بين المولد والبعثة
د. عبدالعزيز غنيم
أشرَق ضياء محمد عليه الصلاة والسلام في مكة، واستقبله البيت الهاشمي وغيره في سرور وغبطة، وأقبلت المَراضِع كعادتها إلى هذه المدينة الطيبة المقدَّسة تَلتمِس الرُّضعاء مِن أبناء الموسرين وذوي الغِنى والنِّعمة فيها، ولأن حليمة بنت أبي ذؤيب لم تجد مَن تُرضعه، ولأنها كرهت أن تعود ويداها خاليتان من الأطفال، فقد استشارت زوجها أبا كبشة في محمد بن عبدالله الذي تركته المَراضِع ليُتمِه وفقره، ولم يُعارض زوجها هذه الرغبة.
يَذكر ابن إسحاق - وهو صاحب هذا الخبر - أن حليمة وزوجها قد رأيا من الآيات في طريقهما وفي مَضارب قومهما ما أكَّد لهما أن ما حملاه معهما نسمة طيبة ونفس مباركة، وأن الله سوف يوسِّع عليهما من أجله.
ومهما يكن من شيء فإنه عليه الصلاة والسلام قد ظلَّ في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة حتى إذا ناهز العامَين من سنِّه خرجت به إلى أمه آمنة وهي أشد ما تكون حرصًا على العودة به مرة أخرى إلى ديار قومها، وتمَّ لها ما أرادت بعد أن استطاعت إقناع والدته بأن البادية خير له في هذه السنِّ من الحاضرة، وأن جوَّ الصحراء أصلح لنموِّ جسمه وتَحسُّن مزاجه من أجواء مكة التي تَكتنِفها الجبال وتشتدُّ بها الحرارة، غير أنها ما لبثت إلا يَسيرًا حتى عادت به مرة أخرى إلى مكة وهي تَنوي أن تتركه لأمه؛ وذلك لسببين:
أحدهما: ما رواه المؤرِّخون وكُتّاب السيَر من حادثة شقِّ الصدر، وخلاصتها أنه عليه الصلاة والسلام وهو في الثالثة من عمره قد كان في بَهمٍ على مقربة من مضارب بني سعد، وإذا رجلان عليهما ثياب بيضٌ يُقبلان إليه، وإذا هما يُضجعانه ويَشقان صدره ويَغسلان قلبه في طست قد مُلئ ثلجًا ويَستخرجان منه شيئًا لا يدري ما هو، ثم يُعيدان صدره كما كان، ويرى هذا المشهد أخوه من الرضاع عبدالله، وكان مثله طفلاً صغيرًا يُشاركه اللهو واللعب فيُسرِع إلى أمه حليمة فيقصُّ عليها القصص، وتُقبل حليمة ويُقبل معها زوجها ليَسمعا من محمد عليه الصلاة والسلام مثل الذي سمعاه من أخيه.
ثانيهما: أن نفرًا من أهل الحبشة بصروا بمحمد عليه الصلاة والسلام في مضارب بني سعد وحاولوا أن يأخذوه إلى بلادهم وملكِهم، ولم تأخذه حليمة منهم إلا بعد جهدٍ ومعاناة.
ويقول المؤرِّخون وكُتاب السيَر: إن حليمة قد أنبأت أمَّه بهاتَين الحادثتَين، وأفهمتْها أنها تخشى على محمد عليه الصلاة والسلام أن يُصيبه مكروه، وإن آمنة قد أزالت ما في نفسها من الخوف، وحدثتها عما كانت تُشاهِده وهو في بطنها من الرؤى والهواتف، وأنها ترجو أن يكون له شأن.
وقد وقف المؤرِّخون طويلاً حول السبب الأول الذي من أجله أعادت حليمة محمدًا عليه الصلاة والسلام إلى أمه، وهو حديث شقِّ الصدر، فذهب الأكثرون إلى أن هذا الشق قد كان حقيقيًّا وأنه قد وقع مرتين؛ إحداهما وهو طفل في مَضارِب بني سعد، والثانية وهو كهل في بيت أمِّ هانئ وإلى جوار الكعبة، وقالوا في دعم هذا الرأي: إن السنَّة الإلهية قد جرت بالإرهاص إلى الأنبياء تنويهًا بشأنهم ولفتًا للأفكار والأنظار إليهم، وهذه الحادثة هي من هذا القَبيل، وحجة أخرى وهي أن هذه الحادثة لم يُسجِّلها الإخباريون وكتاب السير وحسب، وإنما سجّلها أئمة السنَّة وحفَّاظ الحديث مِن طرُق صحيحة وأخرى أقل صحة، ولكن بعضها يُعضِّد بعضًا ويُقوِّيه.
وذهَب الأقلُّون إلى أن هذا الشقَّ ليس حقيقيًّا، وإنما هو مجاز عن حفظه عليه الصلاة والسلام مِن نوازع الهوى وهواتف الشرِّ، وقالوا في تسويغ هذا الرأي: إن الله - عز وجل - يتولى أنبياءه بالحماية والرعاية منذ طفولتهم وحداثة أسنانهم، وإنه أرأف وأرحم بمحمد النبي عليه الصلاة والسلام من أن يفزعه وهو طفل بشقِّ صدره واستخراج قلبه وغسل جوفه بالماء أو الثلج، لا لشيء إلا ليَحفظه من المعاصي ويَحول بينه وبين الآثام، وهو قادر على أن يَبلغ به هذا الهدف من غير هذا الفزع وهذه العملية الشاقة القاسيَة.
وحجَّة ثانية، وهي أن هذه العملية قد تكرَّرت مرتين، فهل أخفقَت أولاهما أو لم تفِ بالغرض الذي كانت من أجله حتى يأمُر الله - عز وجل - بإعادتها مرة ثانية، ولأن حادثة شق الصدر هذه قد رُويت من أكثر من طريق، فقد زعم هذا الفريق أن روايتها قد كانت على لسان عبدالله بن الحارث وهو طفل، والأطفال لا يوثَق بأقوالهم من جهة، ولا يُمكن الاطمئنان إلى أن الحقيقة لم تَختلِط فيها بالخيال من جهة ثانية.
وأما الطرُق الأخرى ففيها من التناقُض والاضطراب ما يَجعلها موضعًا للشك ومحلاًّ للارتياب، فهي مرة تسوق هذه الحادثة ومحمد طفل في مضارب بني سعد، وهي مرة أخرى تسوقها وهو كهل في دار أمِّ هانئ أو إلى جوار الكعبة، وحتى الذين قاموا بشق صدره عليه الصلاة والسلام فهي مرة تَذكُر أنهما رجلان في ثياب بيضٍ وهي مرة أخرى تذكُر أنهما طائران أبيضان... إلى آخر ما في هذه الطرق من المآخذ والثغرات.
والذي يُوازن بين هذَين الرأيين لا يستطيع إلا أن يَميل إلى أن الصواب في جانب الرأي الأول، وأن صدره عليه الصلاة والسلام قد شُقَّ حقيقةً، ومن غير تأويل ولا التماس للمعاذير؛ وذلك لوجوه:
أحدها: ما جرَت به السنن الإلهية من تأييد الله للأنبياء بالخوارق قبل الوحي وبعده.
وثانيها: إنَّ حادثة شق الصدر وإن كانت آية إلا أنها لم تُجاوز دائرة الإمكان إلى دائرة الاستحالة، وقد جاء النقل بها من طرُق كثيرة وصحيحة، فإنكارها - لا لشيء سوى الاستبعاد - أمر يُجافي العلم والمنطِق.
وثالثها: إن القول بأن روايتها إنما كانت على لسان طِفل غير مُسلَّم؛ فقد رواها النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بعد الهِجرة من مكة إلى المدينة، والقول بأن الأطفال لا يوثق بأقوالهم قول لا يَستقيم؛ لأنهم إنما يَنقلون ما يُشاهدون، وليست لدَيهم دوافع تَحملهم على الكذب أو التلفيق، ويَبقى تَكرار هذه الحادثة واختلاف الروايات في وصف مَن قاموا بشقِّ صدره عليه الصلاة والسلام.
فبالنسبة للتكرار فالسر فيه واضح؛ لأنَّ شق صدره وهو طفل قد كان لإمداده بما يَحول بينه وبين هواتف الهوى ودواعي الشر، وشقه وهو كهل قد كان لتمكينه مِن تجاوز الأرض إلى السماء، والصعود عبر الكواكب والآفاق؛ حيث لا يستطيع الجسم البشري العيش أو الحياة في هذه العوالم إلا بقوة وقدرة مِن قبل المولى.
وبالنسبة لمن قاموا بشق صدره فنحن نعرف أنهم قد كانوا من الملائكة، وأن الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فلا غرابة والحالة هذه أن يَظهروا على هيئة رجال أو على هيئة طيور.
وأخيرًا نقول: إن الله قد كان قادرًا على أن يُظهر محمدًا عليه الصلاة والسلام على أعدائه من غير قتال، وأن يصل بدعوته إلى الغاية من غير إيذاء ولا مُعاناة، وكما أن السنَّة لم تَجرِ بذلك، فكذلك حمايته من الهوى وهو طفل وإقداره على العروج إلى الأفق وهو كهل لا بد لهما مما وقع من حادثة شقِّ الصدر، كأنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يعرف أن هذه الحادثة سوف تكون مجالاً للأخذ والرد، فوضع أيدي أصحابه على الدليل القاطع؛ وذلك بإشارته لهم إلى مكان الشق من صدره، وقد كانت علامته فيه واضحة وظاهرة، وكأنما أراد الله أن يَبقى هذا الأثر حتى يراه الصحابة بأعينهم، وحتى لا يَبقى شك لا بالنسبة لمن شاهدوه ولا بالنسبة لمن سمعوه وبُلِّغوا به.
محمد في شبابه في كفالة جده وعمِّه:
ونعود إلى محمد ونذكُر أنه قد انتقل إلى مكة وطَفِق ينعم بالراحة والحنان إلى جوار أمه آمنة، ولم يكن يخطر له ببال أن هذه الراحة ليست إلا سحابة صيف، وأنها عما قليل سوف تنقشِع.
فقد خرجت به أمه وهو في السادسة مِن عمره إلى يثرب لزيارة أخواله من بني النجار، وهناك أضناها المرض وبرحتْ بها العِلة، وأدركت أن أجلها قد اقترب، وأن حياتها قد انتهت أو كادت، وأنها لا بد أن تعود بصغيرها إلى ديار آبائه وأجداده في مكة، وفي الأبواء - وهي مكان على الطريق بينها وبين المدينة وافاها الأجل المحتوم - وتركَت محمدًا بين يدي العناية الإلهية تَحرُسه وتَرعاه.
وهكذا فقَد محمد أمه وأباه، ولم يبقَ له سوى جدِّه الذي كان قد طعَن في السن وأوغل في الشيخوخة، فآوى إلى ظله حتى بلَغ العاشرة من عمره، ومع أن المؤرِّخين لم يَذكُروا لنا شيئًا عن حياة محمد عليه السلام في كفالة جده عبدالمطلب فإن الدلائل كلها تشير إلى أنها كانت حياة ناعمة وراضية، فقد كان عبدالمطلب يُحبُّه ويؤثره، وكان يرى فيه عِوَضًا عن أبيه الذي كان الموت يتربَّص به حتى اختطفه ولما يَبلغ العشرين من سنِّه، ومرض عبدالمطلب وأدرك هو أيضًا أنه ميت لا محالة، وأهمَّه أمرُ حفيدِه، ولم تهدأ نفسه حتى أوصى به إلى عمه أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم وأمه - أم أبي طالب - فاطمة بنت عمرو، وصدقت فراسة الرجل؛ فقد كان أبو طالب لمحمد نعم الأب الرفيق، والعم الحامي؛ فقد شمله بعطفه، وغمَرَه بحبِّه، وظلَّ إلى جانبه حتى بعد أن صار رجلاً يتولى أمر نفسه ويَستقلُّ بأعبائه وأثقاله، حتى صارت هذه الرعاية - التي امتدت إلى ما بعد البعثة - جزءًا لا يَنفصِل عن سيرة محمد وعن تاريخ دعوته ورسالته.
وفي كفالة أبي طالب بدأت سمات حياة محمد تَبدو، وأخذت الدلائل والأحداث تشير إلى ما سوف يكون في المستقبل من خطر سوف يهزُّ الدنيا ويأخذ بناصية الوجود؛ فقد خرَج به عمه أبو طالب في تجارة إلى الشام، وفي بُصرى دعا بحيرى الراهب القافلة إلى طعام صنَعه لها، ورأى محمدًا وتحدَّث إليه، وأبصر خاتم النبوة بين كتفَيه، وسأل عنه، وأجاب القوم بأنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وأنه خرَج في صُحبة عمه أبي طالب، وهمَس بُحيرى في أذن عمه أن ابن أخيه هذا سوف يكون له شأن، وأنه النبي الذي بشَّر به موسى وعيسى، وحذَّره عليه من اليهود، وتكرَّرت هذه الحادثة مرةً أخرى.
فقد خرَج محمد عليه الصلاة والسلام في تجارة لخَديجة، وخرَج معه غلامها ميسرةَ، وفي الطريق رأى الغلام من محمد عليه الصلاة والسلام ما أثار وأهاج عواطفَه وخواطرَه؛ لقد رأى غمامة تَدنو منه وتُظلُّه كلَّما اشتدَّت حرارة الشمس وازداد قيظُ الهواجرِ، ورأى شجرةً تتدلى أغصانها عليه كلما طلب الراحة ورغب في الاستجمام، واشتدَّ عجبه وهو يُشاهد أحد الرهبان يطلُّ من صومعته ويسأله عن هذا الفتى الذي يَصحبُه وهذه الشجرة التي تظله وتحنو عليه، ويجيبه ميسرة بأن الفتى هو محمد بن عبدالله، وأنه قد خرج في مال لخديجة بنت خويلد لاستثماره والاتجار فيه، ولا يتركه الراهب يَسترسِل في الحديث وإنما يُنبئه بأن هذه الشجرة لا تُظلُّ إلا نبيًّا، وأن صاحبه هذا هو النبي الذي بشَّرت به التوراة والإنجيل.
ولا جدال في أن هذه الأحداث وغيرها قد لفتَت الأنظار إلى محمد وجعلت أهل مكة يُفكِّرون في أمره ويتوقَّعون أحداثًا خطيرة تجري على يديه، ولا جدال كذلك في أن هذه الأحداث الثلاثة وغيرها قد اشتد تأثيرها في أنفُسِ القوم بعدما تنبأ محمد وهبط الوحي عليه من قِبَل ربه، وراح يدعوهم ويُحذِّرهم من نتائج الكفر وأخطاره!
وكما كان لهذه الأحداث أثرها في حياة محمد وفي سيرته فكذلك كان لمهنته التي اشتغل بها أثرها في حياته وسيرته؛ فقد احترف أول ما احترف مهنة رعي الأغنام، ثم انتقل عنها إلى التجارة فاشتغلَ بها أجيرًا، ثم مُشاركًا، ثم مُستقلاًّ بعد ذلك، وكما تعلَّم مِن مهنته الأولى الصبر والاحتمال وحسْنَ السياسة والرفق بالضعيف، فقد تعلم من الثانية كيف يُعامِل الناس وكيف يأخذ منهم ويُعطيهم ويُفيدهم ويستفيد منهم ويعرف أساليبهم وطرائق معيشتهم ودوافع سلوكهم، أضِفْ إلى هذا كله ما يَعرفه من علومهم وثقافتهم، ومِن الفرْق الهائل بين حياة العرب في بواديهم وحاضرهم وبين حياة الفرس والروم الذين عرَفوا نظم الحكم وأساليب الملك وطرائق السياسة وفنون التدبير والتفكير.
بعضٌ من شمائله:
وقد كان لهذه الشمائل والصفات أثرُها في سلوك محمد وفي أخلاقه، فشبَّ على النزاهة، والأمانة، والصدق، والعفة، والاعتداد بالنفس، والاعتزاز بالكرامة، وكان له طابع يَختلِف عن أقرانه ولا يتَّفق وما كان عليه لداته وأترابه، فكان يجدهم لاهين، وكان يأخذ نفسه بالرزانة والوقار، وهم لا يتحرزون من خطيئة ولا يَنصرفون عما تدعوهم إليه أنفسهم من نوازع الهوى ودوافع العبث.
وقد كان لسلوك محمد هذا الذي التزمه وأخَذ نفسه به في غير تسامُح ولا هوادة تقدير واحترام من قريش وغيرهم من أهل مكة، حتى لقد كانوا يُسمُّونه الصادق والأمين، وكانوا يجعلونه القدوة والمثل لكل مَن يُريدون تقويم سلوكه وإصلاح أخلاقه.
زواجه من خديجة بنت خويلد وأثرُه:
لعلَّ هذا السلوك هو الذي حبَّبه إلى خديجة بنت خويلد، وهو الذي جعلها تفكر في الاقتران به، وقد كانت ذات جمال وشرف، وكانت ذات مال ونسَب، وكان أثرياء قريش وأصحاب الحول والطول منهم يرغبون في الاقتران بها، وهي ترفضهم وتتأبَّى عليهم، وسبب ثانٍ، وهو ما كان من حديث ميسرة لها في شأن محمد وهذَين الملَكين اللذَين كانا يُظلانه في الهاجرة، وهذا الراهب الذي بشَّره بنبوته، لهذا كله أحبَّته حبًّا جمًّا من أجل ما رأت وما سمعت من صدق وأمانة، فكان أمينًا على نفسه، وأمينًا على الناس، لم يَنتهِك عِرضًا، ولم يظلم أحدًا.
ويَختلف المؤرخون حول الذي زوَّج محمدًا من خديجة، أهو أبوها خويلد أم هو أخوها عمرو؟ وأخيرًا يَختلفون فيما إذا كانت هي التي دعته إلى نفسها أم أنها لجأت إلى من قام بهذا بدلاً منها؟ وأيًّا ما كان، فقد اقترن بها محمد وأصدَقها عشرينَ بكرة، وأنجبَ منها القاسم، والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وكانت له نعمَ الزوجة التي تفهمه وتُشاركه أفراحه وأتراحه، وتقف إلى جانبه في كل شدَّة، ولا تتخلى عنه في مكروه أو محنة.
وطابت حياة محمد وصَفا له العيش إلى جوار أبنائه وبناته منها، ولأن هذه الحياة قد جرَت في مسارها راضية، ولأنها قد خلَت من الأحداث الكبيرة زهاء عشرة أعوام أو أكثر، فقد أمسكَ التاريخ عن الحديث عنها طوال هذه المدة.
وفي العام الخامس والثلاثين من سنِّه عليه الصلاة والسلام انهمرت السيول في مكة وأضرَّ تدفُّقها ببناية الكعبة، ولم يجد القرشيون بدًّا من هدمها وإعادتها كما كانت، وتمَّ لهم ذلك بعد تردُّد وخوف، وبعد أن تعاهَدوا على ألا يُدخلوا في الإنفاق على بنائها مهرَ بغيّ ولا مالاً أصابوه من غير حلٍّ.
وجاء دور وضع الحجر الأسود في مكانه، واختلفت العشائر والبطون في أيها يلي هذا الشرف، وسُلَّت السيوف، وأُشرِعت الرماح، وأوشكت الحرب الأهلية أن تَشتعِلَ جذوتها ويضطرم شررها، وطال النزاع خمسَ ليال مُتواليات حتى اقترَحَ عليهم أبو أمية بنُ المغيرة - وكان أكبرهم سنًّا - أن يُحكِّموا أول داخل عليهم من المسجد، ورضي القوم واستراحوا إلى هذا الرأي، وإذا محمد عليه الصلاة والسلام يدخُل عليهم، وإذا هم يَهتُفون مستبشرين: محمد الأمين! رضينا به حكَمًا، ولم يلبث محمد إلا قليلاً حتى يأمُر بثوب فيُبسَط، ويَحمل الحجر ويضعه في وسطه، ويأمُر كل قبيلة أن تأخذ بأحد أطرافه، ثم يأمر فيُرفع الثوب حتى إذا دنا من موضع الركن حمَله بيدَيه ووضعه في مكانه، وبهذا حظيَ هو بهذا الشرف، وجمَع القبائل والبطون كلها على كلمة سواء.
وتعود الكعبة كما كانت، وتُنصَب حولها مئات الأصنام والأوثان، ويَضيق محمد بهذه الآلهة التي تُعبَد من دون الله، ويضيق كذلك بما توارثه أهل مكة وغيرهم من التقاليد والعادات، ويتلمس الطريق لهدايتهم وإرشادهم فلا يَصِل إليه ولا يجد الوسيلة التي تُدنيه منه، ولا يُنجيه من ضيقه وحرنه إلا البعد عن مكة الفينة بعد الفينة، والانفراد بنفسه في غار بأعلى جبل حراء.
في غار حراء:
يقول المؤرخون وكُتَّاب السيَر: إنه قد كان يتحنَّث بهذا الغار شهرًا من كل عام، ولا مراء في أن تحنُّثَه هذا أو تحنَّفه قد صفَّى نفسه، ونقَّى فكرَه، وزاده علمًا ومعرفة بعظمة ربه وقدرته السارية في ملكوت السموات والأرض وما خلَق الله من شيء، حتى رقَّت روحه وخفَّت الحجُب المادية التي تحول بين الناس وبين رؤية الملأ الأعلى ومُشاهَدة ما فيه من الألطاف والأسرار، حتى كان يرى الرؤيا في الليل فلا يلبَث أن يشاهدها كما هي في النهار.
وفي العام الأربعين من سنِّه عليه الصلاة والسلام هبط عليه جبريل وقال له: "اقرأ"، وأجاب النبي: ((ما أنا بقارئ))، وضمه إليه جبريل حتى بلَغ منه الجهد، وأعاد إليه الأمر بالقراءة وهو يقول: ((ما أنا بقارئ))، وجبريل يضمه إليه حتى تكرر هذا منه ثلاث مرات، وهنا قال جبريل: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
ويقول بعض المؤرِّخين وكتاب السيَر: إن جبريل عليه الصلاة والسلام قد أتى محمدًا قبل أن ينزل عليه بهذه الآية مرتَين؛ إحداهما ليلة السبت، والثانية ليلة الأحد، وإنه قد مهَّد بهاتين الزيارتين لتنبيئه وإنزاله عليه رسالة ربه، وذلك حتى لا تَذهله المفاجأة ولا يذهب بفؤاده الخوف والفزَع.
ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يطمَع في النبوة، ولا كان يتحنَّث في الغار من أجلها؛ فقد أخافه ما رأى على نفسه، وخشيَ أن يكون قد صار شاعرًا أو مجنونًا، ولم يكن في الدنيا شيء أبغض إليه منهما.
ويعود النبي عليه الصلاة والسلام إلى داره بعدما سُرِّيَ عنه، ويقصُّ على خديجة ما رأى وما سمع، وتُجيبه هذه الزوجة العاقلة البارَّة: "كلا، والله لا يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكلَّ وتَقري الضَّيفَ، وتَكسِب المعدوم، وتَصِل الرحم، وتُعين على نوائب الدهر"، وتَجيء بثوب وتُدثِّره به، وتأتي بماء بارد وتصبُّه عليه، وتجمَع عليها ملابسها وتذهب به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان عنده عِلم بالكتب السماوية، فلمَّا سمع من النبي خبر ما رأى قال ورقة: "هذا هو الناموس الأكبر، وإن زوجها هو النبي الذي بشَّرت به الكتب، وإنه إن يُدركه يومه فسوف يؤمن به ويَنصُره"، ويَخرُج النبي عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة ويَطوف بها كعادته، ويراه ورقة ويُعيد إلى أذنيه ما كان قد حدَّث به، ويُقبِّل رأسه ويُنبئه بأن قومه سوف يؤذونه وسوف يُخرجونه ويقاتلونه، ويتملَّك النبي عليه الصلاة والسلام العجب مما سوف يصنعه به قومه ويقول: أوَمُخرجيَّ هم؟ يُجيبه ورقة: أجل، فما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك فسوف أنصرك نصرًا مؤزَّرًا، ويَنقطع الوحي، ويحزن محمد عليه الصلاة والسلام لانقطاعه، وقد اختلف العلماء في مدة الانقطاع، وأرجح الأقوال أنها أربعون يومًا، ثم هبط عليه جبريل بهذه السورة: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 1 - 11].
ويهدأ محمد عليه الصلاة والسلام ويُريحه بَردُ هذه الآيات مما كان قد ألمَّ به، وهي تؤكد له أن ربه لم يتركه ولم يتخلَّ عنه، وهي تَعِدُه بأن نهاية حياته سوف تكون خيرًا مِن بدايتها، وأنه سوف يُعطى حتى يَرضى، وهي تُذكِّره بنعم ربه عليه؛ فقد كان يتيمًا فآواه، وكان فقيرًا فأغناه، وكان حائرًا يتلمَّس الهدى لقومه فاختاره واصطفاه، وهي تُطالبه في مقابل هذا كله ألا يقهر اليتيم، وألا ينهَرَ المِسكين، وأن يُحدِّث بنعمة ربه عليه.
وإذا كان المقصود من هذه النعمة - كما يقول الرواة - هو الإسلام، فإن هذه السورة تكون قد حدَّدت له وقت الدعوة وأمرتْه بالبدء بها في الثالثة والأربعين، وسواء أكانت آية العلق هي أولى ما نزل عليه أم أنها قد سُبقت بأم الكتاب أو بآية المدثِّر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخَذَ في الدعوة إلى ربه إثر الأمر الصادر إليه في سورة الضحى أو في سورة المدثر، ولم يكن الظهور في مكة بدِينٍ جديد أمرًا سهلاً، ولا هو مما يُمكِن أن يمرَّ في بساطة ويُسْر، لا سيما إذا كان على النقيض تمامًا مما عليه القوم من عقيدة، وما توارَثوه عبر الأجيال عن الآباء والأجداد من الأعراف والتقاليد، ولهذا فقد كان على محمد عليه الصلاة والسلام أن يعدَّ للأمر عدته، وأن يأخذ له أهبته، وأن يُوليَه ما هو جدير به من التروي والتفكير والتخطيط والتدبير، وهذا هو ما كان.