طالبُ العلم .. والتخصص
التاريخ العلمي يُوقِف المطالع على تفسير نشوء المفاهيم ومراحل تطورها، ومن هنا كان أداةً رئيسةً لفهمها وتحليلها وتقويمها، كما أن العلم بإشكال المفاهيم يُعدُّ أداة مُثلى لتحريض الذهن على معالجتها والبحث في أغوارها، لأن العلم بإشكالها يحرِّك الذهن إلى مطلوب، وبفراغ الذهن عن أي استشكال تتوقف حركته .. لأيِّ شيءٍ يتحرَّك؟!
******
ومفهوم التخصص من تلك المفاهيم التي اتَّسم البحث فيها بضعف الإحاطة بتاريخها وإشكالها، ولأنه من المفاهيم الفاعلة في مختلف الحقول العلمية، فقد تباينت الرؤى حوله ومدى الحاجة إليه، بل امتد البحث فيه ليبلغ محزَّ النظر في مشروعيته المنهجية، وما ذلك إلا لكون مفهوم التخصص لم ينضبط عند المختلفين فيه، سواء كان ذلك لأسباب خارجةٍ عن ماهية المفهوم متعلقةٍ بتاريخه، أو لأسباب داخلية تتعلق بإشكال مفهوم التخصص وتمثيله معادلة صعبة ليس من الهين حلها.
وحتى نقترب من نظرة سواء عن التخصص فلنمهِّد بأنَّ من المعلوم أن مصدر العلوم كلها هو الوحي، ولم يكن المسلمون في العهد الأول يعرفون هذه العلوم بتصنيفها الحالي، بل كانت العلوم عندهم لحمة واحدة، ووشائج مترابطة، والعلمُ كان هو الفقهَ في الدين بشتى موضوعاته، وإنْ كانت بعض العلوم تتمثل على هيئة اهتمامات عند بعض علماء الصحابة، فمعاذ بن جبل له اختصاصٌ بالحلال والحرام، ولابن عباس اختصاصٌ بالتفسير، ولزيد بن ثابت اختصاصٌ بالفرائض، وهكذا، لكنَّ هذه الاختصاصات كانت في ذهنيَّة ذلك العهد تُمثِّل اهتمامًا بموضوعاتٍ داخلَ علم، ولم تكن تظهر بصفتها اختصاصاتٍ تُحيِّز هذه الموضوعات لتكون علومًا مفردَةً بمناهجَ ومصنفاتٍ مستقلة، ويمكننا القول بأن التخصص في هذه الحقبة لم يكن قسيمًا للتوسع، لأن مفهوم التوسُّع مرتبطٌ بمفهوم المصادر وتعدُّدها، والمصادر حينذاك منضبطة المفهوم، ولم تكن إلا الكتاب والسنة، فلم تكن ثنائية التخصص/التوسع حاضرةً على هيئة متضادَّة، لأن وحدة المصدر وانضباطه في عهد الصحابة كان يقتضي من عالمهم وطالبهم أن يتجه إليه بكلِّيَّته وإن أرخى فكره ووسَّع نظره في جوانبَ منه، لكنْ في الأزمنة التي تلت زمنهم صار للمصدر الموحَّد فروعٌ مولَّدة، وهذا ما حدا ببعضهم إلى الاستقلال بفرع اغترارًا بتحيُّزه عن مصدره الأصل، وظنِّهِ إمكانيَّةَ التحقيق فيه إذا ما اعتزل به، وهنا مربط الفرق.
أمَّا لماذا تولَّدت هذه الفروع المصدريَّة واستقلَّت، فللجواب عن ذلك جملةُ معطياتٍ كان لمجموعها إسهامٌ في نشوء هذه الفروع، أو بعبارة أدق: إسهامٌ في استقلالها، وإلا فنشوءُها مرتبطٌ بنشوء المصدر الأم، وما هي إلا تمثُّلاتٌ لجوانبَ منه.
فمن تلك الأسباب اشتهار بعض العلماء بعلومٍ معينة - مع درايتهم بغيرها - إلا أن طلابهم عُنُوا في المقام الأول بالنهل مما اشتُهِر به أشياخهم، ولذلك تجد مثلًا جمهورَ الأحرف المنقولة عن ابن عباس رضي الله عنه متعلقةً بالتفسير، وجمهورَ ما نقِل عن عليٍّ رضي الله عنه متعلِّقًا بالفقه، مع إمامة ابن عباس في الفقه وإمامة عليٍّ في التفسير، وهذا التمايزُ الكمِّيُّ له أثرٌ ولا بُدَّ في التصنيف العلمي، وذلك ساعد في اتساع رقعة التخصصات المختلفة، فكان لابن عباس مدرسة تفسيرية مكية، وكان لعليٍّ مدرسة فقهية كوفية.
كذلك فإنَّ مع مرور الزمن وتقلُّب الجيل ظهرت على السطح ثغراتٌ علمية استدعت سدَّها بإحالة العلوم التي كانت في العهد الأول مَلَكاتٍ لتكون صناعاتٍ، ففسادُ اللسان أفضى إلى تصنيع علوم اللغة، وفسادُ نظام الاستدلال أفضى إلى تصنيع علم أصول الفقه، وبدءُ فشوِّ الكذب كان تمهيدًا لتصنيع علوم الحديث .. وهذه العلوم في حقيقتها غاياتٌ من الوحي أو وسائلُ إليه، فلم تكن أجنبية عنه، لكنَّ تأخُّرَ تدوينها وتصنيعها أفرزه نضوب الملكات عند أهل الزمان اللاحق، فلم يكن تدوينها في أول الأمر فضولًا واختيارًا مسرَّحًا عن قبضة الحاجة، بل كان استجابةً لِمُثير وسدًّا لثغرة.
******
أما عن كون مفهوم التخصص يمثِّلُ معادلة صعبة فيلخِّصه عبدالوهاب المسيري بقوله: (فردٌ واحدٌ لا يستطيع أن يستوعب نتائج العلوم لكثرتها وتشعبها، وفردٌ واحدٌ هو الذي ينبغي أن يتوصَّل إلى كشف علمي أو نظرية واحدة لتفسير النتائج التي توصلت إليها العلوم المختلفة)[1] .. وهذه المعادلة لا ينبغي مجاوزتها بفتور حين مداولة ثنائية التخصص/التوسع، فإنها تمثل إشكالًا وعرًا لمناصري كلٍّ من التخصص والتوسع، فبما أن علوم الشريعة روابط متصلة، (يتعلَّق بعضها ببعض، ولا يستغني منها علمٌ عن غيره)[2]، فلا يمكن تسجيل نتيجة فيها والمرء متعلق برابطة دون أخرى[3]، وفي الوقت نفسه فمن العسير جدًّا أن يشرف المرء على كافة الروابط، بَلْهَ التحقُّقَ من صدقها واختبار سلامتها، نحن إذًا أمام ضرورتين، ضرورة التوسع وضرورة التخصص!
أين السبيل للخلاص من إعضال هذه المعادلة؟
كلما تعقَّد المفهوم لديك فاضرب على وتر التمييز بين مراتبه، وأَنزِل كلَّ مرتبة منزلتها التي تستحقها، فما انضبط لديك فاعتمده، وإلا فسرِّحه إلى بقعة الإمكان، وإذا نظرنا في ثنائية التخصص/التوسع وما كان عليه علماء الإسلام فلا يمكننا أن نصادم التاريخ ونطلق القول بأن طريقة السلف كانت هي التوسّعَ العلميَّ وعدمَ الاعتراف بهذه الحدود العلمية والصناعات المعرفية، كما لا يمكننا إطلاق القول بأن طريقتهم هي التخصص العلمي المحض .. بل كان ثنائية التخصص/التوسع خاضعةً لاعتبارات نسبية تمتزج فيها القدرة الذهنية بالحاجة المعرفية بالحقل العلمي بيئةً وطلابًا وعلماءَ، ويمكننا من حيثُ الإجمال تقرير أمور:
1. أنَّ العلماء قاطبة مقرُّون باتساع العلم، وتشعُّب أوديته، وأنَّ أحدًا ليس بمقدوره التسلُّطُ على شتى مسائله بالفقه والدراية، ولذلك تنوعَّت كلماتهم في حلِّ هذا الإعضال بحسب المحذور الذي انقدح في أذهانهم.
فمنهم من قدَّر أن اتساع العلم ربمَّا أدَّى ببعض الطلبة إلى المسارعةِ في تحصيله والعَبِّ منه لتطويقه، فتكلَّم بما يرشِّد هذا التحصيل المتعجِّل، وأنَّ العلمَ ليس يتطامن لمثل هذه المسارعات، ومن أولئك الإمامُ الزهريُّ، فقد قال ليونس بن يزيد: (يا يونس لا تكابر العلم، فإن العلم أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي)[4].
ومنهم من قدَّر أن اتساع العلم ربَّما أغرق الطالب في لججه، وقذف به في مَهَامِهِ أوديته، فأوصى بأن يتجه اهتمام الطالب إلى أنفعه، ولذلك قال حبر الأمة ابن عبَّاس رضي الله عنه: (العلم أكثر من أن يحاط به، فخذوا منه أحسنه)[5].
وفي هذا السياق يقول ابن الجوزي: (رأيت الشَّرَه في تحصيل الأشياء يُفَوِّتُ على الشَّرِهِ مقصودَه) .. ولما ضرب لذلك مثلًا في العلم وتحصيله قال:
(فإن قال قائل: أليس في الحديث: "منهومان لا يشبعان .. طالبُ علمٍ وطالبُ دنيا"؟
قلت: أمَّا العالم فلا أقول له اشبعْ من العلم، و لا اقتصرْ على بعضه.
بل أقول له: قَدِّم المهم، فإن العاقل من قدَّر عمرَه وعَمِل بمقتضاه، و إن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل فقد أعدَّ لكلِّ مرحلةٍ زادًا، و إن مات قبل الوصول فنيَّته تسلك به) [6] .. وهو القائل: (اعلم أنه لو اتَّسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علمٍ إلى منتهاه، غير أنَّ العمرَ قصير، والعلمَ كثير)[7].
ومنهم من قدَّر أنَّ في الاشتغال بشتى جوانب العلم تضييعًا لدقائقه، فأوصى بأن لا يجرف تيارُ الاتساعِ الطالبَ عن تلمُّسها، ومن هنا قال الشافعي: (من تعلَّم علمًا فليدقِّق فيه، لئلَّا يضيع دقيقُ العلم)[8].
ومنهم من قدَّر أنَّ اتساع العلم ربما أغرى الطالب بأخذ نُتَفٍ من جوانبه دون تحقيقٍ لمسائله، وأنَّ هذه النتفَ تكفي للوقوف على حقائق العلم، وأن ينال المرء منزلة العالِـميَّة، فدفعًا لمثل ذلك قيل: (إذا أردت أن تكون عالـمًا فاقصد لفنٍّ من العلم، وإن أردت أن تكون أديبًا فخُذْ من كلِّ شيء أحسنَه)[9] .. ولما ترجم الذهبي لابن الجوزي مَسَّه بقوله: (ومع تبحُّر ابن الجوزي في العلوم، وكثرة اطلاعه، وسعة دائرته، لم يكن مبرِّزًا في علم من العلوم، وذلك شأنُ كلِّ مَن فرَّق نفسه في بحور العلم)[10].
2. أنَّ تمييزَ العلوم وتصنيفَها لم يكن محلَّ نقدٍ عند العلماء، فهو ضربٌ من التراتيب العلميَّة التي تقرِّبها الحاجة وتدنيها مظنَّة النفع والضبط، وإنما كان محلُّ نقدهم هو التوجُّهَ إلى علم من العلوم مع الإعراض عن سائرها، لأن الإعراض فرعٌ عن الجهل بحقيقة هذه العلوم التي تحيَّزت، وأنها كانت كتلةً واحدةً، آخذًا بعضها بـحُجَز بعض، وإنما فتَّتها ما تقدَّم ذكره، ومن الأخبار المليحة في ذلك ما حدَّث به سهل بن محمد السجستاني، فقد قال: (ورد علينا عاملٌ من أهل الكوفة، لم أرَ في عمال السلطان بالبصرة أبرعَ منه، فدخلت مُسلِّمًا عليه، فقال لي: يا سجستاني مَن علماؤكم بالبصرة؟) .. فعدَّد عليه سهل بن محمد علماء البصرة، كلٌّ حسب تخصصه، فطلب الكوفيُّ من كاتبه أن يجمعهم، فجمعهم من الغد، وأخذ الكوفي يسأل كل عالم مسألة من غير تخصصه، فلم يجيبوه بشيء، بل صرَّح كلٌّ منهم بعدم اختصاصه، فقال في ختم حلقة المساءلات هذه:
(ما أقبح الرجلَ يتعاطى العلم خمسين سنةً لا يعرف إلا فنًّا واحدًا، حتى إذا سئل عن غيره لم يَجُلْ فيه ولم يَمُرَّ، ولكنَّ عالـمَنا بالكوفة الكسائيَّ لو سُئِل عن كلِّ هذا لأجاب)[11].
3. أنَّ العلومَ وإن كانت بادئَ الأمر متَّحدةً فذلك لا يعني أنَّ كلَّ علمٍ لا يتأتَّى فهم مسائله إلا بالنظر في غيره، فإنَّ التمييز الحاصل بين العلوم كان تمييزًا واعيًا، ملاحظًا للمصدر الأساسيِّ والفرع التخصصيِّ، ومن هنا أمكن أن يكون لكلِّ علمٍ اختصاصًا بحدود منهجيَّة لا اعتباطيَّة، وبالتالي أمكنَ أن يكون لكل علمٍ مختصِّين قاصرين عن حذق باقي العلوم، والبحث هنا لا يتعلَّق بمدح ولا قدح، ولكنه توصيفٌ لما يمكن أن يَزِنَ النظرَ في مفهوم التخصص وإشكاله.
فثمة مساحاتٌ من كل علمٍ يمكن الإشراف عليها والتحقيق فيها مع قصور النظر والتحقيق في العلوم الأخرى، كما أنَّ هناك مساحاتٍ لا يمكن التحذُّق فيها إلا بتجاوز حدود التخصص، أمَّا التحقيق في كل علم على وجه الكمال فلا يكون إلا باتساع النظر ليشمل سائر العلوم.
وإنما قرَّرت هذا الأمر لأنك تجد في علماء الإسلام مَن كان إمامًا في فنٍّ مع قصوره في علوم أخرى، وهذا وإن جرَّ النقص عليه في جوانبَ من أبحاث تخصصه إلا أنه لم ينزع عنه الإمامة فيه، وأنا أضرب لذلك مثلين:
(1) حمَّادُ بن أبي سليمان، فقيهُ العراق، أنبلُ أصحاب إبراهيمَ النخعيِّ، وأقيسُهم، وأبصرُهم بالمناظرة والرأي، وهو شيخُ فقيه الدنيا أبي حنيفة، ومع إمامته في الفقه، وتواتر الثناء عليه في ذلك، إلا أنه لم يكن ذا باع في الحديث، وليس الشأن في عِزَّة روايته، فإنه لم يكن مكثرًا منها لأنه مات قبل أوانه، لكنه كان ذا قصور في الأثر، حتى قال أبو حاتم الرازي: (هو مستقيمٌ في الفقه، فإذا جاء الأثر شوَّش)[12] .. وهذا لم يكن قادحًا في إمامة حماد في الفقه، لكنه مؤثِّرٌ سلبًا في جوانبَ من فقهه لاشتراك أرضيَّة الرأي والأثر فيها.
(2) إمامُ الحرمين الجوينيُّ، شيخُ الشافعيَّة، وجوهرة الأصوليين، كان إمامًا في الفقه وأصوله، لا يُبارى، لكنه قليل البضاعة في الحديث حتى قال عنه الذهبيُّ: (كان هذا الإمامُ مع فرط ذكائه وإمامتِه في الفروع وأصول المذهب وقوَّة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به، لا متنًا ولا إسنادًا)[13] .. وعدم درايته لم ينزع عنه إمامته الفقهية والأصولية، وإن مسَّه ذلك بضربٍ من القصور فيهما.
فإذا تقرَّرَ أنَّ العلمَ أكبرُ من أن يحاط به، وأنَّ العلماءَ لأجل ذلك أوصوا طلابهم بعدم مكابرته وعدم تَطَلُّبِ الاستيلاء عليه جملة واحدة، وأن يُعنى بأنفعه وأحسنه، وألا يضيع الطالب في مفاوزه حتى لا يُفوِّتَ عليه مقصوده منه، وأنَّ عليه إذا طلب أن يدقِّق، لئلا يضيع دقيق العلم، وأنَّ الطالب لن يبلغ أن يكون عالـمًا إذا كان يتخيَّرُ الأحسن من كل شيء، فهذا شأن الأدباء، وإنما العلم بتحقيق النظر في مسائل العلم ..
وإذا تقرَّر أنَّ من المعيب مع ذلك أن يقبل الطالب بكلِّيَّته على علمٍ مع الإعراض عن سائر العلوم ..
= إذا تقرَّر هذا وذاك فما القدر المجزئ الذي يُحصِّل به الطالبُ الأنفعَ والأحسنَ، ويَبلُغُ به أن يكون عالـمًا، ويخرجُ به من معرَّة الإعراض المفضي إلى الجهل؟
يقدِّم ابن حزم إجابةً واعيةً بحجم الإشكال، فيقول أولًا:
(من اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضُحْكة، وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه أكثرَ مما أدرك منه لتعلق العلوم بعضها ببعض، وأنها دَرَجٌ بعضها إلى بعض.
ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر، ولا يحصل على شيء، وكان كالمحضر إلى غير غاية، إذ العمر يقصر عن ذلك)
ثم أجرى نظره ابتغاءَ حلٍّ للخروج من بين مطرقة الجهل وسندان الحسرة، فقال:
(لِيأخُذْ من كل علم بنصيب، ومقدار ذلك معرفته بأعراض ذلك العلم فقط، ثم يأخذ مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه، ثم يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحيلته، فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر، على قدر زكاء فهمه، وقوة طبعه، وحضور خاطره، وإكبابه على الطلب، وكل ذلك بتيسير الله تعالى)[14].
فيميِّز ابن حزم بين مرتبتين، التوسُّعِ والتخصُّص، ويجعل منهما مرتبتين متكاملتين لا متمانعتين، فلأن العلم بحور فلْيَقف الطالب من كل علمٍ على أعراضه، ويأخذ منه ما لا بُدَّ منه، ولئلا يكون علم الطالب مجرد إشراف على أعراض العلوم وضرورياتها مع تنكُّب دقائقها ومحرَّراتها فليتوجَّه بهمِّه إلى جانبٍ من العلم، وليكن واحدًا أو اثنين أو أكثر، حسب طاقته، فيستكثر منه ما أمكنه.
وهاهنا أمورٌ منهجيَّةٌ تصلح أن تكون تمامًا للإجابة الحزميَّة، وهي: