معضلة التناقض
لا يكاد يسلم من التناقض أحدٌ، فلماذا البحث في شواهده هنا؟
جواب ذلك أن التناقض لم يقع هاهنا بصفته حالًا عارضةً بريئةً، بل الذي أنبته رغبةٌ وثَّابةٌ في كسر عمود السلفية المعاصرة، أدَّت بالكاتبين إلى انعطافاتٍ حادَّة على مستوياتٍ من النظر جسَّدت ما يمكن تسميته بمعضلة التناقض في الخطاب المابعد سلفي .. ولهذه المعضلة تمثُّلاتٌ، وفيما يلي كشفٌ لها:
أولًا: التناقض التقييمي
وقد ابتدأتُ بهذه السمة لأن شاهدَها يقوِّي الافتراض الذي تقدمه هذه الورقة، وتبين كيف أن روح الكتاب التي سيطرت على الكاتبَين تجعل من التناقض التقييمي مقبولًا في حال وافق اتجاه الدراسة.
قصة هذه السمة أن لأبي فهر أحمد سالم مقالًا في ملتقى أهل التفسير بعنوان: "المبدعون المجددون من أهل العلم المعاصرين"، سمَّى فيه 25 عَلَمًا، رأى أن دائرة تحريرهم تتعدَّى (تحرير أفراد المسائل حتى تصل إلى تحرير شيء من مناهج البحث والنظر، إضافةً إلى ما يعكسه هذا على تحريرهم للمسائل من جدة وابتكار)، وقال: (المجددون هي سمة عندي
لا يستحقها إلا من يستطيع العودة بعلمه عودة تامَّةً أو غالبةً إلى ما كان عليه الصدر الأول فالأمثل فالأمثل).
وأكثر هذه القائمة هم من أهل السنة الملتزمون بمنهج السلف .. لكن هذا لا يهمني الآن، بل الذي يهمني أنه سمى منهم:
1. محمد العثيمين: ولما طُلِب منه أن يسمي ما يراه مقدَّمًا أو كان على شرطه من كتب هؤلاء المجددين، سمى من كتب ابن عثيمين: (الشرح الممتع).
2. يعقوب الباحسين
[1].
هذا كان قبل تدشين الخطاب المابعد سلفي، أما في "ما بعد السلفية" فيأتي الثناء على "الشرح الممتع" مثقَلًا بقيود واحترازات: (الجودة الفقهية واضحة في كتاب العثيمين، نظرًا لتفعيله الآلة الفقهية والأصولية واللغوية في البحث، في حدود زاده منها، والذي هو أحسن من أقرانه من حيث الجملة) [368] .. وأما اختياراته الفقهية فـ (ليست بالجدة التي تعد فيها اختياراتٍ تستأهل الدرس والاعتناء) [371].
كان العلامة ابن عثيمين بشرحه الممتع قبل هذا الكتاب مجدِّدًا، وكان في تحريره للمسائل جدة وابتكار، لكن اختياراته هنا ليست بالجدة التي تستأهل معها الاعتناء، وأما كتابه فجودته واضحة لتفعيله الآلة المعرفية في حدود زاده الذي بلغ به أن يكون من حيث الجملة أحسن من أقرانه، فأين هي قصة العودة بالعلم إلى الأمر الأول!
وأما يعقوب الباحسين فبعد أن كان في تلك المقالة مبدعًا مجددًا، يأتي في هذا الكتاب بصورة متناقضةٍ تمامًا، وذلك في سياق قول الكاتبَين حين حديثهم عن الاشتغال السلفي الأصولي: (أبرز المتخصصين المتمكنين السعوديين أو الذين في السعودية كيعقوب الباحسين وعبدالكريم النملة، لم يبذلا جهودا تجديدية حقيقية في العلم، وليسا بمحرِّرين للطريقة السلفية يعون التداخلات بين الكلام الأشعري والاعتزالي وبين أصول الفقه) [299].
يعقوب الباحسين في تلك المقالة مبدعٌ مجددٌ تعدَّى تحريره إلى شيءٍ من مناهج النظر، واستطاع العودة بعلمه عودةً تامَّةً أو غالبةً إلى ما كان عليه الصدر الأول، وهنا نراه لا يبذل جهودًا تجديديةً حقيقيةً، ولا يعي التداخلات الكلامية في المدونة الأصولية!
فانظر كيف تتحكَّم رسالة الكتاب في عامل النقد ومستواه .. وأقرب من هذا الانعطاف زمنًا انعطافٌ آخرُ محيِّرٌ في باب التقييم للاتجاهات والأشخاص ، وذلك أن الكاتب في كتابه "اختلاف الإسلاميين" قرَّر أن بين سلفية الإسكندرية وبين التيارات المسماة بالسرورية
فروقًا مؤثرةًفي الرؤى والاختيارات، وإن كانت جميعًا تنتظم في إطار الحركية [63]، بينما في كتاب "ما بعد السلفية" وبعد سياق واقع حزب النور الذي مرَّ بانتكاسةٍ مُرَّةٍ يقرر الكاتب الاكتفاء بعرض تجربة حزب النور، ويذكر من أسباب ذلك (أنه نموذج كل النماذج كما يقال، فالنماذج المتنوعة للاشتغال السياسي الحركي قد مرَّ عليها هذا التيار وتقلَّب بينها، وقراءة حالته في تطوراته تعد نموذجًا لهذا التيار كله) [468] .. فانظر كيف تنطمر تلك الفروقات المؤثرة في جنب تقديم حزب النور بأطواره كمُمَثِّلٍ لشتَّى تجليات الاشتغال السياسي الحركي للسلفيين.
ثانيًا: التناقض الدلالي
صيغ التعميم - في الخطاب الما بعد سلفي - تعبِّر عن نمط سائد منتشر، وإن لم يكن مستغرقًا ولا حتى غالبًا، فلك أن تعمِّم أحكامك التقويمية على الأفراد والجماعات وإن كانت الكفَّةُ راجحةً لنقيضها، (فإن التعميم لا يساوي الاستغراق، التعميم إشارة إلى الكثير السائد، سواء كان مستغرقًا أم لا، وجلُّ ما تسمعه في نقد التعميمات = خطأ وعجمة لسانية) [14-15] .. هذا التقرير يمثل استراتيجية خطِّ رجعةٍ للكتاب، حيث إنه يتضمَّن كثيرًا من العمومات المنفلتة التي يحتاجها الكتاب في صياغة رؤيته الموجَّهة، ومع ما في هذا التقرير وإنزاله على إطلاقات الكتاب من مغالطة إلا أننا نرى الكاتبَين قد تأرجحا، ففي حين يجعلون من هذا التقرير وقاية نقدية لإطلاقاتهما، فهم لا يراعونه في التعامل مع إطلاقات غيرهما، وأنا أورد بعضَ الشواهد على ذلك:
أمَّا الشاهد الأول فقد ذكر الكاتبان أن هناك حالة ارتباك أصابت كثيرًا من الباحثين المعنيين بشأن الحركات الإسلامية حين يتناولون السلفية تناولًا مفاهيميًّا، وساقا على سبيل المثال قول أ. هاني نسيرة: (للسلفية آليات استدلالية خاصة بها، ترفض فيها القياس والاستحسان والإجماع)، ثم علَّقا بما نصه: (تأمَّلْ في هذا الكلام العجيب ودلالته شديدة الوضوح على الارتباك والخلل المعرفي الذي يسود هذه الدراسات عن السلفية) [23].
هذا التقريرُ صحيحٌ في ذاته، لكنه حسب رؤية هذا الكتاب فينبغي ألا يكون كذلك.
بيانُه أن الكاتبَين قد قرَّرا أن الشيخ الوادعي (ينكر القياس والإجماع، ليكتفي بنصوص الكتاب والسنة في الفقه والإفتاء) [251] .. هذه واحدة
وثانية: قرَّر الكاتبان أن الوادعي كان (له أثر سلبي على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي) [355]، وقالا: (إن هناك تسرُّبًا وادعيًّا في اللاوعي بالذات، فإن كثيرًا من مفاهيم الوادعي حول الفقه هي مفاهيم شاعت في الأوساط السلفية) [365].
وعليه، فما دام أن التعميم يُكتفَى فيه بالكثرة وإن لم تكن مستغرقة ولا غالبة، وأن الوادعي ينكر القياس والإجماع، وأن للوادعي أثرًا سلبيًّا على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي = فإن قول أ. هاني نسيرة (للسلفية آليات استدلالية خاصة بها، ترفض فيها القياس والاستحسان والإجماع) قولٌ - حسب معطيات الخطاب المابعد سلفي - صحيحٌ بامتياز.
ولعلَّ قائلًا أن يقول إن الكاتبين قصدا كثيرًا من مفاهيم الوادعي، وليس بالضرورة أن يكون من هذا الكثير رفضُ القياس والإجماع، وهنا يتولى الكاتبان مهمة الإجابة، ليقولا: (الوادعي الذي يقارن القرآن بالمتون الفقهية ... والذي ينكر القياس والإجماع وهما الدليلان قليلا الجدوى في الاشتغال الفقهي السلفي بعموم، سواء قالوا بحجيتهما أم لم يقولوا = هو في كل ذلك ممثل لاتجاه سلفي شائع، وليس حالة فردية) [366].
فلماذا يطالبنا الكاتبان بعد ذلك بتأمل هذا الكلام العجيب الدال على الارتباط والخلل المعرفي في التعاطي مع السلفية، والحال أنه منساقٌ مع أبجديات الخطاب الما بعد سلفي؟!
لكن لما كان ذاك التقرير آتيًا لتحقيق غرضٍ وظيفيٍّ لا منهجيٍّ، تُطالِعُ في جنبات الكتاب بعض حالات الارتباك في تفعيله، ومثلُ هذا التقريرات التي تمليها الأغراض الوظيفية دون رعاية للأبعاد المنهجية تُفسِدُ العلم وتجعله شَرَعًا لكلِّ طاعن، فما دام أنه يُكتفى في التعميم أن يُطلق على نمط منتشر وإن لم يكن غالبًا فيمكننا أن نرسل إطلاقات فجَّة متعلقة بالعلوم الإسلامية وأعلام المسلمين، يمكننا أن نقول مثلا: إن فقهاء المسلمين علماءُ سوء، والفقه الإسلامي فقه سطحي لا التفات له إلى العلل والمقاصد، وذلك أن وجود علماء السوء في شريحة الفقهاء وإن لم يكن كليًّا ولا غالبًا لكنه يمثل نمطًا سائدًا إذا استعرضنا التاريخ الإسلامي، وأما الفقه فكثيرٌ هم الكَتَبة في الفقه ممن تسيطر عليهم نزعةٌ ظاهريةٌ تُعرِضُ صفحًا عن توخِّي علل ومقاصد الأحكام، وهلمَّ جرًّا من أشباه هذه الإطلاقات.
وقريبٌ من هذه الممارسة الوظيفية المنفلتة نرى الكاتبَين في سياق نقدهما لتعامل السلفيين مع مرجعية فهم السلف يقرران تقريرًا سائلًا جرَّهما إليه محض المماحكة، وذلك بقولهم: (إن أول خطوات انتزاع السلفية المعاصرة من حالة السبات الوثوقي التي تعيش فيها هي أن نبين للمنتسبين لها حقيقة صلبة، وهي أن السلفي لم يحل مشكلة التنازع التأويلي للكتاب والسنة بأن يرد الناس لفهم السلف، والسبب في أن المشكلة لم تحل بذلك يعود إلى أن ضبط أقوال السلف ومقاصدهم وأحوال هذه الأقوال اتفاقًا واختلافًا ثبوتًا ودلالةً = يمر بالضرورة عبر الذات المتلقية الناظرة في كلام السلف. وبالتالي فإن أقوال السلف نفسها ستعاني نفس إشكالية التنازع التأويلي) [11] .. لمثل هذا التقرير قلتُ بأن هذه المراجعة التي يقدمها الكتاب هي من جنس سوابقها من المحاولات المناوئة للسلفية التي قدمت نظرات ناقدة للسلفية بكثير من السيولة المعيارية والانفلات المنهجي والانطباعات المرسلة، هذا التقرير من جنس التقرير القاضي بتجاوز ظواهر النصوص لكونها (تختلف عند القارئ نفسه بحسب أحواله وأطواره) [علي حرب، نقد الحقيقة: 6] ..
أراد الكاتبان أن يطبَّا زكامَ خطابٍ فأحدثا به جذامَ منهج!
أما الشاهد الثاني فكان من نصيب الإمام أحمد، فقد أطلق الإمام أحمد وصف التجهم على من يقول: (لفظي بالقرآن مخلوق)، فاعترض الباحثان على ذلك، وقالا: (ورد فعل أحمد وجوابه غاية ما يمكن بعد تخطئته أن يُعتذر عنه، وأن تتم تخطئة إطلاقه للتجهم على القائلين بهذا القول دون تفصيل) [95]، ولم يكتفيا بالوقوف عند حدِّ هذا التخطئة الغافلة، بل أسرفا حتى وصفا الإمام أحمد من أجل هذا التعميم بالبغي وعدم العدل، وأن هذا البغي قاد بعد وفاته (إلى بغي واسع) [95]، وقرَّرا تحمُّلَ الإمام أحمد لمسؤولية بعض تصرفاته تجاه أهل البدع (التي أعانت بعد ذلك على تطور تيار الغلو الحنبلي في القرنين الرابع والخامس) [191].
يظن الكاتبان أن من التجرد للحق والبسالة البحثية أن تتخطى رقاب الأئمة وتأتيَ على مثل الإمام أحمد بهذه الشناعة، بل يأخذان على السلفية أنها لم تستطع (الرجوع بالتخطئة على موقف أحمد رحمه الله) [95]، وهذه المراهقة النقدية هي التي جرَّأت الكاتبَين على كثيرٍ من الخطل .. والمهم هنا أن الكاتبَين لم يتعاملا مع إطلاق الإمام أحمد حسب فلسفتهما التعميمية، بل حاكما إطلاقه واعترضا على عدم تفصيله، وتعاملا معه بما يرونه خطأً وعجمةً لسانيَّةً.
وأما الشاهد الثالث فراح ضحيته الإمام البربهاري، فقد أورد الكاتبان قول البربهاري: (إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه) .. ثم انتقداه بما حاصله غَلَطُ إطلاقِ هذا التوصيف من البربهاري، إذ كيف يطلقه وقد يكون الباعث على رد الأثر باعثًا صحيحًا؟ ومن ضمن ما جاء في نقدهما لهذا الإطلاق قولهم: (لم يشترط البربهاري في معيارية ذلك الأثر شرطًا، كأن يكون صحيحًا، أو مشهورًا، أو مقبولًا، أو مجمعًا عليه، أو عن الفرق بين الأثر الذي هو حديث نبوي، أو الأثر الذي هو قول صحابي، أو من بعده، أو أحمد، أو غيره من أهل الحديث) [114].
هل يُعقَل أن يريد البربهاري بمقالته تلك ما يشمل الأثر الضعيف، أو الاحتجاج بقول كل عالم مثلًا؟!
وهل انتقاده بمثل هذا إلا عجمة لسانية أفرزها سياق الحط على معمار البربهاري؟!
هنا يغيب أنَّ نقدَ التعميماتِ عجمةٌ لسانيَّةٌ، وأنَّ من فصيح الكلام وجيده الإطلاقَ والتعميمَ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد!
واستطرادًا أقول: الخطاب الما بعد سلفي الذي يتخذ من وظيفة مؤرخ الأفكار جُنَّةً لأساليبه العجاف في التعامل مع العلماء قديمًا وحديثًا يتحدَّث عن البربهاري بسياقٍ لا يخرج به قارئ الكتاب إلا بالتقليل من شأن هذا الإمام الذي جدَّ في نصرة السنة، قارِن مجموع كلامهم عنه وطبيعة خطابهم وتناولهم لهذا الإمام بالخطاب الذي قدَّمه سلطان العميري في مقالته المنشورة على الشبكة بعنوان: "تعقبات على كتاب شرح السنة للإمام البربهاري"، حيث اتخذ من العلم والأدب عُدَّةً لكتابته النقدية لكتاب هذا الإمام، ثم ختم مقالته بتقرير أن الأخطاء التي وقعت في كتاب هذا الإمام مما يجب إنكاره وبيان خطئه، ثم قال: (ولكن هذا لا يعني اتهام الإمام البربهاري، أو القدح في عمله أو دينه، ولا يبرر لأحد أن يتطاول عليه، أو لا يلتزم بالأدب معه، وإنما غاية ما يدلُّ عليه بيان الخطأ ولزوم إظهار مخالفته لمقتضيات النصوص الشرعية، مع حفظ حقوق الإمام البربهاري، ومراعاة مكانته وقدره وجهوده) قارن هذا بخطاب يصف تقريرات البربهاري أنها (بطريقة أو بأخرى محاولة تشكيل جيتو حنبلي، ومجتمع يتسم بالنقاوة والطهورية الاعتقادية) [113].
أما الشاهد الرابع فيتعلق بتقييم الخطاب الصحوي وتصوره عن الغرب، وهنا تذهب فلسفة التعميم غير المستغرق ولا الغالب إلى الفناء، حيث يقدِّم الكاتبان نظرة نقدية للتصور الصحوي عن الغرب، ويصفانه لذلك بعدم معرفة الآخر، وإذا نظرنا في محصلة نقدهما وجدناه مجرَّد نقدٍ جافٍّ لتعميمات، فهما ينتقدان الخطاب الصحوي الذي يرى المجتمعات الغربية وضعيةً لا روحانيةً، منحلةً أخلاقيًّا، وينتقدان هذا التصور الشامل لـ (النواميس غير المضبوطة بضابط) [587]، وفي خصوص الانفلات الجنسي يعترضان على الخطاب الصحوي بأن (ذلك ليس صفة أصيلة في كل الغرب، ولا في النماذج المركزية فيه) [588].
فإذا كان الانحلال الخلقي سائدًا في المجتمع الغربي فما الذي يمنع من توصيفه بذلك، وكيف يُعترض عليه بأن هذا ليس منطبقًا على كل الغرب، وأين هي طبيعة التقييم التعميمي الما بعد سلفي من هذا النقد للخطاب الصحوي؟
لمثل هذه الشواهد قيل بأن فلسفة التعميم تلك ليست منهجية، وإنما أتت لغرضٍ وظيفيٍّ يضفي على الظلم تأويلًا، ويجرِّئه على البغي، من جنس قول الكاتبَين: (السلفي يُنزِل كل ذنب في الدين بمنزلة أعظم ذنب فيه، فالحليق والمدخن والمقصرة في حجابها، كل هؤلاء عنده من نفس جنس المنافقين والزناة والسكارى، إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال) [600]، وهما إن تخلصَّا من هذه المهاترة الصحفية بأنهما يعنيان نمطًا سائدًا وإن لم يكن مستغرقًا ولا غالبًا، فللمعادي لأهل الإسلام أن يقول بأن المسلمين سُرَّاقٌ، قتلةٌ، وظَلَمة، وما شاء وراء ذلك، فإذا ما عُورض قال: أنا إنما أتحدث عن نمط سائد غير مستغرق ولا غالب! ولا شك أن كثيرًا من المسلمين تنطبق عليهم هذه الصفات، فكيف المخلَصُ من ذلك؟
ثم إن فلسفة التعميم هذه إذا كانت تبيح للخطاب الما بعد سلفي أن ينقد السلفية اتكاءً على كثيرٍ غير غالب، ففي المقابل ربما أتانا كاتبٌ تبجيليٌّ بذات المنهج ليمدحها اتكاءً على الكثير المقابل، وها هنا تكون صورة الواقع تبعًا لهوى الناقد، فهذه الفلسلفة التعميمية - على فرض صحتها - لا تعين على إحكام رسم صورة المشهد، بل هي أداة للانتقاء بين كَثرتين!