اعبدوا), (أن اشكر), (وقالت اخرج), (قل رب احكم), (رب انصرني), ونحوه، فقال شبل بن عباد: فقلت لهما: إن العرب لا تفعل هذا ولا أصحاب النحو، فقال: إن النحو لا يدخل في هذا، هكذا سمعت أئمتنا ومن مضى من السلف". أخرجه الداني في "جامع البيان" (1/82). وانظر: "الكامل" للهذلي ص (52)
وعن حمزة قال: "قلت للأعمش: إن أصحاب العربية قد خالفوك في حرفين، قال يا زيات: إن الأعمش قرأ على يحيى بن وثاب, ويحيى بن وثاب قرأ على علقمة، وعلقمة قرأ على عبد الله، وعبد الله قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عندهم إسناد مثل هذا, ثم قال: غلب الزياتون غلب الزياتون". أخرجه الداني في "جامع البيان" (1/82).
وقال الأصمعي: "سألت نافعاً عن (الذئب) و(البئر) فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما". انظر: "السبعة" ص (346)
فكل هذه الروايات قد أشارت إلى أن القراءة سنة متبعة يتبع الآخر فيها الأول, ولم يأت في أي منها ذكر لطريقة الأداء أو إشارة إليه, وإنما تتفق كلها على ذكر الاختلاف في الأحرف والإعراب والحركات فعلى أي شيء يدل هذا ؟
ثانياً: العلماء يذكرون دائماً أن القراءة لا يتجاوز بها طريقة الماضين وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة.
قال ابن جرير الطبري في "تفسيره" (22/146): "وغير جائز في القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في العربية، لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية، وجاء به السلف على النحو الذي أخذوا عمن قبلهم".
وقال ابن مجاهد في كتاب "جامع القراءات, كما في كتاب "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" ص (359): "ولم أر أحداً ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية يرخصون لأحد في أن يقرأ بحرف لم يقرأ به أحد من الأئمة الماضين، وإن كان جائزاً في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه أشد النهي، ويروون الكراهية له عمن تقدمهم من مشايخهم".
وقال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (2/670): "وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها".
وقال أبو عمرو الداني أيضاً في "شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني:
"عرض القرآن على أهل القراءة المشهورين بالإمامة المختصين بالدراية سنة من السنن التي لا يسع أحداً تركها رغبة عنه، ولا بد لمن أراد الإقراء والتصدر منها، والأصل في ذلك ما أجمع العلماء على قبوله وصحة وروده … فكل مقرئ أهمل العرض واجتزئ بمعرفته - أي اكتفي - أو بما تعلم في المكتب من معلمه الذي اعتماده على المصحف أو على الصحائف دون العرض أو تمسك فيما يأخذ به ويعلمه بما يظهر له من جهة إعراب أو معنى أو لغة دون المروي عن أئمة القراءة بالأمصار المجتمع على إمامتهم فمبتدع مذموم مخالف لما عليه الجماعة من علماء المسلمين تارك لما أمر به رسول الله r قراء القرآن من تلاوته بما علمه وأقرئ به، وذلك لا يوجد إلا عندما يكون متواتراً ويرويه متصلاً فلا يقلد القراءة من تلك الصفة ولا يحتج بأخذه" اهــ.
وهذا حق وصواب, فمن اعتمد على المصحف دون العرض أو تمسك فيما يأخذ به ويعلمه بما يظهر له من جهة إعراب أو لغة دون المروي عن أئمة القراءة فهو مخالف لما عليه الجماعة من علماء المسلمين تارك لما أمر به رسول الله r قراء القرآن من تلاوته بما علمه وأقرئ به.
وهذا يؤكد أن مقصود السلف رحمهم الله بقولهم: (إن القرآن سنة متبعة) أن لا يستقل القارئ بمجرد المكتوب فإن الرسم قد ينطق على أوجه كثيرة فلا يصح إلا بأن تؤخذ القراءة عمن سلف, وليس معنى هذا أن ينظر إلى كيفية أداء القارئ بكل تفاصيله فيقلده في كل شيء, في مدوده وغننه وكيفية إخراجه للحروف وغير ذلك, فإن هذا لا دليل عليه فضلاً عن كونه في غاية العسر والمشقة والحرج, ولا يمكن انضباطه بين اثنين فضلاً عن عشرات ومئات بالأسانيد.
وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (13/399): "السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف مرجعه إلى النقل واللغة العربية, لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله, إذ ليس لأحد أن يقرأ بمجرد رأيه, بل القراءة سنة متبعة, وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي, وقد قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء, لم يكن واحد منهما خارجاً عن المصحف, ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ويتنوعون في بعض".
فيفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله أن القرآن سنة متبعة في مثل القراءة بالتاء أو الياء أو الحركات الإعرابية ونحو ذلك, أما طريقة الأداء والترتيل والتغني والمدود وغيرها فهي راجعة إلى القارئ نفسه.
يتبع...