بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

(( كَشْفُ الكُرْبَةِ عَنْ أَهْلِ الغُرْبَةِ ))


الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجْمَعِينَ ، أَمَّا بَعدُ :
فَقَد رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي صَحِيْحِهِ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :
« بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ ـ كَمَا بَدَأَ ـ غَرِيبًا ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ »

[ ( 1 / 80 ) ـ كِتَابُ الإِيْمَانِ ـ بَابُ : ( بَيَانِ أَنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا ، وأَنَّهُ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ ) ـ بِرَقْمِ : 145 ]
.
وَرَوَى ـ فِي نَفْسِ البَابِ ـ حَدِيْثَيْنِ ؛ الأَوَّلُ : مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ :
« إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا »
[ بِرَقْمِ : 146] ،
وَالثَّانِي : مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ :
« إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا »
[ بِرَقْمِ : 147 ] .

قَالَ الإِمَامُ ( النَّوَوِيُّ ) ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيْحِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ :
[ وَطُوبَى فُعْلَى مِنَ الطِّيبِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .. ، وَأَمَّا مَعْنَى طُوبَى فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :

(( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ( 29 ) ))
[ سورة الرعد : 29 ]،
فَرُويَ عَن بن عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ مَعْنَاهُ : ( فَرَحٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ ) ،
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : ( نِعْمَ مَا لَهُمْ ) ،
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : ( غِبْطَةٌ لَهُمْ ) ،
وَقَالَ قَتَادَةُ : ( حُسْنَى لَهُمْ ) ،
وَعَنْ قَتَادَةَ ـ أَيْضًا ـ مَعْنَاهُ : ( أَصَابُوا خَيْرًا ) ،
وَقَالَ إبرَاهِيمُ : ( خَيرٌ لَهم وَكَرامَةٌ ) ،
وَقَالَ بنُ عَجْلَانَ : ( دَوَامُ الْخَيْرِ ) ،
وَقِيلَ : ( الْجَنَّةُ ) ،
وَقِيلَ : ( شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ ) ،
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلَةٌ فِي الْحَدِيثِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ ...
وَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « وَهُوَ يَأْرِزُ » .. مَعْنَاهُ : ( يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ ...
وَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ « بَيْنَ المَسجِدَيْنِ » أَي : ( مَسجِدَيْ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةَ ) ... .

وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي قَولِهِ : « غَرِيْبَاً » رَوَى بن أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ أَنَّ مَعْنَاهُ :
( فِي الْمَدِينَةِ ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ بِهَا غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ إِلَيْهَا ) ،
قَالَ الْقَاضِي : ( وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْعُمُومُ ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ فِي آحَادٍ مِنَ النَّاسِ وَقِلَّةٍ ، ثُمَّ انْتَشَرَ وَظَهَرَ ،
ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْصُ وَالْإِخْلَالُ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا فِي آحَادٍ وَقِلَّةٍ ـ أَيْضًا ـ كَمَا بَدَأَ
) ،
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُ ( الْغُرَبَاءِ ) وَهُمُ : ( النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ ) ،
قَالَ الْهَرَوِيُّ : ( أَرَادَ ـ بِذَلِكَ ـ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ إِلَى اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ ) ، .. ] أ . هـ .


وَقَدْ وَرَدَتْ زِيَادَاتٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذا الحَدِيْثِ وَرُوايَاتِهِ تُبَيِّنُ [ مَنْ هُم ( الغُرَبَاءُ ) ] ؟! ؛
عِنْدَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : ( مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! ) ؛ فَأَجَابَ: « النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ »

[ قَالَ البَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ : ( فَالنُّزَّاعُ جَمْعُ نَزِيعٌ ، وَهُوَ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَعَ عَنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ ، وَالنَّزَائِعُ مِنَ الإِبِلِ : الْغَرَائِبُ ) ]
،
وَمِنْهَا
: « نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ ، فِي نَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ » ،
وَمِنْهَا : « نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ ، فِي نَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ , مَنْ يُبْغِضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ » ،
وَمِنْهَا
: « الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ حِينَ يُتْرَكُ , وَيَعمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطْفَأُ » ،
وَمِنْهَا : « فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ , ثُمَّ طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ » ،
وَمِنْهَا : « الَّذِينَ يَصْلُحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ » ،
وَمِنْهَا
: « قَوْمٌ يُصْلِحُونَ حِينَ يُفْسِدُ النَّاسُ » .


وَالغُرْبَةُ نَوْعَانِ : (( غُرْبَةُ الدِّيْنِ )) ، وَ ( غُرْبَةُ الدِّيَارِ )) ،
وَالمَقصُودُ مِن الأَحَادِيْثِ ـ الآنِفَةِ الذِّكْرِ ـ هُوَ ( غُرْبَةُ الدِّيْنِ ) ، وَلَيْسَتْ ( غُرْبَةَ الدِّيَارِ ) ـ كَمَا هُوَ بَيِّـنٌ واَضِحٌ ! ـ ؛
فَـ ( غُرْبَةُ الدِّيَارِ ) ـ عَلَى الأَعَمِّ الأَغْلَبِ ـ ( لَيْسَتْ غُرْبَةً عَلَى الحَقِيْقَةِ ! ، وَإِنَّمَا هِي صُوْرِيَّةٌ شَكْلِيَّةٌ ! ) ؛
فَقَدْ يُفَارِقُ المَرْءُ دِيَارَاً رَبَا فِيْهَا إِلى دِيَارٍ لَا أَرَبَ لَهُ فِيْهَا ، وَلَكِنَّـهُ قَدْ يَأْنَسُ فِي ( دِيَارِ الغُرْبَةِ ) أَكَثَرَ مِن أُنْسِهِ بِدِيَارِهِ وَأَهْلِهِ ! ؛
فَقَدْ يَجِدُ لَهُ أَحْبَابَاً وَأَخْدَانَاً أَفْضَلَ مِمَّنْ أَحَبَّهُمْ وَخَادَنَهُمْ فِي دِيَارِهِ ! ، وَمَا هَذِهِ إَلَّا ( صُوْرَةُ الإِغْتِرَابِ لَا حَقِيْقَتُهُ ) ! ،
وَإِنَّمَا حَقِيْقَتُهُ أَنْ لَا يَجِدَ مَثِيْلَاً لَهُ ، مِمَّنْ يَأْنَسُ بِهِ فِي (( دِيَارِ الغُرْبَةِ )) ! ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ :

وَلَـيْسَ غَرِيْبَـاً مَنْ نَـأَى عَـنْ دِيَـارِهِ ***** إِذَا كَـانَ ذَا مَـالٍ وَيُنْـَسبُ لِلْـفَضْلِ

وَإِنِّي غَـرِيْـبٌ بَيْـنَ سُكَّــانِ طَـيْـبَةَ ***** وَإِنْ كُنْتُ ذَا عِـلْمٍ وَمَـالٍ وَفِي أَهْـلِي

وَلَيْسَ ذَهَـابُ الرُّوْحِ ـ يَوْمَاً ـ مَنِـيَّةً ***** وَلَكِنْ ذَهَابُ الرُّوْحِ فِي عَدَمِ الشَّكْلِ



وَقَالَ البُسْتِيُّ :

وَإِنِّي غَرِيْـبٌ بَـيْـنَ بُسْـتَ وَأَهْـلِـهَا ***** وَإِنْ كَـانَ فِيْهَا جِـيْرَتِي ، وَبِـهَا أَهْلِي
وَمَا غُـرْبَةُ الإِنْسَـانِ فِي شُقَّـةِ النَّوَى ***** وَلَكِنَّــهَا ـ وَاللهِ ـ فِي عَـدَمِ الشَّــكْلِ



أَمَّا ( غُرْبَةُ الدِّيْنِ ) ؛ فَهِيَ غُرْبَةُ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ! ،
فَأَصْبَحَ ( أَهْلُ الدِّيَانَةِ ، وَالمُسْتَقِيْم ِيْنَ عَلَى الحَقِّ ) غُرَبَاءُ فِي دِيَارِهِمْ ، وَغُرَبَاءُ بَيْنَ أَهْلِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ ؛ لِتَمَسُّكِهِمْ بِهَدْي الإِسْلَامِ وَشِرْعَتِهِ ،
رَافِعِيْنَ شِعَارَ الغُرْبَةِ بَيْنَ مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَلَا يُبَالُوْنَ بِهِمْ ، وَلَا يَلْتَفِتُوْنَ لِقُطَّاعِ الطُّرُقِ ، وَلَا تَأْخُذْهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ،
وَأَحَبُّوْا اغْتِرَابَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَشْعَرُوْا حَقِيْقَةَ ( طُوْبَى ) ؛ حِيْنَ بَاعُوْا رَخِيْصَاً بِغَالٍ ، وَاشْتَرَوْا جَنَّةً عَرْضُهُا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ،
آخِذِيْنَ العِبْرَةَ وَالأُسْوَةَ مِن اغْتِرَابِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ ،
لَمْ تُغَيِّرْهُمْ لَذَائِذُ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ ، وَاسْتَعْذَبُوْ ا عَذَابَاتِهَا ؛ فَعَاشُوْا بِعِزَّةٍ وَرِفْعَةٍ عَالِيَةٍ ، مَسْرُورُونَ بِغُرْبَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعِيْشُوْنَ مَعَ اللهِ وَللهِ ،
قَالَ أَبُو الحُسَيْنِ الوَرَّاقِ :
( حَيَاةُ القَلْبِ فِي ذِكْرِ الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوْتُ ، وَالعَيْشُ الهَنِيِّ الحَيَاةُ مَعَ اللهِ ـ تَعَالَى ـ لَا غَيْرَ ) ،
وَقَالَ أَحَدُ الصَّالِحِيْنَ :
( مَسَاكِيْنُ أَهْلِ الدُّنْيَا ؛ خَرَجُوْا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوْا أَطْيَبَ مَا فِيْهَا ) ، قِيْلَ : وَمَا أَطْيَبَ مَا فِيْهَا ؟! ، قَالَ : ( مَحَبَّةُ اللهِ ـ تَعَالَى ـ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَذِكْرِهِ ) ،
وَقَالَ آخَرُ : ( إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُوْلُ : إِنْ كَانَ أَهْلُ الجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ ! ) ،
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : ( لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ ؛ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ ) ! ،
وَقَالَ أَحَدُ السَّلَفِ : ( إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةٌ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا ؛ لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ ) .


وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ ( البُخَارِيُّ ) ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي صَحِيْحِهِ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ ، قَالَ :
أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَنْكِبِي ؛ فَقَالَ : « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ »

[ ( 3 / 228 ، 229 ) ـ كِتَابُ الرِّقَاقِ ـ بَابُ : ( قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » ) ـ بِرَقْمِ : 6416 ]
؛
فَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ وَصِيَّةٍ ! ، أَوْصَاهُ بِالاغْتِرَابِ ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى شَرَفِ ( الغُرْبَةِ ) ، ويَحْظَى بِـ ( طُوْبَى ) .


قَالَ الإِمَامُ ( ابْنُ حَجَرٍ ) ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيْحِ البُخَارِيِّ :
[ قَالَ الطِّيبِيُّ : ( لَيْسَتْ « أَوْ » لِلشَّكِّ ، بَلْ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى « بَلْ » ؛
فَشَبَّهَ النَّاسِكَ السَّالِكَ بِالْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَسْكَنٌ يَأْوِيهِ ، وَلَا مَسْكَنٌ يَسْكُنُهُ ، ثُمَّ تَرَقَّى وَأَضْرَبَ عَنْهُ إِلَى « عَابِرِ السَّبِيلِ » ؛
لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْكُنُ فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ بِخِلَافِ عَابِرِ السَّبِيلِ الْقَاصِدِ لِبَلَدٍ شَاسِعٍ ، وَبَيْنَهُمَا أَوْدِيَةٌ مُرْدِيَةٌ ، وَمَفَاوِزُ مُهْلِكَةٌ ، وَقُطَّاعُ طَرِيقٍ ،
فَإِنَّ مَنْ شَأْنَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ لَحْظَةً ، وَلَا يَسْكُنَ لَمْحَةً ) ..
وَقَالَ بن بَطَّالٍ : ( ... وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيثَارِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنْهَا وَالْكَفَافِ ، فَكَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ إِلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ إِلَى غَايَةِ سَفَرِهِ ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ الْمَحَلَّ ) ، .. ،
وَقَالَ النَّوَوِيّ : ( مَعْنَى الحَدِيثُ لَاتَرْكَن إِلَى الدُّنْيَا ، وَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا ، وَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْبَقَاءِ فِيهَا ، وَلَا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ ) ،
وَقَالَ غَيْرُهُ : ( عَابِرُ السَّبِيلِ هُوَ الْمَارُّ عَلَى الطَّرِيقِ طَالِبًا وَطَنَهُ ؛ فَالْمَرْءُ ـ فِي الدُّنْيَا ـ كَعَبْدٍ أَرْسَلَهُ سَيِّدُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ ؛ فَشَأْنُهُ أَنْ يُبَادِرَ بِفِعْلِ مَا أُرْسِلَ فِيهِ ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى وَطَنِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ غَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ ) ، .. ] أ . هـ .

فَيَا رَبِّ آنِسْ وَحَشَتَنَا فِي غُرْبَتِنَا ، وَثَبِّتْنَا عَلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيْمِ حَتَّى نَلْقَاكَ مُوَحِّدِيْنَ ، لَا مُبَدِّلِيْنَ وَلَا مُغَيِّرِيْنَ .. (( اللَّهُمَّ آمِيْنَ )) .
وَآخِرُ دَعْوَانَا : أَنْ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِيْنَ .

كَتَبَهَا :
الفَقِيْرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ
( أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الأَثَرِيِّ العِرَاقِيِّ )
بَعْدَ عِشَاءِ يَوْمِ السَّبْتِ ( 17 ـ ذِي الحِجَّةِ ـ 1435 هـ )
المُوَافِقِ لِـ ( 11 ـ 10 ـ 2014 م )
وَلِمَنْ أَرَادَ المَقَالَ ( مُرَتَّبَاً ، وَمُنَسَّقَاً ، وَجَاهِزَاً لِلْنَّشْرِ ) ؛ فَإِلَيْهِ هَذَا الرَّابِطَ :

http://www.gulfup.com/?8CsZPH

وَجَزَاكُمْ اللهُ خَيْرَاً