زيارة النساء للقبور فيه روايتان عن أحمد:
الرواية الأولى: أنهم كالرجال؛ لعموم الأدلة السابقة، فهي تشمل الرجال والنساء.
ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي» قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»([1]).
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: «إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ»، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ قُولِي: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِين َ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِ رِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ»([2]).
فدلت هذه الأحاديث على أنَّ للمرأة زيارةُ القبور؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على المرأة التي كانت تبكي عند القبر زيارتها للقبر، وكذلك لم يُنكر صلى الله عليه وسلم على عائشة لما سألته عما تقوله عند زيارة القبور.
الرواية الثانية: أنَّ زيارة القبور مكروهةٌ للنساء؛ واستدلوا على ذلك بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ([3]).
قال ابن قدامة رحمه الله: ((لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»، وهذا حديث صحيح، فلما زال التحريم بالنسخ – أي: بحديث: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» - بقيت الكراهة؛ ولأن المرأة قليلة الصبر، فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة، فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله، بخلاف الرجل))اهـ([4]).
قلت: والذي يترجح لي - جمعًا بين الأحاديث – هو ما ذكره القرطبي ورجحه الشوكاني رحمهما الله.
قال الشوكاني رحمه الله: ((قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اللَّعْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُكْثِرَاتِ مِنَ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يَقْتَضِي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ، وَمَا يَنْشَأُ مِنَ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ: إذَا أَمِنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنَ الْإِذْنِ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْمَوْتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. انْتَهَى.
وَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ الْمُتَعَارِضَة ِ فِي الظَّاهِرِ))اهـ([5]).
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (1283)، مسلم (926).
[2])) أخرجه مسلم (974).
[3])) أخرجه أحمد (8670)، والترمذي (1056)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، وابن ماجه (1576)، وقال الألباني في ((الإرواء)) (3/ 233): صحيح لغيره، وحسَّنَ إسناده محققو المسند.
[4])) ((الكافي)) (1/ 376).
[5])) ((نيل الأوطار)) (4/ 134، 135).