بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الثاني : مقاصد المكلفين مجال إعمال مبدأ مراعاة المآل
(هذا المبحث جزء من أطروحتي باختصار كثير جدا ، لذلك لا عذر أمام الله لمن لا يلتزم الأمانة العلمية )
المطلب الأول مقصد دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
يقول الإمام الشاطبي : " المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا " .
نفهم من هذه القولة أن الله لم يخلق العباد إلا للتعبد به سبحانه وتعالى ، والدخول تحت أمره ونهيه ، ومن هنا نحكم على كل عمل اتُّبِع فيه الهوى بإطلاق ببطلانه بإطلاق لأنه خلاف الحق ، فاتباع الهوى طريق إلى المذموم ، وإن جاء ضمن المحمود ،لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة بحيث زاحم مقتضى الشريعة في العمل كان مخوفا لأنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي .
ولأنه إذا اتبع وصار عادة أحدث في النفس وَلَهاً وأُنساً به حتى يسري في كل أعمالها ، واتباعه في ، ومن اتبع مآلات الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا .
وعلى هذا الأساس يؤسس الشاطبي : تقسيمه المقاصد الشرعية حيث يقسمها إلى قسمين :
*مقاصد أصلية :
لا حظ فيها للمكلف ، وهي الضروريات المعتبرة ، وبها قيام مصالح عامة مطلقة ، ولا تخص حالا معينا ولا صورة معينة ولا وقتا معينا ، وهي تنقسم إلى قسمين : ضرورية عينية واجبة على كل مكلف في نفسه ، وضرورية كفائية منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ، وبها إذا استقامت تستقيم الأحوال الخاصة ، وهي مشروطة بألا يسعى القائم عليها إلى استجلاب مصلحة لنفسه ، وعلى هذا المسلك يجري العدل ويصلح النظام .
* مقاصد تابعة :
هي التي للمكلف فيها حظ ، وهي كما قال الشيخ دراز : " التسببات المتنوعة التي لا يلزم المكلف أن يأخذ بشيء خاص منها ، بل وُكِّلَ إلى اختياره أن يتعلق بما بما يميل إليه وتقوى منته** عليه " .
ومن هذه الجهة يحصل للمكلف مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات وغيرها ، وهذه مكملة للمقاصد الأصلية وخادمة لها ، لأنها لا تقوم في الخارج إلا بها ، فلو عدمت التابعة لم تتحقق الأصلية .
فعلمنا بهذا أن فعل المكلف إذا وافق المقاصد الشرعية الأصلية وراعاها ، وقع هذا العمل صحيحا ، لأن هذه المقاصد راجعة إما إلى الأمر والنهي ، وهي حينئذ طاعة للآمر وامتثال لما أمر ، وإما إلى ما فهم من الأمر فهو حينئذ وسيلة وسبب إلى الوصول إلى حاجة المكلف ، فهو عمل بمحض العبودية .
فقصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع ، إذ الشريعة موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم ، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ، ولأن المكلف خلق لعبادة الله ، وذلك راجع إلى العمل وفق القصد في وضع الشريعة ، لنيل الجزاء في الدنيا والآخرة .
المطلب الثاني : مقاصد المكلفين
بالتأمل يتبين لنا أن مقاصد المكلفين هي بالأساس أهم فرع من فروع المقاصد التي يرتبط بها مبدأ مراعاة المآلات ، والمقصود بمقاصد المكلفين الإرادة والباعث الذي يجعل المكلف يتجه بما يصدر عنه إليه .
ومن المقرر عقلا وشرعا أن مقاصد الشارع ليست عبثية ، بل إنها تعد أفعال المكلفين وسائل لتحقيق المصالح ، على اعتبار " أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب ، وذا ثبت هذا لم يكن للناظر بد من اعتبار المسبب وهو مآل السبب " ، ومن ثم فإن كل فعل من أفعال المكلف لا بد وأن يرتبط يه حكم من الأحكام الشرعية سواء كان هذا الارتباط واقعا ، أو متوقعا .
إذا ثبت هذا عندنا ، فإن المكلف ملزم شرعا بأن يوائم فعله ومقصده مع مقصد الشارع ، وبما أن الفعل هو مادة النظر المآلي ، فمناقضة قصد الشارع إما أن تكون هي هي غاية المكلف بإقدامه على الفعل ، وإما أن يفضي فعله إلى مفسدة وإن لم يتحقق قصد المناقضة ، والمآل إما مصلحة تستجلب أو مفسدة تدرأ ، " فليس للمجتهد بد من اعتبار ه إذن .
وعلى هذا فسواء كان الفعل القصد من ورائه الإضرار أو نتج عنه ضرر دون القصد إليه ، كان لمراعاة المآل مدخلها الشرعي استنادا على قاعدة : " للوسائل حكم مقاصدها " ، فالمقاصد هي التي تحدد مصير الأفعال التي يقوم بها المكلف ، قال الشاطبي : " هذا العمل – يقصد به المناقض لقصد الشارع – يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي – جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة – عبثا لا حكمة من ورائه ولا منفعة فيه ، وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح وأنها معتبرة في الأحكام " ، ويقول : كذلك : " كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له ، فقد ناقض الشريعة ، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ، فمن ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل " ، فيتأسس على هذا أن المكلف إذا قصد إلى غير ما يقصده الشارع كان كالفاعل لغير ما أمره الله به ، وعمله المناقض بطلانه ظاهر ، وعلة هذا البطلان هي معقولية الشريعة وغائية أحكامها .
إن الشاطبي : يقرر أن سعي المكلف إلى مناقضة قصد الشارع من خلال عمله المشروع يعني الحكم على فعله بالبطلان أساسا ، هذا إذا كان يعلم مشروعية فعله ويعلم أنه يؤول إلى ما لا يوافق قصد الشارع ومن أمثلة ذلك :
- مسألة التصيير :
- سئل الفقيه أبو الفضل راشد بن أبي راشد عن رجل كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما وبنيها ، ونفى الأخرى وبنيها ، فأشهد أن نصف هذه الدار للزوجة المنقطع إليها ، وأن هذه الماشية لها ، وهذا الموضع لبنيه منها أو لصغيرهم ، وأن لها عليه دينا أو قال : أكلت لها متاعا وفيه أعطيتها ما أعطيتها ولم يعلم ذلك إلا بقوله ، فجاءت المنفية وبنوها بعد موت الزوج يطلبون الواجب لهم في ذلك ونفقتهم ؟
فأجاب بما نصه : " الجواب أن إقرار الزوج المذكور للزوجة المتهم بالميل إليها ( ) لها بالدين وتصيير نصف الدار المذكورة لها عندي باطل حتى يعلم أصل الدين بالبينة أو يقوم لذلك دليل أنها كانت تقتضيه منه أو تطلبه به طلب الاقتضاء الشديد المؤدي إلى المخاصمة فيه والمحاكمة ، فيصح الدين ويبقى النظر في صحة التصيير وفساده ، فإن رفع يده عن الجزء الذي صير وحازته عنه عقب التصيير صح ، وإن لم تقبضه عنه حتى طال الزمان أو مات بطل على قول أبي عمران وغيره ، وصح على قول يحيى بن عمر وسحنون وأبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهم ، فيترجح عندي الحكم في هذه النازلة بقول أبي عمران ومن قال بقوله في هذه النازلة خاصة لما ثبت من ميله إليها ويحمل على أنهما لم يعقداه من أول عقدهما إلا على أن الجزء المصير لا يقبض إلا بعد موت أو فراق فلا يجوز بإجماع العلماء ، وأما الزوجة المنفية فإن لها الرجوع في تركة الزوج بنفقتها وبما أنفقته على أولادها الصغار من مالها ، أو ما تسلفت أو احتالت حتى بلغوا مبلغ الكسب ، وما تصدق به من أرض على كبير فلم يقبضه عن المتصدق حتى مات بطل ، وما تصدق به على صغار بنيه فهو ماض لهم إن مات الأب قبل رشدهم لأنه الحائز لهم ، وإن لم يقبضوه في حياته بعد رشدهم حتى مات الآن بطلت ، وكتب لكم بذلك وليكم بالله تعالى راشد بن أبي راشد الوليدي لطف الله به ".
إن هذه الفتوى التي صدرت من ابن أبي راشد الوليدي قد قامت في بنائها الفقهي على أساس المعاملة بنقيض القصد إن وقعت التهمة على المصير ، والأصل في ذلك أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا ، ورغم أن هذا فعل التصيير قد يجلب مصلحة لبعض الأطراف ففيه ضرر لطرف آخر ، وقد ثبت أن أكثر ما يتجه إليه النظر المآلي هو الضرر المتوقع في الآجل ، وقاعدة : " الضرر يزال " في شمولها تقتضي أن تجرى على كل ما يصلح عليه معنى الضرر ، على اعتبار أن ما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه .
فمن هنا إذا كان غرض المصير إيقاع الضرر على زوجته المنفية وأولادها بتصييره داره إلى زوجته المنقطع إليها وأولادها ، فقد ثبتت نية الإضرار وتفويت حق ورثة شرعيين لسبب غير شرعي ، ومظنة التهمة أن قبض الزوجة الثانية وأولادها للدار المصيرة كان بعد الوفاة ، والأصل أن القبض يجب فورا أو لمدة يسيرة كما قال ناظم العمل الفاسي : "
وللحيازة افتقار التصيير **** وحوزه شهر وذاك تكثير
من هنا كانت نظرية الباعث على الفعل ذات رحم بمقاصد المكلفين بل هي عينها ، فالباعث المحرك إرادة المكلف وإن كان سليم الظاهر ، فلا بد من النظر فيه إلى النية التي كانت وراء القيام به ، قال ابن القيم : " فالنية روح العمل ولبه وقوامه ، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها ، والنبي قد قال كلمتين كفتا وشفتا ، وتحتهما كنوز العلم ، وهما قوله : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه ، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور ، وسائر العقود والأفعال ... " .