يهود وشيعة:
الشيعية الصهيونية
في عام 586 ق م اجتاحت قوات الملك البابلي نبوخذ نصر بلاد الشام وقصدها الإجهاز على الوجود اليهودي في فلسطين بعد أن كثرت ثورات اليهود وأصبحوا عامل فوضى وعدم استقرار من خلال الثورات العديدة التي أشعلوها ضد الحكم الكلداني، وفي عملية عسكرية للملك البابلي تم تدمير مدينة أورشليم ولا سيما الهيكل قبلة اليهود، وقتل من قتل من اليهود ثم أتبع ذلك بأسر من بقي من اليهود في فلسطين وساقهم أسارى إلى بابل ليبدأ ما يعرف بالتاريخ باسم (السبي البابلي) الذي كان له أبلغ الأثر على الشخصية اليهودية وعقيدتها فيما بعد، وفي ذلك العصر
-عصر السبي- بدأ اليهود بكتابة أسفار التلمود وصياغة نظرياتهم التلمودية حول المسيح المنتظر وعودتهم من السبي إلى فلسطين ليبنوا الهيكل ثم يظهر فيهم المسيح ليحكموا من خلاله العالم من أورشليم.
انتهى السبي البابلي بعيد سقوط المملكة الكلدانية على يدي قورش الأول ملك الفرس الإخمينيين الذي سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين سنة 536 ق م وردَّ لهم نفائس الهيكل التي سلبها منهم نبوخذ نصر وبذل لهم الأموال لإعادة بناء الهيكل. فكانت هذه الحادثة السبب الرئيسي في وجود ذلك الرابط العميق عبر الزمن الذي جمع اليهود بالفرس. فقورش لم يتأر فقط لأورشليم ويهدم بابل بل أعاد اليهود وعوضهم وساعدهم على إعادة بناء الهيكل فكان الفرس بذلك هم أصحاب وعد بلفور الأول.
عاد اليهود إلى فلسطين محملين بنبوءات أنبيائهم السابقين: ارميا واشعيا الذين تنبؤا سابقًا بوقوع السبي وانتهائه، وأن اليهود سيعودون ثانية إلى فلسطين وسيعيدون بناء الهيكل وسيظهر بينهم (الماشيَّح) المسيح المنتظر من نسل داوود والذي سيحكم العالم من أورشليم من كرسي داوود، وقد تحقق بالنسبة لليهود الجزء الأول من النبوة حيث أعادوا بناء الهيكل ولبثوا بعدها قرونًا ينتظرون المسيح الذي وُعِدوا به، وعندما ظهر عيسى بن مريم فيهم بلقب المسيح وجدوا أن مواصفات مسيحهم المنتظر تختلف عن المسيح بن مريم فهو ليس بملك ولا يملك قوة ولم يأتهم بما انتظروه فكفروا به وكذبوه ثم تأمروا عليه وسلموه للحاكم الروماني ليصلب كما شبَّه لهم. فنتج عن ذلك ظهور المسيحية كدين آخر ازاء اليهودية. وبعد غيبة المسيح دخل المسيحيون في طور الانتظار مثل اليهود لعودة المسيح ثانية إلى الأرض لينتقم من أعدائهم.
وخلال القرن الميلادي الأول فإن المسيح اليهودي لم يظهر بل الذي حدث أن الرومان وبعد أن أعياهم الوجود اليهودي في فلسطين والقلائل والثورات التي قام بها اليهود ضد الحكم الروماني قر قرار الامبراطور هادريان سنة 132م على إنهاء الوجود اليهودي في فلسطين فكانت حملته التي هدم فيها الهيكل وأورشليم وطرد اليهود منها وحرم عليهم السكن فيها مطلقًا تحت عقوبة القتل، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الشتات اليهودي في أصقاع الأرض وبقيت أحلام العودة وبناء الهيكل وظهور المسيح المنتظر عبر الزمن محور العقيدة اليهودية وإن اختلفت فرقهم وطوائفهم.
الهرمسية والغنوصية:
خلال العصر الهلنستي (333 – 30 ق م) الذي ابتدأ في الشرق بغزو الإسكندر المقدوني وانتهى مع الغزو الروماني وسقوط السلوقيين في سوريا والبطالمة في مصر، فقد طبع الإغريق المنطقة بطابع حضاري توافقي شمل كل نواحي الحياة فزاوجوا بين الموروث الحضاري الإغريقي والموروث الحضاري الشرقي فنشأ على الصعيد الديني نتيجة ذلك تيار ديني مازج بين العقائد الشرقية القديمة وعقائد الإغريق وفلسفات أرسطو وفيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين، وقد عُرف هذا التيار باسم (الهرمسية) نسبة لشخصية أسطورية أو حقيقية اسمها هرمس ينسب اليه أتباع الهرمسية أصولهم الفكرية والاعتقادية. وقد ظهرت الهرمسية ابتداء في الإسكندرية لكنها انتشرت خارج مصر لاسيما فلسطين وأثرت في الحالة الدينية لليهود أولًا ثم للمسيحيين بعد ظهور المسيحية، ومن تلاقي الهرمسية مع اليهودية والمسيحية ظهر تيار آخر هجين يطلق عليه الباحثون المعاصرون اسم (الغنوصية) وهي كلمة إغريقية الأصل تعني (المعرفة) لأن أتباعه انتهجوا طريق المعرفة أو العرفان (معرفة الله) على اسس فلسفية للوصول إلى الخلاص دينيًا بدل العمل بظاهر النصوص الدينية التي تنتهج طريق العمل والعبادة والأوامر والطاعات، فظهر بعد ذلك ما يطلق عليه الغنوصية اليهودية، والغنوصية المسيحية ... وفي كل دين وصل اليه التيار الغنوصي فقد طبعه بطابعه الخاص.
لقد تأثرت اليهودية في فلسطين بالتعاليم الغنوصية فظهرت غنوصية يهودية كان الفيلسوف اليهودي فيلون أحد روادها. لكن الممثل الحقيقي للغنوصية اليهودية في العصر الحديث هي فرقة صوفية يهودية اسمها (القبَّالاه) بقيت معتقداتها طي السر والكتمان لقرون قبل ان يقوم اتباعها بنشر تراثها مطلع العصور الحديثة، وسيكون لها دورًا حاسمًا في الفكر اليهودي الحديث.
أما المسيحية فإن تأثير الغنوصية كان أكثر وضوحًا وحِدَّة وصراحة فنتج عن ذلك مدارس غنوصية مسيحية عديدة من مثل أتباع مرقيون وفالنتينوس وباسيليد وسمعان الساحر ونسطوريوس... وهم الذين أطلقت عليهم الكنيسة ولا زالت اسم (الهراطقة)، وقد وصفهم أبيفانوس السلاميسي أسقف قبرص في منتصف القرن الرابع الميلادي بقوله: إن الغنوصيين وغيرهم من الهراطقة هم سلالة من الزواحف والأفاعي السامة تنفث السم الزعاف في نقاء الإيمان القويم
وفي الوقت الذي هدم الرومان فيه أورشليم وشردوا اليهود منها فان الكنيسة المسيحية التقليدية أيضا أعلنت حربها على التيارات الغنوصية المسيحية في مصر والشام فنتج عن كلا العملين تشريد أتباع الغنوصية شرقًا وغربًا فهرب منهم الكثير نحو أوربا وفارس والعراق وبقي منهم من بقي في فلسطين مستخدمين التقية. فالذين وصلوا إلى بلاد فارس أثّروا في الحالة الدينية هناك فكان ماني أحد أولئك الذين اعتنق الغنوصية فمازج بينها وبين الديانة السائدة في فارس وهي الزرادشتية (المجوسية) فنشأ تبعا لذلك الديانة المانوية التي بقيت موجودة بشكل من الأشكال حتى الفتح الاسلامي لاسيما في المدائن وجنوب العراق. وإلى اليوم لا زال للغنوصيين المسيحيين الاوائل في جنوب العراق وجود من خلال طائفة الصابئة المندائيين.
كان من نتيجة اختراق الغنوصيين المانويين للإسلام والتظاهر به بعد الفتح الإسلامي للعراق ظهور الجماعات التي دعيت في الدور العباسي الأول باسم الزنادقة وهي لفظ يعادل ما تعنيه لفظة (الهراطقة) التي اطلقتها الكنيسة على الغنوصيين. وعندما انتشرت الغنوصية في العراق بين الشيعة وتلاقحت أفكارهم مع الشيعة في القرن الثاني الهجري ظهر نتيجة ذلك الفرق الباطنية التي استمر منها إلى يومنا الإسماعيلية والنصيرية ومن انشق عنهم: الدروز والمرشدية. ومن تمازج الغنوصية مع عقائد أهل السنة نتجت الفرق الصوفية التي مثلها جماعة الحلول والاتحاد وأصحاب التصوف الفلسفي ابتداء بأبي يزيد البسطامي ثم الحلاج وفي وقت لاحق ابن سبعين والسهروردي وابن عربي وجلال الدين الرومي... وانتهاء باتباعهم في الزمن المعاصر من امثال كفتارو واليعقوبي والجفري ...
إن المنتسبين إلى العقائد الغنوصية سواء كانوا يهودًا أو مسيحيين أو باطنيين يتفقون جميعهم في عقائدهم على أصول واحدة في الاعتقاد وإن اختلفوا في طريقة التعبير والتأصيل وهي:
مبدأ الثنوية، حيث ثنائية الإله الأول والإله الصانع. والقول بوحدة الوجود، حيث أن الوجود جاء فيضًا عن الإله الأول. والقول بالأدوار والأكوار، أي أن تاريخ البشرية مقسم إلى أدوار يبتدأ الدور وينتهي بالظهور البشري للإله. ويعتقدون بتناسخ الأرواح. والأصل النوراني للبشر الذي يجب أن يعودوا إليه عن طريق الخلاص من الأجساد البشرية. وازدراء واحتقار المرأة. والقيمة الرمزية لحروف الأبجدية. والتفسير الرمزي للنصوص المقدسة (علم الباطن). وسرِّية المعتقدات وعدم الإباحة بها إلا لمستحقيها ومن هو أهل لها (التقية). وتقديس الكواكب، والعمل بالسحر والشعوذة. واسقاط العبادات والتكاليف الدينية والاستعاضة عنها بمعرفة الله عن طريق الكشف والالهام. وانتظار مخلص يأتي في آخر الزمان ...
الفُرق الغنوصية الإسلامية:
عندما فتح المسلمون العراق وفارس كان لا زال لأتباع الغنوصية المسيحية والمانوية وجود في تلك المناطق، فآثر بعضهم أمام المد الاسلامي الرحيل من تلك المناطق نحو الشمال (أرمينيا وأذربيجان...) بينما بقيت مجموعات منهم، وبما أن مدن المسلمين الأولى (الكوفة والبصرة) أنشئت جنوب العراق حيث كان للمجموعات الغنوصية المسيحية والمانوية وجود سابق فقد احتك أولئك بالمسلمين فكان لهم دور في ظهور الجماعات التي عرفت باسم (الغلاة) والذين كان رائدهم عبد الله بن سبأ الأب الروحي للشيعة كلهم وللفرق الباطنية، ولا خلاف عند كتَّاب الفرق الشيعة والسنة حول حقيقة ابن سبأ وأنه يهودي تظاهر بالإسلام وكان له دور في أحداث الفتنة الاولى ابتداء من عام (35هـ / 656م) التي أدت لمقتل الخليفة عثمان بن عفان ثم إشعال الحرب الأهلية بين علي ومعاوية. كان ابن سبأ أول من تكلم بعقيدة غنوصية يتفق اليهود والمسيحيون عليها وهي فكرة المسيح المنتظر، لكنه لم يستخدم اسم المسيح بل استخدم اسم علي بن أبي طالب عندما قال بمبدأ الغيبة والرجعة وهي: أن علي بن أبي طالب لم يمت و لم يُقتل بل هو حيٌّ موجود في السماء ... وسوف يعود ويسوق العرب بعصاه و يملأ الأرض عدلًا و قسطًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.
وهذا الأصل السالف الذكر هو أحد أصول الغنوصيين مهما اختلفت أديانهم وهو أصل أيضًا عند كل الفرق الشيعية ولا خلاف عليه بين تلك الفرق إلا حول اسم الشخص الذي سيعود، هل هو علي بن أبي طالب كما قال السبئيون، أم هو محمد بن الحنفية الذي غاب في جبل رضوى كما قال الكيسانيون، أم هو محمد بن الحسن العسكري الذي غاب في سرداب سامراء كما تقول الاثنا عشرية والنصيرية، أم هو محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق كما يعتقد الإسماعيليون، أم الحاكم بأمر الله الفاطمي كما يعتقد الدروز ...
إن كل الفرق الشيعية المنشقة عن الإسلام التي ظهرت أو ستظهر محكومة سلفًا بفكرة المهدوية والمخلص الذي سيظهر في آخر الزمن ليحقق النصر والتمكين لأتباعه والقتل التنكيل لأعدائه، وكان هذا واضًحا جليًا في كل الحركات الباطنية التي نجحت في الوصول للسلطة في التاريخ الإسلامي، فالعباسيون الذين كانوا في فترة الدعوة السرية أحد فرق الكيسانية لجأوا إلى فكرة المهدوية وحاولوا أن يحققوها بعد قيام الدولة في شخصية الخليفة الثالث المهدي بن أبي جعفر المنصور . كذلك كان أول خلفاء الاسماعيليين هو المهدي، وأول خلفاء الموحدين في المغرب اسمه المهدي أيضًا... لذلك فإن ما نتكلم عنه ليس فكرة خارج الزمان والمكان بل لها جذورها الفكرية والتاريخية ولم يتوقف العمل على تحقيقها عند أتباعها الباطنيين إلا في عصر الانحطاط بعد القرن الخامس الهجري، وإن كانوا استمروا في الاعتقاد بها والكتابة والتأصيل لها كما يشهد على ذلك مؤلفات الفرق الشيعية كلها التي اعتبرت الإيمان بالمهدي ركنًا من أركان الدين من أنكره فهو كافر.