بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
في هذه الأيام انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع للجفري يقول فيه: (مدد مدد يا حسين)، وعندما رأى أن المقطع انتشر بقوة كتب على صفحته الرسمية في إحدى التعليقات عندما سُئل عن المقطع، قال:
"الحمد لله .. ليس هناك رازق "على الحقيقة" غير الله، ومع ذلك قال سبحانه وتعالى: {والله خير الرازقين}، بل قال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين "فارزقوهم" منه وقولوا لهم قولا معروفا}. وهذا يُسمى في لغة العرب "المجاز" أي أنهم تسببوا في وصول رزقي إليهم فنسبته لهم وقلت {فارزقوهم منه}. وكذلك المدد هو على الحقيقة من الله وحده وهو ينسب "مجازا" إلى من تسبب فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق سيدنا الحسين: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سِبط من الأسباط) وهو حديث حسن أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وغيرهما، وقال في محبة عموم الصالحين: (المرء مع من أحب) وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم. فظهر إذن أن محبة سيدنا الحسين سبب في حصول مدد محبة الله وكذلك محبة الصالحين مددها الفوز بمعيتهم، ولهذا نُسب المدد "مجازا" إليه وإليهم. وأما اعتقاد أن إمكانية النفع مقتصرة على الأحياء دون من توفاهم الله فهو محل الإشكال وفيه "شبهة" الشرك لاحتوائه على ما يشير إلى الاعتقاد بأن الأحياء ينفعون "على الحقيقة" استقلالا من عند أنفسهم "من دون الله" ولهذا اعتقدوا انقطاع نفعهم بموتهم، وجعلوا التوسل مقصورا على الأحياء دون الأموات بينما يعتقد أهل التوحيد أن الله وحده هو النافع الضار وأن العباد أسباب ونفعهم يكون "بإذن الله" فلا يترتب الأمر على حياتهم وموتهم فالمُسبب سبحانه حي لا يموت. ولهذا أورد الإمام النووي رحمه الله دعاء التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستغاثة به في كتابه "الأذكار" في الحديث الثاني تحت عنوان أذكار صلاة الحاجة * ولم يعتبر الإمام النووي انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربه سببا في التوقف عن هذا الدعاء الذي فيه التوسل والاستغاثة لأنه يعتقد، كسائر أهل التوحيد، بأن النافع في الحقيقة هو الله، وأن التوسل بالنبي والاستغاثة به ما هو الا سبب من الأسباب، ولهذا لم يُنكر سيدنا عمر بن الخطاب على الرجل الذي جاء إلى قبر النبي وسأله أن يستسقي لأمته** وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل السنة والجماعة باستثناء جماعة قليلة من أشهرهم الشيخ ابن تيمية وتلاميذ مدرسته رحمهم الله، فمن شاء أن يأخذ بمذهب الجمهور فله ذلك ومن شاء بأن يأخذ بمذهب الاستثناء فله ذلك دون تشغيب أو نزاع. وأما سرعة انتشار هذا المقطع على أنه "تسريب"، وهو مجلس إنشاد كان يصوره العشرات من الحضور؛ فما هو إلا نوع من العمل "المنظم" لمحاولة التشويه والصاق التشيع أو الشرك أو غيرها من الأوصاف وهو غير جديد على من لا يتقنون التعامل مع خلاف الرأي إلا من خلال الطعن في المخالف ومحاولة اغتياله معنويا بعيدا عن مناقشته في مواضع الاختلاف الحقيقي، لهذا فالفقير لا يعبأ ولا يرد على أمثال هذا التشغيب في العادة لولا احترام أخذك، وفقك الله، بفريضة التبّت، وحرصك على السؤال والسلام.
..............
* استنادا إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه الامام احمد في مسنده والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي في دلائل النبوة وبن خزيمة في صحيحه من طريق عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضريرا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا نبى الله ادع الله أن يعافينى. فقال (إن شئتَ أخرتَ ذلك فهو أفضل لآخرتك وإن شئت دعوت لك). قال لا بل ادع الله لى. فأمره أن يتوضأ وأن يصلى ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء (اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبى الرحمة يا محمد إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى هذه فتقضى اللهم شفعه فيّ).
** الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" والبخاري في "التاريخ الكبير" مختصرا والبيهقي في "الدلائل"، وابن عساكر في "تاريخه" وصححه الحافظ بن حجر في شرحه على البخاري وابن كثير في تاريخه: "أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ : " ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مسْقِيُّونَ وَقُلْ لَهُ : عَلَيْكَ الْكَيْسُ ، عَلَيْكَ الْكَيْسُ "، فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : يَا رَبِّ لَا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ" وطعن المخالفين في صحة الأثر بجهالة مالك الدار مردود بما أورده الحافظ بن حجر في الإصابة في من لهم إدراك فقال: "" مالك بن عياض مولى عمر هو الذي يقال له مالك الدار، له إدراك، وسمع من أبي بكر الصديق وروى عن الشيخين ومعاذ وأبي عبيدة، روى عنه أبو صالح السمان وابناه عون وعبدالله ابنا مالك" فهو غير مجهول العين، وقال عنه إسماعيل القاضي عن علي بن المديني: "كان مالك الدار خازنا لعمر" فهو غير مجهول الحال. وقال الحافظ الخليلي في كتاب الإرشاد عن مالك الدار: "تابعي قديم متفق عليه أثنى عليه التابعون" ومن حفظ حجة على من لم يحفظ..
وأما من حاول تضعيف الحديث بحجة أن الأعمش مدلس وقد عنعن، فهو مردود على قواعد الجرح والتعديل،لأن الأعمش ممن اعتمد البخاري عنعنته عن أبي صالح السمان كما هو في سند هذا الأثر، وقد نص الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجرعلى قبول عنعنته عن أبي صالح السمان، فمحاولة الطعن في صحة الأثر من هذا الباب ينبع عن جهل بهذا أو تعصب للرأي.