بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه
أما بعد:
فهذه مسألة من المسائل التي أودعتها في كتابي (محاورات فقهية مختصرة) بطريقة المحاورة والمناظرة
وقد أقوم بكتابة بعض المسائل الأخرى بين حين وآخر أسأل الله أن يجعل فيها النفع والفائدة.
وهذه المسألة في الجزء الأول ص (20) وهي بعنوان:
لست منهم يا أبا بكررأيت رجلاً يمشي بالسوق, وإزاره الأبيض الناصع يلامس الأرض, قد غطى كامل قدميه, فناديته, فالتفتَ إلي, فإذا هو صاحبي العزيز.
فقلت : مالك تجر ثوبك, قد أسبلته أسفل من الكعبين !
قال : لا بأس بذلك إذا كان من غير خيلاء.
قلت : إذا أسبلت إزارك فقد وقعت في الخيلاء, ولا تحتاج الخيلاء إلى نية, أو عمل زائد, فمجرد إسبال الإزار هو بذاته خيلاء.
قال : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه)؟
أليس قوله في هذا الحديث (خيلاء) يقيد قوله في الحديث الآخر: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)؟
قلت : قوله: (خيلاء) هذه صفة كاشفة, وليست مقيدة, والصفة الكاشفة لا يؤتى بها لتقييد الكلام, وإنما يؤتى بها لبيان الواقع.
ولذلك أمثلة عديدة, كلها تؤكد أن الصفة الكاشفة لا يؤتى بها لتقييد الكلام, ومثل ذلك تماماً قوله : (خيلاء).
ومن هذه الأمثلة:
أولاً : قول الله تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)
لا يصح أن يفهم من قوله : (ما لا ينفعك) أنه يجوز أن تدعو معبوداً من دون الله إذا كان ينفعك.
إذاً قوله: (ما لا ينفعك) هي صفة لبيان الواقع, وليست صفة مقيدة.
وكل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم, فقوله تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) أي : لأنه لا ينفعك ولا يضرك.
ثانياً : قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)
لا يصح أن يفهم من قوله: (الذي خلقكم) وجود رب آخر لم يخلقنا, وأننا أمرنا بعبادة الرب الذي خلقنا.
ثالثاً : قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم).
لا يصح أن يفهم من قوله: (اللاتي في حجوركم) جواز نكاح الربيبة التي ليست في حجره.
رابعاً : قوله تعالى: (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).
لا يصح أن يفهم من قوله: (أضعافاً مضاعفة) جواز أكل الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة!
خامساً : قوله تعالى: (لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).
لا يصح أن يفهم من قوله: (خشية إملاق) جواز قتل الأولاد إذا لم يكن من أجل خشية الإملاق.
سادساً : قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً).
لا يصح أن يفهم من قوله: (ظلماً) أن مال اليتيم قد يؤكل ولا يكون ظلماً.
سابعاً : قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
لا يصح أن يفهم من قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) أن الرسول r قد يدعونا لشيء لا يحيينا, وأننا لا نستجيب للرسول إذا دعانا لشيء لا يحيينا.
ثامناً : قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه).
لا يصح أن يفهم من قوله: (لا برهان له) أن المشرك قد يدعو مع الله إلهاً آخر له عليه برهان!
تاسعاً : قوله تعالى: (فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة).
لا يصح أن يفهم من قوله: (لا يؤتون الزكاة) أنه لا ويل على المشركين الذين يؤتون الزكاة.
عاشراً : قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحية) لا يصح أن يفهم من قوله: (يطير بجناحيه) أنه يوجد طائر يطير بغير جناحيه.
تلك عشرة كاملة, وأزيدك واحدة, فقد وعد الله تعالى الذين يقتلون النبيين بغير حق بالعذاب الأليم, ولا يمكن أن يفهم من قوله: (بغير حق) أنه يجوز قتل الأنبياء إذا كان بحق.
وهذه الأمثلة تجلي المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء), وتبين أنه قيد لبيان الواقع فحسب, وأن جر الثوب هو بذاته خيلاء, فهو كقوله: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به), وكقوله: (إن الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً), ومثل ذلك بقية الأمثلة, كما ذكرت.
فيكون معنى الحديث أن جر الثوب هو بذاته خيلاء, فهو كقول القائل: من هدد أخاه ترويعاً له, وضربه تعذيباً له, وقتله ليزهق روحه فجزاؤه جهنم.
فقوله: (ترويعاً له) (تعذيباً له) (ليزهق روحه) لا تفيد التقييد.
يتبع...