نظرة في تطوير الشعر الحر
( شعر التفعلية )

بقلم- د.فالح الحجية

يُطلِق تسمية ( الشعر الحديث ) على الشعر العربي الذي اتشر في بدايات واواسط القرن العشرين بينما يطلق على الشعر الذي قيل في النصف الثاني منه وحتى يومنا هذا ( الشعر المعاصر ) على ان بعضا منه يتصف بعدد من الصفات منها خروجه على الأوزان الشعرية المالوفة - ولو ان اقتصار على هذه الصفة فقط للتمييز بين الشعر المعاصر والشعر القديــم والشعر الحديث غــــير كافٍية - ونستطيع القول ان الشكل صورةً للمضمون الذي أخذ يتغير منذ بداية القرن العشرين حين ابتدأت بنيــة القصيــدة العربية وهيكليتها تتغير و تتجدد من الشعر الغنائي الخالص إلى الشعر الدرامي.
فقد عرف شعرنــا الحـــــديث القصة الشعرية و الدراما الشعرية في أعمال بعض من شعراء الشعر الحديث مثل خليل مطـــران و أحمد شوقي و الأخطل الصغير و شعراء المدرسة الإبداعية في مصر و منهم علي محمود طه و صالح جودت و غيرهم . فقد كان الخــروج عن الوزن الشعري المألوف في الفترة اللاحقة نتيجةً للتأثيرات الثقافية و الاجتماعية من جهة و لتطور بنية القصيدة العربية من جهــــــــــة أخرى و سمي الشعر الذي لم يلتزم بالبحر والقافية بشعر التفعيلة او الشعر الحــــر ا و الشعر الجديد والشعر الحديث وهذه بحد ذاتها تسمية غير دقيقة والحقيقة يمكننا أن نطلق على الشعر الذي تكون التفعيلة ركيزته الوحيدة ب ( شعر التفعيلة ) حيث تتكرر هذه التفعلية في السطر الواحد و فقا لاحاسيس الشاعر وكذلك نعتبرها مصطلح يمكن أن نقابل به شعر العمود ذا الشطرين الصدر والعجز وهذا الفارق ايضا شكلي صرفٌ فالجديد في شعر التفعلية قد ياتي بشعر العمود ايضا وقد يكون هـــــنا كما قد يكون هناك ان كانت حرية الشكل تقتضي حرية المضمون و جِد ّته .

وشعر التفعيلة في شكله قد يكون موصولا بحركات التجديد المتلاحقة منذ العصر العباسي حتى ولادته في بداية القرن العشرين . و بدأ التجديد الفعلي في الشعر الذي كان يُنظم بقصد الغناء , فاتَّسمَ با لليونة بالقوافي و السهولة في الإيقاع و اللفظ واخذ تراكيب رشيقة ناعمة وغلبت عليه الأوزان القصيرة و الخفيفة والمجزوءة وخير مثال هي الموشحات الأندلسية حيث تم الخروجَ الفعلي على نظام الشطرين و قد واصل العرب في الوطن العربي وفي المهجر منذ مطلع القرن العشرين محاولاتهـــم الفاعلة في الخروج على نظــــام الشطرين و القافيـــة الموحَّـــدة او قل على عمود الشعر الذي سموه بالقديم فنظمــــوا الثنائي والمربع والمخمس والزجل والدوبيت والمواليا ... وغيرها كثير .

وربما كان بعض الشعراء يمزج وزناً بوزن و يتلاعب بأوتار النغمــــات الايقاعية فيحركها كما تتـــحرك الإحساسات في داخلــــه وخير مثال في ذلك قصيدة ( المواكب ) للشاعر جبرا ن خليل جبران التي نظمها في اتجاهين متعاكسين الأول من البحر البسيط كقوله فيها.:
الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جُبِروا
و الشَّرُّ في الناسِ لا يفنى و إِنْ قُبِروا
و أكثــرُ الناسِ آلاتٌ تحــرِّكهــــــ ا
أصابــــعُ الدهــرِ يومــــــاً ثمَّ تنكسرُ
أما الاتجاه الآخر فقد أجراه جبران على مجزوء الرمل كقوله في ذات القصيدة نفسها :
و سكونُ الليلِ بحرٌ
مَوْجُهُ في مَسمعِكْ
و بِصدْر الليلِ قلبٌ
خافقٌ في مَضجَعكْ
ومن هنا كانت ولادةِ شعر التفعيــلة او الشعر الحر ولادةً طبيعيــــة ولا يختلف الأمر كثيراً إذ كانت هذه الولادة قد تمت على يد شاكر السياب و نازك الملائكة و خليل شيبوب في اوائل او منتصف القرن الماضي فقد كانت ولادتها لجهود الشعراء المبذولة منذ مطلع القــــــــرن العشرين حتى منتصفه نتيجة للتقدم الفكري و الاجتماعي والحضاري .

ولو راجعنا هذه القصائد الحرة الجديدة لوجدنا ان لها خا صية جديدة ولها مميزاتها عن قصيدة العمود الشعري او الشعر التقييدي ( التقليدي ) فاذا كان العمود اصل الشعر العربي وشجرته المورفة فان شعر التفعيلة يتمثل ببعض اغصان هذه الشجرة وثمارها فهو يمثل جزءا من كل .
فالملاحظ ان شعر التفعيلة اكثر ملائمة في تحقيق وحدة القصيدة و التمرد على وحدة البيت الشعري و القافية حيث يشكل فاصلاً طبيعياً بين نهاية البيت و البيت الذي يليهِ فقصيدة التفعلية لا تقف عائقاً دون تواصل الحركة و نموها نمواً عضوياً , و بنائها ربما يكون في الاغلب بناءً درامياً مستمداً من تقنية جميلة تتمثل في الإيقاع النغمي المتصاعد منها او الموسيقى الشعرية المنبعثة عنها و ليرتفع و يتلوّن و يتنوّع و يتدفق مشكلا سمفونية درامية بغية الوصول إلى القرار الأخير او الامر الافضل في نهاية القصيدة وفق ما يرغبه الشاعر ويرسمه لقصيدته .

. لاحظ هذا النص للشاعر محمود درويش يقول فيه :
امشي كاني واحد غيري
وجرحي وردة بيضاء
ويداي مثل حمامتين
على الصليب تحلقان
وتحملان الارض
لا امشي اطير
اصير غيري في التجلي
كما نلاحظ أن الشعر الحر اكثر مرونة في عدم الوقوع في الحشو الذي كان الشاعر يقع فيه او يركن اليه في ملئ الفراغ في القصيدة العمودية او يستخدمه لاكما ل البيت الشعري في نظام الشطرين كي لا يقف الوزن عند ه فكثيراً ما كـــــــــان المعنى أو الإحساس ينتهي قبل الوصول إلى نهاية البيت او الى القافية فيضطـــر الشاعر لاتمام الوزن بكلمة من هنا أو من هناك ليحشوها
أو لربما يضطرّ الشاعر أن يستبدل كلمة بأخرى هي اطوع او أطولِ
أو أقصر منها ليُتمَّ وزن البيت في قصيدته.

فالشاعر في هذا اشبه بعطـّار وضع امامه عدة موازين ليزن بضاعته فيها فيبحث عن المعيار الافضل لوزن بضاعته بينما في شعــــــر التفعيلة يمنح الشاعرَ حريةَ واسعة و مرونةً لينة لا يمنحها شعــــــــر الشطرين له . وهذه بحد ذاتها قد تبعد الشاعر عن النمطية التي قد تكون في الشعر العمودي او الشعر ( التقييدي ) - الا اني استهويه وا حبه نظما و نغما - وخاصة اذا كانت القصيدة متشابهة في الموضوع و الوزن و حركة الروي و القافية لاحظ ذلك في هذه الابيات :
يا داميَ العينين و الكفين
إنَ الليل زائلْ
لا غرفةُ التوقيفِ باقيةٌ
و لا زردُ السلاسلْ
نيرون ماتَ .. و لم تمت روما
بعينيها تُقاتِلْ
و حبوبُ سنبلةٍ تموتُ
ستملأ الوادي سنابلْ
فشاعر التفعيلة اوسع مساحة في مسار قصيدته اذ لا قيود يتقيد بها من خلال الوزن او القافية ربما تحده وتعكر صفو انشاده . ثم أنَّ التنوع في القوافي يؤدي إلى بعض التحــــــــرر من سلطانها وقيودها كما يؤدي لتنوع الأنغام بين ارتفاع و انخفاض , و خاصة في نظم قصائد ذات طابع موجي فكأن كلّ موجة تنبثق من سابقتها و تتصل بما يتلوها في سلسلة نغمية مترابطة و كأنّ كل نغمة تمثل مشهدا قصيرا في عملٍ درامي معين حتى تصل الى نهايـــة القصيدة مما يسهل الخروجَ الافضل مما هو عليه في موسيقى الشطرين .

و قد يقرب النص الشعري من المقطوعة الموسيقية بالتقطيع و حرية الحركة و التنويع و الاستمرار وقد يؤدي في الاغلب إلى البناء الهرمي متصاعدا في كثير من القصائد الدرامية في قصيدة الشعر الحر.
واختم في هذه المقطوعة من شعر بدر شاكرالسياب :
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السِحِرْ
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تبْسِمانِ تورِقُ الكُرومْ
و ترقُصُ الأضواءُ .. كالأقمارِ في نَهَرْ
يرُجُّهُ المجدافُ وهناً ساعة السِحِرْ
كأنما تنبضُ في غَوْريهِما النجومْ


امير البيان العربي
د.فالح نصيف الحجية الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
*********************