الخليل الفراهيدي
بقلم - د. فالح الحجية
هو ابو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي .
ولد بمدينة البصرة عام \100 للهجرة -718 ميلادية من عائلة فقيرة معدمة لاتملك بيتا .وقيل كان ا شعث الرأس شاحب اللون قشف الهيئة متمزق الثياب متقطع القدمين مغمورا في الناس لايُعرف. فتعلم العلوم فيها : تلقى العلم على يد علماءها مثل أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي وغيرهما. وكانت البصرة حاضرة من حواضر في الثقافة والعلم والادب .
وكان حاد القلب خارق الذكاء حاضر الفكر شديد الجرأة منذ نعومة أظفاره فقد قيل إنَّ الشاعر الفرزدق كان مارًّا بإحدى طرق البصرة وكان الصبية يلعبون بها وما إن مرَّ بهم الفرزدق فوق بغلته حتى أخذوا يرمقونه بأعينهم ويبدو أنَّ دمامة خلقه حفزت أنظارهم فانبهروا فأراد أن يخوِّفهم فقال:
نظروا إليك بأعين محمّرة
نظر التيوس إلى مُدى القصَّاب
وضغط على كلمة مُدى وكأنـَّه يريد ترويعهم فتفرَّق الصبية مذعورين من حوله خائفين منه إلاَّ صبيا واحدا بقي واقفا يتحداه قائلاً له :
(نظرنا إليك كما ينظر إلى القرد لأنَّك مليح )
فتضاحك الصبية وخاف الفرزدق أن يصل خبر هذه الحادثة إلى أسماع جرير فيجعلها في إحدى نقائضه وفضّل الانصراف. وهذا الصبي هو الخليل ابن احمد
والخبر هذا يقودنا لذكاء وعبقرية الخليل منذ صباه وهي مفتاح هذه الشخصية العظيمة التي دلَّ ما تركته من علم وإبداع وما اشتهر به من ورع وتقوى وانقطاع إلى العلم وعبقرية نادرة .
وفي رواية اخرى قيل أنـَّه ولد في عُمان وذلك ما تذهب إليه المصادر العُمانية من أنـَّه من أهل (ودام) من الباطنة وخرج الى البصرة صغيرا مع والديه فأقام بها ونسب إليها. ويؤيِّد هذا الراي ما ذهب إليه بعض المؤرخين ومنهم صاحب نور القبس حيث يقول:
(كان من أهل عُمان من قرية من قراها وهو عربيّ صليبة وأزدي من حي يقال له الفراهيد وكانت الخارجية رأي قومه – أي ينسب الى الخوارج - وقد انتقل مع أهله صغيراً وسكن في ظاهر البصرة حيث شبَّ وترعرع وتعلَّم إلى أن مات ومن المؤكَّد أنَّ جماعات كثيرة من قبائل الأزد خرجوا إلى مدينة البصرة واستوطنوا فيها بعد أن خصَّص لهم عمر رضي الله عنه حيًّا خاصًّا بهم وقد شاركوا في الفتوحات الإسلامية.)
أنَّ قبيلة الأزد التي تنتمي إليها قبيلة الفراهيد كانت قد سيطرت منذ زمن بعيد في البصرة فطبّعوا البصرة بطابعهم حتى قيل ( بصرة الأزد ) تعبيرا عن انتشارهم بها وكثرتهم فيها وغلبتهم عليها وتأثيرهم في حياتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. إلاَّ أنـَّه كان يعيش من بستان خلَّفه له أبوه في منطقة (الخـُريبة) وكان لبني بكر وأهل العالية ولبني تميم دساكر في الخريبة مما يدلل أنَّ الخريبة كانت منطقة بساتين ولم يكن يعيش بمحلة الازد مع عشيرته .
تلقى العلم على يديه العديد من العلماء الذين أصبح لهم شأن عظيم في اللغة منهم سيبويه والأصمعي والكسائي والنضر بن شميل وهارون بن موسى النحوي ووهب بن جرير وعلي بن نصر الجهضمي وغيرهم .
وحدّث عن أيوب السختياني وعاصم الأحول والعوام بن حوشب وغالب القطان وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وغيرهم
.
رغم علمه الغزير وتلك العقلية الخلاقة المبتكرة المتجاوزة حدود الزمان والمكان ظل الفراهيدي زاهداً ورعاً واسع العلم فلا يوجد عالم لغوي مثله .
اتفق المؤرخون على نبل أخلاق وسماحة روح الخليل بن احمد فصار حقا ابن الأمة العربية الذي أثر فيها فكراً وسلوكًا وخلقاً وعلما و معرفة وادبا ودينا . فرغم غزارة علمه تميَّز الفراهيدي على سابقيه ولاحقيه وتفرد من بين أترابه ومعاصريه.
كان الخليل زاهداً ورعاً وقد نقل ابن خلكان عن تلميذ الخليل النضر بن شميل قوله:
(أقام الخليل في خص له بالبصرة لا يقدر على فلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال).
لكن سفيان بن عيينة يقول فيه :
( من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد )
وكان زاهدا في الحياة لا يحب المال ويزهد فيه ومن زهده أنه كان قد ابتعد عن التزلُّف لرجال الدولة والوجاهة فلم يقف عند أبوابهم متملِّقاً يرجو عطاءهم أو مادحا لهم وكان وكثيراً ما ردَّ هم او رسلهم اليه بعزة نفس واباء ذاته و ما كانوا يعرضونه عليه من عروض مغرية.
قيل أنَّ سليمان بن علي والي المنصور العباسي على فارس والأحواز طلب منه أن يتولَّى تعليم أولاده وبعث إليه هدايا كثيرة إلاَّ أنه أخرج لرسول الوالي كسرة خبز يابسة قائلاً:
(ما دامت هذه عندي فلا حاجة لي إلى الوالي سليمان أبلغه عني ذلك)
ولم يضعف أمام إلحاح ابنه عبد الرحمن الذي رآها فرصة سانحة للخروج من ضيق الأخصاص ( جمع خص- وهو الكوخ من سعف النخيل يستظل فيه من حرارة الشمس ) وشظف العيش وقسوته إلى دنيا القصور و الرفاهية والترف . بل إنَّ الخليل حمَّل ذلك الرسول أبياتا تعبِّر بصدق عن هذه الخلة العظيمة التي تميز بها واشتهر فانشده :
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ
وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَداً
يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ
وَإِنَّ بَينَ الغِنى وَالفَقرِ مَنزِلَةً
مَخطومَةً بِجَديدٍ لَيسَ بِالبالي
الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ
وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ
إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِهِ
فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤالِ
وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ
وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ
وَالمالَ يَغشى أُناساً لا خَلاقَ لَهُم
كَالسيلِ يَغشى أُصولَ الدَندَنِ البالي
كُلُّ اِمرِىءِ بِسَبيلِ المَوتِ مُرتَهِنٌ
فَاِعمَل لِنَفسِكَ إِنّي شاغِلٌ بالي
فقطع عنه سليمان راتبه الذي خصصه له فقال من المتقارب :
إِنَّ الَّذي شَقَّ فَمي ضامِنُ
الرِزقِ حَتّى يَتَوَفّاني
حَرَمتَني خَيراً كَثيراً فَما
زادَكَ في مالِكَ حِرماني
فلما بلغت سليمان هذه الأبيات فأقامته وأقعدته وكتب إلى الخليل الفراهيدي معتذراً وضاعف جائزته له واجره فقال الخليل:
وزلة يُكثر الشيطانُ إن ذكرت
منها التعجبَ جاءت من سليمانا
لا تعجبن لخير زل عن يده
فالكوكب النحس يسقي الأرض أحياناً
وقيل: كان الخليل ابن احمد صديقا لسليمان بن حبيب المهلبي امير الاحواز فكثر الزوار وفيهم الشعراء عليه فتشاغل سليمان عنهم فسألوا الخليل يذكره بأمرهم فكتب إليه :
لا تقبلن الشعر ثم تعقه
وتنام والشعراء غير نيام
واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا
حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي
وعتابهم يبقى على الأيام
ان اهم ما يميز الشعر عن النثر هو الموسيقى الشعرية والتي تعرف بالاوزان و عرفت بـ (بحور الشعر) . ولعل افضل علم قدمه الخليل الفراهيدي للعربية وشعرائها ونقادها (علم العروض) وتذكر كتب الادب عند اقدام الخليل على وضع علم العروض انه لما ازعجه خروج الشعراء عن المألوف من الاوزان طاف بالكعبة المشرفة ودعا الله تعالى ان يلهمه علما لم يسبقه اليه احد من السابقين .
وقيل ثم اعتزل الناس واغلق عليه بابه واخذ يقضى الساعات الطوال يجمع اشعار العرب ويرنها على انغامها ويجانس بينها حتى حصر كل الاوزان الشعرية المألوفة وضبطها وحد د قوافيها .
وقيل طرأت ببالهِ فكرة وضع اسس لهذا العلم فعندما كان يسير بسوق الصفارين فكان لصوت مطارقهم انغام مميزة. فكان لما يذهب إلى بيته يتدلى إلى بئر فيه ويبدأ بإصدار أصوات بنغمات مختلفة كي يستطيع تحديد النغم المناسب لكل بيت شعري او لكل قصيدة. وعكف على قراءة أشعار العرب في ظل دراسة الإيقاع والنغم والنُظُم الذي يعرفه ثم قام بترتيب هذه الابيات الشعرية حسب أنغامها وجمع كل مجموعة متشابهة ووضعها على حدة فتمكن من ضبط وتحديد نغمة هي أوزان خمسة عشر بحرًا ليقوم عليها النُظُم والنغم الشعري العربي حتى الآن في دوائر متجانسة ومتقاربة هي الدوائر الشعرية اليوم ومنها (الطويل-المديد- البسيط) وتعرف بالممتزجة و(الوافر- الكامل -الهزج- الرجز-الرمل -السريع- المنسرح- الخفيف- المضارع- المقتضب ) وتسمى السباعية لأنها مركبة من أجزاء سباعية في أصل وضعها وآخران هما ( المتقارب-المتدارك ) يعرفان بالخماسيين إلا أن واضع بحر المتدارك وواجده هو تلميذه الأخفش سعيد بن مسعدة وتلميذ سيبويه وبهذا أصبح الخليل الفراهيدي مؤسس علم العروض .
يتبع