الرمزية في الشعر المعاصر
بقلم - د فالح الحجية
تابع القسم الثاتي
هذه الصورة الرمزية تضافرت في إبرازها قوى ابتكارية فذة -كما رأينا-، وبذلك يكون شاعرنا قد نهل من ابتكاره وابتداعه الذاتي ببراعة والجاً أحد منبعي الرمز، والذي يتمثل منبعه الآخر في التراث، أو ما يسمى بالحياة الواقعية والتراث الإنساني، والذي قُسِمَ من حيث كونه منبعاً رئيسياً من منابع الرمز إلى تراث تاريخي وأدبي وأسطوري وديني وشعبي،وفي التراث التاريخي يستنزل الشاعر الدلالات التاريخية على الأبعاد المعاصرة، وقد أورد الدكتور حسين قاسم (عدنان) مقتطفات من قصيدة (آهات أمام شباك التصاريح عند جسر النبي) للشاعرة الفلسطينية المبدعة فدوى طوقان لاتصالها اتصالاً وثيقاً بالتاريخ العربي والإسلامي، الذي استطاعت فيه فدوى أن تستحضر ليلى بنت لكيز التي أسرها الروم وهى في طريقها لتزف إلى زوجها، فأرسلت قصيدة قالت فيها ضمن ما قالت لزوجها البراق:
ليت للبراق عيناً فترى ما أُلاقي من بلاء وعناءكما استحضرت المرأة الهاشمية التي اقترنت باستغاثتها للمعتصم بالله الخليفة العباسي، كما رفدت هاتين الشخصيتين التراثيتين بشخصية تراثية ثالثة؛ ليكتمل الموقف وتتضح صورته في بناء فني متماسك فأتت بشخصية( هند بنت عُتبة ) التي أكلت كبد( حمزة بن عبد المطلب ) في موقعة أُحد، والتي يتخذها العرب رمزآً لابشع واشرس صور الثأر، وكأنما أرادت الشاعرة أن تكون هذه الشخصيات الثلاثة مجتمعة في ظل هم ثقيل وهو الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فصرخت قائلة:
آه وا معتصماهُآهيا ثأر العشيرةآه جرحي مرغ الجلادُ جُرحى في الرُّغامليت للبراق عيناًآه يا ذل الإسارألف هند تحت جلديجوع حقدي فاغر فاهسوى أكباد هملا يشبع الجوع الذي استوطن جلديآه يا حقدي الرهيب المستثارأما التراث الأدبي فقد يجئ باستخدام الشخصيات الأدبية أو أقوالاً مشهورة اقترنت، كما ورد عند الشاعر أمل دنقل، الذي حور أبياتٍ معروفة للمتنبي ليخلق بها رموزاً تحف بها دلالات إيحائية فقال:ما حاجتي للسيف مشهوراما دمت قد جاوزت كافوراوعيد بأية حال عُدت يا عيدُبما مضى أم لأرضي فيك تهديدنامت نواطير مصر عن عساكرهاوحاربت بدلاً منها الأناشيدناديت يا نيل هل تجري المياه دماًلكي تفيض ويصحو الأهل إن نودواعيد بأية حال عدت يا عيدُ
ونجد -أيضاً عندما نتحدث عن التراث الأسطوري- أن أمل دنقل في قصيدته (عشاء) قد استلهم إشارة سطورية،وألبسها ثوباً يتسق وتجربته الشعورية العميقة، وملأها بمفازٍ رمزية جديدة من خلال تناوله لأسطورة مصاص الدماء، فبرزت الصورة الرمزية في النص كصدمة إيحائية شديدة الوقع ذات إيجاز وضربة قوية استثارت الحياة الباطنية ورعشاتها الحية عند الشاعر؛لتسري إلى المتلقي. فمصاص الدماء لا يتحدث ولا يسمع، إنما يرنو بعينيه الصغيرتين،ويلعق الدماء وهو ذاته الفساد الذي يمتص دم الشعب الذي لا يُسمع له صوت تقول الصورة:قصدتهم في موعد العشاء
..
تطالعوا لي برهة..ولم يرد واحد منهم تحية المساء..وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرةفي طبق الحساء..نظرت في الوعاء..هتفت.. ويحكم.. دمي هذا دمي فانتبهواولم يأبهوا..وظلت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرةوظلت الشفاه تلعق الدماء
..
ولعل التراث الديني يعتبر من المصادر الكبيرة التي نهل منها الشعراء المحدثون رموزهم. يقول الشاعر محمد الواثق في قصيدته (أم درمان تشرق) :رباه حلمك ما أم درمان منزلة
لقد خلقت بها الإنسان في كبدإن كان حكمك أنَّا لا نغادرها
فاجعل لنا أجر من قد مات في أحُدأو هب لنا منك صبراً نستعين به
أ و ما حبوت به أيوب من جَلَدوقد أخذ الشاعر نفسه في قصيدته (فضيحة أم درمان) شخصيات وأحداث ورؤى من التراث الديني تلميحاً وتصريحاً دارت حولها صورة الرمزية الرائعة أبانها في النص كما يلي:-الناس جاءتك يا أم درمان كوكبة
منهم شفيقٌ ومنهم لائمٌ لاحيقالوا سفينتنا قد حلها دنس
من فعل مبذولة الفخذين ممراحيما مريم ابنة عمران فنعذرها
أو مثل حواء قد هشت لتفاحِفقلت ما ضركم صارت لها ولد
عسيبُ ويحمي جانب الساحِالقوه في اليم إن جارت سفينتكم
قد تزهق الروح تفدي بعض الرواحِفقال منهم زعيمٌ عابسٌ صلفٌ
يخفيهم بكريه الوجهِ مكلاحِإذا المؤودة في ملحودها سُئِلت
ماذا نقول لربِ الناس يا صاحِثم الشريعة إنا ما نخالفها
فالجلد والرجمُ طهر بعد إصلاحِ
فالقرآن الكريم، والكتب السماوية المقدسة كانت منبعاً وَرَدَ منه الشعراء، وأخذوا منها شخصيات -كما رأينا في صور محمد الواثق الرمزية-، وفي أنموذج آخر نرى شخصية المسيح عليه السلام حينما حملته إلينا قصيدة ( أغنية إلى يافا ) بصفته رمزاً للفلسطيني المطارد والمعذب:يافا.. مسيحك في القيودعارٍ تمزقه الخناجر عبر صلبان الحديدوعلى قبابك غيمة تبكيوخفاش يطيروقد ركن الشعراء إلى الإرث الشعبي بإمكاناته الثرة، وحكاياته الشعبية الغنية بأحداثها وشخصياتها التي ارتبطت في أذهان الناس بمواقف خاصة؛ كعنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، وزرقاء اليمامة، وغيرهم ممن حفلت بهم ذاكرة المجتمع، أو بطون الكتب وفي هذا الإطار يكمن الإبداع الرمزي في مقدرته؛ للمزاوجة بين المواقف المعاصرة، وبين ما يمكن أن يقتطف من القصة الشعبية من أحداث أو شخصيات كما فعل الشاعر الشاب المقتدر بدر شاكر السياب حينما أدرك أن شخصية السندباد تستطيع أن تتشرب بالوقائع المعاصرة فقال:رحل النهارُها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون ناروجلستِ تنتظرين عودة السندباد من السفاروالبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعودهو لن يعود..
وأخيراً نقول إن مَنْ يجرؤ على الخلط بين الصورة الرمزية والصورة السريالية اللتان تتشابهان في إقصاء المنطق بمعايير الواقع المحسوس فهو مخطيء وواهم فالنزعة السريالية التي شاعت في بيئات الأدباء القائلين بتحرير الشعر عن المنطق والقيم الأخلاقية وإقصاء الجمال بالتحليق به بعيداً في عالم التجريد ليعبِّر عن فكرة أصيلة تغوص -أحياناً- في اللا شعور فأفسحوا بذلك الطريق لإظهار مكبوتاتهم في صور محمومة حتما ستحترق لانها لا تلائم طباعنا، ولا وثبتنا أو مواريثينا القومية) في الرمزية الطارفة في الشعر المعاصر عموما
وخلاصة القول ا ن الرمزية اثبتت وجودها كفن من فنون التعبير في الشعر الحديث والمعاصر وعبر قصائد شعراء الرمز بما يعبر عن عواطفهم وما يختلج في اعماق افكارهم وانفسهم بها افضل تعبير الا اني الوم بعضا منهم على هذا الغلو الجانح في الرمز الى حد الابهام و التعبير الذي يجعل من الرمز جدارا قويا عاليا صعب المرتقى لا يرتقيه احد الا الشاعر ذاته بحيث اصبح حاجزا بينه وبين القراء والمتلقين ومحبي الشعر عامة.
امير البيــــــــان العربي
د. فالح الحجية الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
---------------------------------