كان هناك حكيم سُئل يوماً : ما أجمل الطيور عندك ؟ فقال : النُّسور لأنها تحاول أن تنقر النجوم ! .
فِكرة السفر إلى المريخ هي في الأصل تحدِّي فلسفي نظري بين علماء الغرب ، بغض النظر عن تحقُّقها أو كذبها . وقد ذكرتني بمقولة شيب الغراب وتحوُّل القار إلى لبن !

.
من اليقينيات في أُصول الفقه أن إجماع أُمم الكفر على شيٍ ، لا عبرة له ولا قيمة له مطلقا .
قد يبدو هذا الموضوع غريباً ، لكن في الآونة الأخيرة عكفت شركة هولندية متخصِّصة في السياحة الجوية على دراسة مشروع السفر إلى المريخ مع عدم ضمان العودة إلى الأرض ! .

الشركة الهولندية أفادت أن استكشاف الفضاء مثله مثل استكشاف الأرض، سيكون له أخطاره ومزاياه، وقد تكون فكرة إرسال بشر إلى المريخ اليوم فكرة غاية في الخطورة، لكن سيتم إرسال ثمان رحلات خاصة بنقل بضائع إلى هناك قبل الإنسان، مذكرة بأنّها ستوفر كل الإجراءات التي ستجعل من الأمر سهلاً ، ومن ذلك توفير مُعدَّات آلية بتحضير الأجواء الصالحة للسكن، وتوفير المياه والمناخ الذي يتيح القدرة على التنفس بشكل مريح كما هو الحال على الأرض

.
التكييِّف الفقهي للسفر إلى المريخ يدور حول سبب السفر وعِلته والموانع الشرعية له إن وجدت .
لا يُباح الممتنع شرعاً وعقلا ً، وعِلة السفر فاسدة لا ثمرة لها ولا فائدة.
من حيث المبدأ : هل يَملك المسلم اختياراً ذاتياً لقبوله السفر للمريخ ، أم أنه يُمنع شرعاً من السفر ، سواء جاز ذلك أو لم يجز ؟! .

سيترتب على سفر المسلم ضياع مصالح دنيوية ودينية وتعطيل حقوق وواجبات له أو عليه ، وقد يندم ولا يوجد عندئذٍ وقت لتدارك العودة إلى الأرض !

.
قديماً منع الفقهاء – كما في النصوص الصحيحة – المسلم من نذر ما لا يَملك ، وما لا يُمكن الوفاء به ، وحرَّم الشرع ما يقود الى التهلكة ، وما يكون سبباً في تضيِّيع قوته ومصلحة بقائه .
من تأمل آيات القرآن يجد أن الله تعالى أمر العباد أن لا يُكلِّفوا أنفسهم ما لا يطيقون ، وما فيه مشقة بالغة على نفوسهم .

لا يمكن الحياة مطلقاً في كوكب آخر غير الأرض ، وهذه القاعدة ثابتة بمفهوم الآيات التي تدلُّ على استخلاف الله لآدم في الأرض – دون سواها – لعمارتها والسعي في مناكبها .
الرحلات الجوية كانت مستحيلة في الأزمنة القديمة لكن مع تطور العلم وظهور التقنية الحديثة ، ظهرت الطائرة وما في معناها من وسائل النقل الجوية الضخمة التي يمكن من خلالها السفر الى القارات واكتشاف أبعاد الكون المسخرة للإنسان على حسب طاقته البشرية .

لكن لا يجوز الإعتماد على هذه النظرية لتبديل سنن الله في بقاء الإنسان على ظهر الأرض ، وتحويله لجرم سماوي لا يصلح له ، فهذا من الغرور والعدوان الذي يُسِّببه الفرح بالعلم المحدود . ومآل هذا العذاب الشديد من الله تعالى : ” فلما نسوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كُّل شي حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مُبلسون ” ( الأنعام : 44 )
.
الإعتماد على صحة أدلة الغرب للسفر إلى المريخ إعتماد على أدلة ظنية ليست يقينية ، وقد تقرر عند الأصولييِّن أن الأدلة الظنية لا يصح العمل بها .

هناك حديث صحيح ينهى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سفر الراكب في الليل لوحده ، لإحتمال تعطُّله أو مرضه أو الإعتداء عليه . ويقاس على هذا سفر الإنسان إلى مكان لا يَعلم كُنهه ولا طبيعة العيش فيه ، ولا إمكانية عبادة الله فيه على الوجه الصحيح بطمأنينة وهناء .
الذي ظهر لي أنه يجوز السفر إلى المريخ للعبرة وسبر أغوار الكون وتدبُّر آيات الله في جوانبه ، لكن السفر للإستقرار في كوكب آخر غير الأرض لا يجوز ، بل يحرم لما تقدَّم من قرائن ودلائل تؤكد نفي المقاصد المشروعة للإعمار .

ومن الأدلة الحسية على صعوبة السكن في المريخ ، الاستدلال بدليل القياس في امتناع السكن في باطن البحر مُدةً طويلة ومزاولة الحياة من بيع وشراء ورفاهية وعبودية لله في قاعه ! . فإذا بطل هذا فذاك أحقُّ بالببطلان لشدته وامتناعه شرعاً وعقلاً وحسا ً .

يوجد حول المريخ قمران فكيف سيكون صيام الناس وإمساكِهم لشهر رمضان ؟ مَن سَيُذيب الجليد في المريخ ليشرب الناس ويأكلوا ويغتسلوا ويدبِّروا شؤونهم ؟! .
هذه الإشكالات مع قرائن منع الحياة في المريخ من الناحية الشرعية ، تُعزِّز دراسة بعض علماء أمريكا القائلين بأن فكرة الحياة في المريخ فكرة نظرية بعيدة المنال وصعبة التطبيق ، لأن هذا الكوكب لم يكمل نموه لحكمة أرادها الله تعالى .

فهذه خمسة أدلة شرعية وعقلية تُحتِّم عدم صحة السفر إلى المريخ .
من فضول الحضارة المعاصرة إسرافها في إشغال الناس بكُّل غريب لا طائل وراءه ، ولا قيمة للبحث عنه واللهث خلفه ، كالتدخُّل في تكوين الأجنة والرحلة إلى المريخ والإستنساخ ، والعبث بالكائنات وخلقها ، ونحوها من الفضول .

كان السلف رضي الله عنهم يُحذِّرون من هذا الجدل العقلي ويعدُّونه من الظلمات والرياء . فمن المأثور عنهم : ” الدنيا كلها ظلمات إلا موضع العلم ، والعلم كُّله هباء إلا موضع العمل ، والعمل كله هباء إلا موضع الإخلاص “ .
إن تكلفة الرحلة إلى المريخ تقدَّر بستة مليارات دولار ، فلو صُرفت هذه المبالغ الكبيرة على بطالة الشباب وإطعام المُشرَّدين في أفريقيا ، لكان في ذلك فخر في أوروبا ، ومثيلاتها من دول العالم الأول .
وختاماً فإن المسلمين المغرورين بالسفر إلى المريخ يستحقون الحجر والتعزيز لتضيِّيعهم لأموالهم وأماناتهم ، وقد جاء في السنة النبوية صحة الحَجر على المغفَّل والسفيه والمريض . والله الهادي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
5/12/ 1436هـ


http://ahmad-mosfer.com/1245