تأملات كاستروأكاذيب متعمدة ووفيّات غريبة.
واعتداء على الاقتصاد العالمي
في آخر مقال للقائد العام الكوبي فيدل كاسترو روز يقول ما نصُّه :
تكلمت في أحد التأملات عن سبائك ذهب مودعة في سراديب البرجين التوأمين. الموضوع هذه المرة هو على درجة أكبر من التعقيد ويصعب تصديقه. قبل نحو أربعة عقود من الزمن اكتشف علماء مقيمون في الولايات المتحدة الإنترنيت، بذات الطريقة التي اكتشف فيها ألبيرت أينشتاين، المتولد في ألمانيا، في عصره، معادلة قياس الطاقة الذرّيّة.
كان أينشتاين عالماً وإنسانياً عظيماً. ناقَض قوانين نيوتون الفيزيائية، التي كانت مقدسة حتى ذلك الحين. غير أن التفاح واصل سقوطه بفعل قانون الجاذبية الذي حدده هذا الأخير. كانتا معادلتان مختلفتان في رؤية وتفسير الطبيعة، التي كانت تتوفر عنها معلومات قليلة في زمن نيوتون. أذكرُ ما قرأتُه قبل أكثر من خمسين سنة عن نظرية النسبية الشهيرة التي أعدها أينشتاين: الطاقة تعادل الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، وتسمى (C: E=MC²). كانت متوفرة أموال الولايات المتحدة والموارد اللازمة للقيام هذا البحث المكلِف جداً. الزمن السياسي العائد إلى الحقد المعمَّم بسبب أعمال النازية الوحشية في أغنى بلد وأكثرها إنتاجاً في عالم دمّرته الحرب، حوّل تلك الطاقة المدهشة إلى قنابل تم إلقاؤها على المواطنين العزّل في هيروشيما وناغازاكي، لتنزل بينهم مئات الآلاف من القتلى وعدد مماثل من الأشخاص الذين قضوا خلال السنوات اللاحقة نتيجة إشعاعها.
مثال واضح على استخدام العلوم والتكنولوجيا لذات الأهداف التوسعية يأتي ذكره في مقالة للضابط السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي غوس و. ويس، نُشرت أصلاً في مجلة "Studies in Intellligence"، عام 1996، مع أنها حظيت بنشر واسع عام 2002، وتحمل عنوان "الإيقاع بالسوفييت". في هذه المقالة ينسب ويس لنفسه فكرة تأمين برامج السوفتوير التي كان السوفييت يحتاجونها لصناعتهم، ولكن إيصالها تم بعد تلويثها بهدف حمل اقتصاد ذلك البلد إلى الانهيار.
استناداً لملاحظات مأخوذة من الفصل السابع عشر من كتاب "على حافة الهاوية: قصص من الحرب الباردة محكيّة من الداخل"، لتوماس ريد، وهو سكرتير سابق للقوات الجوية الأمريكية؛ فإن ليونيد بريجنيف قد قال لمجموعة من كبار مسؤولي الحزب عام 1972: "علينا نحن الشيوعيون أن نواصل الحرث بالرأسماليين خلال مدة من الزمن. إننا بحاجة لقروضهم وزراعتهم وتكنولوجيتهم؛ ولكننا سنواصل العمل ببرامج عسكرية واسعة، وفي أواسط الثمانينات سنكون في موقع العودة إلى سياسة خارجية عدوانية، مصمَّمة للتفوق على الغرب". هذه المعلومة أكدتها وزارة الدفاع في جلسات أمام لجنة المجلس حول البنوك والعملة عام 1974.
في بدايات عقد السبعينات طرحت حكومة نيكسون فكرة الانفراج. كان الأمل يحدو كيسنجر في أنه "مع الوقت، يمكن للتجارة والاستثمارات أن يقلّصا توجّه النظام السوفييتي نحو الاستكفاء"، فقد كان يعتبر أنه بإمكان الانفراج أن "يدفع إلى ارتباط تدريجي للاقتصاد السوفييتي بالاقتصاد العالمي، وبهذه الطريقة تعزيز التبعية المتبادلة التي تضيف عنصراً من الاستقرار إلى العلاقة السياسية".
كان ريغان يميل إلى تجاهل نظرية كيسنجر بشأن الانفراج وإلى عدم الثقة بكلام الرئيس بريجنيف، ولكن الشكوك جميعها انجلت في التاسع عشر من تموز/يوليو 1981، وذلك حين التقى رئيس الولايات المتحدة الجديد مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيرّان في القمّة الاقتصادية لمجموعة السبعة في أوتاوا. ففي محادثة جانبية، أبلغ ميتيران ريغان عن نجاح خدماته التجسسية في تجنيد عميل من الـ "كي جي بي". كان ذلك الرجل تابع للدائرة التي تقيّم نجاح الجهود السوفييتية في اقتناء تكنولوجيا غربية. عبّر ريغان عن اهتمام بالغ بالأمور الحساسة التي كشف عنها ميتيران وعن امتنانه أيضاً على عرضه إيصال المواد إلى حكومة الولايات المتحدة.
الملف، الذي حمل عنوان "Farewell"، وصل إلى وكالة السي آي إيه في شهر آب/أغسطس 1981. اتضح من هذا الملف بأن السوفييت يقومون منذ سنوات بنشاطات بحث وتطوير. ونظراً للانتقال الهائل لتكنولوجيا الرادارات وأجهزة الكمبيوتر والآلات-الأدوات شبه الموصّلة من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفييتي، يمكن القول بأن البنتاغون كان في سباق تسلح مع نفسه.
وحدد الملف “Farewell” أيضا هوية مئات ضباط القضايا وعملاء في مواقعهم وغيرهم ممن يزوّدون بالمعلومات من خلال الغرب واليابان. خلال السنوات الأولى من الانفراج، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قد كونا مجموعات عمل في مجالات الزراعة والطيران المدني والطاقة النوويّة وعلم المحيطات وأجهزة الكمبيوتر والبيئة الهدف منها الشروع بمد "جسور سلام" بين القوتين العظميين. وكان من واجب أعضاء مجموعات العمل أن يتبادلوا الزيارات لمراكز كل طرف.
إلى جانب تحديد هوية العملاء، أهم معلومة وردت في الملف تمثلت في "قائمة المشتريات" وأهدافها المتعلقة باقتناء تكنولوجيا خلال السنوات المقبلة. عندما وصل الملف إلى واشنطن، طلب ريغان من مدير السي آي إيه، بيل كييسي، أن يفكر باستخدامٍ عمليّ سرّي لهذه المادة.
إنتاج ونقل النفط والغاز كان واحدة من الأولويات السوفييتية. كان يفترض بأنبوب غاز سيبيري جديد أن يحمل الغاز الطبيعي من آبار الغاز في يورينغوي، في سيبيريا، عبر كازاخستان وروسيا وأوروبا الشرقية إلى أسواق العملة الصعبة في الغرب. وفي سبيل أتمتة عمل الصمامات والضواغط ومنشآت التخزين في مشروعٍ بكل هذا الحجم، كان السوفييت يحتاجون لأنظمة تحكم متقدمة. قاموا بشراء أجهزة كمبيوتر من الموديلات الأولى في السوق المفتوح، ولكن حين لجأت السلطات القائمة على أنبوب الغاز إلى الولايات المتحدة من أجل شراء السوفتوير اللازم، تم رفض طلبها. بأعصاب هادئة، بحث السوفييت في مكان آخر؛ فتم إرسال فريق من الـ "كي جي بي" للتسلل إلى الشركة الكندية المزوِّدة بالسوفتوير في محاولة للحصول على الرموز اللازمة. بعدما علمت أجهزة التجسس الأمريكية بالأمر من خلال عميل ملف “Farewell”، استجابت و"حسّنت" البرنامج قبل إرساله.
بعد تركيبه في الاتحاد السوفييتي، تمكنت أجهزة الكمبيوتر والسوفتوير معاً من تشغيل أنبوب الغاز بشكل رائع. ولكن هذه الطمأنينة مخادعة. ففي السوفتوير الذي كان يشغّل كل النظام الجديد لأنبوب الغاز كان يوجد حصان طروادة، وهو مصطلح يستخدَم لوصف خطوط سوفتوير خفية في نظام التشغيل الطبيعي، ويجعل هذا النظام يخرج عن التحكم في المستقبل، أو عندما يتلقى أوامر من الخارج.
سعياً لإلحاق الضرر بالأرباح بالعملة الصعبة القادمة من الغرب وبالاقتصاد الداخلي الروسي، سوفتوير أنبوب الغاز هذا، الذي كان ينبغي أن يشغّل المضخات والتربينات والصمامات، تمت برمجته ليتوقف عن العمل بعد فترة معقولة من الزمن، لكي يتم –حسب المصطلحات التقنية- تصفير سرعة المضخات وضبط الصمامات لكي تعمل بقوة ضغط أعلى بكثير من الضغط الملائم لمفاصل ومواضع لحام أنبوب الغاز.
"كانت النتيجة حدوث أكبر انفجار غير نووي وحريق تمت مشاهدتهما أبداً من الفضاء. في البيت الأبيض، تلقى مسؤولون ومستشارون تحذيراً من أقمار صناعية دون الأشعة الحمراء عن ظاهرة غريبة وسط مكان غير مأهول من الأراضي السوفييتية. ‘قيادة الدفاع الجوي-الفضائي الأمريكية‘ خشيت أن يكون الأمر متعلقاً بإطلاق صواريخ من مكان لا علم بوجود قواعد صواريخ فيه؛ أو أن يكون الأمر متعلقاً بانفجار معدّة نووية. لم تكن الأقمار الصناعية قد اكتشفت أي نبض كهرو-مغناطيسي من النوع الذي تتميز به الانفجارات النووية. قبلما تتحول هذه المؤشرات إلى أزمة دولية، وصل غوس ويس عبر ممر ليقول لزملائه في مجلس الأمن القومي بألا يقلقوا"، هذا ما يؤكده ثوماس ريد في كتابه.
حملة الإجراءات المضادة المستندة إلى ملف “Farewell” كانت حرباً اقتصادية. مع أنه لم تحصل إصابات بشرية نتيجة انفجار أنبوب الغازات، غير أنه لحق ضرر بالغ بالاقتصاد السوفييتي.
كنهاية كبرى، وضعت الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو عام 1984-1985 حداً لهذه العملية، التي أجهزت بشكل فعّال على قدرة الاتحاد السوفييتي على جذب تكنولوجيا في لحظة كانت تتواجد فيها موسكو بين مطرقة اقتصاد مختلّ، من جهة، وسندان رئيس أمريكي عازم بإصرار على السؤدد وإنهاء الحرب الباردة، من جهة أخرى.
في مقالة ويس المذكورة، يتم التأكيد بأنه "في عام 1985، شهدت هذه القضية منعطفاً فريدا من نوعه حين كُشفت معلومات عن ملف “Farewell” في فرنسا. وصل الأمر بميتيران للشك في أن يكون أمر العميل السوفييتي لعبة قامت بها السي آي إيه من أجل امتحانه ولمعرفة ما إذا كان الفرنسيون سيسلّمون المادّة للأمريكيين أم أنهم سيحتفظون بها. استناداً إلى هذه الفكرة كان تصرف ميتيرّان بطرد رئيس الخدمة التجسسية الفرنسي، إيفيس بونيه".
غوس و. ويس، الذي نسب لنفسه، كما سبق وذُكر، الخطة الشريرة الهادفة لإيصال برامج سوفتوير معيوبة إلى الاتحاد السوفييتي، في اللحظات التي كان يوجد بين يدي الولايات المتحدة ملف “Farewell”، توفي في الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2003 عن عمر ناهز الثانية والسبعين. لم تنقل صحيفة "واشنطن بوست" نبأ وفاته حتى السابع من كانون الأول/ديسمبر، أي بعد 12 يوماً من ذلك. وقالت بأن ويس قد "سقط" من مبنى "ووترغيت" الذي يقيم فيه في واشنطن، وأكدت أيضاً بأن طبيباً شرعياً في العاصمة الأمريكية قد أعلن وفاته بأنها "انتحار". الصحيفة الصادرة في المدينة مسقط رأسه، "ناشفيل تينيسيان" (Nashville Tennessean)، نشرت النبأ بعد أسبوع واحد من نشره في صحيفة "واشنطن بوست" ونبّهت إلى أن كل ما تستطيع قوله في ذلك الموعد هو أن "الظروف التي أحاطت وفاته لا يمكن تأكيدها بعد".
(قبل وفاته ترك مجموعة من الملاحظات الخطية غير المنشورة ووضع لها عنوان "ملف الوداع: الخداع الإستراتيجي والحرب الاقتصادية في الحرب الباردة").
تخرّج ويس من "جامعة فانديربيلت". وقد اجتاز بعد تخرج دورات دراسية في جامعتي هارفرد ونيويورك.
تركز عمله لصالح الحكومة على شؤون الأمن القومي والمنظمات التجسسية والاهتمام بقضية نقل التكنولوجيا إلى بلدان شيوعية. عمل مع السي آي إيه ومع فريق الدفاع العلمي التابع للبنتاغون ومع لجنة علامات التجسس التابعة لفريق التجسس الأمريكي. تلقى ميدالية الاستحقاق التي تمنحها وكالة السي آي إيه وميدالية "سيفير" (Cipher)، التي يمنحها مجلس الأمن القومي. وقد منحه الفرنسيون "درع الشرف" عام 1975.
لم يترك ذرّيّة من بعده.
كان ويس قد أعلن قبيل "انتحاره" عن معارضته للحرب في العراق. من الهام الأخذ بعين الاعتبار أنه قبل 18 يوماً من وفاة ويس، انتحر أيضاً –في السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2003- محلل آخر من حكومة بوش، وهو جون ج. كوكال (58 سنة). قفز هذا إلى الموت من مكتب في وزارة الخارجية حيث كان يعمل. وكان كوكال محلل نشاطات التجسسية لدى وزارة الخارجية في الشؤون المتعلقة بالعراق.
تثبت وثائق منشورة بأن ميخائيل غورباتشوف قد ثارت ثائرته عندما بدأت أعمال اعتقال وإبعاد عملاء سوفييت في عدة بلدان، إذ أنه كان يجهل بأن محتوى ملف “Farewell” كان بحوزة القادة الرئيسيين لحلف الناتو. في اجتماع للمكتب السياسي في الثاني والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1986 دعا إليه لكي يطلع زملائه عن قمة ريكجافيك، ادعى بأن الأمريكيين "آخذون بالتصرف بفظاظة وسلوكهم كسلوك قطاع الطرق". ومع أن غورباتشوف كان يبدو مجاملاً في العلن، لكنه كان في الخلوات يصف ريغان بأنه "كذّاب".
في آخر أيام الاتحاد السوفييتي، كان على الأمين العام للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي أن يسير على غير هدى. لم يكن عند غورباتشوف فكرة عمّا كان يحدث في المختبرات والصناعات الأمريكية ذات التكنولوجيا المتقدمة؛ وكان يجهل كلياً بأن المختبرات والصناعات السوفييتية قد أصبحت مضروبة الالتزام وإلى أي مدى.
كما أن مسؤولي البيت الأبيض كانوا يسيرون على غير هدى أيضاً بينما كان يحدث ذلك.
كان الرئيس رونالد ريغان يلعب ورقة انتصاره الأخيرة: مبادرة الدفاع الإستراتيجي/ حرب النجوم. كان على علم بأن السوفييت لا يستطيعون منافسته في هذه المباراة، لأنه لم يكن بوسعهم الشك بأن صناعتهم الإلكترونية موبوءة بفيروسات وأحصن طروادة التي أدخلها إليها جهاز التجسس الأمريكي.
رئيسة الوزراء البريطانية سابقاً، تعبّر في مذكراتها، التي نشرتها دار نشر بريطانية هامة عام 1993 تحت عنوان "مارغريت ثاتشر، سنوات دونينغ ستريت"، بأن مجمل خطة ريغان المتعلّقة بحرب النجوم ونيته على حمل الاتحاد السوفييتي إلى الانهيار الاقتصادي إنما هي ألمع خطة قامت بها تلك الإدارة، والتي أدت إلى انهيار الاشتراكية في أوروبا نهائياً.
في الفصل السادس عشر من الكتاب، تشرح مشاركة حكومتها في مبادرة الدفاع الاستراتيجي.
ترى ثاتشر بأن تنفيذها هو "أهم قرار" اتخذه ريغان، فقد "أثبت أنها كانت أساسية في انتصار الغرب في الحرب الباردة". فرضت "مزيداً من التوترات الاقتصادية ومزيداً من التقشف" على المجتمع السوفييتي، وكانت "نتائجها التكنولوجية والمالية مدمّرة بالنسبة للاتحاد السوفييتي".
تحت عنوان "إعادة تقييم الاتحاد السوفييتي"، تُجري وصفاً لجملة من المفاهيم التي يندرج جوهرها في الفقرات الحرفية التالية المأخوذة من هذه السيرة الطويلة، والتي تترك فيها دليلاً على المؤامرة الوحشية.
"لا بد وأن السوفييت قد بدأوا يدركون في بدايات عام 1983 بأن لعبة تحكمهم وتخويفهم سرعان ما ستنتهي. فالحكومات الأوروبية لم تكن مستعدة للوقوع في الفخ المنصوب عبر ما زُعم بأنها "منطقة خالية من الأسلحة النووية" لأوروبا. واصلوا التحضيرات لنشر صواريخ كروز وبيرشينغ. وفي شهر آذار/مارس أعلن الرئيس ريغان عن مشاريع الولايات المتحدة لتنفيذ مبادرة دفاع إستراتيجي" يمكن لنتائجها التكنولوجية والمالية أن تكون مدمّرة بالنسبة للاتحاد السوفييتي.
[...] لم يكن يراودني أدنى شك حول صحة تفرغه للتأكيد على هذا البرنامج. عند تحليله من زاوية استذكاريّة، يتضح لي بأن قرار رونالد ريغان أصلاً بشأن مبادرة الدفاع الإستراتيجي هو أهم قرار اتخذه خلال رئاسته.
عند التعبير عن رؤيتنا لمبادرة الدفاع الإستراتيجي، كانت هناك أربعة عناصر مختلفة أخذتُها بعين الاعتبار. الأول هو العلوم بحد ذاتها.
.
هدف الولايات المتحدة من مبادرة الدفاع الإستراتيجي تمثل في تطوير دفاع جديد وأكثر فعالية بكثير في وجه ال”Farewell”قذائف البالستيّة.
كان هذا المفهوم الدفاعي يستند إلى القدرة على مهاجمة ال”Farewell”قذائف البالستية المطلقة في أي من مراحل تواجدها في الجو، بدءاً من لحظة إطلاقها، حين يكون الصاروخ وكل رؤوسه وطعومه معاً، وحتى لحظة دخوله من جديد إلى الغلاف الجوي للأرض في طريقه نحو الهدف.
العنصر الثاني الذي كان يتوجب أخذه بعين الاعتبار هو الاتفاقيات الدولية القائمة، والتي كانت تحدّ من نشر الأسلحة في الفضاء وأنظمة الصواريخ المضادة للقذائف البالستيّة. ‘معاهدة الحدّ من أنظمة الصواريخ المضادة للقذائف البالستية‘، الموقعة عام 1972، والتي تم تعديلها بموجب برتوكول وُقِّع عام 1974، كانت تسمح للولايات المتحدة وللاتحاد السوفييتي بنشر نظام صواريخ مضادة للقذائف البالستية ثابت برصيد يبلغ حتى مائة قاذفة صواريخ للدفاع عن ميدانها من “Farewell”قذائف بالستية عابرة للقارات".
طالما حرص مكتب العلاقات الخارجية ووزارة الدفاع البريطانيان على التأكيد على أضيق قراءة ممكنة -وهو أمر صائب برأيي-، رأيا أنها تعني بأن مبادرة الدفاع الإستراتيجي قد ولدت ميتة. لقد حاولتُ دائماً الابتعاد عن هذا الأسلوب وأوضحت في الخلوات وفي العلن بأنه لا يمكن القول بأنه قد استُكمل البحث حول ما إذا كان نظاماً ما أمراً ممكناً ما لم تتم تجربته بنجاح. هذه النقطة التي تبدو تقنية، والحاضرة في هذه المسألة، كانت في الواقع مسألة واضحة بالنسبة للحس المشترك. غير أنها تحولت إلى المسألة التي أوقعت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في ريكجافيك، لدرجة أنها اكتسبت أهمية كبيرة.