أزمة العلمانية

إن العولمة الثقافية تؤدي فعلا إلى رد فعل، لكنه سيذبل نتيجة لعوامل عديدة، منها قوة الخصم، وتقهقر المدافعين عن خصوصياتهم، لكونهم يتحركون جميعا في إطار العلمانية، كما تغلبت العلمانية من قبل، باعتبار أن العولمة الثقافية هي امتداد لها، فهي تفرض على الفرد سلوكا خاصا بها وعقائد معينة، بعد سيطرة العلمانية على نظم الحكم في العالم.

فالمؤسسات التي تعنى بالتنصير في العالم على ضخامتها وقوتها هي ضعيفة بالنسبة لتلك المعنية بعلمنة المجتمعات، والنتائج التي حققتها هذه الأخيرة أكبر من الأولى بكثير، لأن العلمانية تتكفل بها كل الأنظمة في الدنيا، ولم تلق معارضة قوية من أهل الأديان المختلفة كالتي لقيها التنصير.

فالمجتمع يسير في دوامة الإنحلال، بما فيهم هذه الأمة، وواقعها هذا هو الذي يفرض الإسلام الحق، كملاذ وحيد لها وللبشرية جمعاء، لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي مازالت مصادره نقية شاهدة على أي انحراف، والوحيد الذي يمكن في ظله أن تعرف طعم الحياة، بعد فشل العلمانية في تحقيق حياة سعيدة ومتوازنة بعيدًا عنه.

إن العلمانيين في هذه الأمة كعادتهم يأخذون الدروس من التجارب والضربات الموجعة فقط، ولا يصدقون بأن الغرب يعادي الإسلام إلا بعد إظهار الغرب عداوته وحقده على هذه الأمة، بينما مثل هذه الأمور عند المسلمين مسلّمة ينطلقون منها.

إن العلمانيين ليسوا سوى وكلاء للغرب، ولا يملكون أي مشروع حقيقي باستثناء مشروع المسخ، وهم إذ يتهمون خصومهم بالغباء يصدقون كل ما يأتي من الغرب، فيؤمنون بالإخاء الإنساني والسلام العالمي في ظل القانون الدولي ومؤسساته، فكانوا قبل بضعة سنين فقط يقولون لنا بأن العالم اليوم متحضر، وأنه قد فات زمن الإحتلال.

إن هؤلاء الذي يحسنون الظن بالغرب بحاجة إلى وخزات توقظهم ليتأكدوا من أن الغرب عدو للإسلام، علمانيا كان هذا الغرب أو صليبيا.

لكن مصيبتهم هي استمراء العمالة والجهل بحقيقة الإسلام وتخوفهم من تكاليفه، ويرون أن النجاة من مخالب الغرب تتمثل في الإنغماس في أحضانه واتباعه في مبادئه، ويحتجون بكوننا نستورد وسائل المعيشة من الغرب على أن نستورد مبادئهم أيضا.

إننا نتحداهم إن كانوا يعرفون هويتهم ومن يكونون، فتارة يقولون: نحن مسلمون وتارة هم علمانيون، وتارة قوميون عرب وأتراك وأمازيغ وفراعنة، وتارة أفارقة، وتارة متوسطيون، ولا يرون حرجا في الإنتماء إلى الإتحاد السوفياتي أو الأوربي أو الحلف الأطلسي، وكل المبادئ التي ظهرت في الغرب وجدت عندهم مكانا.

ويردون الإنتصارات ومظاهر التحضر لعلمانيتهم، أما الأزمات والهزائم فسببها الإسلام، (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 130/132] .

ويتنصلون من فساد نظامهم باعتبار أنفسهم معارضة، وأن الدولة لازالت إسلامية، حتى يظهروا بأن عدم التمسك بالعلمانية أكثر هو السبب في فسادها، بينما الواقع أن نظامهم هو الحاكم الوحيد منذ عهد الإحتلال، وأن أي فساد في واقع الحكم لا ينسب إلا للمبادئ الحاكمة وأهلها.

لم يستطع الإحتلال أن يرسخ كفره في ذهن الفرد العربي، وإنما نجح هؤلاء العلمانيون الذين هم فضلات ذلك الإحتلال في ترسيخه بصورة لم يكن ليحققها لو بقي، وإن الإستقلال الحقيقي هو أن تملك أمة السيادة على نفسها وأرضها في إطار مبادئها، لا أن تحرر أرضها وتحكم نفسها بنفس مبادئ الغزاة.

لقد تحول التيار الوطني إلى مشروع خيانة لمفهوم الوطنية، لأن أهله يشعرون بأنهم أقرب إلى الغرب الذي يشاركونه في العقيدة منهم إلى أبناء جلدتهم.

إن العلمانيين في هذه الأمة يؤرخون لأمتهم ببداية عهد الإحتلال قبل قرنين، وأن الشمس الغربية هي الحضارة الأولى، وهي المصدر الأول للتنوير والنهضة، وأنها اليوم أفضل من أي وقت مضى، وأنها تتقدم نحو الأفضل كلما اندمجت أكثر في المنظومة الغربية وذابت فيها.

ولو قرأ هؤلاء التاريخ لعرفوا أنهم يقتربون من الحضيض يوما بعد يوم، لأن الصعود والهبوط يتناسب تناسبا عكسيا بين أمتهم والغرب، ولم يلتق مسارهما عبر الزمان، ففي القرون الوسطى كانت هذه الأمة تحكم العالم عندما تراجعت أوربا، لكن الذين فقدوا البوصلة ويعيشون بلا هوية يضربون الأمثال بظلمة القرون الوسطى تقليدًا أعمى للغربيين، مع العلم أن ظلمة أوربا لا تنحصر في القرون الوسطى، ولا تنيرها أضواء المدن المعاصرة، والعلمانية ليست تنويرًا، وإنما هي ظلمة أخرى، ظلمات بعضها فوق بعض.

إن الرجل الأبيض منذ عهد الإغريق والرومان بطبعه الأناني لا يضع نصب عينيه سوى مصالحه، ولذلك فلو كان في هذه الديمقراطية خير ما أوصلها إلى العالم، وحتى ولو أراد فإنه لا يستطيع قيادة البشرية بالعدل والوسطية بعيدًا عن التطرف، لأنه انتقل من النقيض إلى النقيض في كثير من الأمور.

فإذا أتينا إلى الدين نجد أنه كان كهنوتيا يحارب العقل، ثم انقلبوا إلى ملحدين ماديين، وفي موضوع المرأة –إذ جعلوا منها مشكلة- كانت من قبل شيطانا منبوذًا ثم أصبحت سلعة تباع وتشترى، ودمية تتلقفها الأيدي، ومِلكا مشاعا.

إن الشيوعية التي كانت تدعي أنها سترث الأديان كلها لما فشلت في مشروعها حولت رسالتها إلى نشر الإباحية لتخريب المجتمعات، ولإفلاس حججها عوضتها بالنكت المضحكة عن شرائع الإسلام وأهله استهزاء.

والديمقراطية لما فشلت في إحقاق العدالة والأخوة والمساواة –إذ أن الحق لا زال لصالح الأقوياء دوما، والمال هو ميزان الحق والباطل- تحولت بحريتها إلى الإباحية وحصرتها فيها، تلك هي رسالة الحضارة الغربية المفلسة، والتي لم تجد ما تقدمه اليوم للعالم من قيم.

وإذا كان العلمانيون في الغرب استطاعوا الجمع بين أهداف العلمانية وأهداف اليهودية والنصرانية كعودة المسيح وأرض الميعاد، فإن العلمانيين في هذه الأمة لم يستطيعوا الجمع بين مستقبل أمتهم في ظل الإسلام ومستقبلها في ظل العلمانية، ولما عجزوا عن الجمع بين الهدفين تجاهلوا الإسلام كلية وسكتوا عنه حتى لا يفتضح أمرهم.

ولهذا فالقوى العلمانية المحلية والعالمية التي تتربص بالإسلام تملك خبرة واسعة في مجال صناعة المعارك الجانبية، فتغرق هذه الأمة في تجارب قديمة بثوب جديد، وتعمل على إبراز الأفكار القديمة التي تجاوزها الزمن، وإن كانت تعتبر إصلاحية في زمانها، من حيث أن هذه الأمة قد خطت خطوات متقدمة في التعرف على الإسلام.

من ذلك إغلاق كل السبل في وجهها عدا السبيل الديمقراطي الذي تفسح له المجال اليوم لعلمها بأنه لا يخرج عن إطار العلمانية، زد على ذلك أنه يلبسها لباس الشرعية، فهذه التشكيلات السياسية والإجتماعية المسماة بالإسلامية لا تختلف عن مثيلاتها العلمانية، ولذلك يسمح لها بالوصول إلى الحكم، لأنه ليس هناك محارب للإسلام أقوى ممن ينتسب إليه.

ومن ذلك محاولة بعث عقائد الصوفية وإعطائها صبغة الشرعية لتمثيل الإسلام، لما تقوم عليه من رضى بالواقع الذي تفرضه العلمانية، وانزواء عن الصراع معها، ولتكون حجة في نفس الوقت للقوى العلمانية في محاربة الإسلام على أنه جمود وتخلف، ولتكون خصما آخر يستهلك طاقات أي حركة تناهض العلمانية.

إن الخطط التي رسمها العلمانيون في أوربا والشبهات التي جاؤوا بها للتغلب على النصرانية يأتون بها اليوم لحرب الإسلام، لكن الواقع مختلف، فهم قد حققوا أكبر إنجازاتهم في القرن الماضي، ثم استيقظ المارد بسرعة بسبب ضعف البديل العلماني، فالعلمانية اليوم في موقع دفاع رغم القوى العالمية التي تدعمها، وإنجازاتهم لم تكن إلا بسبب الجهل بالإسلام لا لضعف فيه كما هو الحال مع النصرانية.

إن الناس يحاولون أن يرتقوا بمفاهيمهم إلى مستوى دين الله، حيث أن مخالفتهم له جاءت بسبب الجهل في عهود الإنحطاط هذه، ولم تكن هناك تجربة أدركوا بطلانها وهربوا من دين الله عن قناعة، بل بالعكس كل تجربة تبدأ من حيث انتهى غيرها، وتصلح أخطاءه، وتستفيد منها.

ولعله قد انتهى –أو يكاد ينتهي- ذلك الزمان الذي كانت العلمانية تصعد على ظهر الإسلام، وتستغله لصالحها، وقد تحقق الكثيرون أن المهم ليس تحرير الأرض من الغزاة، وإنما المهم حكمها أيضا بالإسلام كغاية، حتى لا يجني العلمانيون ثمار كفاحهم ويحولوا النصر إلى هزيمة كعادتهم.

وكلما تكسر تجربة من طرف الطغيان المحلي المسنود بالإستكبار العالمي تنبت أخرى، أما العلمانية فرغم كل هذا الدعم ليس لها تلك الحيوية والجاذبية.

إن ما يفصل هذه الأمة اليوم عن الإسلام هو مساحة لم تعد –على العموم- مطموسة كما كانت قبل عقود من الزمن فقط، ولذلك فهي على وشك أن تتفطن وتنفض عنها غبار القرون، ويا ويل الجاهلية.

كل المؤشرات تشير إلى أن ربيع العلمانية قد ولّى، ولن تلاقي في الزمن القادم أياما بيضاء كالتي عاشتها في الماضي، لقد انطلق القطار رغم أنف العلمانية وضغطها، ولن تستطيع أي قوة في الأرض أن توقفه، قد تستطيع أن تعطل مسيره بعض الوقت، لكنها بالنسبة إليه استراحة مقاتل.

محمد سلامي
موقع البيان الإسلامي