بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مبحث لطيف لشيخنا الفاضل أبي مجاهد حفظه الله فيما يتعلق بأقوال الإمامين الشافعي وابن تيمية رحمهما الله لعله أن يزيل بعض الإشكالات فيما يتعلق بحديث حاطب رضي الله عنه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد ،
فإن حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في مكاتبته للمشركين يعد ركيزة من ركائز بيان ( الولاء والبراء ) ، ذلك أنه حديث متواتر مقطوع بصحته عن الرسول e وهو كذلك بيّن واضح في ألفاظه ثم إنه يبين كيف يكون التعامل حكماً وقضاء مع الذين تقع منهم موالاة للعدو وهم في دار الإسلام وصف المسلمين ومعسكر الموحدين ، والحديث قد تناوله علماء الأمة بالشرح والبيان في كتبهم على اختلاف مواضيعها في العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسيرة والتاريخ ، غير أن شُذَّاذاً من الناس اليوم أخذوا يفسرون الحديث على غير تفسيره ، ويؤولونه على غير تأويله ؛ ليطّرد مسلكهم و أصلهم الذي أصلوه في الموالاة ، وهو أن كل إعانة للكفار على المسلمين كفر مخرج من الملة ، ولو كانت إعانة من أجل الدنيا ممن هو في صف المؤمنين ، فأحببت أن أجمع ابتداء بعض أقوال أهل العلم في بيان بعض دلالات حديث حاطب رضي الله عنه مع شيء من التعليق عليها ليتدبرها من أحب الإنصاف ويتأملها طلاب الحقائق - استعجالاً للإفادة - حتى ييسر الله عز وجل لنا نظمها في سلك واحد لتكون عقداً جميلاً نهديه لشباب الصحوة الإسلامية، وطلاب علم الشريعة، والله الموفق وحده إلى ما يحبه ويرضاه .
أبو مجاهد صالح بن محمد باكرمان
أولاً: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم ( الأم )( ) :
[ المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين :
قيل للشافعي: أ رأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بـ : أن المسلمين يريدون غزوهم. أو بالعورة من عوراتهم. هل يحل ذلك دمه ويكون في ذلك دلالة على ممالأة المشركين؟.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام إلا: أن يقتل. أو يزنى بعد إحصان. أو يكفر كفراً بيِّناً بعد إيمان ثم يثبت على الكفر.
وليس الدلالة على عورة مسلم ، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيِّن ].
التعليق :
أ - العورة في اللغة ما يجب حفظه وستره والمراد هنا السر من أسرار المسلمين.
ب - الكفر البيّن :هو الواضح الذي لاشك فيه ولا احتمال.
ج - اشترط لقتل المرتد الثبات على الردة ، إذ الأصل أن أحكام الردة لاتُنزّل على الردة العارضة التي يتوب منها صاحبها.
د - [ ليس الدلالة على عورة المسلم ، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيِّن ]لأن هذه الأفعال بمجردها - لمن هو في صف المسلمين - ليست بكفر مخرج من الملة ، فغايتها أن تكون إعانة على قتل المسلمين والفتك بهم ،وقتل المسلمين والفتك بهم مجرداً عن الاستحلال وعن محبة انتصار المشركين ليسا من الكفر الأكبر المخرج من الملة ؛ بل هما من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، لكن دون الشرك الأكبر
ولما كانت هذه الأفعال يحتمل أن تفعل بقصد محبة انتصار الكفار على المسلمين احتملت أن تكون كفراً أكبر بهذا الشرط؛ لذلك لم تكن بالكفر البيّن ؛ فإذا تبيّن أن التجسس للمشركين على المسلمين ليس بكفر بيّن ، وهو قطعاً ليس بزناً ولا قتل والرسول e إنما أحل دم هؤلاء الثلاثة علم أنه معصوم الدم ولا يجوز قتله. فالشافعي رحمه الله تعالى لم يحكم بإسلام الجاسوس الذي يتجسس للمشركين على المسلمين فحسب ؛ بل لم يُجِزْ قتله إذا لم يكن قاتلاً. وإن كانت مسألة قتله مسألة خلافية .
ثم روى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قصة حاطب رضي الله عنه من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وذكر بعض دلالاتها فقال :
[ فقلت للشافعي: أقلت هذا خبراً أم قياساً ؟
قال: قلته ـ بما لا يسع مسلماً عَلِمه عندي أن يخالفه ـ بالسنة المنصوصة ، بعد الاستدلال بالكتاب.
فقيل للشافعي: فاذكر السنة فيه .
قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد عن عبيدا لله بن أبى رافع قال: سمعت علياً يقول: بعثنا رسول الله e أنا والمقداد والزبير فقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب) فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بالظعينة، فقلنا لها: أخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب, فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله e فإذا فيه " من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة " يخبر ببعض أمر النبي e قال: (ما هذا يا حاطب؟) قال: لا تعجل على يا رسول الله! إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها, وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم، ولم يكن لى بمكه قرابة فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً، والله ما فعلته شكاً في ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله e : ( إنه قد صدق) فقال عمر: يا رسول الله ! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي e : (إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل .
الله U قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) قال: فنزلت ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء( .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: [في هذا الحديث ـ مع ما وصفنا لك ـ طرح الحكم باستعمال الظنون .
لأنه لـما كان الكتاب:
" يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكاً في الإسلام وأنه فعله ليمنع أهله .
" ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام .
" واحتمل المعنى الأقبح ... كان القول قوله فيما احتمل فعله.
وحكم رسول الله e فيه بأن : لم يقتله . ولم يستعمل عليه الأغلب.
ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا؛ لأن أمر رسول الله e مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده.
فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله e ورسول الله e يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الأغلب مـما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولاً كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه].
التعليق :
أ - من فوائد الحديث - إضافة إلى كون الجاسوس لا يقتل - طرح الحكم باستعمال الظنون؛ فلا يحكم على مسلم بمجرد الظن وإن كان غالباً في مقابل يقين الأصل والبراءة الأصلية .
ب - كتاب حاطب رضي الله عنه للمشركين يحتمل ثلاثة احتمالات ..., ولـما احتمل فعله كان القول قوله فيما احتمل فعله؛ ولهذا استجوبه النبي e - بأبي هو وأمي- حتى يتبين قصده ومراده,ولم يحكم عليه بالأغلب ؛لأن الأغلب أن موالاة الكافرين إنما تصدر عن المنافقين .
ج - تجسسُ حاطب رضي الله عنه هو أخطر تجسس في التاريخ - حسب الظاهر - ؛ لأنه تجسسٌ على أعظم الخلق أجمعين محمد e، وتجسس عليه ليس كتجسس على من سواه.
د - إذا لم يستعمل الأغلب على جاسوس تجسس للمشركين على رسول معصوم فمن دونه من الجواسيس أولى بأن لا يستعمل في حقهم الأغلب ،وأن يكون القول قولهم فيما احتمل فعلهم.وهذا هو مقتضى قياس الأولى .فظهر بجلاء لا
خفاء فيه أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا يرى كفر الجاسوس الذي يتجسس للمشركين على المسلمين مطلقاً، وإنما يرى استجوابه لتظهر حقيقته كما استجوبه رسول الله e,فهذه هي السنة و مذهب أهل السنة، بل جمهور الفقهاء لم يجز قتله بله تكفيره!
ثم ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ما يمكن أن يرد على استدلاله بالحديث وأجاب عنه فقال :
[ قيل للشافعي: أ فرأيت إن قال قائل: إن رسول الله e قال: (قد صدق) إنما تركه لمعرفته بصدقة لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره. فيقال له:
- قد علم رسول الله e أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر فلو كان حكم النبي e في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم ولكنه إنما حكم في كلًّ بالظاهر وتولى الله U منهم السرائر.
- ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكماً له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية.
- وكل ما حكم به رسول الله e فهو عام حتى يأتي: عنه دلالة على أنه أراد به خاصاً. أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجعلوا له سنة. أو يكون ذلك موجوداً في كتاب الله U .
قلت للشافعي: أفتأ مر الإمام إذا وجد مثل هذا بعقوبة من فعله أم تركه كما ترك النبي e؟
فقال الشافعي: إن العقوبات غير الحدود فأما الحدود فلا تعطل بحال، وأما العقوبات فللإمام تركها على الاجتهاد، وقد روى عن النبي e أنه قال: (تجافوا لذوى الهيئات) وقد قيل في الحديث: (ما لم يكن حد). فإذا كان هذا : من الرجل ذي الهيئة بجهالة كما كان هذا من حاطب بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى له.وإذا كان من غير ذي الهيئة كان للإمام ـ والله تعالى أعلم ـ تعزيره.
وقد كان النبي e في أول الإسلام يردد المعترف بالزنا فترك ذلك من أمر النبي e لجهالته يعنى المعترف بما عليه، وقد ترك النبي e عقوبة من غل في سبيل الله ].
التعليق :
أ - أورد الشافعي رحمه الله تعالى شبهة أن النبي e حكم في حاطب رضي الله عنه بعلمه وردها من ثلاثة أوجه :
1 - أن النبي e لا يحكم في الناس بعلمه بدليل تعامله مع المنافقين فقد علم باطن طائفة منهم بالوحي ( قصة حذيفة ) وحقن دماءهم بالظاهر.( )
ب - أن مثل هذا التعليل يفتح الباب للحكام بعد النبي e ليتركوا حكمه بمثل هذه العلة من علل أهل الجاهلية الذين يتركون أحكام الشريعة البينة بتعليلات عقولهم السخيفة.
ج - أن الأصل في ما حكم به النبي e العموم حتى يرد ما يخصصه من : كتاب أو سنة أو إجماع.
د - مسألة التعزير غير مسألة الحد والقتل فيجوز للإمام أن يعزر الجاسوس المسلم - عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى - بما دون القتل إلا أن يكون من أهل الهيئات لاسيما إذا ارتكب هذه المعصية بجهالة لا عن خبث و سوء طوية.
ثانياً : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
1 - تواتر قصة حاطب ودلالاتها عند السلف :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعدما ذكر حديث حاطب وقصته( ) :
( وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء الـمغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء ، وكان علي رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة وروى عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى ، فإن عثمان وعلياً وطلحة و الزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة وكان حاطب مسيئاً إلى ممالكيه وكان ذنبه في مكاتبته المشركين وإعانتهم على النبي e وأصحابه أعظم الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ، ومع هذا فالنبي e نهى عن قتله وكذب من قال : إنه يدخل النار لأنه شهد بدراً والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر ، ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنق هذا المنافق واستحل قتله ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة )( ) ، ثم ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى قصة الإفك وما حدث فيها .
التعليق :
أ - حديث حاطب وقصته في مكاتبة المشركين متواترة .
ب - كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يروي الحديث في خلافته ليبين للناس أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى ، والمقصود كبائر الذنوب بدون شك لأن الشرك لا يُغفر إلا بالتوبة, والتوبة عامة لكل أحد ليست خاصة بالسابقين الأولين . وإذا كان علي رضي الله عنه يستدل بالحديث على أن حسنات الأولين المتقدمة تكفر ما يحدث منهم من أخطاء ولو كانت كبائر فإذا كان علي رضي الله عنه يستدل لذلك ، ولم يعارضه في هذا الاستدلال .
أحد عـلم أن فهم السلف لهذا الحديث كان كذلك وأنهم فهموا منه أن حاطباً رضي الله عنه ارتكب كبيرة غير أنه غفر له بحسنة بدر.
ج - في حديث حاطب رضي الله عنه موضعان للاستدلال لما أراد علي رضي الله عنه الاستدلال له :
" الأول : ما حدث من حاطب رضي الله عنه من مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي e مكفَّراً بشهوده بدراً .
" الثاني : ما حدث من عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وقوعه في تكفير حاطب رضي الله عنه خطأ وتأويلاً واستحلاله قتله ، ولم يقدح ذلك في إيـمانه لسابقته .
د - أن إعانة المشركين على المسلمين ليست كفراً على الإطلاق فإذا كانت إعانة المشركين على النبي e قد لا تكون كفراً كما في قصة حاطب رضي الله عنه ، فإعانة الكفار على من دون النبي e من المسلمين أولى بأن لا تكون كفراً على الإطلاق ، وإنما قد تكون كفراً مخرجاً من الملة وقد تكون كبيرة دون الشرك .ومعلوم أنه لا تجسس أعظم من تجسس على محمد e.
2 - الموالاة للكفار إذا كانت لرحم أو لحاجة لم تكن كفراً مخرجاً من الملة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيـمان ( ):
[ الأصل الثاني: أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف:
- فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله ؛ كما قال تعالىولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ( [ المائدة : 81 ]. وقال: ) لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ( [ المجادلة : 22].
- وقد تحصل للرجل لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً .
- كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي e وأنزل الله فيه ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ( [ الممتحنة : 1 ]
- وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك فقال لسعد بن معاذ: " كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله ". قالت عائشة: " وكان قبل ذلك رجلًا صالحاً ولكن احتملته الحمية " ولهذه الشبهة سمى عمر حاطباً منافقاً فقال: " دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: ( إنه شهد بدراً ) فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها.
- وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : " كذبت لعمر الله لنقتلنه إنـما أنت منافق تجادل عن الـمنافقين " هو من هذا الباب.
- وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم : " منافق " ، وإن كان قال ذلك لـما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين .
ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً بل: فيهم المنافق المحض. وفيهم من فيه إيمان ونفاق ، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان. ولما قوى الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكونوا يعاتبون عليه قبل ذلك ].
التعليق :
أ - أن الـموالاة للكفار إذا كانت لرحم أو حاجة لا تكون كفراً مخرجاً من الـملة ، وإنـما الـموالاة الـمكفرة هي التي تكون من أجل الدين، وأما الـمتمحضة للدنيا بدون اعتقاد فاسد فليست بكفر .
ب - أن قصة حاطب رضي الله عنه من أوضح الدلائل لذلك ، وفعله ليس بكفر أكبر أصلاً، كما بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
ج - أن الأدلة على هذه المسألة من السنة النبوية كثيرة جداً. وذكر طرفاً منها .
3 - تجسس حاطب رضي الله عنه معصية صدرت عن عجلة لا عن شك في الدين :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين كما صدر عن حاطب - رضي الله عنه - التجسس لقريش مع أنها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها أن يتوب وهي بـمنزلة عصيان أمر النبي e )( ) .
التعليق :
أ - أن تجسس حاطب رضي الله عنه معصية وذنب دون الشرك .
ب - أنها بمنزلة معصية أمر النبي e، ومن المعلوم أن مطلق معصية النبي صلى الله عليه وسلم ليست بشرك ولا كفر مخرج من الملة .
ج - أن هذه الذنوب تستوجب التوبة .
( 4 ) غفران الله عز وجل لذنوب أهل بدر والحديبية تـمنع معاقبتهم على تلك الذنوب :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وفي هذا الحديث بيان أن الله يغفر لهؤلاء السابقين كأهل بدر والحديبية من الذنوب العظيمة بفضل سابقتهم وإيمانهم بها كما لم تجب معاقبة حاطب رضي الله عنه مما كان منه )( ) .
التعليق :
1 - الذنوب العظيمة - مما دون الشرك - تكفر بالحسنات العظيمة .
2 - أن أصحاب الحسنات العظيمة لا يعاقبون على ذنوبهم ( ما لم يكن حد ، جمعاً بين النصوص ) .
3 - أن حاطباً رضي الله عنه من أصحاب الحسنات الكبيرة التي تكفر السيئات العظيمة ولا يعاقبون على ذنوبهم .
( 5) سيئات السابقين الأولين مغفورة بحسناتهم بدون اشتراط توبة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ... وكذلك حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كاتب المشركين بأخبار النبي e فلما أراد عمر قتله قال النبي e:( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ) وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ، ولم يشترط مع ذلك توبة و إلا فلا اختصاص لأولئك بهذا ، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل ، وإذا قيل هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن له إلا صغائر لم يكن ذلك من خصائصه أيضاً ، وإن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم )( ) .
التعليق :
أ - أن النبي e نهى عن قتل حاطب رضي الله عنه وعلل منع قتله بوجود حسنة بدر معه فدل ذلك على أن حسنة بدر كفرت سيئته بمكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يدل لزوماً على أن سيئة حاطب رضي الله عنه ليست بكفر مخرج من الملة و إلا لما كفرتها حسنة بدر لأن الكفر الأكبر لا يغفره إلا التوبة .
ب - القاعدة العامة أن الحسنات الكبيرة تكفر السيئات ولو كانت كبيرة .
ج - عدم اشتراط التوبة في تكفير السيئات الكبيرة لأولي الحسنات الكبيرة وأهل السابقة الحسنة ؛ لأن اشتراط التوبة لا يجعل لهم امتيازاً على من سواهم فالتوبة تكفر السيئات حتى من الكافر ، والنبي e إنما علل تكفير سيئة حاطب رضي الله عنه بشهوده بدراً ، فنصّ على علة التكفير فدلّ على أن حاطباً رضي الله عنه مغفور له بشهوده بدراً قبل أن يحدث توبة .
د - لا يمكن أن يعلل تكفير سيئات أهل بدر ونحوهم من أهل الحسنات العظيمة بأن سيئاتهم من صغائر الذنوب ولذلك كفرتها الحسنات دون حدوث توبة وذلك أن تكفير الحسنات لصغائر الذنوب ليست مما يتميز به مسلم عن آخر فكل .
مسلم تكفر صغائره بما يعمله من حسنات فعلم أن الميزة التي امتاز بها أهل الحسنات العظيمة هي أن حسناتهم العظيمة تكفر ما يحدث منهم من كبائر ولو لم يحدثوا توبة .
( 6 ) الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعدما ذكر قصة حاطب رضي الله عنه : ( فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر ، فدلّ ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة )( ) .
التعليق :
أ - أنّ ما فعله حاطب رضي الله عنه من تجسسه على النبي صلى الله عليه وسلم لصالح المشركين سيئة عظيمة .
ب - تلك السيئة العظيمة غفرت لحاطب رضي الله عنه بحسنة عظيمة هي شهود بدر .
ج - سيئة حاطب رضي الله عنه ليست بكفر مخرج من الملة و إلا لما كفرتها الحسنة هذا مفهوم قطعي من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
( 7) جواب النبي e لعمر رضي الله عنه يدل على أن حاطباً رضي الله عنه باق على إيمانه وهو معصوم الدم :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ومن هذا الباب أن الرجل الذي قال له لما قسم غنائم حنين : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق ، فقال : (( معاذ الله أن يتحدث الناس إن محمداً يقتل أصحابه )) ثم أخبر أنه يخرج من ضئضئه أقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وذكر حديث الخوارج . رواه مسلم ، فإن النبي e لم يمنع عمر من قتله لئلا يتحدث الناس إن محمداً يقتل أصحابه ، ولم يمنعه لكونه في نفسه معصوماً كما قال في حديث حاطب رضي الله عنه فإنه لما قال : (( ما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله e : (( إنه قد صدقكم ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال : (( إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) فبيّن أنه
باق على إيمانه وأنه صدر منه ما يغفر له به الذنوب فعلم أن دمه معصوم ، وهذا علل بمفسدة زالت فعلم أن قتل مثل هذا القائل إذا أمنت هذه المفسدة من السنة )( ) .
التعليق :
أ - أن حاطباً رضي الله عنه كان في نفسه معصوماً، بخلاف الرجل الذي قال للنبي e: ( هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ) .
ب - أن ما صدر عن حاطب رضي الله عنه ليس بكفر مطلقاً كالذي صدر عن ذلك المنافق الذي اتهم النبي e بالجور في القسمة .
ج - أن النبي e بيّن في كلامه لعمر رضي الله عنه أن حاطباً باق على إيمانه ، وأنه قد صدر منه من الحسنات ما يغفر له به الذنوب فعلم أن دمه معصوم .
د - الفرق بين رد النبي e على عمر رضي الله عنه في حديث حاطب رضي الله عنه وتعليله المنع من القتل لعصمته وكونه مغفوراً له ، وبين رد النبي e على عمر رضي الله عنه في حديث الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وتعليل النبي e للمنع من قتله بعلة زالت بعد وفاته فدل ذلك التعليل في السنة على أن قتل مثل هذا الزنديق المتنقص للنبي e جائز بعد وفاته .
( 8 ) قول النبي e لعمر رضي الله عنه : (( وما يدريك .. )) الخ جواب عن قوله :(( إنه منافق )) :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : [وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي eعام الفتح وقد أخبر النبي e أنه من أهل الجنة لشهوده بدراً والحديبية وقال لمن قال : (( إنه منافق )) : (( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ]( ) .
التعليق :
أ - أن قول النبي e: (( وما يدريك ... )) الخ جواب عن قول عمر رضي الله عنه (( إنه منافق )) بخلاف ما زعمه بعض الجهلة من أن النبي eأقرّ عمر رضي الله عنه على قوله .
ب - جواب النبي e لعمر رضي الله عنه بكون حاطب رضي الله عنه مغفوراً له أعظم من رده لو قال له : إنه ليس بمنافق ؛ لأن الجواب المقترح الذي ينتظره بعض الجهال لا ينفي عن حاطب رضي الله عنه السلامة من الفسق والمعصية وأما ما ثبت في الحديث فهو ينفي أن يكون عند حاطب رضي الله عنه ذنب أصلاً لأنه مغفور له وهل يكون مغفوراً له من هو منافق ،فليت شعري كيف يتجرأ هؤلاء على حديث رسول الله e؟ .
( 9 ) جواب النبي e لعمر رضي الله عنه يدل على أن حاطباً رضي الله عنه ليس بمنافق :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : [ ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة قال : فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله e: (( إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، فدلّ على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي e على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن أجاب بأن هذا ليس بمنافق ولكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا ظهر النفاق الذي لا ريب فيه أنه نفاق فهو مبيح للدم]( )
التعليق :
أ - أنّ الذي أقرّ النبي e عليه عمر رضي الله عنه هو أنّ المنافق يقتل لا أنّ حاطباً رضي الله عنه كان منافقاً ، وذلك أنّ النبي e لم يقل لعمر رضي الله عنه : من أين لك أن المنافق يقتل ؟ أو نحو ذلك ، فدلّ ذلك على أنّ النبي e قد أقرّ عمر رضي الله عنه على جواز قتل المنافق ، هذا الذي يذكر بعض العلماء أنّ النبي e أقرّ عليه عمر رضي الله عنه لا شيء سواه .
ب - أنّ النبي e أجاب عمر رضي الله عنه عن قوله في حاطب رضي الله عنه بأنه ليس بمنافق لأنه أجابه بأنه مغفور له، وكيف يكون منافقاً من هو مغفور له ؟ .
ج - أنّ فعل حاطب رضي الله عنه ليس من النفاق الـمقطوع به الذي لا ريب فيه ، بل هو فعل يحتمل لذلك لا بد معه من التبيـّن من الشخص نفسه كما فعل النبي e مع حاطب رضي الله عنه .
( 10 ) اعتقاد نفاق الجاسوس مطلقاً خطأ ، وهو خطأ مغفور له إذا صدر عن مجتهد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : [ والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعملية ] وذكر أمثلة لذلك إلى أن قال : [ أو اعتقد أنّ من جس للعدو وعلمهم بغزو النبي e فهو منافق كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال : (( دعني أضرب عنق هذا المنافق ... )) }( )
التعليق :
أ - أن عمر رضي الله عنه اعتقد خطأ نفاق من جس للعدو مطلقاً .
ب - أنّ هذا الخطأ من عمر رضي الله عنه خطأ مغفور له وأنه صادر عن اجتهاد وتأويل .
( 11 ) اختلاف الأئمة في قتل الجاسوس المسلم :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : [ وأما مالك وغيره فحكى عنه أن من الجرائم ما يبلغ به القتل ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد يتوقف في مثله ، وجوز مالك وبعض الحنابلة كابن عقيل قتله ، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى ... ]( ) .
التعليق :
أ - اختلاف الأئمة في قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو الكافر ،ولو لم يكن مسلماً لـما اختلفوا في قتله .
ب - مذهب الجمهور عدم جواز قتل الجاسوس المسلم وأحمد يتوقف في قتله لعدم النص الصريح .
ج - من ذهب إلى قتل الجاسوس المسلم إنما ذهب إليه من باب التعزير والسياسة الشرعية لا الحد .
الخلاصة :
1 - قصة حاطب رضي الله عنه في مكاتبته للكفار متواترة مقطوع بصحتها .
2 - أظهر دلالاتها عند السلف أن السابقين مغفورة لهم سيئاتهم بسابق حسناتهم ولو لم يحدثوا توبة .
3 - موالاة المشركين إذا كانت من أجل الدنيا فليست بكفر .
4 - عمر رضي الله عنه استحل قتل حاطب رضي الله عنه وتأول في اتهامه بالنفاق ولكن خطؤه مغفور له لأنه بتأويل واجتهاد .
5 - ما صدر عن حاطب رضي الله عنه هو معصية وكبيرة وليس بكفر مخرج من الملة لأن الكفر لا تكفّره حسنة بدر .
6- حاطب رضي الله عنه باق على إيمانه وهو معصوم الدم لأن ما صدر عنه هو كبيرة من كبائر الذنوب لا كفر أكبر.
7 - رد النبي e على عمر رضي الله عنه في قوله عن حاطب رضي الله عنه : (( إنه منافق )) رداً بيناً واضحاً بل وزيادة .
7 - لم يختلف الأئمة الأربعة في كون الجاسوس المسلم الذي يحس للعدو مسلماً في الأصل ولكن اختلفوا في قتله والجمهور على تحريم قتله .
8 - علل النبي e النهي عن قتل حاطب رضي الله عنه بشهوده بدراً فأخذ بعض أهل العلم من ذلك جواز قتل جاسوس ليست له تلك الـمنقبة ، والله أعلم .