تعلمت من ابن عثيمين(8)




المعْلمُ التاسع([1]): الزهد في الدنيا:

ما أشرف هذا المسلك وأعظمه! والذي حقيقته: "ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة من فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله"([2]).


وإن من أعلى مراتب الزهد، أن يكون المرء قادراً على حيازة حطام الدنيا، بل وتأتيه الدنيا وتُعْرَض عليه، ومع ذلك تراه زاهداً فيها لا يريدها، يأخذ منها قدر البلغة، ويجعلها في يده لا في قلبه، ويستخدمها ولا يخدمها، وهذا ما أحسب أن شيخنا ـ رحمه الله ـ كان متصفاً به، كما شهد بذلك القاصي والداني.


لقد كان شيخنا ـ رحمه الله ـ قادراً على العيش عيشة كبار الأغنياء والأثرياء، ولكنه رضي من ذلك بالقليل، ولله در الشاعر حينما وصف إتيان الدنيا للشيخ وإعراضه عنها بقوله:


لكأني أبصر الدنيا الـتي

بَذلـت إغـراءاها للنــاظرين


أقبلت تَعرض من فتنتهـا

صورا تَسبي عقول الغــافلين


رقصت من حوله لكـنها

لم تجــد إلا سمو الزاهــدين


أرسل الشيخُ إليها نظـرة


من عزوف الراكعين الساجدين


فمضـت خائبة خاسـرة

تتحـاشى نظرات الشـامتين


أخرج الدنيا من القلب وفي


كفّه منـها بلاغ الزاهـدين


لم يكـن فـي عزلة عنها ولم

يغلق الباب عن المسترشدين(1)




إن هذا الخلق العظيم من أعظم مزايا الشيخ، بل ولعله من أكبر الأسباب ـ مع وفور العلم والورع ـ التي جعلت للشيخ هذا القبول العظيم.


ومما اشتهر عند العامة والخاصة أن الملك خالد ـ رحمه الله ـ لما زار عنيزة في أوائل عام 1401هـ، عرض على شيخنا أن يبني له بيتاً على الطراز الحديث بدلاً من بيته الطيني، فاعتذر شيخنا بلطف، وقال: الأهم من ذلك بناء الجامع، ووقف لطلاب العلم الغرباء.


ومن جميل ما وقفتُ عليه مما كُتب عن الشيخ ـ رحمه الله ـ ما كتبه أحدهم متحدثاً عن سر القبول العظيم الذي وضعه الله للشيخين العالمين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله، أسوق بعض كلامه، حيث يقول: "لماذا كل هذه العواطف الجياشة تجاه هذين الرجلين؟ وما هو سر محبتهما في قلوب الجميع؟ هل هناك عوامل أو صفات مشتركة بينهما؟ هل المستوى العلمي وحده هو المحرك لتلك العواطف؟ بمعنى هل هو التميز العلمي فقط؟ أم السلوك الشخصي؟ أم ماذا؟ في اعتقادي أن الوقفات التالية تتضمن نقاطا هامة في قراءتنا للموضوع وفي محاولتنا لتفسير أي غموض يكتنفه:


أولا: أهمية العفة والنزاهة بالنسبة للجميع وبخاصة العلماء، ودورها في إضفاء الهيبة والوقار عليهم، ومحبة الناس لهم، لقد كانت العفة والنزاهة التي تميز بها كل منهما، وبحق مصدر ثقة بهما ومحبة لهما وعزة وكرامة لهما في الدنيا، وأرجو أن تكون شافعة لهما يوم القيامة، وأحسب أن العفة والنزاهة راية بيضاء يجب أن تميز طالب العلم الشرعي، وثوبٌ ناصعُ البياض يرتديه ويميزه عن طلاب الدنيا، وقد أثبت التاريخ بأن العفة والنزاهة تضفي على أصحابها من العلماء هيبة ووقارا في قلوب العامة والخاصة.


ثانياً: الزهد في الدنيا الفانية بما فيها من وظائف وأموال، واحتقار المادة وغيرها مهما بلغ حجمها"([3]).
جعلنا الله من الزاهدين في الدنيا على الوجه الذي يرضيه عنا، وللحديث صلةٌ إن شاء الله.

_______
[1]) أشرتُ في الأجزاء السابقة إلى ثمانية معالم تميزت به شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ وهي: "وضوح الهدف"، "الثبات على المنهج والهدف الذي رسمه لنفسه"، "العناية بالقرآن حفظاً وفهماً وعملاً"، "حبّه لنشر العلم واغتنام الفرص لتبيلغ الشريعة"، "التثبت في النقل والحكم"، "عنايته بالتحصيل العلمي لطلابه"، حرصه على تطبيق السنة في أموره كلها، حرصه على الوقت، وأتابع في هذا المقال ذِكر بعض تلكم المعالم.
([2]) مجموع الفتاوى (10/21 ).
(1) من قصيدة للدكتور عبدالرحمن العشماوي، نشرت في " الجزيرة " بتاريخ 21/10/1421هـ.
([3]) كتبه د.فهد السلطان في جريدة "الجزيرة" 12/10/1421هـ ص (29).